الإثنين 13 ذو القعدة 1445 . 20 مايو 2024

الحلقة (213) - سورة الأعراف 179-185

الحمد لله ربِّ العامين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومَن اهتدى بِهُداه إلى يوم الدين.

يقول الله -تبارك وتعالى- : {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ}[الأعراف:179]، يُخبِرُ -سبحانه وتعالى- أنَّه خَلَقَ لجهنم خَلقًا كثيرًا مِن الجنِّ والإنس، {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا}، خَلَقْنَا، {لِجَهَنَّمَ}، هذه دار الكفار، الدار التي أعدَّها الله -تبارك وتعالى- لأعدائه، {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ}[فصلت:19]، وهي هذه الدار السيئة التي جَمَعَ الله -تبارك وتعالى- فيها كل أنواع السوء والشر، ذلك عقوبةً لأعدائه الذين لم يُبصِرُوا طريق الحق، بعد أنْ أَعْذَرَ الله -تبارك وتعالى- إليهم وأنذرهم على ألسنة رسله، وأقامهم في الأدلة والبيِّنات مما يرونه في كل شيء، {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ}، وقول الله -تبارك وتعالى- {كثيرًا} وذلك أنَّ هذا الكثير هو الذي يَضِلُّ، والقليل مِن الإنس والجنّ هم الذين يهتدون إلى طريق الرَّب -سبحانه وتعالى-، والجن هم هذا جِنس، وخَلَقَهُم الله -تبارك وتعالى- مِن نار، كما قال –جلَّ وعلا- : {وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ}[الحجر:27]، رأسُهُم إبليس الذي أَبَى أنْ يَسْجُدَ لله -تبارك وتعالى- وله ذُرِّيته، وكثيٌر مِن هؤلاء الجنّ فسقوا وخرجوا عن أمر الله -تبارك وتعالى- ومِنهم مؤمنون طائعون، كما في سورة الجِنّ قول الله -تبارك وتعالى- : {وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا}[الجن:11]، فهم طَرائق كثيرة كما الإنس، فكثيٌر منهم كَفَرَ بالله -تبارك وتعالى-، والإنس هم بنوا آدم، سُمُّوا إنس لأنهم يأنس بعضهم بعضًا، فالإنسان يُحبُ أنْ يأنَس بأخيه ولا يتوحش ويعيش وحده، والجن سُمُّوا جِنّ لاستتارهم؛ لأنهم مستترون.

{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ}، قال -جلَّ وعلا- وبيَّن السبب الذي أَوصلهم إلى هذه الدار، قال : {لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا}، خَلَقَ الله -تبارك وتعالى- لهم وفيهم كل مُقومات المعرفة والعلم، القلب الذي هو آلة الفَهم ، ولكنهم لا يفهمون بهذه القلوب، والقلب هو ما في الصدر وهو مَحِلُ العقل، كما قال -تبارك وتعالى- : {........ فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}[الحج:46]، فهذا القلب الذي في الصدر هو مَحِلُ العقل والفَهم، فهؤلاء لهم قلوب لكن لا يفقهون بها؛ والفِقْه هو الفَهْم، {وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا}، خلق الله -تبارك وتعالى- لهم أَعيُن لكن لا يُبصرون بها، نفى الله -تبارك وتعالى- عنه الإبصار، والمَنْفِي هو الإبصار النافع أي البَصَر الذي يفيد هذا المخلوق، لكنه يُبصِر ولا يكاد يُبصر، يُبصر فقط في منافعه المادية فإذن هو كالأعمى، فكأنه لم يستفد شيئًا مِن هذا الذي أعطاه الله -تبارك وتعالى-، {وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا}، لهم آذان مُهَيَّئَة للسَّمْع ولكن لا يسمعون بها، لا يسمعون بها الحق وما ينفعهم على الحقيقة، أما ما يضرهم فإنهم يستمعون بها، فالنفي هنا ليس نفي لأصل السمع وأصل البصر وأصل الفهم... لا، هؤلاء أهل عقول وأهل أسماع وأهل أبصار، لهم بَصَر ولهم سَمْع يسمعون به ويعلمون ما ينفعهم وما يضرهم في أمورهم الدنيوية وفي حياتهم، لكنهم أصبحوا عن الحياة الحقيقية غافلون، عن حياتهم الحقيقية في الجَنة غافلين، وما ذُكِّروا به من النار والعذاب كذلك نسوه، فأصبحت هذه كل هذه المقومات كأنهم لم يستفيدوا بها شيئًا، فكان هذا أي أدَّى بهم إلى النار -عياذًا بالله-.

{لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا}، قال -جلَّ وعلا- : {أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ}، شبَّههم الله -تبارك وتعالى- بالأنعام، وهي هذه البهائم التي لا تُحْسِنُ إلا أنْ تأكل وأنْ تشرب وأنْ تعيشَ حياتها، وليس لها هَدَف وغاية وراء هذه الحياة فهي تعيش فيما خُلِقَت له مِن هذه الدنيا فقط، ولا بَصيرة لها بشيءٍ فوق ذلك، وشبَّه الله -تبارك وتعالى- هذا الإنسان الذي خَلَقَ له هذه المقومات العظيمة، أنَّه نَزَلَ بها حتى أصبح كأنه كالأنعام ثم أخبر بأنهم أَضَلّ، بل هم أَضَلّ مِن الأنعام لأنَّ الأنعام لا شك أنها في ضلالها عن الهُدَى لأنها لم تًكَلَّف بالهُدى، أمَّا هؤلاء فقد كُلِّفوا ونَسوا فَهُم أصبحوا ضلالًا مِن ضَلال الإنعام، {بَلْ هُمْ أَضَلُّ}، قال –جلَّ وعلا- : {أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ}، عن ربهم وإلههم -سبحانه وتعالى-، عن هذه الموعدة التي وعد الله -تبارك وتعالى- بها الإنس والجِنّ، وهو قيامهم بين يدي الله -تبارك وتعالى- للحساب عن الجَنَّة وعن النار، وغافلون عن كل ما ذُكِّروا به، غافلون عن طريق الرَّب -تبارك وتعالى-، فلما نسوا طريق الله وصِراطه المستقيم ونَسوا إلههم ومولاهم وخالقهم -سبحانه وتعالى-، ولم يعيشوا إلا لهذه الدنيا فقط أصبحوا غافلين، والغَفلة هذه غَفلة عن الحياة الحقيقية، عن حياتهم الحقيقية، وأصبح علمهم محصورًا في هذه الدنيا القليلة التي هي جزءٌ قليلٌ مِن عُمْر الإنسان، فالإنسان عمره وحياته إنما خُلِقَ للبقاء وأما هذه الدار دار فناء، دار اختبار صغيرة وهم نسوا هذا الاختبار وعاشوا حياتهم لهذه الفترة، وجعلوا فقط كل هَمّهم وكل أملهم في هذه الدنيا، {أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ}.

