الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على عبد الله والرسول
الأمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه، وعمل بسنته إلى يوم الدين.
يقول الله –تبارك وتعالى- {وَاتَّقُوا
يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شيئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ
وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ}[البقرة:48]، هذه الآية
وَعد الله –تبارك وتعالى- بها بني إسرائيل، في سياقه لدعوتهم –سبحانه وتعالى-
للإيمان بالنبي محمد –صلوات الله وسلامه عليه-، وعدهم الله –تبارك وتعالى- بأن
يتقوا عذاب الله –تبارك وتعالى- يوم القيامة، حيث ليس هناك أي صورةٍ من الصور
يتعلق بها الإنسان يمكن أنه تنجيه من عذاب الله –تبارك وتعالى- لمن استحق العذاب
والعقوبة،{وَاتَّقُوا يَوْمًا}، خافوا هذا اليوم،
اجعلوا وقاية بينكم وبين العقوبة، في يوم؛ هذا اليوم موصوف {لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شيئًا}، نفس منكر أي نفس
مهما كانت، ولو ملك ولو نبي ولو رسول، عن نفس عن أي نفس، ولو كان هذه النفس
المشفوع فيها في غاية القرب للشافع، كأن يكون ابنًا له، أو أبًا له، {لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شيئًا}، شيئًا أيضًا مُنكر،
أي شيء؛ من إسقاط العقوبة، من إسقاط الحق، من رفع درجة، لا مجال لأن ينفع أحدٌ أحدًا
في هذا اليوم بنافعة، إذا كان ممن كتب الله –تبارك وتعالى- عليه العذاب والخلو،
فهذا أول أمر، أن كل إنسان مرهون بعمله في هذا اليوم.
{وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا
شَفَاعَةٌ}، أخبر الله –تبارك وتعالى- بأن يوم القيامة لا يقبل من نفس على
نفس شفاعة، وهذه الشفاعة التي نفاها الله –تبارك وتعالى- هي الشفاعة التي يظن
الكافر أنها نافعة عند الله، شفاعة لكافر؛ فالكفار لا يقبل الله –تبارك وتعالى-
بهم شفاعًة أبدًا، مهما جاء هذا الشافع فإن الله –تبارك وتعالى- لا يقبله، كما جاء
في الحديث أن آذر يلقى إبراهيم يوم القيامة، يقول النبي «يلقى
إبراهيم أباه آذر يوم القيامة، وقد سربل بسربال من قطران، وعلت وجه آذر غبرًة
وقطرة، فيقول له إبراهيم يا أبي ألم أقل لك لا تعصني؟ فيقول له يا بني الآن لا
أعصيك، فيقول إبراهيم أي ربي لقد وعدتني ألا تخذني يوم يبعثون، وأي خذي أكبر من
أبي الأبعد، فيقول الله –تبارك وتعالى- له يا إبراهيم إني حرمت الجنة على الكافرين،
وانظر تحت قدميك؛ فينظر تحت قدميه، فإذا هو بذيخٍ ملطخ بالدماء، فيؤخذ بقوائمه
ويلقى في النار» فهذا إبراهيم الذي يتزرع اليهود بأنهم ينسبون إليه، وأنه
أباهم، وأن الله قد باركه، وأنهم مباركون ببركة الأب، فإنه لا تقبل شفاعته في أبيه
لموته على الكفر، فلا تقبل شفاعة في كافر، لا يقبل الله –تبارك وتعالى- شفاعًة في
كافر مهما كان الشافع.
{وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا
شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ}، ولا يؤخذ منها عدل؛ العدل الذي
هو ثمن يعادل الذنب، وقد أخبر –سبحانه وتعالى- أنه لا يقبل فداءً وعدلًا للذنب، الذي
هو الكفر، ولو أتى هذا المذنب بذهب قدر الأرض، قال –جل وعلا- {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأَرْضِ
جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ
مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[المائدة:36]، {يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ
بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ}[المائدة:37]، وقال لو أن
لهم ما في الأرض ذهبًا ؛ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم، فأي فدية لا
يقبلها الله –تبارك وتعالى-، وفي الحديث أن الله يقول للكافر أرأيت لو كان لك مثل
الأرض ذهبًا، أكنت تفتدي به؟ بعد ما يعاين العذاب، فيقول نعم ياربي؛ يقول نعم
والله، أفتدي به، فيقال له كذبت، قد طلبت منك ما هو أهون من ذلك؛ ألا تشرك بي شيئًا،
فأبيت إلا أن تشرك بي شيئًا، فالكافر لو أن له لو فرض أنه له، والحال أنه لا يكون
له، لأن كل أحدٍ يأتي يوم القيامة كما خلقه الله –تبارك وتعالى- عاريًا، ليس معه
شيء، حتى ثوب يستره لا يكون، {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ
خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ}، فلا يؤخذ
منها عدل، لو فرض موجود، أي حتى لو فرض أنه هذا العدل موجود، فإنه لا يقبل من أحد.
