الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على عبده والرسول الأمين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومَن اهتدى بهديه وعَمِلَ بسنته إلى يوم الدين.
وبعد فكنا قد وقفنا في الحلقة الماضية عند قول الله -تبارك وتعالى- : {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ}[الأعراف:189]، {فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}[الأعراف:190]، {أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ}[الأعراف:191]، {وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ}[الأعراف:192]، {وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صَامِتُونَ}[الأعراف:193]، يُذكِّر الله -تبارك وتعالى- عباده بأنَّه هو الذي خَلَقَهُم جميعًا، كل بَنِي البشر مِن نَفْسٍ واحدة وهو آدم -عليه السلام-، {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا}، خَلَقَ الله -تبارك وتعالى- زوجه حواء، قال -جلَّ وعلا- : {لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا}، وذلك أنَّه إذا كان جِنْس النساء مِن جِنْسِ الرجال وجِنْس الرِّجال مِن جِنْسِ النساء كان السَكَن، السَكَن؛ الطمأنينة والراحة والأمن والشعور بانجذاب هذا الشِّق إلى شِقه، فالنساء شقائق الرجال، {........ فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ}[الأعراف:189]، الكلام انتقل مِن آدم وزوجه حواء إلى جِنْسِ البشر، وأنَّ كثيرًا منهم إذا بدأ الحمل فإنَّ الرجل والمرأة الزوج والزوجة كلٌ يتمنى أنْ يرزقهم الله -تبارك وتعالى- ولدًا صالحًا، أي كاملًا في الخِلْقَة سليم، والذي يُصَوِرُ العباد إنَّما هو الله -تبارك وتعالى-، كما قال -جلَّ وعلا- : {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[آل عمران:6]، فالله -تبارك وتعالى- هو ربُّ العباد وهو خالقهم -سبحانه وتعالى-، يُذكِّرُ الله -تبارك وتعالى- عباده حال الزوجين عندما يَبْدَأ حَمْل الزوجة، فإنهما يتمنيان أنْ, يرزقهما الله -تبارك وتعالى- الولد الصالح، {آتَيْتَنَا صَالِحًا}، صالحًا هنا ليس مِن الصلَاح في الدين , وإنَّما صالحًا مِن حيث الخَلْق، {لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ}، أي لله -تبارك وتعالى- الذي يخلق، فالله -تبارك وتعالى- هو الخالق -جلَّ وعلا-.
قال -جلَّ وعلا- : {فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}[الأعراف:190]، لمَّا آتاهم الله -تبارك وتعالى- بالولد التَّام الخِلْقَة، إذا بِهِم يَجعلون لله -تبارك وتعالى- شركاء في هذا، فيَنسِبونَ الخَلْق إمَّا لغير الله -تبارك وتعالى- يظنون أنَه هو الحظ والنَّصيب، أو أنهم يُعبِّدونَ هذا الولد لغيرِ الله -تبارك وتعالى-، كما يَفْعَلُ مَن يُعلِّم دينه اليهودية والنصارنية و المجوسية، أو يُسمِّيه عبد الكعبة وعبد اللات وعبد العُزة، فيُعبُّدونه لغيرِ الله -تبارك وتعالى- والحال أنَّ الله -تبارك وتعالى- هو خالقه -جلَّ وعلا-، قال -جلَّ وعلا- : {فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}، تعالى الله عما يشركون به، {أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ}[الأعراف:191]، هذا سؤال للتبكيت والتقريع، أيُشركون أي أيشركوا أي الآباء والأمهات في أولادهم ما لا يَخلُقُ شيئًا، أي لا خَلَقَ هذا ولا غيره، وهم يُخلَقُونَ هذه الآلهة المُدَّعاة هي نفسها قد خَلَقهَا الله -تبارك وتعالى-.
{وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ}[الأعراف:192]، كذلك هذه الآلهة التي يعبدونها مِن دون الله -تبارك وتعالى- ويدَّعونَ لها الخلق أو الرزق أو الإحياء أو الإماتة ويَنْسِبُونَ لها فِعْلَ الرَّب -تبارك وتعالى-، {وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا ........}[الأعراف:192]، على العدو، وقد كان مِن أسباب اتخاذ الآلهة عند المشركين أنهم يتخذونهم ليَتَقووا بهم على أعدائهم، كما قال -تبارك وتعالى- : {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ}[يس:74]، أي لعلهم يُنْصَرُونَ بهؤلاء الآلهة، قال -جلَّ وعلا- : {لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ}، هذه الآلهة نفسها التي اِتُخِذَت للنصر لا تستطيع نَصْر عُبَّادها، {وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ}، وهم كذلك لا يَنصُرُونَ أنفسهم، {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ}[يس:74]، {لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مُحْضَرُونَ}[يس:75]، لا تستطيع الآلهة أنْ تَنصُر عُبَّادَها، وهم؛ أي عُبَّادها، لهم؛ لهذه الآلهة، جندٌ مُحضَرون؛ جنودٌ حاضرة تُدَافع عنها، بل كانوا يبذُلون أرواحهم فداء هذه الآلهة التي لا تمَلِك لهم نفعًا ولا ضرًا، كما قال -تبارك وتعالى- عنهم : {وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ}[ص:6]، اصبروا على آلهتكم ضد مَن؟ ضد محمد الذي يَسبُّها ويَشتُمها ويهينها، فقوموا بنصر آلهتكم، فهم هذه هم يَنصُرون آلهتهم وآلهتهم لا تَنصُر نفسها ولا تنصُرهم، {وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ}[الأعراف:192].
{وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صَامِتُونَ}[الأعراف:193]، إنْ تدعوا هذه الآلهة إلى الهُدَى لا يَتَّبعُوكم وذلك أنهم أصنام، لا تَسمع ولا تُبصِرُ وبالتالي لا تستجيب لِمَن يدعُوها، {وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صَامِتُونَ}[الأعراف:193]، تأكيد لهذا المعنى، أي إنْ أنت صَمَتَ عِنده أو أنت تَكَلَّمْتَ عنده فالأمر عنده سواء، فإنَّه صَنَم لا يَسْمع كلامك ولن يُجيب شيئًا مِن كلامك ولن يُجيبك في أي أمرٍ طلبته منه، {........ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صَامِتُونَ}[الأعراف:193].
ثم قال -جلَّ وعلا- : {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ ........}[الأعراف:194]، {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ}، تدعونهم مِن دون الله، تطلبون منهم، تخافونهم، تسنصرون بهم، بكل معاني الدعاء فإنَّ الدعاء هو الطَّلَب، وهم قد كانوا يَطلُبون منهم كل هذا، يطلبون منهم جَلْب كل منافعهم ودَفْع الضُّر عنهم، {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ ........}[الأعراف:194]، فإنْ كانت هم صورة لناس موجودين فهؤلاء الذين وُجِدُوا وماتوا قد كانوا عبادًا كذلك أمثالكم، ثم هذه الأصنام كذلك عِبَاد فإنَّها مِن خَلْقِ الله -تبارك وتعالى-، فإنَّ الله -تبارك وتعالى- هو الذي خَلَقَ مادتها، فهي مِن خَلْقِ الله -عزَّ وجلَّ-، {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}[الأعراف:194]، أي هاتوا البُرهان بالتجربة، ادعوهم الآن، {فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}، أي أنهم ينفعونكم أو يضرونكم أو يدفعون الضر عنكم أو أنَّها آلهة بالفعل تستحق العبادة، فإنْ كنتم صادقين فليستجيبوا لكم بشيء ممَّا تدعونهم به، {فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}.
ثم قال -جلَّ وعلا- مبينًا أن هذه الآلهة؛ الآلهة الأصنام تَفْقِد كل شيء، قال -جلَّ وعلا- : {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنظِرُونِ}[الأعراف:195]، {أَلَهُمْ}، لهذه الأصنام، وهنُا الخِطَاب عامَل هذه الأصنام معاملة العُقُلاء، لم يقُل ألها أيدٍ؟ ألها أرجل؟ على ما يزعمونه فيهم مِن أنهم آلهة، أي مِن أنهم آلهة عاقلة، فقِيل لهم ألهم هذه الأصنام أرجل يمشون بها، والحال أنَّ لهم أَرْجُل لكن لا يِمشُون بها، إنَّها تماثيل منصوبة، {أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا}، اليد معروف والبَطْش اللي هو المَسْكُ بقوة والعمل، {أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا}، أي لهم كل هذه في الصورة ولكن في الحقيقة لا تُفِيُدهم شيء، فاليد هذه يد التمثال ورِجْلُه، رِجْلُه ويَدُه وعَينُه وسَمعه إنما هي تمثال، قِطَع مِن الخشب أو مِن الحَجَر أو مِن الحديد أو مِن غيره مِن المعادن، فإنَّها في الصورة يد لكنها لا تفيد شيئًا، {قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنظِرُونِ}، قل ادعوا شركائكم الذين تَعْتزُّون بِهِم وتَسْتنصِرُون بِهِم، {ثُمَّ كِيدُونِ}، الكيد هو المَكْر، إيصال الضُّر للعدو بطريق خَفِي، أي دبِّرُوا مِن التآمر والمكر والكيد بي ما تشاءون، {فَلا تُنظِرُونِ}، لا تمهلوني، كذلك لا تمهولني حتى أأخذ عُدَّتي وأَستَعِد، بل ابدأوا كيدكم مِن الآن مُستعينين بهذه الآلهة التي تستنصرون بها، {قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنظِرُونِ}.
{إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ}[الأعراف:196]، الحال حال النبي -صلي الله عليه وسلم- غيُر حال هؤلاء المشركين، فإنَّ هؤلاء المشركين يَعتزون بهذه الآلهة التي لا تَنفعُهم ولا تَضُّرهم، والتي إنَّما هي أصنام خَشَبيَّة لا تَسْمع ولا تَعقِل ولا تُغنِي عنهم شيئًا، أما النبي -صلوات الله والسلام عليه- فإن وليه الله، يقول {إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ}، الولي؛ الناصر، {إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ}، الذي يتولى كل شئوني وكل أمري، ينَصُرُني على عدوي، يهديني، كل معاني الولاية وولاية الرَّب -سبحانه وتعالى- لعبده تشمل هذا، نصره، محبته، إعزازه، هدايته إلى طريق الإستقامة، دفع العدو عنه؛ كل العدو، {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ ........}[البقرة:257]، كل معاني الولاية، {إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ}، أي الرَّب الإله -سبحانه وتعالى- الذي يتولى شئوني، يحميني، يُدافِع عني، ينصرني، {الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ}، وجاء الرَّب هنا -سبحانه وتعالى- موصوفًا بأنَّه هو الذي نزَّل الكتاب، وهو الحُجَة والبيان، وإنزال الكتاب أكبر معجزة للتحدي، وإنزال الكتاب هو الهِدَاية، فهذا الرَّب الذي نزَّلَ الكتاب الذي فيه هذا الهُدى وهذا البيان وهذا الإعجاز، ثم إنَّ الله -تبارك وتعالى- تَحَدَّى بأنْ يَحْفَظُهُ، فكذلك كما أَنْزَلَ الكتاب فإنَّه يحفظ النبي المُبلِّغ للكتاب -صلوات الله والسلام عليه-، {إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ ........}[الأعراف:196]، القرآن، وسُمِّي كتابًا لأنَّه مكتوب في السماء وقد كُتِبَ في الأرض، وهو أعظم ما كُتِب مِن الكُتُب في نَشْرِه وفي ذِكْرِه وفي حِفظِه وفي هدايِتِه، هو الكتاب حقًا كلام الله -تبارك وتعالى-، {إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ ........}[الأعراف:196]، الكتاب حقًا، {وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ}، وهو؛ الله -سبحانه وتعالى-، يتولى الصالحين؛ كل عبد صالح يتولاه الله -تبارك وتعالى-، يَنصُره ويُؤيدُه ويُخرِجُه مِن الظُّلمات إلى النور ويهديه الصراط المستقيم ويَحمِيه مِن شياطين الإنس والجِنّ، لا إله إلا هو -سبحانه وتعالى- وهو يتولى الصالحين.
{وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ}[الأعراف:197]، {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ}، أيُّها المشركون الكفار الذين تدعونهم مِن هذه الآلهة مِن دون الله أي غيره -سبحانه وتعالى-، {........ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ}[الأعراف:197]، لا هم يستطيعون نَصْرَكم فيَنصُرُونكم على عدوِّكم وكذلك لا يستطيعون نَصْر أنفسهم، بمعنى أنَّ هذا الإله إذا جاءه مَن يُحطِّمه مَن يُكسِّره فإنَّه لا يستطيع أنْ يَدفَع الضُّر عن نفسه؛ فهو صَنَم، هو صَنَمُ لا يستطيع أنْ يَدفَع الضُّر عن نفسه، فكيف ينفع عابده ويَنصُر غيره؟ {وَلا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ}.
{وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ}[الأعراف:198]، قيل في معاني هذه الآية {وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لا يَسْمَعُوا}، أنَّها في الأصنام، أنَّها في الأصنام وآلهة المشركين، {وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى}، إلى أي أَمْر مِن الهُدى، حتى وإنْ ينتقل مِن الشمس إلى الظِّلِ، {وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لا يَسْمَعُوا}، لأنَّه صَنَم، {وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ}، بهذه العيون المصنوعة لهم، خَرَز أم أَحْجَار كريمة أو نحو ذلك، {وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ}، لأنَّها عينٌ مصنوعة، عين زُجاجية لا تُبصِرُ شيئًا، والمعنى الثاني في هذه الآية أنَّها في المشركين أنفسهم وليس في آلهتهم، {وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لا يَسْمَعُوا}، المشرك هكذا مهما دعوته إلى الهُدى أنَّه لا يَسْمع، لأنَّه أَصمَّ أُذُنيه عن سَمَاع الحق فمهما دعوته لا يَسمع، كما قال الله -تبارك وتعالى- في الكفار : {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ}[البقرة:6]، {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}[البقرة:7]، فهذا الذي خَتَمَ الله على قلبه فلا تَنفٌذ الهِداية إليه، وكذلك على سمعه فمهما تكلم السمع الهداية لا تنفذ مِن سمعه، وكذلك جعل على بَصَرِهِ غِشاوة فإنَّه لا يَرَى الأشياء؛ فهذا حاله، هذا حاله لا يستفيد بهذا، {وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى}، تدعوا المشركين إلى الهُدَى لا يسمعوا، {........ وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ}[الأعراف:198]، وتراهم؛ ترى هؤلاء المشركين، {يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ}، لا يبصرون أنَّك رسول الله حقًا وصدقًا، فهو رسول الله، يروا النبي محمد، يرونه ويسمعون كلامه لكن لم يَنفُذ هذا الكلام أنَّه كلام الله الذي يتكلم به هذا الرسول، وأنَّ هذا الذي أمامهم هو رسول الله حقًا وصدقًا، وإنَّما تصوروه بأنه كاهِن وكذَّاب ودجَّال فعَمُوا عن الحق، النبي الذي هو أضوأ؛ أشدُ إضاءة مِن الشمس والقمر، وحجم نوره هذا أصعب وأكبر مِن حجم ضوء الشمس والقمر، ومع ذلك عَمُوا عنه -صلوات الله والسلام عليه- لم يبصروه، {وَإِنْ تَدْعُوهُمْ}، تدعو هؤلاء المشركين، {........ إِلَى الْهُدَى لا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ}[الأعراف:198].
ثم هنا لمَّا وصَلَ الحال إلى هذا الأمر وأنَّهم على هذا النَّحو، قال -تبارك وتعالى- لرسوله : {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}[الأعراف:199]، {خُذِ الْعَفْوَ}، خذ العفو منهم، العفو مِن معانيه الفضل والزيادة، أو ما جاء دون كُلفة ومشقة، ومنه قول الشاعر الذي يُخاطِب زوجته يقول لها : (خُذِي العفو منِّي تستديمي مودتي، ولا تَنْطِقِي في ثورتي حين أغضبُ)، خذ العفو مِنِّي، العفو أي ما بَذَلْتهُ لكِ دون إجهاد ونقار وصعوبة، تستديمي مودتي؛ تَبقْىَ المودة بيننا دائمة، ولا تنطقي في ثورتي حين أغضب، إذا كنت غضبان فلا تنطقي وقت ثورتي فتستمر عيشنا، فالعفو هنا بمعنى ما يبذله الإنسان مِن الفضل ومِن الخير دون كُلفة ومشقة، وقِيل منه قول الله -تبارك وتعالى- : {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ}، قُل العفو قيل بمعنى الفضل والزيادة، أي أنفِقوا ما فضل وزاد عن حاجتكم مما لا يُرهقكم ويُتعبكم، {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ}، فخذ العفو؛ العفو منهم، مِن الناس، أي خذ العفو مِن الناس أي ما بذلوه مِن الخير والمعروف دون كُلفة ومشقة, أي لا ترهقهم أنْ يتكلفوا مِن الأخلاق ومِن الصفات ما ليس عندهم، لأنَّ هذا إتعابٌ لهم وإرهاق لهم، هذا المعنى الأول مِن العفو، والمعنى الثاني العفو هو الصفح والمغفرة عن المُسيء، فالعفو عن المُسيء بمعنى أنَّك تترك حقك، ما سَبَّك وشَتمك وظلمك وأنت لك حقٌ عنده بهذا تستطيع أن تأخذ منه فتترك هذا، تعفو عنه بمعنى أنك تسامحه فيه وتترك مَظْلمتك له ولا تؤاخذه بذنبه الذي أذنبه نحوك، وهذا وهذا أي هذا المعنى وهذا المعنى صحيح في هذا الموضع، {خُذِ الْعَفْوَ}، خذ العفو مِن أخلاق الناس وسامحهم ولا تُطالبهم بأكثر مما عندهم، وكذلك اعفوا عمَن أساء إليك وظلمك وسبَّك وشتمك، وهذا قد أُمِرَ به النبي -صلى الله عليه وسلم- أيضًا مع الكفار في هذا الوقت، كانت هذه الآيات مكية ولم يُؤمر النبي -صلوات الله والسلام عليه- بأنْ يُقاتِل الكفار في ذلك الوقت.