ثم قال -جلَّ وعلا- :{وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[الأعراُف:180]، هذا توجيه مِن الرَّب -تبارك وتعالى- إلى العُلُوّ والسُّمُو وإلى الحياة الحقيقية، الصِّلة بالله -تبارك وتعالى-، أي يا أيها الناس هذا طريق الرَّب -تبارك وتعالى-، {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى}، الحُسنى صفة المبالغة العُليا مِن الحَسَنِ، وذلك أنَّ الله -تبارك وتعالى- كل ما تَسمَّى به فلَه فيه الغَاية القُصْوى -سبحانه وتعالى-، الذي لا يُدانيها فيها أحد مِن خَلْقه -جلَّ وعَلا-، فالله يتسمَّى بأسماء وهذه الأسماء كلها تَتَضمن معاني، والله -تبارك وتعالى- مُتَّصِف بهذه المعاني على أَسْمى غاياتها، فهو الله الإله الذي لا إله إلا هو -سبحانه وتعالى-، وهو الرَّحمن الرَّحيم الغفور الوَدُود السميع العليم الكبير المُتعال الجبَّار المُتكبر الواحد الأحد -سبحانه وتعالى-، الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يُولد له الأسماء الحسنى، وقد قال -صلى الله عليه وسلم- : «إنَّ لله تِسع وتسعين اسمًا مَن أَحْصاها دَخَل الجنَّة»، وهي إنَّ لله تِسع وتسعين اسمًا لا ينَفي أنْ يكون لله -تبارك وتعالى- يعني غيرها، كما جاء في الحديث «أسألُك بكل اسم هو لك سَمَّيت به نفسك وعَلَّمتهُ في كتابك أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أنْ تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي وجلاء همَّي وغمَّي وحزني»، فلله -تبارك وتعالى- أي أسماء حُسنى هذه التي أنزلها في كتابه -سبحانه وتعالى-، وتَكلَّمَ بها رسوله -صلوات الله والسلام عليه-، وأسماؤه -سبحانه وتعالى- توقيفية بمعنى أنَّه هو الذي أوقفنا عليها -سبحانه وتعالى-، ولا يجوز أنْ يخترع العباد لربهم اسمًا لم يُبَلَّغوه من الله -تبارك وتعالى-، الله له الأسماء الحسنى أَعَلَمنا بها -سبحانه وتعالى- في كتابه، وعلى لسان رسوله -صلى الله عليه وسلم-، {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون َ}[الصافات:180]، {وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ}[الصافات:181]، {وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[الصافات:182]، فسبحان ربِّك عمَّا يصفون عمّا يَصِفُ به الجاهلون، نزَّهَ الله -تبارك وتعالى- نفسه عن كل وصفٍ يصفه به أي  أعدائه، والمشركون قد أَطلقوا على الله -تبارك وتعالى- أسماء وصِفات مِن عند أنفسهم، وسلامٌ على المرسلين لأنهم لا يصفون الرَّب -تبارك وتعالى- إلا بما أُنزِلَ عليهم مِن الله -تبارك وتعالى-، والحمد لله ربِّ العالمين هذه شاملة لكل معاني الحمد لله -تبارك وتعالى-، والحمد هو الثناء على الله -عزَّ وجلَّ- بأسمائه وأفعاله، فالله له الأسماء الحسنى، {بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ}[الفاتحة:1]، {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[الفاتحة:2]، {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}[الفاتحة:3]، {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}[الفاتحة:4]، هذه في الفاتحة مِن أسماء الله الحسنى وكذلك في القرآن نَزَلت أسماء الله الحُسنى، {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ}[الحشر:22]، {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ}[الحشر:23]، {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[الحشر:24]، فالله له الأسماء الحُسنى، كلُّ أسماء الله -تبارك وتعالى- حسنى، لا يُسمى باسم غير حَسَن، بل الأسماء سَمَّى الله -تبارك وتعالى- بها نفسه -سبحانه وتعالى-، وهذه الأسماء لا شك أنَّها لها معاني مشتقة ليس فيها اسم جامد، كل أسماء الله ليست جامدة بمعنى أنهَّا للعالمية فقط، أي للإعلام على الرَّب -سبحانه وتعالى- فقط بل أنها مُشتقة لها معاني، فالرحمن مِن الرحمة وكذلك الرحيم، والغفور مِن المغفرة والسميع من السَّمْع والبصير مِن البَصَر والحليم مِن الحِلم وهكذا.

قال –جلَّ وعلا- : {فَادْعُوهُ بِهَا}، ادعوا الله -تبارك وتعالى- لحاجاتكم بهذه الأسماء، فإذا كنت تُريد الرزق فإنَّ الله هو الرزَّاق، فقال يا رزَّاق أرزقني، وإذا كنت تَطلبُ المغفرة فقل يا غفَّار اغفر لي وذلك أنَّ الله هو الغفَّار، وإذا كنت تَطْلبُ الرحمة فقل يا رحمان ارحمني وهكذا، فالله -تبارك وتعالى- له الأسماء الحسنى فادعوه بها، ادعوا الله -تبارك وتعالى- لحاجاتكم مِن دَفع الضَّر عنكم فإنَّه لا يدفع الضُّر إلا هو، وجَلب النَّفع بهذه الأسماء التي يتسمَّى بها الرَّب -تبارك وتعالى-، فإنَّك إذا وَصفت الله بأنه الغفَّار وقلت يا رب اغفر لي لأنك أنت الغفور الرحيم، أي بما أنَّك أنت الغفور الرحيم فإنِّي أطلب مغفرتك، فيكون هنا في تناسب في الدعاء بأنَّ الإنسان محتاج إلى المغفرة والله -تبارك وتعالى- هو الغفَّار، فيُدعى -سبحانه وتعالى- باسمه وبهذه الصفة التي يتصف بها -سبحانه وتعالى-، ليَنال العبد أثر هذه الصفة مِن الله -تبارك وتعالى-، {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ ........}[الأعراف:180]، ذَروا اتركوا، {الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ}، اللَّحد والإلحاد، الإلحاد هو الميل، ومِنهُ سُمِّي اللَّحد الذي يُصنع للميت، سُمِّي لحدًا وذلك أنه شَقّ مستقيم في الأول ثم يُمال في الحفر إلى ناحية فيُسمَّى هذا لحد، ويُوضع الميت في مكان هذا الميل، يُلحدون بها أي يميلون بأسماء الله -عزَّ وجلَّ-، أمّا الميل في التَّسمِّية في اللفظ فيُطلِقُون على الله -تبارك وتعالى- يُلحدون في الألفاظ، فيُسمُّون الله -تبارك وتعالى- بغير اسمه بألفاظ يميلون بها ، أو في المعنى يصرفون المعنى عن حقيقته ويُأوِّلُونه ويَصرفونه عن معناه الذي وُضِعَ له، فاتركوا هؤلاء، اتركوا هؤلاء الذي يُلحِدون في أسماء الله -تبارك وتعالى-، إما بأنْ يأتي لاسم مِن أسماء الله –تبارك وتعالى- فيزيد فيه أو يَنْقُص منه، يُغير في اللفظ فيتبدل المعنى، أو يقوله بلفظه ولكن يَصْرِفُ معناه، أو يطلقوا على الله -تبارك وتعالى- اسم غير اسمه -جلَّ وعلا-، فيُسمِّي الله -تبارك وتعالى- بأنه باسم لا يليق به، لم يتسمَ به الرَّب -تبارك وتعالى-، كما جعلوا الله هو الأبّ وجَعَلوا هذه الأُبوَّة الاسم الذي أطلقوه على الله هو مِن باب الأُبُوَّة الحقيقية، كما الأُبُوَّة بالنِّسبة للبشر، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا -سبحانه وتعالى-.

