الإثنين 13 ذو القعدة 1445 . 20 مايو 2024

الحلقة (206) - سورة الأعراف 116-131

الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على عبده والرسول الأمين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومَن اهتدى بهديه وعَمِلَ بِسُنَّتِهِ إلى يوم الدين.

وقفنا في الحلقة الماضية عند قول الله -تبارك وتعالى- : {قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ}[الأعراف:116]، {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ}[الأعراف:117]، {فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[الأعراف:118]، {فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانقَلَبُوا صَاغِرِينَ}[الأعراف:119]، {وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ}[الأعراف:120]، يُخْبر -سبحانه وتعالى- في سِيَاق ما قَصَّه هنا في هذه السورة؛ في سورة الأعراف، بأنَّ موسى قال للِسَّحَرة أَلْقُوا، قال أَلْقُوا أي ما عندكم، قال -جلَّ وعَلا- : {فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ}، فظنوا أنَّ الذي رَأَوْه أمامهم مِن حَبَالهم وعِصِيِّهم أنها حَيَّات تَسْعَى، {وَاسْتَرْهَبُوهُمْ}، خَوَّفُوهم، حَصَل لهم خَوْف ورُعب هائل مِن هذا الذي رأوه، أنَّ الوَادِي أصبح  حَيَّات تَسْعَى، {وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ}، يُخْبِر -سبحانه وتعالى- أنَّهم جاءوا بِسِحْر عظيم، فإنَّ هذا الجَمْع الكبير الذي حَضَرَ قد غُطِّي على أعين الجميع وحَصَل للجميع هذه الرَّهْبة، بل إنَّ موسى نفسه -عليه السَّلام- قد أَخَذَتْهُ هذه الرَّهبة مما رَأَى مِن هَوْلِ هذا المنظر، ومِن كثرة ما جاء به السَّحرة، كما قال -جلَّ وعَلا- : {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى}[طه:67]، {قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى}[طه:68]، فأوحى الله -تبارك وتعالى- إلى موسى أنْ أَلْقِ عصاك، بعد هذا الوقت الذي بلغت فيه المشهد ذروته مِن الخوف والرَّهْبة وكذلك مِن تعظيم السَّحَرَة، في هذا الوقت قال -تبارك وتعالى- لموسى، قال -جل َّوعَلا- : {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ ........}[الأعراف:117]، موسى ليس معه إلا هذه العصا، ألقها أي في هذا الجمع، قال -جلَّ وعَلا- : {فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ}، لم تتحول عصا موسى إلى مجرد حيَّة تسعى بين هذه الحيَّات، وإنَّما تحولت إلى حَيَّة أُفْعُوان كبير حقيقي وذهبت تجمع كل هذا الذي أفكوه مِن الحبال والعِصِيّ وتَلْقَفه، اللَّقف هو البَلْع بِشِدَّة، فتجمع كل هذا تجمعه وتَلْقَفَهُ وتَجْمَعَهُ وتجمعه حتى كَنَسَت وجَمَعَت كل ما أَفِكَه هؤلاء الأَفَّاكُون مِن السَّحَرة وابتلعته.