{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ}، العُرف هو المَعْروف، والمَعْروف هو كل خير تَعرِفه القلوب الطيبة والفطرة السليمة، وهو ما عَرَّفَ الله -تبارك وتعالى- به عباده، عَرَّفهم به فطرةً؛ فطرهم عليه، وكذلك عَرَّفهم به بما أَنْزَلَ -سبحانه وتعالى- مِن الهُدى على أنبيائه ورسله، فإنَّ الله -تبارك وتعالى- أَنْزَلَ هِدايته مِن السماء لخَلْقِهَ –سبحانه وتعالى- وعَرَّفهم بها -سبحانه وتعالى-، قال –جلَّ وعلا- : {........ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى}[طه:123]، هذا قبل أنْ يُنْزِلَ الله -تبارك وتعالى- آدم، {........ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى}[طه:123]، فكل الهُدى الذي أُنزله الله -تبارك وتعالى- هو المعروف وهو العُرف، فخذ العُرف؛ العُرف مَعْنيَان إذن، المعنى الذي أَلْهَم الله -تبارك وتعالى- به أهل الفِطَر السليمة والقلوب الطيبة فتعرِفه ولا تُنكره، وكذلك ما أَنزله الله -تبارك وتعالى- كل ما أنزله الله -تبارك وتعالى- هذا هو المعروف الذي عَرَّفَنَا به، {وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ}، أأمر بالمعروف، {وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}، {وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}، أَعرِض مِن العرض أي أَعطِهم عَرضَك، كانوا أي حال سَبِّهم لك وشتمهم لك فأعطهم عرضك، أي انصرف عنهم واتركهم في هذا ولا تقابل إسائتهم بإساءة ورُدَّها ، بل أعرِض عنها، آية عظيمة في حُسْنِ الخُلُق وإكماله، وكيف يَتصَّرف النبي -صلي الله عليه وسلم-، هي خطاب للنبي وخطاب لكل أهل الإيمان في مواجهة هؤلاء الكفار المعاندين الذي هذا شأنهم، هذا شأنهم وهذا حالهم في عبادتهم لهذه الأصنام، معرفتهم بأنَّ الله خالقهم -سبحانه وتعالى- ويدعونه، وخاصة ما ذَكَرَهُ الله -تبارك وتعالى- عند الولد، ثم بعد ذلك إتخاذهم أصنام لا تنفع ولا تضر، لا تستطيع أنْ تَنصُر نفسها، تدافع عن نفسها، اتخذوها آلهة يستنصرون بها ويَطلُبون منها نفعهم وضرهم ويلتجئون إليها، فلمَّا كان هذا حال هؤلاء المشركين بهذه الظُّلمة وبهذه الضَّلالة فإذن هذا هو الطريق الذي يتخذه معهم أهل الإيمان، {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}[الأعراف:199]، ولا جَهْل أجهل مِن جَهْلِ هؤلاء الكفار، جهلهم بالله -تبارك وتعالى- وبرسالاته.