قال -جلَّ وعلا- : {........ وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[الأعراف:180]، هذا تهديدٌ ووعيد من الله -تبارك وتعالى- بأنَّ الله سَيُجازي هؤلاء الذين يُلحِدون في أسمائه بما كانوا يعملون بِعَمَلِهِم هذا؛ بِعَمَلِهِم هذا الذي عَملوه، وهذا لا شك بأنه مِن أَخبث ومِن أكبر الجرائم الإلحاد في أسماء الله -تبارك وتعالى-، بتغيير ألفاظها أو تغيير معانيها أو إطلاق اسم غير أسماء الله التي أطلقها على نفسه، فَتُطْلَق على الرَّب تعالى الله عن ذلك عُلوًا كبيرًا، {سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}.

ثم قال -جلَّ وعلا- : {وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ}[الأعراف:181]، لمَّا ذَكَرَ الله -تبارك وتعالى- أنَّه جعل أمةٌ عظيمة مِن الجِنّ والإنس للنار، أخبر هنا -سبحانه وتعالى- أنَّ هناك أُمَّة خلقها الله -تبارك وتعالى- للهِداية، قال : {وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ}[الأعراف:181]، مِمَن خلقنا جُزء مِمَّن خَلَقه الله -تبارك وتعالى- أُمًّة؛ جماعة، {يَهْدُونَ بِالْحَقِّ}، يهَدون بالحق أي يَدعون إلى طريق الحقّ، فيهدون الناس إلى طريق الرَّب -تبارك وتعالى-، {وَبِهِ يَعْدِلُونَ}، بهذا الحق يعدلون أي يقومون به ويُحكِّمُونه، ولا شك أنَّ مَن أخذ حُكم الله -تبارك وتعالى- عَدَل، فحُكم الله -تبارك وتعالى- هو العدل، {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا}، فكل أخبار الله -تبارك وتعالى- صِدْق هذا هو يهدون بالحق، {وَبِهِ يَعْدِلُونَ}، إذا حكموا بحكم الله -تبارك وتعالى- فقد عدلوا، وهذه الآية جمعت  كل الدين فإنَّ الدين خبر وحُكم، أي أمر ونهي وإخبار، فالإخبار هِداية، الإخبار التصديق بأخبار الله -تبارك وتعالى- هداية، والعمل بأحكام الله -تبارك وتعالى- عَدْل، {وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ}[الأعراف:181].

