الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله الأمين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومَن اهتدى بهديه وعَمِلَ بسنته إلى يوم الدين.
يقول -تبارك وتعالى- : {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}[الأعراف:158]، {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ}[الأعراف:159]، بعد أنْ تمَّ حديث الله -تبارك وتعالى- الذي قاله لموسى بعد اعتذاره، وقد قال الله -تبارك وتعالى- له : {........ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ}[الأعراف:156]، {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[الأعراف:157]، توجيه مِن الله -تبارك وتعالى- أنَّ رحمة الله -تبارك وتعالى- سَتُكْتَبُ لأهل الإيمان بموسى، المستقيمين على أمره، ثم إذا بُعِثَ النبي الخَاتَم محمد -صلوات الله والسلام عليه- فالذين يَتَّبعون هذا النبي ويسيرون في رِكَابه وهذه صِفَته نبي يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، هذه مِن أعظم صفات النبي محمد -صلوات الله والسلام عليه-، ولم يَأْمُر النبي طِيْلَةَ حياته إلا بهذا؛ إلا بمعروف تعرفه كل القلوب الطيبة، ولم ينهَ إلا عن مُنْكَر يُنْكره كل قلبٍ طَيِّب، وكل فِطْرة سليمة تُنْكرُ ما أنكره النبي -صلوات الله والسلام عليه-، وكذلك يرفع تلك الآصَار والأغلال التي كانت قد كتبها الله -تبارك وتعالى- على بني إسرائيل بظلمهم، كما قال -جلَّ وعلا- : {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا}[النساء:160]، {وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ ........}[النساء:161]، جاء النبي رَفَع الله -تبارك وتعالى- به كل هذه الآصار والأغلال، ووضعهم الله -تبارك وتعالى- بالنبي على شَرِيعة واحدةٍ مستقيمة، ونَسَخَ الله -تبارك وتعالى- تلك الشَّريعة التي كانت فيها هذه الآصار والأغلال، ثم قال -جلَّ وعَلا- : {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ}، مِن كل الأمم، {وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}، الذين فازوا بالمطلوب الأكبر.
ثم وجّه الله كلامه لرسوله محمد -صلوات الله والسلام عليه-، أنْ يدعوا الجميع يهودًا ونصارى وكل الأُمَم إلى الإيمان به وأنَّه رسول الله؛ رسول هذا المَلِك الإله -سبحانه وتعالى-، {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ}، وقد قلنا إنَّ هذه إعلان النبي أنَّه رسول الله إلى الناس جميعًا، وهو في حال ضَعفٍ في مكة، هذه الآيات مكية مِن دلالة نُبُوَّته -صلى الله عليه وسلم-، وأنه هو رسول الله حقًا وصِدْق، فإنَّ هذه الدَّعوة أنْ يكون رجل أُمِّي في فئةٍ قليلةٍ مِن الناس تَخَاف، كما وصفهم الله -تبارك وتعالى- {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ ........}[الأنفال:26]، هذا مِن بعد بَدْر، هذه الآيات قبل بَدْر، أنْ يقوم نبي وهو في هذا الحال فيقول : {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا}، للجميع إعلان لكل الأُمَم، وهذا ما اختص الله به عبده ورسوله محمدًا على كل الأنبياء والمرسلين، ثم الله الذي أرسلني {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ}، مَلِكُ كل هذا الوجود هو الله -سبحانه وتعالى-، {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ}، مُلْكه يَمْلِكُ رَقَبَتِهِ ويَمْلِكُ تصريفه فهو الذي أوجده وهو الذي يَتَصرَّف، ولا تَسْقُط ورقة إلا بإذنه وعِلمه -سبحانه وتعالى-، فكل حَرَكة وسكون إنما هي بإذنه وبعلمه -سبحانه وتعالى-، {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ}، مُلكًا أي مُلْك رَقَبة وتصريف، {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ}، لا معبود حقًا إلا هو، فهو الإله ومُسَمَّى الإله حقًا لا يكون إلا خالقًا رازقًا مُحْييًا مُميتًا، يَمْلك عابده ويَتَصرَّف فيه وهو المُنْعِم عليه، فهذا الذي يستحق أنْ يكون إله ولا يوجد في الكون إلا إله واحد هو الذي يَمْلِك هذا، هو الذي يملك خَلْق الناس، إحيائهم، إماتتهم، رزقهم، تصريفهم، لم يُشاركه أحد في خلق ذَرَّة، {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ}، أيًا كانوا ملائكة جِنّ رسل، {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ ........}[سبأ:22]، أي شرك أنْ يَخْلقوا شيء مع الله، {وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ}، وما لله منهم مِن كل الذي عُبِدوا مِن دونه مِن مُعِين أعانه في خلق شئ، فلم يُعِنِ الله -تبارك وتعالى- أي أحد في أنْ يَخْلق شيئًا مع الله -تبارك وتعالى-.