لمَّا رأى أصحاب الشأن وأصحاب الاختصاص السَّحرة هذه الآية، قال -جلَّ وعَلا- : {فَوَقَعَ الْحَقُّ}، الحق هذا أنَّ هذا موسى هو رسول الله وأنَّ ما معه آية وأنَّ هذا كَذِب، وقع كأنَّه ثَبَت وأصبح الحق شيئًا ثابتًا واقعًا في السَّاحة، {فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[الأعراف:118]، كل الذي كانوا يعملونه مِن هذا الإِفْك والسِّحْر بَطَل، وبُطْلَانه جاء على هذه الصورة المَهِينَة، فإنَّه كذلك ابتلعته آية الله -تبارك وتعالى- هذه عصا موسى ابتلعته، قال -جلَّ وعَلا- : {فَغُلِبُوا هُنَالِكَ}، الجميع، المَلِك الذي تَصَدَّرَ الجمع وجَلَس في منصته والحاشية الذين يُحِيطون به، وهذه الجموع المُحْتَشدة مِن كل مكان لترى هذا الأمر كلهم غُلِبوا، بمعنى أنَّه  ظَهَرَ حق الله -تبارك وتعالى- وانهزم هذا الباطل بهذه الصورة المهينة، قال -جلَّ وعَلا- : {فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانقَلَبُوا صَاغِرِينَ}[الأعراف:119]، بعد أنْ كانوا يَهْتفون وهم متأكدون مِن عُلو كعبهم ومِن نَفَاذ سحرهم وتغطيته على هذا الأمر، إذا بهم ينقلبوا مُنْكَسرين ذَلِيْلين، الصَّاغِر هو الحقير الذَّلِيل، {........ وَانقَلَبُوا صَاغِرِينَ}[الأعراف:119]، ذليلين حقيرين، ثم قال -جلَّ وعَلا- : {وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ}[الأعراف:120]، أُلْقي بالبناء لمِا لم يسمَ فاعله كأنَّ أخذًا أخذهم فألقاهم إلى الأرض ساجدين، والسَّحرة كان إلقائهم أو سُجُودهم المفاجئ على هذا النحو سُجُود إيمان انبعث في قلوبهم لما رأوا هذه الآية، وهم أهل الخِبْرة وأهل العلم بالسِّحر وعَلِمُوا أنَّ هذا ليس بِسِحْر إنما هذه آية ربِّ العالمين، كما أخبر -سبحانه وتعالى- أنَّها آية مِن الله -تبارك وتعالى- وليست تمويهًا وليست كذبًا.

{وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ}[الأعراف:120]، {قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ}[الأعراف:121]، أي انْكَفَئُوا ساجدين على وجوههم، قائلين آمنَّا بربِّ العالمين هذه آيته، {رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ}[الأعراف:122]، {........ آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ}[الأعراف:121]، ربِّ كل العَوالِم والسماوات والأرض، ثم عَرَّفُوه بأنَّه ربّ موسى وهارون حتى لا يتوهم متوهم ولا يُؤَل مُؤَوِل بأنهَّم يَعْنُون فرعون، بل قالوا ربِّ موسى وهارون، الرَّب الذي يدعو إليه موسى وهارون هو رب موسى وهارون، وليس هو فرعون كما يَدِّعي بأنَّه رب العالمين، {قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ}[الأعراف:121]، {رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ}[الأعراف:122]، تعريف لربِّ العالمين الذي آمنوا به.

وهنا الأمر العَجَب أنَّ فرعون الذي لعله فاجأه هذا المَشْهد وحَطَّمَهُ وكَسَر الجميع وغُلِبَ الجميع وظَهَر الحق بهذه الصورة، لكنَّ هذا الكافر الفَاجِر أُوتِي مِن بَراعة الباطل والخُبْث والمكر في أنْ يَقْلِب هذه الأمر كله إلى الضد، فإنَّ هذا مَشْهَد عظيم مِن مشاهد الإيمان، ولو أنَّ فرعون استجاب للحق وقال نعم، لقد شَهِدَ أهل الخبرة بهذا وهذا حق، وأقرَّ أنَّ موسى إنَّما جاء بالحق المبين لآمن الشَّعْب كلهم، لآمن الناس جميعًا بإيمان فرعون وإيمان الجميع، وهذه الآية ظاهرة، لكن انظر كيف حَوَّل الأمر كله رأسًا على عَقِب، {قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ}[الأعراف:123]، أول

 ما بدأ؛ بدأ بقضية شكلية، وهو أنْ اتَّهَم هؤلاء السَّحَرة بسوء الأدب وبالإفتئات على الحاكم وعلى الإله، الذي هو له المُلْك وله الأمر كله، فقال : {آمَنتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ}، أنا إلهكم وملككم وربكم كيف تؤمنون به ولم آذن لكم بهذا الفعل، وهي قضية شكلية جدًا أي أنَّ هذا أمر إفْتِئات، أي جعله إفْتِئاتًا، فبدأ بهذا الأمر، ثم بعد هذا اتَّهم دَخَل إلى ما هو أبعد مِن هذا، هذا الأمر قد يسوغ عند الجميع أنْ ينبغي حتى ذوقًا واحترامًا أنْ يُسْتَأذن الحاكم في هذا الأمر، ثم بعد ذلك أتى بأمر أكبر وهو اتِّهَامهم، فقال : {إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ}، إنَّ هذا الذي كان منكم وهو أنكم احْتَشدْتُم وأظهرتم لي أنكم تريدون أنْ تُبْطِلوا سِحْر موسى، وأَظْهَرتُم لي طَلَبتُم الأجر ووعدتكم بالحَظْوَة عِندي أنَّ هذه كله إنما هي مؤامرة، قد دَبِّرْتُموها في الخَفَاء أنتم وموسى وأنَّكُم مُتَواطِئون معه على هذا الأمر الذي فعلتموه الآن، وذلك لإزالة مُلْكِي ولتكونوا مكاني، قال : {إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ}، والمَكْر كذب، إظهار خلاف الحقيقة، أنْ يُظْهِروا لفرعون أنهم معه والحال أنَّهم مع موسى، قال : {إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ}، أي فعلتموه بليل في هذه المدينة، {لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا}، مِن أجل أنْ تُخْرِجوا منها مِن مصر أي مِن مُدُن مصر أهلها، {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ}، واتَّهمَهم بأنَّ هذا هو سَاحِر وأنَّهم سَحَرة وأنَّه هو كبيرهم، وأنَّه هو الذي عَلَّمَهم هذا السِّحر ورتَّبَ معهم الأمر على هذا النحو، وقال لهم : {إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ}.

قال فلسوف تعلمون مُهَددًا لهم، ثم لم ينتظر هنا أنْ يعقد محاكمة لهم ولا حُكُومة، وإنَّما أَصْدَر الحُكْم مباشرة، كذلك أنظر كيف يخرج مِن أمر إلى أمر حتى يَصِل إلى مَأْرَبِه، فقال : {لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ........}[الأعراف:124]، فاختار أَقْسَى عقوبة يمكن أنْ تكون وهي أنْ يُقَطِّعَ أيديهم وأرجلهم مِن خِلَاف، ثم {ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ}، والتَّصْليب هو أنْ يُنْصَب كل منهم على هيئة الصليب، مشدودةً يداه ومشدود جِسْمه وأَخْبر بأنِّ هذا التصليب سيكون على جُذُوع النَّخْل، قال في جُذُوع النَّخل ليُشد إلى جِذْع النَّخْلة، والنَّخْلَة أولًا لأنها شديدة، ثم لأنَّ كَرَب النَّخلة  سيدخل في أجسادهم فَيُشَدّ، ولذلك قال ولأًصَلِّبنَّكُم في جُذُوع النَّخْل، ليكون هذا أَشَد الشَّديد، فيكون هنا الإيلام مِن كل مكان، قَطْع الأيدي والأرجل حتى تَنْزف، التَّصْلِيب، تركهم يموتوا على هذا النحو، حَكَم بِقَتْلهم بهذه الصورة وفي نفس الوقت، قال : {لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ}[الأعراف:124]، هذا مُجْرِم وهو قد نَصَّب نَفْسَهُ إلهًا والشَّعب جميعًا وراءه على هذا النحو، وعندما يُصْدِر حكمه على هذا النَّحو بهذه الصورة فإنه ليس هناك مَن يَرْدَعه ومَن يقول له لا، وأنت قد تَسَرَّعْت في الحُكْم وقد حَكَمْت حُكْمًا جائرًا، وهؤلاء جزء مِن الشَّعب وقد كانوا معك الآن أو وحاكمهم وقد كانوا معنا الآن، وقد اتفقت معهم على هذا الأمر وأنظر ليس هناك مراجعة لهذا المُتَألِّه الفاجر فرعون وهو يصدر حُكْمه على هذا النحو.

ليس أمام هؤلاء إلا الاستسلام لأمر الله -تبارك وتعالى-، فقالوا : {........ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ}[الأعراف:125]، قالوا أي السحرة هؤلاء، إنا مؤكدين إلى ربنا منقلبون، أي أننا راجعون إلى ربنا -سبحانه وتعالى-، أي أنك إنْ قتلتنا على هذا النحو فإننا راجعون إلى ربنا -سبحانه وتعالى-، والذي يَرجِعُ إلى ربه وهو مؤمن به لا شك أنه يَلْقى كل تكريم، {........ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ}[الأعراف:125]، فماذا أي ما الذي يجعلنا نَفِر ونيأس ونَبْتَئِس ونحن راجعون إلى ربِّنا -سبحانه وتعالى-، ثم قالوا : {وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا ........}[الأعراف:126]، نفوا عن نفسهم هذه التُّهمة التي اتهمهم بها وهي الكذب والمَكْر هم وموسى، قالوا : {وَمَا تَنقِمُ مِنَّا}، النِّقْمة هنا هو أنْ يُنْزل عذابه وعقوبته بهم، {إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا}، أي الذي يَجعلك تُوقع بنا هذه نِقْمتك هو فقط أنَّا آمنا بآيات ربِّنَا لمَّا جاءتنا، وهذه ليست جريمة فقد آمنا بآيات ربنا، آياته هذه البَيِّنَات الواضحات العلامات الواضحات أنها مِن الله -تبارك وتعالى-، {لَمَّا جَاءَتْنَا}، عندما رأوا ما رأوا مِن هذه عصا موسى التي أصبحت حَيَّة ولَقَفَت وأخذت ما يأفكون، ثم قالوا : {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا}، وهذا دعاء عظيم أَفْرِغ علينا صبرًا، ما قالوا أرزقنا الصَّبر ولا أعطنا الصبر، أفرغ كما يُصَب أي كأن الصَّبْر أصبح شيء كالماء أو نحوه فيُصَب عليهم صَبًا، {أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا}، أي صُبْ علينا مِن الصَّبْر صُبْ حتى نَصْبِر على هذه المحنة الشديدة، محنة أنْ يؤخذوا مِن المكان على الفور بعد أنْ كانوا موعودين بالتمكين وبالنصر وبالأجر وبالثواب وبالعلو في الدنيا، إذا بهم يُتَهددون ويُتَوعدون بالقتل على هذه الصورة الشديدة، {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ}، أي ثَبِتْنَا على الإسلام حتى نلقاك، تَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ اجعل وفاتنا التي تأتينا هذه ونحن حال كوننا مُسْلِمِينَ، وانتهت هذه الصفحة عند هذا الحد، استطاع فرعون أنْ يقلب وضع هذا الحَفْل العظيم، لا نقول لصالحه بل هذا أكبر خسارة له لكنه قَلَبَ الأمر على هذا النحو، وجعل موسى في النِّهاية يقف بعد أنْ ظَهَرت آية الله -تبارك وتعالى- عليه على هذا النحو، يقف وحيدًا مع أخيه والذين آمنوا مِن هؤلاء السَّحرة، أي تُوِعِّدوا ونُكِّلَ بهم هذا التنكيل بعد هذا التهديد العظيم الذي جاءهم مِن فرعون، و الشَّعب الذي رأى هذه الآية أخذته هذه المفاجأة والتقطه فرعون على هذا النحو، ووجَّه وجهته إلى الناحية الأخرى بعد أنْ كان قد فُتِحت له أبواب ليدخل لدين الله -تبارك وتعالى-، ولكن فرعون حوَّل الأمر كله إلى جهة ثانية.

لم يستطع بأمر الله الكوني القدري لم يستطع فرعون أنْ يَمَس موسى، وذلك أنَّه في حِفْظِ الله -تبارك وتعالى- ورعايته وعنايته، وبدأ هذا الأمر بعد هذه الحَادِثة يَسْري ويسير، وقد يراجع بعض الشعب نفسه ويقول أنَّ هؤلاء كانوا مؤمنين حقًا، وأنَّ الآية التي جاء بها موسى آية من آيات الله -تبارك وتعالى-، وبالتالي يمكن أنْ يدخل بعض الناس في هذا الدين، ثم إنَّ دعوة موسى في بني إسرائيل سَرَت حتى أصبح هو رمزهم، وهو المُخلِّص وهو الآتي لهم مِن قبل الله -تبارك وتعالى- ليخلصهم، فأوجدت عندهم روح للخروج عن أمر فرعون وقومه، وأوجد حياة أخرى في بني إسرائيل، لم يسكت المجرمون مِن قوم فرعون ومِن حاشيته على هذا الأمر، فقال -تبارك وتعالى- : {وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ}[الأعراف:127]، {وَقَالَ الْمَلَأُ}، أي جماعة الأشراف والعُظَماء والكُبَراء، {مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ}، سؤال يريدون به الإنكار على فرعون أنَّه كيف يترك هؤلاء، {أَتَذَرُ مُوسَى}، النبي، {وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ}، وإفسادهم في الأرض بأنهم يَخْرجوا عن طوع أولئك، ويشتاقوا ويَتَطلَّعُوا إلى أنْ يخرجوا مِن أرض مصر، ويرفضون الخُضُوع إلى ذُلَ قوم فرعون، سَمُّوها هذا إفسادًا، {لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ}، يَذَرك يتركك وآلهتك، أي ويترك عبادة آلهتك، حُورَس وَرَعْ من الآلهة التي يعبدونها، وفي القراءة الأخرة ويذرك وإلهتك، يذرك يتركك ويترك إلهتك، أي الألوهية لك عبادتك، فأنت الرَّب الإله المعبود، قال أي فرعون : {سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ}، هذه الخُطَّة التي سيستمر عليها، {قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ}، الأبناء الذكور، {وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ}، نترك النساء أي لا نقتلهن فنتركهن أحياء وهذا أَشَد في الإزلال، لأنَّ المرأة لا تستطيع أنْ تُدَافِع عن نفسها ثم تُسْتخدم في الخدمة، ويبقى الشعب الذي يَكْثر بناته وتَقِلُّ ذكوره يبقى شعب ذليل في الخدمة وتحت القَهْر، {وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ}، وإنا بالتأكيد، {فَوْقَهُمْ}، فوق هذا الشعب قاهرون له، والقَهْر هو الإجبار والإذلال والتسخير.