{وَلا هُمْ يُنصَرُونَ}،
ولا هم؛ المراد الذين كفروا، وحقت عليهم كلمة العذاب، لا ينصرون من الله –تبارك
وتعالى- لأنه ليس هناك من ينصرهم، ولو تمالئوا جميعًا فإنهم لا ينصرون، الله لا
غالب له –سبحانه وتعالى-، وذلك أن لا أحد يغلب الله –تبارك وتعالى- وهم مغلوبون،
ويضطرون إلى العذاب، يخوف الله –تبارك وتعالى- بني إسرائيل ويأمرهم –سبحانه
وتعالى- بأن يتقوه، وليعلموا أن هذا يوم عصيب وعظيم، وأنه يوم لا تجزي نفسٌ عن
نفسٍ شيئًا، ولا يقبل منها شفاعة، ولا يؤخذ منها عدل، ولا هم ينصرون، هذه أربعة
أمور ممكن تتعلق أذهان مرضى القلوب وضعاف النفوس والجهال بالله –تبارك وتعالى- أنه
يكون واحدة منهم تنفعهم يوم القيامة، فالله يقطع الأمر، ويخبر بأنه هذا اليوم لا
ينفع فيه شيء من هذا، لا نفس تجزي عن نفس، ولا شفاعة نافعة، ولا عدل يمكن أن ينفعه
الإنسان فديه للعذاب تقبل، ولا أحد يستطيع أن يتنصر من عذاب الله –تبارك وتعالى-
في هذا اليوم، وأن ينصر على الله، ولا هم ينصرون.
هذا الإجمال إجمال عظيم، وموعظة تضمنت معاني عظيمة جدًا،
لو عقلها اليهود لآمنوا كلهم، لو كانوا يعقلون ونزل عليهم هذا الكلام من أول قول
الله –تبارك وتعالى- {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي
أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ
فَارْهَبُونِ}[البقرة:40]، وعلموا أن هذه رسالة الرب –جل وعلا- لتسابقوا
إلى الإيمان بالنبي –صلوات الله وسلامه عليه-، ولكن للأسف سمعوا هذا الكلام، وأنزل
عليهم، وقرئ عليهم، وهذه دعوة الله –تبارك وتعالى- لهم، وبقوا على الكفر والعناد،
ثم شرع الله –تبارك وتعالى- في تفصيل هذا الإجمال، بيان أفضاله ونعمه –سبحانه
وتعالى- وكيف هم قابلوا المراد أباؤهم قابلوا بعض هذه الأفضال! وكيف نكسو على رءوسهم!
وكيف عالجهم الله –تبارك وتعالى- مرة بعد مرة؛ ليبين لهم الطريق، ويبين أفضاله وأنعامه
عليهم –سبحانه وتعالى-.
فبدأ الله –تبارك وتعالى- بتذكيرهم بنعمة عظيمة من نعمه –سبحانه
وتعالى- فيها آيات عظيمة لهم، قال –جل وعلا- {وَإِذْ
نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ
أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ
عَظِيمٌ}[البقرة:49]، وإذ نجيناكم اذكروا إذ نجيانكم الله –تبارك وتعالى-
والنجاة هي إخراج من الهلكة، من آل فرعون وآل فرعون . فرعون يطلق الفرعون على كل
من حكم مصر من الكفار في ذلك الوقت، وآل فرعون المراد فرعون وجماعته، والكفار
الذين كانوا معه، موالين له، مشايعين له على ما هو فيه من الكفر والعناد.
{وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ
آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ}، يسومونكم قيل إن السوم
أصل السوم بمعنى الرعي، ويأتي يسومونكم كأنهم يجعلون العذاب لكم بمثابة الرعي،
كأنهم يسوقونكم إلى العذاب سوقًا السائمة لترعى، أو يسومونكم يولونكم سوء العذاب،
العذاب السيئ، وقدم سوء هنا الوصف ليبين أن العذاب في أسوأ وأعلى صورة، جاء بعد
ذلك تفصيل هذه الصورة من العذاب، قال {يُذَبِّحُونَ
أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ}، هذه من أشق صور العذاب،
يذبحون أبناكم؛ يذبحون بالمبالغة أنه المرة تلو المرة، لا يذبحون وينتهوا ولكن هذا
عمل مستمر، عمل يومي يفعلونه، والأبناء الذكور؛ فكان إذا ولد لهم ولدٌ ذكر قتله
الفراعنة، {وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ}،
يستحيون المراد يبقونها حية، يطلبون حياتها، نساءكم فالأنثى تترك لا تقتل بعد
الولادة، والذكر يقتل، وفي هذا إيلام عظيم للأبوين ولكافة الشعب، فالأب يتمنى أن
يموت هو ولا يقتل ابنه، ويذبح أمام ناظريه، ثم إن إبقاء البنات حيات هو زيادة كذلك
في التنكيل، وذلك أن الأنثى ضعيفة لا تستطيع الدفاع عن نفسها، وتتعرض كذلك للمهانة
وللفضيحة وللعار، فيكون هذا شر على شر، طبعًا كان تسليط الفراعنة عليهم برؤية قيل
رأها فرعون، وقيل بتخوف جاءهم لما كثر بنوا إسرائيل في مصر بعد رحيلهم إليها، فقد ارتحل
بنوا إسرائيل بعد يوسف –عليه السلام- كما قص الله –تبارك وتعالى- قصته، حيث بيع رقيقًا
بمكر إخوانه به، وإلقائه في البئر، ثم أخذ مجموعة من السيارة المسافرين أخذوه
معهم، وباعوه في أرض مصر، وجاء موقعه عند عزيز مصر، وكان من شأنه ما قص الله –تبارك
وتعالى- من محاولة إمرأة هذا الرجل؛ إمرأة العزيز أنه تدعوه إليها، وإعتصامه بالله
–تبارك وتعالى- ثم سجنه، ثم رؤية الملك بعد ذلك، ثم تفسيره للرؤية، ثم خروجه، ثم
تمكين ملك مصر له، {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ
أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا
مَكِينٌ أَمِينٌ}[يوسف:54]، {قَالَ اجْعَلْنِي
عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ}[يوسف:55]، الله يقول {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ
مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}[يوسف:56]، ودعا أباه وأمه وإخوانه إلى السكنة فيها،
وسكنوا معززين مكرمين في أرض مصر، متبوئين فيها، ثم قلب لهم بعد ذلك الفراعنة أي
ظهر المجن عندما خافوهم لكثرتهم، وأن الأمر يمكن أن تتحول البلاد وسلطانها
بأيديهم، فكادوا لهم هذا الكيد، وتفتق ذهنهم عن هذا الأمر الخبيث، البشع في الظلم،
وهو أن يقتلوا ذريتهم من الذكور، ويبقوا النساء حيات ليبقوا في الخدمة، ثم كانوا
يقتلوا يوم الذكور ويتركوا يوم، حتى يبقى فيهم ذكور قليلين لكنهم ضعاف في النهاية.
ثم قال –تبارك وتعالى- {إِنَّ
فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ
يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ
الْمُفْسِدِينَ}[القصص:4]، ثم كان من شأن الله –تبارك وتعالى- أن أراد أن
يخرجهم من ذل الفراعنة، فقال {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ
عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً
وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ}[القصص:5]، {وَنُمَكِّنَ
لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا
كَانُوا يَحْذَرُونَ}[القصص:6]، نري فرعون وهامان وجنوده منهم؛ من بني
إسرائيل، ما كانوا يحذرونه، الذي كانوا يحذرونه من إهلاكهم؛ إهلاك المصريين، وإنجائهم
وتمكينهم في الأرض، فالله -تبارك وتعالى- أراد أن يريهم أن مشيئته نافذة –سبحانه
وتعالى-، فكان من شأن ذلك أن أرسل الله –تبارك وتعالى- هيأ الله –تبارك وتعالى-
نشأة موسى، ثم أصبح نبيًا عظيمًا في بني إسرائيل، ثم في نهاية المطاف بعد سنين من
الجهاد والصراع ودعوة فرعون وقومه إلى الإيمان، وإنحجاب وإنطماس بصيرة فرعون ومن
معه عن الإيمان، عند ذلك أمر الله موسى أن يخرج ببني إسرائيل جميعهم من أرض مصر،
وخرجوا عن طريق البحر، لما وصلوا إلى البحر وحصروا بين البحر وبين جند فرعون، وقال
أصحاب موسى إنا لمدركون، قال كلا؛ قال موسى كلا إن معايا ربي سيهدين، فأوحينا إلى
موسى أن إضرب بعصاك البحر، قال-جل وعلا- فانفلق البحر فكان كل فلق كالطود العظيم،
كل فلق في البحر كالطود؛ الجبل الأشم العالي، {وَأَزْلَفْنَا
ثَمَّ الآخَرِينَ}[الشعراء:64]، {وَأَنْجَيْنَا
مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ}[الشعراء:65]، فموسى أمره الله –تبارك
وتعالى- أن يدخل في الطريق الذي شقه الله –تبارك وتعالى- له في وسط الماء، وشق لهم
هذا الطريق في وسط الماء وحول الله –تبارك وتعالى- أرض البحر إلى أرض يابسة، قال {أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي
الْبَحْرِ يَبَسًا لا تَخَافُ دَرَكًا}، أي من عدوك ولا تخشى ولا تخشى منه، فلما سار موسى
ببني إسرائيل، وعبروا إلى الضفة الثانية والشاطئ الأخر، وكان فرعون لما رأى هذه
الآية ومع ذلك طمس على بصيرته فلم يرتدع، ودخل بنفسه وبجنوده كذلك خلفه، فلما
أصبحوا في سواء البحر أمر الله –تبارك وتعالى- البحر أن ينطبق؛ فانطبق عليهم
فأغرقهم.
فالله يذكرهم –سبحانه وتعالى- نعمته، وآياته العظيمة –سبحانه
وتعالى- أنه أخرجهم بكليتهم، ما بقي طفل ولا طفلة، بل خرجوا بأمتعتهم كلها من أرض
مصر، أخرجهم الله –تبارك وتعالى- وهم أمة عظيمة على هذا النحو، وقطع الله –تبارك
وتعالى- لهم السنن بأمر معجز، فالبحر المانع العظيم جعل الله –تبارك وتعالى- لهم
في وسطه طريق يسيرون فيه، وجدران الماء تقوم كأنها جدران من المسلح، كالطود العظيم
لا تميل، حتى أن موسى لما رأى أن فرعون قد دخل الماء خلفه، أراد أن يضرب البحر
بعصاه حتى ينطبق عليهم ليكون حائل، الله قال له وأترك البحر رهوًا؛ وأترك البحر
رهوًا أي ساكن، إنهم جندٌ مغرقون، فلله تدبير في هذا، أمر عظيم وآية عظيمة ذكّر
الله –تبارك وتعالى- هؤلاء الأبناء، المراد أبناء بني إسرائيل، الذين عاصروا هذا
التنزيل، عاصروا النبي محمد –صلوات الله وسلامه عليه- بما فعله الله –تبارك
وتعالى- بالآباء، فقال وإذ نجيناكم من آل فرعون نجينا آباءكم بني إسرائيل، {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ
سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي
ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ}[البقرة:49]، وفي ذلكم مشار إليه
بلاء، في ذلكم أي التسليط؛ تسليط الفراعنة لكم كان بلاء، وكذلك في إنجائكم بلاء،
فالله يبتلي بالخير والشر، فقد ابتلاكم بالشر العظيم، وهذا ليمتحن صبركم وإيمانكم
وبقائكم على الحق.