فهذا هو الإله الذي أَرْسَلَنِي، أي قُلْ لهم أنَّ الإله الذي أرسلك إليهم هو هذا، {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ}، مِن صفته -سبحانه وتعالى-؛ وهذه صِفةٌ عُظْمى، فالإحياء والإماته كلها له، إحياء كل هذه المخلوقات، إحياؤها إخراجها مِن العَدَم إلى هذا الوجود وإعطاؤها مُسَمَّى الحياة، والإماتة كذلك هذا له والعبد لا يكون موجودًا إلَّا بالحياة وكذلك فَقْدُ هذه الحياة بيد مَن أعطاه إياها -سبحانه وتعالى-، الذي {يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ}، إذن ما دام أنَّ هذا رسول الله وقد قامت عليه الأدلة على هذا النحو أنَّه رسول الله، وأنَّه رسول الله؛ الله مَلِكُ هذه السماوات والأرض وخَالِقُها والمُتَصرِّف فيها والذي يُحْيي ويُميت، إذن أين تَهْرب! أين تخرج! ليس مِن العقل ولا مِن الفَهْم أنْ تُخالف هذا الأمر وتخرج عن هذا الأيمان، إذن فآمِنُوا إذا كان الأمر على هذا النحو فآمِنُوا بالله ورسوله، لا ِخيَار لكم، كل مَن يَخْتار خِلَاف ذلك ضَلَّ عقله، خرج عن سَوِّية الحق، {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ}، وأُمِّيَته مِن دلائل صِدْقه، فإنَّه إذا كان يكتب لكانت ثمة شُبْهَة لأهل الرِّيَب وأهل الشكوك أنْ يَظُنُّوا أنه قد كَتَبَ هذا الكلام مِن أحد، أمَّا وهو أُمِّي فإنَّ هذا قاطع لكل شُبْهَة، كيف يكون أُمِّي يأتي بكل هذه العلوم ويأتي بكتاب يستحيل على مَن يَكتُبُ أنْ يُدْركه ويَحفظه ويَعْلَم مُتَشَابهه، حتى التَّشابُه اللفظي على هذا النحو هذا أمر مستحيل، {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ}، صِفَة كَمَال في النبي -صلوات الله والسلام عليه-، {الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ}، أي أنَّ هذا النبي صادقٌ أمين فهو مؤمن بالله ومؤمن بكلماته، أَدلَّة صدق قائمة عليه، فالذي يدعو إليه هو مؤمنٌ به -صلوات الله والسلام عليه-، {الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ}، الله الذي هذه صفته خالق السماوات والأرض، {وَكَلِمَاتِهِ}، يُؤْمن بكلماته المُنْزَلة عليه، فهو يؤمن بها يُصدِّقها يقول أنَّ هذه كلمات الله، يُقْسِم عليها وأنها مِن الله -تبارك وتعالى- ودلائل الصدق قائمة، ، {وَاتَّبِعُوهُ}، سيروا خَلفه، الإتباع هو السَّير خَلْفه -صلى الله عليه وسلم-، الإتمار بأمره أي إإتمروا بأمره ما أشار لكم بشيء فاتبعوه، ما يأمركم به اتبعوه، ما نهاكم عنه قفوا عنه، ما حَدَّه لكم قفوا عنده، {وَاتَّبِعُوهُ}، أي في كل ما يقول لكم، {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}، لعلكم إذا فعلتم هذا ترجون الهِدَاية وتسلكونها وتكونون في النِّهاية مُهتدين، والتَّرجِّي هنا بِحَسب العبد الذي يتخذ هذه الأسباب، فَلَعلَّه يهتدي إذا آمن بالرسول واتبعه على هذا النحو، تهتدون الهداية إلى الصراط المستقيم وهذا ضد الضلال، أنْ تخرجوا مِن الضلال الذي أنتم فيه إلى طريق الهُدى والنور.
ثم أخبر -سبحانه وتعالى- بأنَّ قوم موسى لم يكونوا بعده كُلهم على ضَلَال ، وإنَّما قد كان فيهم قوم مهتدون، فقال -جلّ وعَلا- : {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ}[الأعراف:159]، أُمَّة جماعة كانت قائمة وهي الذين ثَبَتُوا على الإيمان به حتى جاء عيسى؛ فآمنوا بعيسى، ثم كذلك لا شك أنَّ المُهْتدين منهم مَن آمنوا وانتقلوا إلى الإيمان بمحمدٍ -صلوات الله والسلام عليه- عندما جاء، {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ}[الأعراف:159]، قد كانوا كذلك فلم يكونوا لم يُجْمِعُوا على الضلالة، ولم يكونوا كلهم كشأن الذين عبدوا العِجْل، بل كان مِنْهُم هؤلاء وهؤلاء، {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ}[الأعراف:159].
ثم قال -جلَّ وعَلا- أيضًا مُبينًا نعمة الله -تبارك وتعالى- على بني إسرائيل، قال -جلَّ وعَلا- : {وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِب بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}[الأعراف:160]، هذا تذكيرٌ كذلك بنعمة الله -تبارك وتعالى- على بني إسرائيل، والذين منهم قوم موسى، والذين هادوا هؤلاء اليهود أي هي هذه السِّلْسِلَة والدعوة لهم، فهذا تذكير مِن الله -تبارك وتعالى- على لسان النبي -صلوات الله عليه وسلم- ليقرأه النبي ليكون هذا تذكير لهم أنَّ هذا رسول الله، وقد أتى بهذه الأخبار التي لا يَعْلَمُها إلا هُم في كتابهم، فإذا جاء بها هذا النبي -صلوات الله والسلام عليه- فدليل صِدْقه، ثم هذا الخِطَاب مِن الله -تبارك وتعالى- تذكير لهم بإنعامه وإفضاله على آبائهم، قال : {وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا}، التقطيع هنا التفصيل لأنَّ الله -تبارك وتعالى- جعلهم اثنى عشر، الأسباط هم أبناء يعقوب -عليه السلام- والسِّبط كان كالقبيلة، كل منهم أُمَّة جماعة كبيرة، أي كل سَبْط مِن هؤلاء الأسباط كانوا جماعة كبيرة مِن أولاد يعقوب الاثنى عَشر.
{وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِب بِعَصَاكَ الْحَجَرَ}، أي أنَّ مِن رحمة الله -تبارك وتعالى- في أنْ مَيَّزهم على هذا النحو أنهم هم جميعًا لرجلٍ واحد، ولكنهم أصبحوا اثنى عَشر سِبْط مِن هؤلاء الأسباط، وكل سِبْط أُمَّة عظيمة منهم، أنَّ الله -تبارك وتعالى- كان كذلك يَلطف بهم، فيوم أنْ كانوا مع موسى -عليه السلام- كان إذا استسقاه قومه فيأمر الله -تبارك وتعالى- موسى أنْ يَضْرِب الحَجَر بعصاه فتنفجر اثنى عشر عين بعدد الأسباط، وهذا أَدْعَى إلى السِّلم والطَّمأنينة والرَّاحة كذلك والتوزيع، توزع الماء فيهم على هذا النحو وكل سِبْط مِن أَسْباطِهم يَنال منه، أي مِن عينٍ له خاصة، فيكون هذا أدعى إلى السِّلمِ والأمان وتقسيم الماء ورحمة من الله -تبارك وتعالى- لهم، {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ}، حين استسقاه قومه، استسقوه طلبوا منه السُّقيا وذلك يوم كانوا في التّيه ولا ماء صحراء، فكان مِن رحمة الله -تبارك وتعالى- أنْ يُخْرِج لهم الماء بهذه الطريقة، {اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ}، قد عَلِم كل أُنَاس منهم؛ كل سِبْطٍ منهم مَشْرَبهم، العين التي يشربون منها، {وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ}، لأنَّهم في هذه الصحراء القَاحِلة المُحْرِقة؛ شمسها مُحْرِقة، فجعل الله -تبارك وتعالى- الغَمَام وهو السَّحاب الرقيق ليكون مُظِل لهم في نهارهم، {وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى}، المَنّ عَسَل رُب كان ينزل أَشْبَه بالدَّقيق، يَنزِلُ على الأشجار والأحجار ليلًا فيجمعونه في الصباح ويكون هذا شَرَاب لهم وطعام، وأمَّا السَّلوى فهي طيور كانت تأتيهم ولا تَفِرُّ منهم، أي يصطادونها صيد اليد دون عناء، فتأتيهم فكان هذا طعامهم أن يأكلوا مِن هذا اللَّحم وأنْ يَشْرَبُوا ويأكلوا مِن هذا الرُّب العَسَل، {وَأَنزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى}، وكل هذا في التّيه عندما كانوا في التِّيه لمَّا خرجوا مِن أرض مصر، ولم يدخلوا الأرض المُقدَّسة خوفًا منهم مِن سُكَّانها، وكَتَب الله -تبارك وتعالى- عليهم أي البقاء في التّيه، كما قال -جلَّ وعَلا- : {قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ}[المائدة:26]، فبقوا هنا ثم تدراكتهم رحمة الله -تبارك وتعالى- بذلك، أنْ فَجَّرَ لهم الماء مِن الحَجَر وأنْ ظَلَّلهم بالغمام الذي يظلهم وهم في هذا المكان، ثم يأتيهم طعام دون كُلْفة ودون عَنَاء ودون مَشقَّة يجمعونه ويصطادونه صيد اليد بدون كُلْفة ومَشَقَّة.
قال -جلَّ وعَلا- : {وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ}، كُلُوا للإباحة أي أباح الله -تبارك وتعالى- لهم، وقال لهم : {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ}، فهذا رِزْق طَيِّب وعطاء مِن الرَّب -جلَّ وعَلا-، ثم قال -جلَّ وعَلا- : {وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}، لمَّا جَحَدُوا هذه النِّعمة وقد جحدوها بِصِوَر كثيرة منها أنَّهم تَملَّلوا منها، وقالوا : {يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ}، لن التي تنفي حدوث الفعل في المستقبل، لن نَصْبر فقطعوا الصَّبْر على طَعَام واحد، {فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا}، وقالوا له كما جاء في التوراة : (أخرجتنا مِن أرض مصر، كنَّا الآن نَجْلِس وتَفُورُ القُدُورُ باللَّحم ونأكل مِن خيرات الأرض، آتيتنا إلى هذه الصحراء القَاحِلة على هذا الطَّعام الواحد)، فَتَمَلْمَلُوا وجحدوا نعمة الرَّب -تبارك وتعالى-، قال -جلَّ وعَلا- : {وَمَا ظَلَمُونَا}، بجحودهم وعنادهم، {وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}، عندما فعلوا هذا الجحود ولم يشكروا نعمة الله -تبارك وتعالى-، لم يَظْلِموا الرَّب وإنَّما كان هذا ظُلْم منهم لأنفسهم، وذلك أنَّ مَغَبّة هذا وعاقبة هذا في الدنيا والآخرة عليهم.