لمَّا عَرِفَ موسى بخُطَّة فرعون وأنه ثابت على إجرامه وأنَّه سائرٌ في هذا الطريق، {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}[الأعراف:128]، {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ}، أي لبني إسرائيل، {اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ}، اطلبوا عَوْن الله -تبارك وتعالى-، اطلوا معونة الله -عزَّ وجلَّ- لما أنتم فيه مِن هذا البلاء الشديد، {وَاصْبِرُوا}، أي على هذا البلاء الشديد، والصبر هو حَبْس النَّفْس على المكروه، {إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ}، الأرض هذه كلها هي أرض الله -تبارك وتعالى-، {يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ}، يورثها ليكونوا أهلها ومُلَّاكها والمتسلطون والقائمون فيها، {مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ}، مِن مؤمن وكافر لحكم يريدها الله -تبارك وتعالى-، {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}، العاقبة النِّهاية في هذا الصراع بين الكفر والإيمان ستكون للمتقين؛ لأهل التقوى، لابد أنْ يَجْعَل الله -تبارك وتعالى- نهاية الأمر وعاقبة الأمر لهم.

فماذا رَد الشَّعب؛ شَعْب بني إسرائيل، على موسى الذي يطلب منهم الثَّبَات على الأمر والصبر والاستعانة بالله –تبارك وتعالى-، قالوا أي بني إسرائيل لموسى، : {قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ}[الأعراف:129]، {قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا}، مِن قبل أنْ تأتينا مُخَلِّصًا رسولًا مِن الله -تبارك وتعالى- فقد نالنا الأذى، هذه خطة قتل الأولاد وقتل الذرية، قتل الأبناء وتَرْك النِّسَاء، هذه خُطَّة قديمة والعسف والظلم الذي نحن فيه قد كان قبل مجيئك، وكذلك بعد أنْ جِئْتَنَا وأنت المُخَلَّص فالحال لم يتغير، أي يقولون حالنا لم يتغير بمجيئك، فبعد مجيئك حالنا كحال الأول فأين الخُلُوص الذي بَشَّرْتَنا به ووعدتنا به، {قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا}، فقال لهم {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ}، الأمر ليس بيدي إنما هو بيد الله -تبارك وتعالى-، عسى مِن باب التَّرَجِّي، ربكم وهو ربُّكم سَيِّدُكم ومَالِكم ومُتَولي شئونكم -سبحانه وتعالى-، وأضافهم هنا إلى الله -تبارك وتعالى- ليبين أن الله هو راحمهم فهو ربهم، {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ}، الذي ينزل بكم هذا الذُّل، {وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ}، يستخلفكم يجعلكم خلفاء عنهم في هذه الأرض، {فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ}، ينظر الله -تبارك وتعالى- يعني أن هذا سيكون اختبار لكم وابتلاء مِن الله -تبارك وتعالى-، أي هل تعملون بعمل الإيمان عندما تكونوا أنتم القائمون في الأمر، والأمر لكم والأرض لكم، أم سَتَنْحَرفون وتكونون كتلك الأُمَم الكافرة.