ثم قال -جلَّ وعلا- : {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}[الأعراف:200]، تتمة هذه الأخلاق العظيمة، {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ ........}[الأعراف:200]، النزغ هو الوسوسة وإلقاء ما يُلقيه الشيطان مِن الشر عند قلب المؤمن، {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ ........}[الأعراف:200]، أي نزغ، يأمرك بأي خروج عن طاعة الله -تبارك وتعالى-، {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}، استعذ؛ الإستعاذة هو طلب العَوْذ، والعوذ هو اللُّجْء، أي الجأ إلى الله -تبارك وتعالى-، هذا عجيب أي الشيطان عدو وجانب مِن عداوته تتمثل كبيُرها في الوسوسة، نَزغُه ونزعه للإنسان أنْ يَنزَع في قلبه وأن يَنزَغ في قلبه نَحو الشَّر والإثم، وهُنا الله يقول عندما هذا على الفور الجأ إلى الله -تبارك وتعالى-، كأنَّه فَرَار مِن هذا الشيطان، كأنه يأمر بالفرار مِن الشيطان، والحقيقة ليس فرارًا وإنما هو فرار إلى الله -تبارك وتعالى-، لأنَّ الله -سبحانه وتعالى- لأنَّه لا حِيلة مع الشيطان إلا بحماية الرَّب -تبارك وتعالى-، هذي هي الحِيلة الوحيدة أنْ تلجأ إلى الله، لأنه مهما أوتي الإنسان مِن قدرة وحنكة وخِبرة وعقل ورزانة فإنه لا يستطيع أنْ يتغلب على الشيطان وحده، فإنَّ الشيطان أكبر حيلة وأكبر وسيلة وهو عدو مختفي لا يراه المسلم، ويدخل على كل إنسان مِن الباب الذي يستطيع الدخول منه ويَفتِل في غاربه، ولذلك لا مجال لأنْ يكون للمسلم عنده مِن باب إلا بحماية الرَّب -تبارك وتعالى-، إنْ حمى الله -تبارك وتعالى- العبد مِن الشيطان احتمى، وإلا فإنَّ المُصارعة والمُغالبة بين الشيطان والإنسان لا شك أنَّها تنتهي بغَلَبة الشيطان، فإنَّ الشيطان يملك مِن وسائل القوة والكيد والمكر والإقناع والخبرة الطويلة في الإضلال والتمكن مِن الإنسان، إنَّ الشيطان يَجرِي مِن ابن آدم مجرى الدم، ثم إنَّه يدخل إلى بيت أسراره، بيت أسرار الإنسان؛ قلبه، ، ومَركَز القرار عنده فيوسوس فيه، الشيطان جَاسِمٌ على قلب ابن آدم فإذا غَفَل وسوس، إذا غفل فقط عن الله -تبارك وتعالى- وسوس، وإذا ذكر خَنَث فهذا الوِسوَاس الخنَّاس، فلذلك هنا الله -تبارك وتعالى- قال : {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ ........}[الأعراف:200]، ليس لك ملجأ إلا الله -تبارك وتعالى-، استعذ بالله؛ اطلب الالتجاء إلى الله -تبارك وتعالى-، {إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}، سميع لدعائك، سميع لدعاء مَن يدعوه في أي وقت، في أي وقت يكون وفي أي حالة يكون مِن ليلٍ أو نهار فالله سميع -سبحانه وتعالى- لعباده، عليم بخلقه -سبحانه وتعالى-، وبالتالي فالرَّب السميع العليم الذي لا يَغيب عن سمعه وعن علمه شيءٌ مِن مخلوقاته، هو الرَّب القوي الحاضر الشهيد على كل خلقه، وبالتالي لجوءك إليه تلجأ إليه فهو عندك -سبحانه وتعالى-، فالرَّب عندك -سبحانه وتعالى- إذا لجأت إليه مِن هذا العدو الذي هو أكبر الأعداء.
هاتان الآيتان أتت بطريقة التَّغلُب على أعداء شياطين الإنس وشياطين الجن، فشيطان الإنس قال -تبارك وتعالى- : {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}[الأعراف:199]، هذا الطريق الذي تنجو به مِن شياطين الإنس مِن هؤلاء الكفار، خذ العفو مِن أخلاقهم وأعفو عن إساءاتهم، {........ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}[الأعراف:199]، وشياطين الجن قال -تبارك وتعالى- : {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}[الأعراف:200]، ولهذه الآيات في هذا المعنى تكملة، هذه -إن ْشاء الله- نكملها في الحلقة الآتية، أقول قولي هذا، أستغفر الله لي ولكم مْن كل ذنب، وصلى الله على عبده ورسوله محمد.