ثم كذلك تذكير مِن الله -تبارك وتعالى- لهم ببعض ما كان مِن آبائهم، وكل هذا التذكير ليكون هذا دليل لهم على صِدْقِ هذا النبي الكريم -صلوات الله والسلام عليه-، تعريف لهم برَّبهم وإلههم ومولاهم -سبحانه وتعالى-، وتوجيه لهم أنْ يسلكوا طريق الهِدَاية خلَفْ هذا النبي الكريم محمد -صلوات الله والسلام عليه-، قال -جلَّ وعَلا- : {وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ}[الأعراف:161]، {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ}[الأعراف:162]، {وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ}، اذكر إذ قيل لهم، {اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ}، قول مِن الله -تبارك وتعالى-، إخبار مِن الله -تبارك وتعالى- على لسان النبي الذي كان ذلك الوقت وهو يُوشَع بن نون -عليه السلام-، {اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ}، وهذه القرية هي بيت المقدس أنْ يدخلوها فاتحين وأنْ يسكنوها، {وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ}، إباحة بأنْ يأكلوا ممَّا في هذه القرية حيث شئتم، وأنَّه عيشٌ رَغِيد وأنَّه سيجدوا طعامهم وافرًا في التَّو واللحظة، بمجرد ما يدخلوها هي مليئة بالخير لن يتكلفوا، ليست أرض قَاحِلة وصحراء وسيتكلفوا بعد ذلك بعمارتها وبنائها واستخراج مائها، لا إنَّما هي عُمْرَانٌ وافر أباح الله -تبارك وتعالى- أنْ يدخلوها ويزيلوا مَن فيها ويسكنوها، {وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ}، وهي قرية غنية كاملة فيسكنوها بمجرد أنْ يدخلوها، وهذا إنعامٌ مِن الله -تبارك وتعالى- لهم بالفتح والتمكين والنَّصر، {وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ}، إباحة بأنْ يأكلوا مِن هذه القرية كيفما شاءوا.
{وَقُولُوا حِطَّةٌ}، وقولوا حِطَّة أي حُطَّ يا رب عنَّا خطايانا، {وَقُولُوا حِطَّةٌ}، الحَطَّ هو الإلقاء والوضع، أي اطلبوا مِن الله -تبارك وتعالى- المغفرة لذنوبكم، وهذا وقتها؛ وقت الإنعام والإفضال مِن الله -تبارك وتعالى- والنَّصر والتمكين اطلبوا مغفرة الذنوب، {وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا}، ادخلوا الباب؛ باب هذه القرية، التي هي هذه المدينة بيت المَقْدِس سُجَّدًا؛ ساجدين لله -تبارك وتعالى أي راكعين له عند دُخُولكم الباب أو الزموا السجود عند دخولكم القرية شكرانً لله -تبارك وتعالى-، على نِعْمَتِهِ أنْ مَكَّنكُم مِن عاصمة هذه الأرض المُقدَّسة ومكانها، فاسجدوا شاكرين لله -تبارك وتعالى-، كما صَنَع النبي -صلوات الله عليه وسلم- عندما دخل مكة فاتحًا، فإنَّه دخل وجبهته -صلى الله عليه وسلم- تُلَامِس ظَهْر بَعِيره الذي كان عليه، ساجدًا لله -تبارك وتعالى-، هذا النبي الكريم -صلوات الله عليه وسلم-، أَمَر الله بني إسرائيل مِن قوم موسى عندما يَفْتَحِ الله -تبارك وتعالى- لهم هذه الأرض، أنْ يستغفروا ربهم، أنْ يطلبوا مغفرة الله -تبارك وتعالى- وأنْ يدخلوا باب القرية سُجَّدًا، قال -جلَّ وعَلا- : {نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ}، ما سَلَف مِن خطيئاتكم أي خطاياكم الكثيرة، ثم {سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ}، مِن الإنعام والإفضال، فهذا إخبار منه -سبحانه وتعالى- بأنَّه سَيَمْحو عنهم سيئاتهم، وأنَّه سيزيد أهل الإحسان مِن إنعامه وإفضاله -سبحانه وتعالى-.
لكن انظر ما الذي قابلوا به هذا الإنعام والإفضال مِن الله -تبارك وتعالى-، قال -جلَّ وعَلا- : {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ}[الأعراف:162]، {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ}، التَّبديل هو تغير شيء مَحَل شيء، {قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ}، قول وجاء هُنا القول مُنَكَّر غير الذي قيل لهم، قيل أنهم قالوا حِطَّة استهزأوا بالكلام فقالوا حَبَّة في شَعْرة حَبَّة في شَجَرة، أو قالوا حِنْطَة بدلًا أنْ يقولوا حِطَّة قالوا حِنْطَة، أعطنا حِنْطة والحِنْطَة القمح، فلم يطلبوا إلا شيئًا -إنْ كان طلب- فطلبوا شيء سخيف مِن لُعَاعات الدنيا وأنْ يكون هذا استهزاء منهم، بل استهزءوا بأمر الله –تبارك وتعالى- وقالوا هذا القول الخسيس الذي يَدُل على خِسَّة وسوء أدب مع الرَّب -تبارك وتعالى- الإله، فبدلًا مِن أنْ يطلبوا مغفرته -سبحانه وتعالى- قالوا هذا القول مستهزئين به، {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ}، وسَمَّاهم الله -تبارك وتعالى- الذين ظلموا لأنَّ الظُّلم وضع الشيء في غير محله، وهؤلاء وضعوا الأمر في غير محله فبدلًا مِن كلام الشُّكْر قالوا كلمات الكُفر والإستهزاء، {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ}، مِن هؤلاء الداخلين، {قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ}، قال -جلَّ وعَلا- : {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ}، أرسلنا عليهم رِجْز؛ الرِّجز العذاب، وقيل هو الطاعون، ضَرَبَهم الله -تبارك وتعالى- بالطاعون بعد أنْ دخلوا هذه القرية وفعلوا هذا الفِعْل، فعاقبهم الله -تبارك وتعالى- وعجَّلَ لهم العقوبة، قال : {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ}، أي بسبب ظلمهم لأنفسهم على هذا النحو وقولهم هذه المقالة الخاسرة فإنَّ الله -تبارك وتعالى- صَنَع فيهم هذا الصَّنِيع، هذا تذكير كذلك، مُجْمَل الآيات تذكير بنعمة الله -تبارك وتعالى- عليهم، وكيف يُقَابِل السيئون منهم، أهل الظلم منهم نِعَم الله -تبارك وتعالى-.
