الجمعة 21 جمادى الأولى 1446 . 22 نوفمبر 2024

الحلقة (207) - سورة الأعراف 132-142

إنَّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله مِن شُرور أنفسنا ومِن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضِل له، ومَن يُضْلله فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله.

وبعد كنا في الحلقة الماضية مع قول الله -تبارك وتعالى- : {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ}[الأعراف:130]، {فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ}[الأعراف:131]، {وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ}[الأعراف:132]، {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ}[الأعراف:133]، يُخْبِرُ -سبحانه وتعالى- أنَّه أَخَذَ آل فرعون -وهو فرعون وقومه- بالسِّنِين، السنوات المتتابعة في القَحْط ونَقْص مِن الثمرات، فإذا جاء خِصْب في سَنَةٍ مِن السنوات وزادت الثَّمَرة عاقبهم الله -تبارك وتعالى- فيها بآفة، {لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ}، لعَلَّهم بهذه العقوبات يتَذَكَّرُوا إلههم وربَّهم ومولاهم -سبحانه وتعالى- فيَعُودُوا إليه، ويَرْتَفِعُوا عن هذا الظلم الذي ظَلَمُوا به بني إسرائيل، ويستجيبوا للنبي الذي أُرْسِلَ إليهم، ويُرْسِلُوا معه الشَّعْب الذي جاء ليُخَلِّصه.

قال -جلَّ وعَلا- : {فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ}، ظنوا أنها هم يستحقونها وأنَّهم جديرون بها، الحسنة مِن حسنات الدنيا، ولم يشكروا الله -تبارك وتعالى- ولا ينسبوها إلى الرَّب الإله -سبحانه وتعالى-، {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ}، مِن هذه العقوبات التي يعاقبهم الله بها، {يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ}، يقولون إنَّ سبب ذلك هو وجود موسى ووجود قومه بني إسرائيل في أَوْساطنا، قال -جلَّ وعَلا- : {أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ}، بَخْتهم وحَظَّهم، {عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ}.

ثم بيَّن -تبارك وتعالى- عُتُوهم وغَطْرَستهم واستمرارهم على ما هم فيه مِن التَّكذيب والعِنَاد في قولهم لموسى، {وَقَالُوا}، أي لموسى، : {........ مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ}[الأعراف:132]، أي أي آيةٍ تأتي بها مهما تتابعت علينا الآيات لِتَسْحَرنا بها إنما هي سِحْر مِن عندك، قالوا : {فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ}، لن نؤمن لك.

قال -جلَّ وعَلا- : {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ ........}[الأعراف:133]، بعد هذه العقوبات التي كانت عقوبات خفيفة بعدها عاقبهم الله بعقوبة أَشَد، فأَرَسل لهم الطُّوْفَان وهو فَيَضَان النِّيل الذي يُحَطِّم زراعاتهم وأرضهم، والجَرَاد إنْ نَبَتَ لهم نَبْت أصابه الله -تبارك وتعالى- بالجَراد الذي يَأْكُل الزِّراعة، والقُمَّل وهو هذه الحشرة المعروفة المُؤْذِية، والضَّفادِع في التوراة أنَّ الضَّفادِع ملأت السَّهْل والجبل، ودَخَلَت عليهم مساكنهم وفروشهم، فكان إذا تَقَلَّب الإنسان وَجَد الضفادع في فِرَاشه، وإذا تكَلَّمَ قَفَزت الضفدعة إلى أنْ تدخل في فَمِهِ، وإذا وَضَع طعامه قَفَزَت فيه، والضَّفادِع التي انتشرت عليهم مِن كل مكان، والدَّم ضَرَبَهُم الله -تبارك وتعالى- بالدَّم، كانت الفرعونية إذا استقت الماء مِن النَّهر ثم أخذت، إذا وضعته في إنائها أصبح دَمًا عَبِيطا، دَم خَالِص كأنَّه لا يخالطه شيء، فكل ما يستنبطونه ويأخذونه إلى منازلهم يتحول في آنياتهم إلى دَم، حتى آذاهم الأمر والدَّم، قال -جلَّ وعَلا- : {آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ}، مُبَيَّنات أنَّها آية مِن الله -تبارك وتعالى-، وأنَّ كل هذه الأمور هي خَرْق للعادة وليس أمر مِن المعتاد، فإنَّ كثرة الجَرَاد على هذا النحو وآية الدَّم الظاهرة الواضحة أنها أمر مُعْجز، فانقلاب الماء إلى دم بمجرد تَحَوله مِن النَّهر إلى الأواني أمر مُعجِز وخارق للعادة، {آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ}، مُبَيِّنات للأمر وأنَّها مِن الله -سبحانه وتعالى- وأنها عقوبة لهم، قال -جلَّ وعَلا- : {فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ}، استكبروا أنْ يستجيبوا لله -تبارك وتعالى- وأنْ يؤمنوا بهذه الآيات التي أَخَذَهُم بها، وأنَّها عقوبة منه -سبحانه وتعالى- لعلهم يرجعون، وكانوا قومًا مجرمين عاتين في الذَّنْبِ، والإجرام هو الذَّنْب العظيم.