ثم توعَّد الله -تبارك وتعالى- أهل معصيته، فقال -جلَّ وعلا- : {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ}[الأعراف:182]، {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ}[الأعراف:183]، هذا بيان في سُنَّة الرَّب -تبارك وتعالى- وطريقته في مُعاملة المكذبين بآياته، قال -جلَّ وعلا- : {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا}، كذَّبوا بها ردَّوها، قالوا عن هذا الصِّدق وهو آياتُ الله أنه كَذِب، فهذا هو معنى التَّكذيب، التكذيب ردّ الصِّدق والقول بأنَّ هذا الصِّدق كَذِب، فقالوا للرسول أنت كذَّاب والذي جِئْتَ به هذا كَذِب، فهذا تكذيب بآيات الله -تبارك وتعالى-، {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا}، قال -جل وعلا- : {........ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ}[الأعراف:182]، الاستدراج هو الإتيان بالعدو إلى حَتْفِه بإظهار المودَّة له، فَمَن كان يُعادِي أحد ويُريد أنْ يَفتِكَ به فيُظهر له المَودَّة والمحبَّة، ثم يأخُذُه شيئًا فشيئًا إلى حيث يُهلكه ويَقتله نقول استدرجه، هذا الاستدراج، استدرجه وأخذه إلى حَتفِه ظانًا أنَّه ذاهبٌ إلى يُسرِه ومُبتغاه وطِلْبَته، فطريقة الرَّب –تبارك وتعالى- بالمكذبين بآياته أنَّه يستدرجهم أي إلى النار، يسيرون كأنه ماشي في دَرَج خُطوة بعد خُطوة بعد خُطوة ثم يكون في النهاية أي وقوعه في نار جهنم -سبحانه وتعالى-، قال -جلَّ وعلا- : {مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ}، مِن حيث لا يَعلمون أنَّه يَسير إلى طريق النَّار وهو يَضحك وهو يَبتسم، وهو يَظن أنَّه ذَاهِبٌ إلى الخير، وذلك بما يُغدِقُ الله -تبارك وتعالى- عليه مِن النِّعم وما يؤتيهم ، فيكفرون ويَفسقون ويُضادون أمر الرَّب -تبارك وتعالى- ويُعادون رسله، ثم يجدون أنَّ الله -تبارك وتعالى- يُعافيهم ويَرزقهم ويُعطيهم ويَمُدُ في أعمارهم، فيظنون الأمر يفهمون الأمر على غير حقيقته، يَظنُّون أن الله -تبارك وتعالى- يُحبهم و يَودُّهم، وأنَّه أعطاهم ما أعطاهم في هذه الدنيا وما أَمدَّ لهم إلا أنَّ هذه مِن محبته؛ من محبته لهم، ثم تكون النتيجة أنْ يَقسِمهم الله -تبارك وتعالى-، ويَدَّخِر لهم العقوبة في الآخرة فيكون هذا أَشَرّ لهم، هذا شرٌ عظيم لهم، {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ}[الأعراف:182]، يذهب إلى النار ضاحكًا، {وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ}[المطففين:31]، {وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ}[المطففين:32]، {وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ}[المطففين:33]، هذا حال أهل الكفر، {إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا}[الانشقاق:13]، {إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ}[الانشقاق:14]، فيعيش فَكِه مَسرور غير عَابئٍ بأمر الله -تبارك وتعالى- ويجد أنَّ طريق النار مُيسَّر له، وهو لا يظن أنَّ النار بعد هذا الطريق، كما قال –تبارك وتعالى- : {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى}[الليل:5]، {وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى}[الليل:6]، {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى}[الليل:7]، {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى}[الليل:8]، {وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى}[الليل:9]، {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى}[الليل:10]، نُيسِّره أي نجعل العُسْرى التي هي النار, نجعل طريق العُسرى طريق النَّار مُيَّسرًا له، فيجعل أبدًا علي طريق النار يَجده سَهْل وأمَّا طريق الجنة فيُستَصْعب عليه، {........ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ}[الأعراف:182].

ثم قال -جلَّ وعلا- : {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ}[الأعراف:183]، أُملى لهم؛ الإملاء والإملال هو إطالة المَدَى، فيزداد في الغَيّ كلما غَوَى وكذا يزيده الله -تبارك وتعالى- منه، {قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا}، ويزداد في العُمر ويفعل الشر ثم يجد القوة في نفسه ليفعل الأخر ويُهَيِّئ له ما بعده، أُملي لهم أُطيل أعمارهم في ما هم فيه من الكفر والفسق، {وَأُمْلِي لَهُمْ}، قال -جلَّ وعلا- : {........ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ}[الأعراف:183]، هذا مِن كيد الله -تبارك وتعالى-، والكيد هو المكر بالعدو وإيصال الضُّر له مِن حيث لا يَدْرِي ولا يَحْتَسِب، {........ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ}[الأعراف:183]، عظيم، ليس كيدًا سهلًا يمكن تَدَاركه ولكن شيئًا متين، المتانة ضد الرَّخاء والضَّعف، وهذا صَنيع الرَّب -تبارك وتعالى- بهؤلاء لا شك أنَّه هو موافق لعملهم الخبيث، لتكذيبهم بآيات الله، فهذا التكذيب بآيات الله أمر عظيم، عرفوا أنَّ هذه آيات الله وعرفوا رسوله وعرفوا الحق ولكنهم قالوا هذا كَذِب، فلما َردُّوا الحق على هذا النحو بعد أنْ عرفوه، وأنَّ هذا هو الرسول وهذا هو الرَّب وهذا هو طريق الحق ولكن قالوا لا هذا كَذِب، فكانت هذه عقوبة الله -تبارك وتعالى- لهم، {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ}[الأعراف:182]، {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ}[الأعراف:183].