كما قال موسى لقومه لما قالوا له أوذينا من قبل أن
تأتينا، ومن بعد ما جئتنا، هذا موسى وهو في مصر لما كان فرعون يصب العذاب عليهم
صبا مع وجود موسى، وكان موسى يقول لهم أنا المخلِّص، أنا الذي جئت لأخلصكم من هذا
العذاب، فكانوا يقولون له والعذاب مستمر عليهم، كم جاء في قول الله –تبارك وتعالى-
أن حاشية فرعون ومن حوله {وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ
فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ
وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا
فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ}[الأعراف:127]، فاستمر مسلسل العذاب حتى مع وجود موسى
–عليه السلام-، فقال له قومه؛ قال بنو إسرائيل لموسى أوذينا من قبل أن تأتينا، ومن
بعد ما جئتنا، أنت تقول إنك مخلِّص وهتخلصنا وتخرجنا من هنا، ونحن ومسلسل العذاب
مستمر، {قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا
وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ
وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ}[الأعراف:129]،
فقد كان هذا بلاء وبلاء، فبلاء الله –تبارك وتعالى- بتسليط هؤلاء الظلمة الفراعنة
عليهم، وبلاءٌ كذلك من الله –تبارك وتعالى- بإنجائهم، وبهذه النعمة الكبرى التي
أنعمها عليهم –سبحانه وتعالى-، وفي ذلكم الاثنين؛ العذاب الذي سلط عليكم، والنجاة
التي أنجاكم الله –تبارك وتعالى- بكم بلاء من ربكم عظيم، بلاءٌ عظيم من ربكم –سبحانه
وتعالى- هو الرحيم بكم، وابتلاء الله –تبارك وتعالى- كله خير مدام لعباده المؤمنين،
فإن الابتلاء بالشر للتمحيص، ولرفع الدرجة، ولعلو المكانة، والابتلاء بالخير للشكر
والأنعام، وبيان أفضاله وأنعامه وإحسانه، وبيان قدرته –سبحانه وتعالى-، فهنا قدرة
الله –سبحانه وتعالى- الفائقة، فهو الذي كما جاء في التوراة أنجاكم بيدٍ قوية، أنجاكم
من فرعون بيدٍ قوية، يد الله –تبارك وتعالى- القوية التي أنجتكم هذه الإنجاء،
وأخرجكم هذا.
ثم {وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ
الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ}[البقرة:50]،
{وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ}؛ فرق البحر
هو إزاحة الماء عن الماء، ليكون طريق في وسط البحر، ثم فأنجيناكم إلى الشاطئ الأخر، وأغرقنا آل فرعون
في الماء، نفس الماء هذا ينطبق عليهم، هذا الماء نفسه واحد، لكن يسمح بخروج هؤلاء،
ثم ينطبق على هؤلاء، {وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ
وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ}، وأنتم تنظرون هذه الآية بأعينكم، هذه الآية فيها
آيات عظيمة، أولًا شفاء صدور هؤلاء الناجين، أنهم يرون عدوهم الذي أذلهم وفعل بهم
ما فعل يهلك وأمام أعينهم، لو هلك بعيدًا عنهم وهم لا يرون هلاكه هذا خير، لكن ليس
كأن يهلك وهم ينظرون إليه، فإن المسطور المقهور إذا رأى أن من قهره ومن ظلمه يعذب
ويلقى جزاءه أمام عينه، يكون هذا أقر لنفسه وأشفى لصدره، وأنتم تنظرون؛ كذلك وأنتم
تنظرون هذه الآية العظيمة لله –تبارك وتعالى- {وَإِذْ
فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ
تَنظُرُونَ}[البقرة:50].
ثم من نعم الله –تبارك وتعالى- عليهم كذلك قال {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ
اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ}[البقرة:51]،
هذا من جملة أفضال الله –تبارك وتعالى- لهم، وكذلك ردهم فضل الله –تبارك وتعالى-
بالإساءة، {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ
لَيْلَةً}، واعده الله –تبارك وتعالى- أربعين ليلة، وذلك ليعلمه التوراة،
ينزل عليه التوراة ويعلمه إياها، وكان هذا الموعد في الجبل، الله أمره أن يترك بني
إسرائيل، وتركهم وخلف بعدهم أخاه هارون، هارون أكبر من موسى، وقد كان نبيًا معه،
وكان نبوته بطلب من موسى، فإن الله لما أنزل النبوة والرسالة على موسى وأرسله إلى
فرعون؛ اعتذر أنه سيذهب إلى جبار، {قَالَ رَبِّ إِنِّي
قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ}[القصص:33]، {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ
مَعِي رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ}[القصص:34]، {قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا
سُلْطَانًا فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا .........}[القصص:35]، فالله قبل
شفاعة موسى؛ في أن يرسل معه هارون، فنبأ الله –تبارك وتعالى- هارون، وأرسله مع
موسى إلى فرعون، الشاهد أن موسى عندما وعده الله –تبارك وتعالى- بأن يأتي لإنزال
التوراة وتعلمها، وكان هذا في ظرف أربعين ليلة، وقد أخبر الله –تبارك وتعالى- بأنه
وعده ثلاثين ليلة ثم أتم الله بعشر، {وَوَاعَدْنَا
مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ
أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي
وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ}[الأعراف:142]، على كل
حال هذه الآية {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ
لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ}[البقرة:51]،
فيها تفصيلٌ، ولا يسعه الوقت الباقي من هذه الحلقة، نرجئه إلى الحلقة الآتية –إن
شاء الله-.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد.