الإثنين 13 ذو القعدة 1445 . 20 مايو 2024

الحلقة (211) - سورة الأعراف 163-171

الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله الأمين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومَن اهتدى بهديه وعَمِلَ بِسُنَّته إلى يوم الدين.

وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- : {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ}[الأعراف:163]، {وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}[الأعراف:164]، {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ}[الأعراف:165]، {فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ}[الأعراف:166]، {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}[الأعراف:167]، هذه الحَادِثة مِن جُمْلة ما قصَّ الله -تبارك وتعالى- في هذا الكتاب المبارك؛ القرآن الكريم، على بني إسرائيل، {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}[النمل:76]، {وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ}[النمل:77]، يُذَكِّرهُم الله -تبارك وتعالى- بما كان مِن شأن أسلافهم، وكيف أنَّهم لمَّا انحرفوا عن أمرِ الله -تبارك وتعالى- عاقبهم الله -جلَّ وعَلا-، وأنَّ عُقُوبته -سبحانه وتعالى- سريعة، كما أنَّ رحمته -سبحانه وتعالى- واسعة، وهذا التذكير لِمَن هُم في عهد النُّبُوَّة والرِّسَالة؛ رسالة محمد -صلوات الله عليه وسلم-، في وقت التَّنزِيل وما يكون بعد ذلك إلى يوم القيامة، هذا التذكير ليتذكروا وليعلموا سُنَّةَ الله -تبارك وتعالى- في مُعَاملة الخلق، دعوة لهم إلى الدخول في هذا الدين والاستقامة على أمر الله -تبارك وتعالى-.

قال -جلَّ وعَلا- لرسوله -صلوات الله والسلام عليه- : {وَاسْأَلْهُمْ}، أي اليهود، {عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ}، قرية مِن قُرَاهم، والقرية هي المدينة، البيوت المجموعة لأنَّ قَرَى بمعنى جَمَع، في مكانٍ واحد، حَاضِرة عظيمة مِن حَوَاضرِ البحر، وقيل أنَّ هذه الحاضرة هي أيْلَة أو التي يُسَمِّيها اليهود إيلَات على خليج العَقَبة حاليًا، {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ}، عندما كانوا يَعْدُون في السَّبْت وهذا العُدْوان هو العدوان بصيد السَّمك في يوم السَّبت، اليوم الذي حُرِّمَ عليهم فيه العمل، وكان المكتوب عليهم وإنْ كان هذا بِطَلَبٍ مِنْهم, وهُم الذين فرضوه على أنفسهم واختاروه فَكُتِبَ عليهم، أنْ يمَكُثوا لعبادة الله -تبارك وتعالى- في هذا اليوم وأنْ يسبتوا فيه، وأنْ يجعلوه لعبادة الرَّب -تبارك وتعالى-، فكانوا يعتدون بالصيد في يوم السبت، {إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ}، ثم بيَّن الله -تبارك وتعالى- مَاهِية عدوانهم هذا، فقال : {........ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ}[الأعراف:163]، {إِذْ تَأْتِيهِمْ}، عندما كانت تأتيهم، {حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا}، الحِيَتان جمع حُوْت، وهو كُّل السَّمك الذي يَسْكُن البحر حُوت، يوم سبتهم ثبوتهم يومهم هذا الذي اتخذوه للعبادة، تأتيهم شُرَّعًا أي ظاهرة، ظاهرةٌ ومُشْرَعَة، الأمر المُشْرَع هو الظاهر ومنه الشِّرَاع لأنه يكون هذا الجزء مِن السفينة الذي يكون أعلاها، شُرَّعًا ظاهرةً بارزةً من الماء، {وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ}، وتأتيهم شُرَّعًا ولا تَفِرُّ منهم ويمكن لهم أنْ يصيدوها دون كُلْفة ودون عَنَاء، {وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ}، على هذا النحو أي حالها حال بقية الأيام، وقيل أنَّها كانت تهرب منهم كذلك تَشُد هرابها، عقوبة لهم مِن الله -تبارك وتعالى-، قال -جلَّ وعَلا- : {كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ}، ابتلاء بالطَّمَع، والصّيْد حاجة وكذلك هو غِوَايةٌ وهَوَى ولذلك يُمَارسه المُلُوك وأبناء المُلُوك مع استغنائهم عنه، فهذا ابتلاءٌ عظيم جدًا يُبْتَلَى به الغَنِّي والفقير، الفقير هو الذي في حاجة إلى السَّمك ليأكل ويبيع، والغَنِيّ الذي يستهويه  الصيد، قال -جلَّ وعَلا- : {كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ}، كذلك بهذا النوع مِن الابتلاء بهذا الطَّمع نبَلُوهم، {بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ}، بسبب فسقهم، فهو اختبار واختبارٌ لا شك أنَّه اختبارٌ شديد، {بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ}، بسبب فسقهم ابتلاهم الله -تبارك وتعالى- بهذا.

ثم يُخْبِر -سبحانه وتعالى- كيف انقسم أهلُ هذه الحاضرة؛ حاضرة البحر، أهل هذه القرية حَوْل هذا الفعل الذي هو تَعَدِّي على أمر الله -تبارك وتعالى-، قال -جلَّ وعَلا- : {وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا ........}[الأعراف:164]، انْبَرَى بعض الأقوام لإنكار هذا المُنْكر، وانْبَرَى أخرون وقام أخرون للإنكار على المُنْكرين، فقالوا {لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا}، ومعنى تعظونهم أي تُذَكِّرُونَهم بالله -تبارك وتعالى- وبانتهاك حُرمة السبت، وهؤلاء قوم الله مُهْلِكَهُم أو مُعَذِّبَهم عذابًا شديدًا، أي أنَّه لابد أنْ يأتيهم أمر الله بالعذاب، فهذا نوع مِن التخزيل أو نوع مِن الجَهْل أي جَهْلٌ أو تخزيل، إما تخزيل للآمرىن بالمعروف أنْ يَفْعَلُوا ذلك، وإمَّا جهلٌ كذلك بفائدة وغاية القيام بالأمر بالمعروف والنَّهْي عن المُنْكر، فإنَّ غاية الأمر بالمعروف والنَّهْي عن المُنْكر هي الرَّدْع والزَّجْر، وهي كذلك إقامة الحُجَّة وقد يستجيب وقد لا يستجيب، سواءِ استجاب المَدْعُو أو لم يستجب فإنَّ الداعي إلى الله -تبارك وتعالى- والقائم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد حَقَّق منفعةً ما وفائدةَ ما، قالوا أي قال هؤلاء المنكرون {مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ} أي إننا نَعْذِر إلى الله -تبارك وتعالى- بما كَلَّفَنا به من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فنحن لابد أنْ نُنْكر هذا المُنْكَر، وكذلك {وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}، مَن يَدْري لعلهم إذا سَمِعُوا هذا الوَعْظ اتقوا الله -تبارك وتعالى- ورجعوا إليه، هؤلاء القوم الذين اعتدوا في السبت لم يعتدوا اعتداءً هكذا مباشرًا، ولكنهم تحايلوا على هذا الأمر، فإنَّهم حَفَرُوا حفائر حتى يَدْخُل السمك فيها إلى جانب البَّر، ثم لمَّا يدخل السَّمَك في هذه الحفائر كانوا بعد ذلك  يَسُدُّون فقط الحفائر يوم السبت، ثم إذا جاء الأحد انتشلوا هذا السمك الذي قد جَمعته هذه الحفائر، أو يُلْقُونَ الشِّباك على السمك المُشْرَع هذا في يوم السبت ولا يَجُرونها بعد ذلك ويأخذون ما فيها مِن السَّمك إلى يوم الأحد، نوع مِن الحِيْلة على أمر الله -تبارك وتعالى-، فلم يأتوا الأمر على وجهه وأنَّهم  ينتهكوا حُرْمِة السبت أي انتهاكًا صريحًا، وإنَّما داروا حول أمر الله -تبارك وتعالى- والتَفُّوا عليه، والحال أنهم قد ارتكبوا بذلك ارتكبوا جريمتين، الجريمة الأولي هي أنهم قد خالفوا أمر الله -تبارك وتعالى- بالصيد في يوم السبت وبالعمل في يوم السبت، الأمر الأخر أنَّهم يخادعون الله -سبحانه وتعالى-، وأنَّهم يظنون أنَّ مثل هذه الحِيَل تَنْطَلِي على الرَّب الإله -سبحانه وتعالى-.

قال -جلَّ وعَلا- : {وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}[الأعراف:164]، إذن أصبح عندنا الآن ثلاث طوائف مِن هذه القرية، هؤلاء القوم المُخَادِعون الذي التَفُّوا على الأمر الإلهي، أو الذين انتهكوا حُرْمِة السبت وصادوا في يوم السبت، هذه واحد فهؤلاء المخالفون لأمر الله، الأمر الثاني وهو قومٌ قاموا بالإنكار على هؤلاء وذَكَّرُوهم بالله -تبارك وتعالى-، والطائفة الثالثة؛ الطائفة المُخزِّلة، قامت تقول لأهل الإنكار وأهل الإيمان لما تُنكِرون على هؤلاء الناس دعوهم أي في حالهم، فإنهم قوم سيعذبهم الله بانتهاكهم حُرْمِة السبت، فبَيَّن لهم هؤلاء أي الذين قاموا بالأمر {قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ}، نحن نَعْذِرُ إلى الله -عزَّ وجلّ- عُذْر إلى الله -تبارك وتعالى- في أنْ نقوم بما أوجبه -سبحانه وتعالى- علينا، لأنَّ هذا إعذار إلى الله -عزَّ وجلَّ-، هذا الذي نَمْلِكُه أنْ نُبَيِّن لهؤلاء وأنْ نُنْكر على هؤلاء، ثم لعل هؤلاء بدعوتنا لهم إلى الله -تبارك وتعالى- أنْ يتقوا الله ويخافوه.

قال -جلَّ وعَلا- : {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ}[الأعراف:165]، {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ}، النِّسْيَان لا شَكَّ هُنَا هو الإهمال، لأنَّ النِّسْيَان يأتي إمَّا بذَهَاب الأمر مِن عَقْل الإنسان وذَاكِرَته، والنِّسْيَان يأتي بمعنى الإهمال فَمَن أهمل أمر كأنَّه أخرجه مِن ذاكرته وألقاه، وهؤلاء نسوا أنَّ الله -تبارك وتعالى- وَعَظَهُم وذَكَّرَهُم في أنْ يحترموا يوم السبت، وألا يَعْتدوا فيه وألا يقوموا فيه بالعمل، فهؤلاء نَسُوا ما ذَكَّرهم الله -تبارك وتعالى- به، قال -جلَّ وعَلا- : {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ}، حَصَر الله -تبارك وتعالى- النَّجاة في الذين قاموا بما أَمرهم الله -تبارك وتعالى- به مِن إنكار المنكر، قال : {أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ}، وهذا الفِعْل الذي فَعَله هؤلاء القوم هو مِن السُّوء لأنَّه مُخَالفة للأمر الإلهي، ثم قال –جلَّ وعَلا- : {........ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ}[الأعراف:165]، {وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ}، أَخَذَهُم الله -تبارك وتعالى- والأخذ هو العقوبة، {بِعَذَابٍ بَئِيسٍ}، بِئْسَ العذاب، أي أنَّه بعيدٌ في أي في النَّكَارةِ، قال -جلَّ وعَلا- : {بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ}، بسبب فِسقهم والفِسْق هو الخروج عن طاعة الله، أي بخروجهم عن طاعة الله على هذا النحو أخذهم الله -تبارك وتعالى- بهذا العذاب.

ثم قال -جلَّ وعَلا- {فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ}، عتوا؛ العُتُو والعِتِيّ هو مُجَاوزِة الحد والشِّدَة وأخذ المدى، {عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ}، قسوا واشتدوا وتمادوا في الأمر الذي هم فيه، قال -جلَّ وعَلا- : {........ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ}[الأعراف:166]، كونوا أمر تكوين، {قِرَدَةً خَاسِئِينَ}، القِرْد هذا حيوانٌ مَعْروف، وقد مَسَخَهُم الله -تبارك وتعالى- إلى صورة هذه الحيوانات التي تُثِير الاشمئزاز، وليست هي مُحَبَّبة إلى الإنسان، قد يَتَسلَّى الإنسان بمرآها ولكنه يَشْمئِّز مِنها ويَنْفرُ منها، {كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ}، خَاسِئين ذَلِيْلين حَقِيرين، فلمَّا كانوا على هذه الصورة أصبحوا مِن أهل الذِّلة والحَقَارة والخِزْي، قال لهم الله -عزَّ وجلّ- : {كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ}، فَمَسَخَهُم -عياذًا بالله تبارك وتعالى- على هذا النَّحو، والصحيح أنَّهم {كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ}، بالصورة، والحقيقة  وليس بالنُّفوس فقط، كما قال بعض أهل العلم مِن المُفسِّرِين مِن التَّابعين قالوا إنَّه {كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ}، أي أنَّه مَسَخَ الله نفوسهم على هذا النَّحو ولم يَمْسَخُ صورهم الحقيقية، بل الصحيح أنَّه قال :{كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ}، هذا أمر تكويني، وأنَّ الله -تبارك وتعالى- كَوَّنهم على هذا النَّحو وحَوَّلَهم مِن صُورة الإنسان إلى صُورة القِرْد، {كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ}، وممَّا يدل على هذا أيضًا قول الله -تبارك وتعالى- : {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ ........}[المائدة:60]، فجَعَل هُنَا الجعل بمعنى التَّصيير، أي صَيَّر منهم، {........ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ}[المائدة:60]، هذا تذكير مِن الله -تبارك وتعالى- تذكير مِنه -جلَّ وعَلا- أنَّ تذكير لهؤلاء اليهود في وقت تنزيل هذا القرآن؛ الكتاب المُبارك، أنْ يَذْكروا عقوبة الرَّب -تبارك وتعالى- في أسلافهم، كيف أنَّ أسلافكم لمَّا فَسَقوا عن أمر الله -تبارك وتعالى- وفعلوا ما فعلوا مِن هذه المعصية، كيف كانت عقوبة الرَّبِ -تبارك وتعالى-.

ثم أَخْبرَ -سبحانه وتعالى- بأنَّه مُسْتمر في عقوبة هؤلاء وإلى يوم القيامة، قال -جلَّ وعَلا- : {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}[الأعراف:167]، {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّك } أي أُذْكر إذ تَأذّنَ، تَأَذَّن أَعْلَمَ، إعلامًا بعد إعلام، مُؤَذَّن تَأَذَّنَ الله -تبارك وتعالى- أي أنَّه أَعْلَمَ إعلامًا بعد إعلام، {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ}، ربُّك يا محمد، {لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ}، اللام المُؤكِّدة والمُوَطِّئة لِلقَسَم، {لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ}، أي مِن ذلك الوقت وإلى وقت يوم القيامة، {مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ}، هذا في هؤلاء اليهود الخارجين عن طاعة الرَّب -تبارك وتعالى-، ويسومهم أي يُرْعِيهم، يجعلهم يَرْعَوا العذاب رَعْيًا، ويَصْبِغُهُم بهذا العذاب، {مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ}، ثم قال -جلَّ وعَلا- أي لِما يفعل الله -تبارك وتعالى- بهم ذلك، قال : {إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}، إنَّ ربَّك يا محمد -صلي الله عليه وسلم- لسريع العقاب، وسريعه أنَّه يأتي بعد الإثم وفي هذه الدنيا، وفي عقاب مَؤَخر عنده -سبحانه وتعالى- في يوم القيامة، ولكنه قد يأتي به سريعًا -سبحانه وتعالى- في هذه الدنيا، {إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ}، والعقاب هو المؤاخذة بالذنب، وسُمِّي عقاب لأنه يَعْقُبُ الذنب، {إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}، كما أنَّه غفور رحيم -سبحانه وتعالى- وهذا باب فَتْح الطريق لِمَن يرجع إلى الله -تبارك وتعالى- ويتوب إليه، والغفور صِفَة مُبالغة مِن الغَفْر، والغَفْر هو السَّتر، أي أنه يَسْتر العيوب ويَسْتر الذنوب -سبحانه وتعالى-، رحيمٌ بعباده -سبحانه وتعالى- إذ يَقْبل توبة التائب والراجع إليه.

ثم قال -جلَّ وعَلا- : {وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ}،أي أنَّ مِن عقوبة الله -تبارك وتعالى- لهم أنْ قَطَّعَهُم في الأرض أُممًا، بَنُوا إسرائيل الذين كانوا في وقت ما جماعة واحدة، في مكان واحد، مَكَّنهم الله -تبارك وتعالى-، أخرجهم مِن أرض مصر، كل أولاد يعقوب أي كل أولاد يعقوب كانوا معه؛ مع يعقوب -عليه السلام- إسرائيل، ومعهم ابنه يوسف -عليه السلام- الذي كان سببًا في إدخالهم إلى أرض مصر، وكلهم كانوا جميعًا مجموعون في وقت واحد في بلدٍ واحد، ثم خرجوا كذلك جماعة واحدة إلى الأرض المُقَدَّسة، ثم كتب الله عليهم التّيه وهم مجموعة كذلك، ثم مَكنَّهم ودخلوا أيضًا مجموعين ومَكَّنَهم الله في أرض الشام وأُقيمت لهم دولة، ثم بعد ذلك لمَّا تركوا أمر الله -تبارك وتعالى-، سَلَّطَ الله -تبارك وتعالى- عليهم عَدوًا من الشرق وعَدوًا من الغرب، ثم إن الله -تبارك وتعالى- شتتهم في الأرض، قَطَّعهم في الأرض أممًا، أصبحت كل بني إسرائيل مُشَتَّتين في نواحي الأرض كلها، {وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَمًا}، جماعات جماعات، قال –جلَّ وعَلا- : {مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ}، منهم بعضهم الصالحون، والصالح القائم على أمر الله -تبارك وتعالى-، {وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ}، دون الصَّلَاح مِن أهل الفساد، {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}، بلوناهم اختبرناهم، الابتلاء الاختبار، {بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ}، النِّعم، أحيانًا يُنْعِم الله -تبارك وتعالى- عليهم ويتفضل عليهم -سبحانه وتعالى- بالنِّعم، نعمة الرزق والصحة والمال والتمكين بعض الشيء، والسيئات كذلك العقوبات، قال -جلَّ وعَلا- : {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}، لعلهم يرجعون إلى الله -تبارك وتعالى-.

ثم قال -جلَّ وعَلا- :{فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ}[الأعراف:169]، {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ}، مِن بعد أوائلهم، {خَلْفٌ}، خَلْف جاء خَلْف هنا بمعنى أنَّهم جِيلٌ آخر خَلْف ذلك الجيل، لكنهم مخالفون لِمَا كان عليه أهل الصَّلاح منهم، {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ}، التوراة الكتاب المُنَزَل على موسى -عليه السلام-، قال -جلَّ وعَلا- : {يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى}، وَرِثُوا كتاب الله -تبارك وتعالى- الذي يأمرهم بالهُدى والاستقامة، وألا يشتروا به ثمنًا قليلًا لكنهم {يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى}، العَرَض هو كل مال في هذه الدنيا مَتَاع، سُمِّي عَرَض لأنه ليس بثابت؛ يَعْرِض ويزول، فهذه كل متاع الدنيا لا يَثْبُت، ومنه قيل للذَّهب ذهب لأنه يَذْهب، وللفِضَّة فِضَّة لأنها تَنْفضّ، ولكل شيء في هذه الحياة عَرَض، لأنَّه يَعْرِضُ لك ثم ينتهي، {يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى}، متاع هذه الُّدنيا الدنيئة، الأدنى القريب، {وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا}، ويقولون سَيُغْفَر لنا أي يأخذون المال مِن وجوهٍ حرام وهو عَرَض دنيء مِن عَرَض هذه الدنيا، ويعتمدون على الأماني في الآخرة، يقولون سَيُغْفَر لنا، فيعلمون أنَّ الذي أخذوه هذا مِن الرِّشى ومِن الحرام لا يَحِل لهم في الكتاب، في الكتاب المُنزَل عليهم وقد وَرِثُوه وعلموا ما فيه، لكنهم تركوا ما في هذا الكتاب ويقولون سَيُغْفَر لنا فتعلقوا على أماني المغفرة، {وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا}.

ثم قال -جلَّ وعَلا- : {وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ}، أي أنَّهم كذلك ليست مرة واحدة ويقولوا سَيُغْفَر لنا، ويخرجون مِن هذا الإثم... لا، هم مستمرون على هذا الأمر، {وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ}، يُعْرَضُ عليهم كذلك عَرَضٌ مثل هذا العَرَض بطريق حرام فكذلك يأخذونه ويبتلعونه، قال -جلَّ وعَلا- : {أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ}، أي هذا الكتاب الذي عندهم ألم يؤخذ عليهم الميثاق فيه، الميثاق العهد المُؤكَّد، {مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ}، فلابد أنْ يَشْهَدُوا بالحق، ولا يقولوا على الله إلا الحق، ولكنهم كانوا يُخرجون الفَتَاوى الباطلة لقومهم ولغير قومهم، ويتقاضون المال الباطل مُقَابل هذه الشَّهَادة الباطلة والإفتاء بغير الحق، {أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ}، كذلك الكتاب الذي وَرِثُوه كانوا يَدْرُسونه وعرفوا ما فيه، ثم قال -جلَّ وعَلا- وهذا السؤال للإنكار، إذا كنت أنت وَرِثْتَ الكتاب وعَرفْتَ ما فيه، وعرفت أنه يُحرم عليك هذا الأمر ثم بعد ذلك تُفْتي بغير الكتاب وتأخذ أُجْرة على هذه الفتوى، وقد عَلِمت أنَّ هذا أمر لا يَحل لك، وقد أُخِذَ عليكم أنتم أهل الكتاب أخذ عليكم ميثاق ألَّا تقولوا على الله إلا الحق، فالمؤمن مأخوذ عليه العهد والميثاق ألا يتكلم على الله -تبارك وتعالى- إلا بِعِلْم، ولا يقول أحَلَّ الله كذا وحَرَّم كذا إلا وهو يعلم أنَّ الله أَحَلَّ هذا وحَرَّم هذا، أما أنْ يُفتي بالباطل فيُحِل ما حرَّم الله ويحرم ما أحلَّ الله، ويأخذ أَجر كذلك على هذه الفَتْوَى الباطلة إرضاءً لغير الله -تبارك وتعالى-، فهذا هو الإجرام والجريمة.

قال -جلَّ وعَلا- : {وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ}، الدار الآخرة خير، أي أنَّ الذي امتنعوا مِن أنْ يَبِيُعوا دينهم بِعَرضٍ مِن الدنيا، وآثروا ما عند الله –تبارك وتعالى- والتزموا طريق الحق، فالدار الآخرة جَنَّة الله -تبارك وتعالى- ورضوانه خير أي مِن هذه الدنيا، قال : {لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ}، ولا يفعل هذا إلا أهل التقوى، الذين يَتَّقون يخافون ربهم -سبحانه وتعالى-، {أَفَلا تَعْقِلُونَ}، أفلا تعقلون، هذا سؤال لتوبيخ هؤلاء وتقريعهم، {أَفَلا تَعْقِلُونَ}، أَلَا عَقْل عندكم لِتُمَيِّزوا بين ما عند الله -تبارك وتعالى- في الآخرة وبَيْن هذه الدنيا الفانية، كيف يبيع  ذو العقل الآخرة الباقية بدنيا فانية، {أَفَلا تَعْقِلُونَ}.

ثم قال -جلَّ وَعلا- : {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ}[الأعراف:170]، حُكْم منه –سبحانه وتعالى-، {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ}، يُمَسِّكُونَ أي يتَمَسَّكُونَ، والكتاب يحتاج إلى تَمَسُك أي العَضّ والشَّد عليه والمَسْك المرة بعد المرة، حتى لا يَنْفلت الأمر منه وحتى لا يخرج عن أحكام هذا الكتاب، {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ}، أي يَتَمسَّكُون به ولا يَخْرُجون عنه، بالكتاب المُنزَل مِن الله -تبارك وتعالى-، {وَأَقَامُوا الصَّلاةَ}، فالتزموا حدود الله -تبارك وتعالى-، ولم يقولوا على الله إلا الحق، التزموا الشِّرْعَة المُنزَّلة في الكتاب وأقاموا الصلاة لله -تبارك وتعالى-، قال -جلَّ وعَلا- : {إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ}، الله -تبارك وتعالى- لا يُضِيع أجر مُصْلح، هؤلاء هم المصلحون، هؤلاء أهل الصَّلاح وأهل الإصلاح، الدَّاعُونَ إلى الله -تبارك وتعالى-، المُتَمسِّكُونَ بالكتاب، القائمون بأمر الله -تبارك وتعالى-، والمُقِيمي الصلاة، {إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ}.

حَادثةٌ أخرى مِن حوادثهم يُذَّكَّرهم الله -تبارك وتعالى- بها، وما كان مِن شأنهم في إيزاء هذه الحادثة، قال -جلَّ وعَلا- : {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[الأعراف:171]، {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ}، النَّتْق هو القَلْع والأخذ، وذلك أنَّ الله -تبارك وتعالى- لمَّا أنزل عليهم التوراة، وجاءهم بها موسى وجاء لهم بأحكامها، استثقلوا أحكام الله -تبارك وتعالى- ولم يريدوا أنْ يلتزموا بهذه الأحكام، فأَمَرَ الله -تبارك وتعالى- جبريل فنَتَق الجبل، أي اقتلع جبلًا مِن مكانه ثم حَمَلَه على رؤوسهم، وقيل لهم إمَّا أنْ تلتزموا شريعة الله -تبارك وتعالى- التي أنزلها وإلا أَطْبَق الله -عزَّ وجلّ- عليكم هذا الجبل، أطبقه أنزله على رؤوسكم، فسجدوا رَهْبةً وخوفًا مِن أنْ يَسْقُط عليهم هذا وكذلك إزعانًا لله -تبارك وتعالى-، بل قالوا سَجَدُوا على عَيْن في الأرض وعَيْن تَنْظُر إلى الجبل فوقهم، وقالوا سَمعنا وأطعنا، فالله يقول : {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ}، أي كأنَّ الجبل مثل الظُّلة مثل الخيمة أو مثل ما يُظِلّ كالغَمَامة، {فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ}، ظنُّوا، الظَّن هنا بمعنى اليقين، اعتقدوا أنَّه واقع بهم لأنَّه لا يوجد عمود يَحْمِلُهُ، وهو الجبل كله واقف عليهم،  {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ}، أي قِيْل لهم خذوا ما آتيناكم أي مِن التَّوراة بِقوَّة، {وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}، {وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}، {وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ}، تَذَكَّروه، ليكن هذا دائمًا في الذِّكْر، ولا يكون في الذِّكر إلا إذا كان كذلك في العمل، {وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}، هذا كذلك مَشْهَد مِن المشاهد التي أخذهم الله -تبارك وتعالى- بها، وفيه بيان لِغِلَظِ قلوب هؤلاء، وأنَّهم لم يستجيبوا على أمر الله -تبارك وتعالى- إلا بالتهديد الشديد وبالوعيد الشديد، هذه آباؤهم فلينظروا هذا وكأنَّ هذا تذكير للأبناء، انظروا إلي صنيع الله –تبارك وتعالى- بكم، والتزموا طريق الحق، هذه دعوة، هذه دعوةٌ مِن الله -تبارك وتعالى- لهم على لسان محمد ابن عبد الله -صلوات الله والسلام عليه-، ليلتزموا طريق الحق ويدخلوا في الدين الذي أُمِرُوا أنْ يدخلوا فيه، دين المسلمين الذي هو آخِرُ دين لا دين بعده، ولا طريق إلى الله -تبارك وتعالى- بعده، ولكن هل استمعوا؟ هل استجابوا لأمر الله -تبارك وتعالى-؟ قليلٌ منهم مَن استجاب.

نقف هنا ونستغفر الله -تبارك وتعالى- ونتوب إليه مِن كل إثم ومِن كل ذَنْب، والحمد لله ربِّ العالمين.