ثم بعد هذا فَاصِلٌ جديد وموقف آخر مِن هؤلاء الأقوام، قال -جلَّ وعَلا- : {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ}[الأعراف:163]، واسألهم أمرٌ مِن الله -تبارك وتعالى- لرسوله أنْ يسأل بني إسرائيل عن خَبَر وشأن هذه القرية التي كانت حاضرة البحر، وهذه القرية هي أيْلَة أو إيلات التي تقع على رأس الخليج المُسمَّى الآن بخليج العَقَبَة، والقرية هي المدينة الكبيرة التي يُقْري فيها الضَّيف أو تجتمع فيها البيوت، مِن قَرَى أي قَرَيْتُ الماء في البِرْكة بمعنى أنَّي جمعته فيه، فهي البيوت المجتمعة بعضها مع بعض، {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ}، ومعنى حاضرة البحر بمعنى أنَّها بإيزاء البَحْر، {إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ}، أي عندما كان يَحدث منهم العِدوان في السَّبت، ثم وَصَف الله -تبارك وتعالى- كيف كان عدوانهم فقال : {........ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ}[الأعراف:163]، {إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا}، حيتانهم التي يصطادونها، {يَوْمَ سَبْتِهِمْ}، السبت هو اليوم السَّابِع مِن أيام الأسبوع، الأسبوع يبدأ بالأحد وينتهي بالسبت، هذا اليوم كان اليهود قد طَلَبُوا أنْ يُخصِّص الله -تبارك وتعالى- لهم يومًا يَسْبِتُون فيه، مِن العمل يتركون العمل ويجلسون لعبادة الرَّب وكُتَبَ عليهم؛ كُتَبَ عليهم هذا اليوم، ولكنهم كانوا خالفوا، وكان مِمَن خالفوا هؤلاء الأقوام مِن هذه القرية منهم التي هي مدينة البحر هذه التي كنت حاضرة البحر، والله -تبارك وتعالى- ابتلاهم بهذا الأمر، وهو أنَّه ابتلاهم بالطَّمع فقد كانوا مِن صائدي الأسماك، السَّمك حرفتهم، فكان السمك يأتيهم يوم السبت لا يَفِر، قال -جلَّ وعلا- : {إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ}، يوم سبتهم سُكُونهم وجُلُوسهم في هذا اليوم للعبادة، {شُرَّعًا}، الشُرَّعا هي الظاهرة كأنها سفينةٌ قد أظهرت شِرَاعها، دليلٌ على سَيْر السمكة وجزءٌ منها ظاهر فوق الماء فتأتيه ظاهرة لا تَفِرُّ منهم، مَن أراد أنْ يصيدها ولو بيده لا تَفِر منه، {يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا}، تَنْطَح بَرَّهم، {وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ}، في غير يوم السبت يمتنع عليهم ويَتَعذَّرُ عليهم صيد السمك ويَهْربُ السمك منهم في كل إتجاه.
قال -جلَّ وعَلا- : {كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ}، كهذا الإبتلاء الشديد فإنَّه إبتلاء بالطَّمَع، والصيد ممَّا تهواه النفوس حتى مع الإستغناء عنه والشبع، فإنَّ الصيد مُحَبب للنفوس حتى وإنْ كان الإنسان مُسْتغنيًا عنه، فإنَّ المُلُوك وأبناء المُلُوك يُحبون أنْ يصيدوا مع إستغنائهم عن هذا، يستطيع أنْ يشتريه وأنه موجود عنده، ولكنَّه يجد مُتْعَةٌ في أخذه وصيده، فالصيد طَمَعٌ عظيم، الله يقول : {كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ}، يبتليهم الله -تبارك وتعالى- بهذا الأمر، قال -جلَّ وعَلا- : {بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ}، يختبرهم هذا الإختبار، فهذا أمر خارقٌ للعادة وهو مِن فِعْل الله -تبارك وتعالى- ويبتليهم هذا، هل يَثْبُتُوا على ما عاهدوا الله -تبارك وتعالى- عليه، وهذا الأمر في ألَّا يعملوا يوم السبت أم أنهم إيزاء هذا الطَّمع الذي ظهر لهم يتخلفوا ويتهربوا مِن الإلتزام والعمل، قال -جلَّ وعَلا- {كَذَلِكَ}، أي بهذا الاختبار الشديد، {نَبْلُوهُمْ}، نختبرهم، {بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ}، بسبب فسقهم فيُخْتَبرون حتى إذا سَقَط منهم مَن سَقَط في هذا الاختبار عُوقِب عاد بالعقوبة الإلهية.
سنقف هنا -إنْ شاء الله-، ونُكْمِل -إنْ شاء الله- في الحلقة الآتية، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، وصلى الله على عبده ورسوله محمد.