قال -جلَّ وعَلا- : {وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ}[الأعراف:134]، كان هذا هو مَكْرُهم وتَلَاعُبهم في كل ما يَضْرِبَهُم الله -تبارك وتعالى- به مِن هذا العذاب، الرِّجْز العذاب، وهذه الآيات كلها مِن العذاب الذي كانت تَقَعُ عليهم الآية بعد الآية، {وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ}، قِيِل أنَّه الطَّاعون آية أخرى، قِيْل أنَّه هو هذه الآيات التي يأخذهم الله -تبارك وتعالى- بها كهذا العذاب، {........ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ}[الأعراف:134]، كلَّما ضَرَبَهُم الله -تبارك وتعالى- بعقوبة مِن هذه العقوبات لجأوا في النِّهاية إلى موسى، وعَلِموا أنَّ هذا مِن الله وأنها بدعاء موسى، وقالوا له : {ادْعُ لَنَا رَبَّكَ}، لم يقولوا ربُّنا ولا إلهنا ولا مولانا لأنَّهم لم يعترفوا به وإنَّما هو اعتبروه أنَّه ربُّ موسى، {ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ}، مِن إيمانك به ومِن استجابته لدعائك، {لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ}، انظر هذا الشَّرط الذي اشترطوه على أنفسهم، {لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ}، نُصَدِّق لك بأنَّك رسول مِن الله -تبارك وتعالى-، {وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ}، وهو الطَّلَب الذي طَلَبَه منهم أنْ يسمحوا بخروج بني إسرائيل مِن أرض مصر.

قال -جلَّ وعَلا- : {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ}[الأعراف:135]، فلما كشفنا عنهم الرِّجْز استجابة للدعاء الذي كان يدعوه موسى بعد ذلك لهم الله -تبارك وتعالى-، فيكشف الله -تبارك وتعالى- عنهم العذاب الذي نَزَل بهم، وأَخْبَرَ -سبحانه وتعالى- بأنَّ هذا الرَّفْع منه -سبحانه وتعالى- إنَّما هو إلى أَجَلٍ هم بَالِغُوه، أي إلى أجل أجله الله -تبارك وتعالى- لاستئصالهم وهلاكم، فقد سَبَق في عِلْم الله -تبارك وتعالى- أنَّهم سيظلوا على استكبارهم وعنادهم، قال -جلَّ وعَلا- : {إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ}، بمجرد ما يرتفع عنهم العذاب بدعاء موسى يعودوا إلى نَقْض العهد الذي أخذوه على أنفسهم، وقالوا : {لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ}، فلا يُنَفَّذُونَ مِن الأمر شيء، والنَّكْث هو فَض ونَقْض العهد بعد إبْرَامه.

قال -جلَّ وعَلا- : {فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ}، الانتقام إنزال العقوبة العظيمة على ذنبهم، {........ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ}[الأعراف:136]، وقد ذَكَر الله -تبارك وتعالى- تفصيل إغراقهم في اليَم، وذلك بأنَّه أَمَر موسى بأنْ يَسْرِي هو وبنو إسرائيل بِلَيل ويَخْرُجوا مِن أرض مصر، وأَخْبَرَهُ بأنَّ الفرعونيين سَيَتَّبِعُونهم وأنَّ الله -تبارك وتعالى- سَيُنْجِيه وسَيُهْلِك هؤلاء القوم، قال -جلَّ وعَلا- : {فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ}، في البحر وهو البحر الأحمر المعروف الآن، قال -جلَّ وعَلا- : {بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا}، أي فعلنا بهم هذا وأغرقناهم على هذا النحو بأنهم؛ الباء هنا للسبب لأنهم، {كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا}، بآيات الله -عزَّ وجلّ-، {وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ}، وكانوا غافلين عن آيات الله -تبارك وتعالى-، والغَفْلَة أنهم إهمالها ونسيانها وازدرائها وعدم العِلْم بأنَّ هذه آياتُ الله -تبارك وتعالى-، وأنَّ الله الذي أَنْزَل هذه الآيات أي وإنْ كانت عقوبات جُزْئِيِّة إلا أنَّه قادر -سبحانه وتعالى- على استئصالهم، لمَّا كانوا غافلين عن أنَّ الله يمكن أنْ يأخذهم بالعذاب المُسْتَأْصِل، فلذلك لمَّا كَذَّبُوا هذا التكذيب وغفلوا هذه الغفلة أخذهم الله -تبارك وتعالى-.

ثم قال -جلَّ وعَلا- : {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا}، هذه كانت العاقبة التي عاقبها الله -تبارك وتعالى- في بني إسرائيل، قال : {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ}، القوم الذين كانوا يُسْتضعفون الذين هم بنو إسرائيل، وكانوا يُسْتَضْعَفون مِن الفراعنة، {مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا}، الأرض التي بارك الله -تبارك وتعالى- فيها هي أرض الشَّام وأرض فلسطين، التي كانت قد وَعَد الله -تبارك وتعالى- بها موسى -عليه السلام-، قال -جلَّ وعَّلا- : {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ}، تَمَّت كلمته ووعده -سبحانه وتعالى- لهم, تَّمت هذه وتمامها هي تحققها، أنَّ الله -تبارك وتعالى- حّقَّقَهَا على بني إسرائيل بما صبروا، على القَهْر والظُّلْم والعذاب الذي كانوا فيه، ثم قال -جلَّ وعَلا- : {وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ}، الذي كان يصنعه فرعون وقومه مِن الصِّنَاعَات العظيمة والجيوش الضَّخْمَة والأموال العزيزة والبيوت الفَارِهَة، كل هذا دَمَّرَه الله -تبارك وتعالى- عليهم بعد أنْ أُزِيل هذا الجيل كله وأُلْقي في البحر، {وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ}، الذي كانوا يَعْرِشُونه يَبْنُونَهُ، كل هذا البناء الذي بَنَوْه جعله الله -تبارك وتعالى- دمارًا، وكان عاقبة بني إسرائيل أنْ أورثهم الله -تبارك وتعالى- أرض مصر بعد أنْ خرجوا مِن التّيه، هذه العاقبة والنهاية التي كانت لأهل الإيمان مِن جهة وأهل الكفر مِن الجِهَة الثانية.