ثم قال -جلَّ وعلا- : {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا}، سؤال للتوبيخ والتَّقريع، {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا}، التَّفكُر إعمال الفكر، إعمال العقل، {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا}، أي في هذا الأمر الذي هم فيه، فيما غُلِّقوا به، في الآيات التي أُنزلت إليهم، ثم قال -جلَّ وعلا- : {مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ}، ما بصاحبهم مِن جِنَّة نَفْي أنْ يكون الرسول مجنونًا -صلوات الله عليه وسلم-، قد قالوا أنَّ هذا الرجل مجنون، إنَّ محمدًا مجنون؛ قالوا هذا، وهذا لا شك أنه قول لم يَصْدُر منهم عن تفكير وعن رَويَّة وعن إعمال عقل، وإنما عن تكذيب وعن رفض للحق وعن رغبة في الغَلَبة والعلو، مع ما يعلمون أنهم كاذبون في هذا، فقال -جلَّ وعلا- : مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ}، وصاحبهم هو رسول الله -صلوات الله والسلام عليه-، فهو صاحبهم أي الذي صَحِبوه في هذه الحياة وعلموه، وعلموا مَدْخله ومَخرجه ونسبه، أي علموا مدخله ومخرجه ما هو مِن أسراره وما هو ظاهرٌ كل هذا يعلمونه عنه، والأدلة كلها قائمةٌ على صِدْقِهِ -صلوات الله عليه وسلم-، فقد كان مُنزَّهًا عن الغرض صادقًا لم يكذب قَطّ، وجاءهم بكتاب مِن الله -تبارك وتعالى-، قال -جلَّ وعلا- : {........ مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ}[الأعراف:184]، إنْ هو أي محمد -صلوات الله والسلام عليه-، {إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ}، نذير؛ النِّذارة هي الإخبار بِما يُخوِّف، أي أنه أخبرهم بما يخوفهم مِن الله -تبارك وتعالى- ومِن عقوبته، وهو بيِّن النذارة، كما قال النبي : «وإنِّي أنا النَّذير العُريان»، فهو نذير بيِّن النذارة قد أبان كل هذه المحظورات والمخاوف المستقبلة قد بَيَّنها رسول الله -صلوات الله والسلام عليه-.

ثم قال -جلَّ وعلا- : {أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ}[الأعراف:185]، {مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}[الأعراف:186]، {أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ ........}[الأعراف:185]، أي ألم يتفكروا، ليس صاحبهم بمجنون بل هو نذيرٌ مبين، ثم قال : {أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ}، الملكوت هذا المُلْك، ومَلَكوت صفة مُبَالغة مِن المُلْك أي مُلْكُ الله -تبارك وتعالى- في السماوات والأرض، والسماوات والأرض كلها ملك لله، {وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ}، كل شيءٍ خلقه الله -تبارك وتعالى-، مِن النَّملة الصغيرة إلى الفيل الكبير، مِن الذَّرة الصغيرة إلى المَجرَّة الكبيرة، مِن النَّبْتة الصغيرة إلى النَّبْتة الكبيرة، لا يوجد شيء مما خلقه الله -تبارك وتعالى- إلا وقد أحسن خلقه، وأوضع فيه مِن الحِكَم والأسرار ما يُبهِر العقول والألباب، وما يَدْفع إلى العلم الضروري بأنَّ لهذا الكون خَالِق مُتقِن حكيم عليم -سبحانه وتعالى-، ثم قال -جلَّ وعلا- : {........ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ}[الأعراف:185]، {وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ}، بالموت واحِد واحِد أو بالاستئصال، أنْ يَستأصِلَ الله -تبارك وتعالى- الكفار، ثم قال -جلَّ وعلا- : {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ}، بأي حديث بعد هذا الحديث وبعد هذا القرآن وهذا التذكير يؤمن الكفار، والجواب ولا بأي حديث.

نقف عند هذا ونُكمل -إنْ شاء الله- في الحلقة الآتية، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم مِن كل ذنب، وصلى الله على عبده ورسوله محمد.