ثم قال -جلَّ وعَلا- : {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ}[الأعراف:130]، هنا يُخْبِر -سبحانه وتعالى- بالسُّنَن والمُعَاملة التي عَامِل بها قوم فرعون بعد هذا الأمر، قال : {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ}، قومه وجماعته، {بِالسِّنِينَ}، السنين أي توالي الأعوام في القَحْط، {وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ}، يعني إذا جاءهم المَطَر وفاض النيل وجاءت الثمرات فتأتيها الآفة، فإمَّا جفاف يأتيهم وإما آفة تَصِل الثمرات، {لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ}، أي لعلهم بهذه العقوبات التي يعاقبهم الله -تبارك وتعالى- يَذَّكرون، ويعلموا أنَّ إلههم هو الرَّب الذي في السماء -سبحانه وتعالى-، وليس هذا الملك الذي يدعي بأنه رب الأرض والسماء، تعالى الله -سبحانه وتعالى- عن ذلك، {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ}[الأعراف:130]، يَذْكروا ربهم وخالقهم وإلههم ويرعوا ويرجعوا عن ما هم فيه، مِن هذه المعاصي إلى الرَّب الإله -سبحانه وتعالى-.

قال -جلَّ وعَلا- : {فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ}[الأعراف:131]، {فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ}، مِن الخير، فَاضَ النيل وزِكَت زروعهم ونَمَت مواشيهم وحَسُن حالهم وليست هناك آفة، {قَالُوا لَنَا هَذِهِ}، نَسْتَحقُّها، هذه لنا، نحن أهل استحقاق وجَدَارة لِمَا نحن فيه، فَيَنْسِبُونَ هذا إلى علومهم وإلى حَظِّهِم وإلى طريقتهم في المعاشِ والحياة فقالوا لنا هذه، {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ}، إذا جاءتهم آفة، {يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ}، يقولوا سبب هذا الخَرَاب وسبب هذه الآفة والقحط هو من وجوه الشؤم هؤلاء الذين جاءونا، هذا مِن وراء موسى، {يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ}، والتَّطَيُر هو التَّشَاؤم، وأصل الطِّيَرَة كان من عادة العرب أنَّ أحدهم إذا أراد أنْ يَعْرِفَ بَخْته ومستقبله في أَمْرٍ ما، يقوم يأتي بِحَجَر وإذا شاهد طيرًا جَاثِم الأرض زجره، فإذا طار يمينه؛ يمين هذا الزاجر، تيَمَّن أو تيامن هذا يقول تيامن الطَّير فَيَرَى أنَّ الأمر الذي هو مُقدم عليه هذا خير، أكان سفرًا أو زواجًا أو تجارة أو نحو ذلك، وإنْ تشاءم الطير خرج وطار إلى جهة اليَسَار؛ يسار هذا الفاعل، فيقوم يتشاءم بمعنى أنَّه يَشْمئِّز مِن هذا، ويرى أنْ سَيُصِيبه شر فيُحْجِم عن هذا الأمر الذي ، وأصبح أحيانًا قد يُسمى التطير تشاؤم، تَطَيَّر مِن هذا الأمر بمعنى تشاءم منه، بمعنى أنَّه يرى أنه الشر سيأتيه مِن هذا الباب.

{وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ}، أي يروا أنَّ سَبَب هذه المصيبة إنما هو وجود موسى ومَنْ معه، قال –جلَّ وعَلا- : {أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ}، ألا أن يعلموا، {إِنَّمَا طَائِرُهُمْ}، بَخْتُهم وحَظُّهم ونَصيبهم وتصريف أحوالهم كله عند الله -تبارك وتعالى-، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ}، ولَكِنَّ أكثرهم لا يعلمون أنَّ الله -تبارك وتعالى- هو مَالِك المُلْك، وهو الإله الحق -سبحانه وتعالى-، وهو الذي يُنْعِم على عباده بما شاء ويصيبهم بالعقوبة بما شاء، فالأمرُ كُلُّه له -سبحانه وتعالى-، فالأمر كُلُّه والحسنة والسيئة بيده -سبحانه وتعالى-، قال : {أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ}.

ثم أخبر -سبحانه وتعالى- بأنهم استمروا في هذا العِناد، فقال -جلَّ وعَلا- : {وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ}[الأعراف:132]، {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ}[الأعراف:133]، وهذا -إنْ شاء الله- نعيش في ظِلاله في الحلقة الآتية -إن شاء الله-، أستغفر الله لي ولكم مِن كل ذنب.