ثم شَرَع الله -تبارك وتعالى- في بيان فَاِصل جديد مِن هذه السورة مع موسى –عليه السلام- وقومه، هذا الفَاصِل بعد خروج موسى -عليه السلام- بقومه بني إسرائيل مِن أرض مصر وخروجه في البحر، ثم بعد ذلك مُعَاناة موسى -عليه السلام- مع بني إسرائيل لإقامتهم على الحق، قال -جلَّ وعَلا- : {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ}[الأعراف:138]، {إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[الأعراف:139]، {قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ}[الأعراف:140]، {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ}، أنجاهم الله -تبارك وتعالى-، أَخْرَجهم بعد ذلك مِن البحر سليمين لم يُصَب أحدٌ منهم ولم يغرق أحدٌ منهم، بل لم يتأثر أحدٌ منهم بخوض البحر فإنَّ الله -تبارك وتعالى- قد شَقَّ لهم طريقهم في البحر يَبَسًا، كما قال -تبارك وتعالى- له : {فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لا تَخَافُ دَرَكًا}، أي مِن عَدُوِّك ولا تخشى أي شيء مِن البحر ولا مِن الغَرَق, قال -جلَّ وعَلا- : {فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ}[طه:78]، {وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى}[طه:79]، {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الأَيْمَنَ ........}[طه:80]، فأنجاهم الله -تبارك وتعالى- مِن عَدُوِّه وخرجوا به سليمين، الله يقول : {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ}، ابْتَعَدُوا عنه بعد أنْ رَأَوا بأعينهم كيف أَغْرَقَ الله -تبارك وتعالى- فرعون وقومه، ولكن انظر هؤلاء الناس الذين رَأَوا هذه الآيات العظيمة والمُعْجزات البَاهِرة لله -تبارك وتعالى-، كيف كان شأنهم بعد ذلك وحياتهم مع نبيهم، وكيف قام هذا النبي بمحاولات لإقامتهم على الحق.

{وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ}، قال -جلَّ وعَلا- : {فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ}، أي مَرُّوا وهم بعد خروجهم مِن البحر على قوم مِن المشركين يَعْكُفُون على أصنام لهم، والعُكُوف هو المَكْث والقعود عند صَنَم، فهم عاكفون عليه أي قاعدون عنده يعبدونه وقد عَكفوا بمكوثهم حول أصنام لهم، أصنام؛ الصَّنَم هو كل ما يُنْصَب لِيُعْبَد، سواء كان على صورة كصورة الأحياء أو على أي صورة، كحَجَر أو شَجَر أو نحو ذلك، {يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ}، وهذا مِن العَجائِب والغَرائِب، كيف يَطْلُبُون مثل هذا الطَّلَب! يطلبون أنْ تكون لهم آلهة يعبدونها؛ ينحتونها ويعبدونها، كما هؤلاء الأقوام الجُهَّال مِن هؤلاء المشركين الضَّالين، هذه المقالة يقولها مَن يقولها مِن بني إسرائيل، الذين أنجاهم الله -تبارك وتعالى- وموسى ورَأوا آيات الله -تبارك وتعالى- البَاهِرة، رَأَوا تِلك الآيات التي ضَرَب الله -تبارك وتعالى- بها قوم فرعون، وكل هذا رأوه، فإنَّ هذه لم تكن آيات للخاصة وإنَّما آيات للعامة، فالجَرَاد والقُمَّل والضَّفَادِع والدم هذه آيات مُفصَّلات، رأوا آية موسى العظيمة البَاهِرة، آخر آية رأوها انشقاق البحر، وهذه مِن أعظم آيات الله -تبارك وتعالى- في الأرض الظاهرة، فإنَّ موسى لما ضَرَبَ البَحْرَ بِعَصَاه يقول : {فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ}، ووقف الماء بلا حَاجِز مثل ما يقف الجبل وهم يَمُرُّون جميعًا بين جنبتي الماء، ماء هنا وماء هنا ويسيرون في طريق يابس في الأرض، جاف لم يُصَبْه الماء، رأوا كل هذه الآيات البَاهَرات، وهذه آيات لا يَقْدر عليها إلا الرَّب الإله خالق السماوات والأرض، ثم كيف بعد ذلك يَطْلُبوا مِن موسى أنْ تكون لهم آلهة مِن أصنام ينحتونها ويعبدونها مِن دون الله -تبارك وتعالى-، هذا أمرٌ أي أمرٌ مِن الأعاجيب، {قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ}.

قال لهم موسى رَادًا : {إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ}، جُهَّال، هذا مِن أعظم الجَهْل، فالذي يُسَوِّي بل يترك الرَّب الإله خالق السماوات والأرض -سبحانه وتعالى-، ويَعُود لعبادة صَنَم مِن هذه الأصنام لا شَكَّ أنَّه أجهل العالمين بالرَّب الإله -سبحانه وتعالى-، {قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ}، إنَّ هؤلاء الذين تُرِيدون أنْ تكونوا نحوهم ومثلهم مُتبَّرٌ ما هم فيه، والتَّتْبِير الهلاك أي أنَّ هذا الأمر الذي هم فيه هَالِك، فأصنامهم هَلْكَى وهم هالكون بهذه، هم وآلهتهم مِن حَصَبِ جهنم، وعبادتهم باطلة تَقُوم على غير أساس، {إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ ........}[الأعراف:139]، كل تتبير، {وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}، كل العمل الذي يعملونه باطل، بدءًا بصناعتهم للأصنام ونِسْبَتهم لها ما ينَسْبون وعكوفهم عليها وعبادتهم لها كل هذا باطل، {إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[الأعراف:139].

{قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا ........}[الأعراف:140]، هل أطلب لكم إله تعبدونه غير الله -سبحانه وتعالى-؟ {وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ}، الرَّب الإله الذي أي هو إلهكم وهو الذي فَضَّلَكُم على العالمين؛ على كل عَالَمَي زمانهم، فإنَّ الأرض في وقتهم كل الأرض في وقتهم كانت على شِرْك وضَلَال، وقد كانت هذه هي الفِئَة الوحيدة المُهْتَدِية القائمة بأمر الله -تبارك وتعالى-، هو فَضَّلَكم على العالمين ولا شَكَّ أنَّ التفضيل على عَالمِي زمانهم، وليس على العالمين مطلقًا، كل العالمين في كل العصور والأوقات وفي كل الأُمَم... لا، بل إنَّهم فقط إنَّما الذين فضلهم على العالمين إنما هم يعني كأمة واحدة على عالم زمانهم ووقتهم، وإلا فالذين فضَّلهم الله -تبارك وتعالى- على كل الناس إنما هُم أُمة محمد -صلوات الله والسلام عليه-، كما قال -جلَّ وعَلا- : {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ........}[آل عمران:110]، فهم المُفضَّلُون على كل البشر وكل أُمَم الهداية، {وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ}، عَالمي زمانهم.

ثم قال لهم، يقول لهم الله -عزَّ وجلَّ- : {وَإِذْ أَنجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ}[الأعراف:141]، هذا ربُّكم، فهذا ربُّكم وإلهم الذي يَجِب عليكم أنْ تعبدوه، {وَإِذْ أَنجَيْنَاكُمْ}، أي أيُّها القوم بني إسرائيل، {مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ}، بأنْ أخرجهم الله -تبارك وتعالى- جميعهم مِن أرض مصر إلى البَرِّيَة، {يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ}، يسومونكم بمعنى أنَّهم يرعونكم، يجعلون العذاب مِثْل عَمَل يومي لكم، {يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ}، بتحميلكم للأشغال الشَّاقَّة، فكل عَمَل شاق كان يُجْعَل لهم، تَجْعَلُه المصريين لهم؛ لبني إسرائيل ليقوموا به، مِن ضَرْب اللَّبِن والبِنَاء وحمل الأثقال، والعمل كل العمل المُضْنِي، وقد كان هذا عمل يومي، {يَسُومُونَكُمْ}، كما ترعى بإبلك كل يوم فكذلك كانوا أي هؤلاء يأخذونهم كل يوم للعمل الشَّاق، {يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ}، ثم كذلك {يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ}، الذكور، {وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ}، وفي ذلكم الاثنين؛ لإنجاء الله -تبارك وتعالى- لكم، وهذا فَضْل عظيم منه -سبحانه وتعالى-، وكذلك للإبتلاء هذا الذي كان واقع عليكم مِن العذاب، {وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ}، بلاءٌ بالرحمة وبلاءٌ بالعقوبة، فهذا الرَّب هذا هو تعريف بالرَّب الإله الذي يَجِب عليكم أنْ تعبدوه وأنْ تَذِلّوا له -سبحانه وتعالى-، لا هذه الأصنام التي يعبدها هؤلاء الضَّالُّون.

ثم فَاصِل جديد مِن قصة موسى -عليه السلام- مع قومه، قال -جلَّ وعَلا- : {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ}[الأعراف:142]، {وَوَاعَدْنَا مُوسَى}، الله -سبحانه وتعالى- واعد موسى ثلاثين ليلة ليُنزِل عليه التوراة ويعلمه إياَّه، خَلْوة يَخْتَلِي بالرَّب -جلَّ وعَلا-، يُنَاجِيه الله -تبارك وتعالى- ويُنَزِل عليه كتابه ويعلمه، ليكون مُعلِّمًا لقومه وهاديًا لهم، {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ}، أي زادها الله -تبارك وتعالى- عشر أخرى، قال -جلَّ وعَلا- : {فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً}، تَمَّ ميقات ربه أربعين ليلة يكون موسى بعيد في الجبل بعيد عن قومه بني إسرائيل، وكان هذا في أيام التّيه، {........ وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ}[الأعراف:142]، نَصَّبَ موسى أخاه هارون النبي الذي نَبَّأه الله -تبارك وتعالى-، أميرًا على القوم ووكيلًا عن موسى -عليه السلام- في قومه، وقال له : {اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي}، أي كُن خِلِيفة لي قائمًا مقامي في قومي بني إسرائيل، {وَأَصْلِحْ}، أي بين أي شِقَاق أو خُصُومَة أو غير هذه، وكذلك اعمل بالعمل الصالح حتى يَتَأسَّى بك الأخرون، وأَصْلِح بين الناس وأَصْلِح كذلك في عملك، {وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ}، إيَّاك أنْ تَتَّبِع سبيل المفسدين وسبيل المفسدين هو طريقهم.

قال -جلَّ وعَلا- : {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ}[الأعراف:143]، {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا}، هذه أربعين يوم الذي يكون فيها مُنَاجِيًا لله -تبارك وتعالى- مُتَعلِّمًا مَن الرَّب -جلَّ وعَلا-، قال -جلَّ وعَلا- : {وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ}، كلامًا بِلَا وَاسِطَة، كلام يَسْمَعُهُ موسى مِن رِّبه -سبحانه وتعالى-، {وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ}، وهذا مِن التشريف العظيم لموسى -عليه السلام-، وهو أحد ثلاثة مِن البشر كَلَّمهُم الله -تبارك وتعالى-، آدم نبي مُكَلَّم وموسى –عليه السلام- ومحمد بن عبد الله -صلوات الله والسلام عليه-، الذي كَلَّمَهُ الله -تبارك وتعالى- في السماء، فهؤلاء هم المُكلَّمُون الثلاثة مِن كل الأنبياء والمرسلين أولاد آدم، {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ}، أي وهو في هذه الميعاد الأربعين يوم، {قَالَ}، أي موسى، {رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ}، أي أنَّه طَمِع وأنَّه في هذا المقام في هذه الخَلْوة مع الرَّب –تبارك وتعالى- أنْ يَرَى الله -تبارك وتعالى- بعيني رأسه رؤية بَصَريَّة، {قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ}، فقال له الله -تبارك وتعالى- : {قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي}، قال له الله -تبارك وتعالى- لَنْ تراني، أي حياتك كلها في هذه الدنيا وذلك أنَّ الله -تبارك وتعالى- قد احْتَجَبَ بِعَظَمَتِهِ -سبحانه وتعالى- وكبريائه عن خلقه، وأنَّه لا يَرَاه أحد مِن خلقه في الدنيا -سبحانه وتعالى-، وإنما يراه عباده أصفيائه المؤمنون في الآخرة في الجنة، وأما في الدنيا فلا يراه أحد مِن خَلْقِهِ، وكما قال النبي -صلوات الله والسلام عليه- لمَّا أخبر عن الدَّجَال وفتنته في آخر الزمان، «واعلموا أنَّكم لن تَروا ربَّكم حتى تموتوا»، واعلموا أنَّكم، وذلك لأنَّ الدَّجَّال إنما هو مبتذل يأتي ويسير في الناس ولا يترك مدينة إلا ويدخلها ويَدّعِي أنَّه الله، فكان رؤية الناس له على هذا النحو جعلها النبي فَارِق بين الرَّب الإله -سبحانه وتعالى- المحتجب بعظمته وكبريائه عن خلقه، وبين هذا الكذَّاب المدعي أنه الله، فالنبي بيَّن فروق كثيرة أولًا أن هذا مُدَّعٍ كذَّاب، وقال لهم قال النبي : «ما مِن نبي إلا حَذَّر أُمَّته مِن الدَّجَّال، وإني أقول لكم فيه قولًا لم يَقُله أحد قبلي، إنَّه أَعْوَر وإنَّ ربكَّمُ ليس بأعور»، وقال أيضًا النبي : «واعلموا أنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا»، فهذه فروق، فهذا أعْوَر ناقص والرَّب -سبحانه وتعالى- إنما هو الرَّب الذي لا تصيبه آفة -سبحانه وتعالى- ولا يُصِيبه نقص، وكذلك أنَّه لا يُرَى، لا يراه أحد أي في هذه الدنيا.

فقال له الله -تبارك وتعالى- : {لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ}، أراد الله -تبارك وتعالى- أنْ يُرِيَهُ الأرض أي لا تَسْتَقِّر لعظمته وكبريائه -سبحانه وتعالى-، وأنَّه إنْ ظَهَر لها وتَجَلَّى لها دُكَّتْ، قال : {وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي}، أي إذا استقر هذا الجَبَل مكانه عندما يتجلَّى الله -تبارك وتعالى- له ويَظْهَر له قال فسوف تراني، ليَدُل على إستحالة رؤية الرَّب -تبارك وتعالى- في هذه الدنيا، قال -جلَّ وعَلا- : {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ}، تَجَلَّى ظَهَر، مِن الجَلَاء و هو الظهور، {جَعَلَهُ دَكًّا}، جَعَلَ الله -تبارك وتعالى- هذا الجبل دكًا، كأنَّه نُسِف مِن أساسه، {وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا}، لمَّا رَأَى موسى هذا المنظر الهائل خَرَّ صَعِقًا عندما دُكَّ الجبل لِتَجَلِّي الرَّب -سبحانه وتعالى-، {فَلَمَّا أَفَاقَ}، أي مِن صَعْقته، {قَالَ سُبْحَانَكَ}، تنزيهًا لك، {تُبْتُ إِلَيْكَ}، رَجَعْتُ إليك أي مِن هذا الذَّنب ومِن هذا أني طلبت ما لا ينبغي لي في هذه الدنيا، {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ}، أَسْبَقُهُم، أنا أول المؤمنين أسبقهم بأنَّك الرَّب الإله العظيم الذي لا تُرَى في هذه الحياة الدنيا.

نقف عْنَدُ هذا، ونُكْمِل -إنْ شاء الله- في الحلقة الآتية، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم مِن كل ذنب، وصلى الله على عبده ورسوله محمد.