إنَّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله مِن شرور أنفسنا ومِن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضلَّ له، ومَن يضلله فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد فإنِّ خير الكلام؛ كلام الله -تعالى-، وخير الهَدْي؛ هَدْي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار.
وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- بسم الله الرحمن الرحيم : {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ}[الأنفال:1]، {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}[الأنفال:2]، {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ}[الأنفال:3]، {أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}[الأنفال:4]، هذه الآيات أول سورة الأنفال، وهذه السورة كلها مِن القرآن المَدَنِي، وقد نَزَلَت آيات هذه السورة بمناسبة غزوة بَدْر الكبرى، هذه الغزوة التي غزاها النبي -صلى الله عليه وسلم- في السنة الثانية مِن هجرته، في رمضان مِن السنة الثانية مِن هجرته -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة، وكان فيها ذلك النصر العظيم، أول نَصْر ينتصر فيه جيش المسلمين على الكفار، نصرًا عظيمًا على قريش، أعظم وأكبر قبائل هذه الجزيرة، والتي كانت الخصومة الأولى معها بسبب أنَّ النبي -صلوات الله والسلام عليه- مِن قريش، والمؤمنون الأوائل مِن مكة عَامَّتُهُم مِن قريش، وقد تعرضوا لِما تعرضوا له مِن التكذيب والتعذيب، ثم الإخراج مِن أرضهم في نواحي الأرض، ثم بعد ذلك هجرة النبي -صلوات الله والسلام عليه-، أي كانت الخصومة الأولى مع هذه القبيلة التي تولت هي بنفسها دون بقية سائر العرب في البداية حَرْبَ النبي -صلوات الله والسلام عليه-، فكان النصر الذي تحقق للمسلمين في هذه الغزوة نصرًا عظيمًا، عزز الله -تبارك وتعالى- به قوة أهل الإسلام، وانتشر أمر الإسلام كله في الجزيرة، فإنَّ أشهر قبائل العرب في الجزيرة كلها قريش التي كانت لها مكانتها الدينية ومكانتها الدنيوية كذلك، فمكانتها الدنيوية تجار يُقْصَدُونَ مِن كل مكان، أسواق العرب الكبرى في أرضهم، في مِنَى وفي الطَّائِف، في عُكَاظ، والأسواق هي جمع ما في الجزيرة، ثم حَجُّ العرب كله إلى هذا المكان، كل أهل الجزيرة يحجون ويأتون إلى مكة، أهل مكة كذلك هم أهل بيت الله، فهم معظمون التعظيم الديني عند كل العرب، قد كان نَصْر الله -تبارك وتعالى- لرسوله على هذه القبيلة، قَتْلُ صناديدهم وكبرائهم وأَسْر سبعين منهم هزيمة كانت لا شك هزيمة عظيمة جدًا بالمشركين، ثم نصر عظيم جدًا للمؤمنين الذين خرجوا في قلة عدد بالنسبة للكفار، وقد كان نصرهم وهم على هذه الحالة التي خرجوا عليها كان فُرْقَانًا بين الحق والباطل، وسَمَّى الله -تبارك وتعالى- يوم بدر يوم الفُرْقَان، قال : {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[الأنفال:41]، يوم فَرَّقَ الله -تبارك وتعالى- به بين الحق والباطل وأظهره، وقال الله -تبارك وتعالى- أيضًا فيه للمشركين {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ}[آل عمران:13].
خلاصة غزوة بَدْر مبسوطة في السيرة لكن نَذْكُرُ أهم أحداثها، أهم أحداثها أنَّ النبي -صلوات الله والسلام عليه- قد نَدَبَ أصحابه للخروج إلى غنيمة، كانت تُعْتَبَر غنيمة باردة وذلك أنَّ أبا سفيان بن حرب كان على رأس قافلة؛ عِير، راجعة مِن الشام بتجارة عظيمة فيها ألف بَعِير، وليس فيها إلا مئة رجل فقط مِن الذين يجمعونها ويحرسونها، وكان شأن قريش أنَّها أهل تجارة يتاجرون في الصيف، رحلتهم الصيفية إلى بلاد الشام بما عندهم مِن البضائع التي يأخذونها مِن الجزيرة، كالجُلُود والسَّمْن والأقط وغير ذلك، ويذهبون بها إلى الشام ويرجعون بالحبوب وغير ذلك مما هو مِن إنتاج بلاد الشام، وكان عندهم رحلة أخرى إلى بلاد اليمن، وبلاد اليمن أرض خير وزراعة، ولم مكة تكن أرض فيها زرع، فقد كانوا يحتاجون إلى الحَبّ وما يُزْرَعُ خارجها، فيأتون بهذه التجارات صيفًا مِن الشام وشتاءً إلى اليمن، كما قال -تبارك وتعالى- : {لِإِيلافِ قُرَيْشٍ}[قريش:1]، {إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ}[قريش:2]، {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ}[قريش:3]، {الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ}[قريش:4]، الشاهد قد كان أبو سُفْيَان راجعًا بهذه التجارة العظيمة معه، وعَلِمَ بها النبي -صلوات الله والسلام عليه-، فقال لأصحابه أخرجوا لعل الله أنْ يُنْفِلْكُمُوهَا، أي يجعلها نفل لكم، والنَّفْل هو الغنيمة والفضل مِن الله -تبارك وتعالى-، فتؤخذ مِن أموال الكفار وترجع إلى المؤمنين، وقال النبي : «مَن كان ظَهْره حاضرًا فليخرج»، فخرج مع النبي ثلاثمائة وبضعة عشر رجلًا، معهم سبعين بَعِير فقط، معهم ثلاث فرسان، وكان هذه المجموعة تتعتقب أي البعير يعتقبه الأربعة والخمسة على بعيرٍ واحد، ذهب النبي إلى بَدْر وهذا مُلتَقَى مَن يأتي بالشام ثم ينحرف بعد ذلك يأتي بساحل البحر وينحرف بعد ذلك إلى مكة، المدينة أي أقرب نقطة هي بَدْر التي يكون فيها على الطريق؛ طريق الشام إلى مكة، نَزَل النبي عند بَدْر -صلوات الله والسلام عليه- وأَرْسَلَ عيونه ليستطلعوا الخَبَر؛ خَبَر العِير القادمة، أبو سُفْيَان عَلِمَ أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قد خَرَجَ للعير، فَصَنَعَ حِيْلَة وهي أنَّه أَرْسَل رَجُل مِن غِفَار إلى قريش يستنهضهم، ويقول لهم أُخْرِجُوا لاستنقاذ عيركم، وصُنْع شيئًا آخر وهو أنَّه ترك الطريق المعهودة للقوافل والتجارة وذَهَبَ بطريق أخرى بعيدة إلى ساحل البحر، لا يظن أنْ يُسَارَ بها، لمَّا وَصَلَ الخبر إلى قريش أنَّ النبي قد خَرَجَ لِمُلَاَقاة العِير وأنَّه سيأخذ تجارتهم، عند ذلك انتدبوا أنفسهم للخروج ولم يتركوا أحد إلا أنْ يخرج أو أنْ يجعل أحدًا مكانه، فخرجت قريش أي كما وصف الله -تبارك وتعالى- خرجت أي بطرًا وأَشَرَى؛ بحدها وحديدها، رجال أشداء أقوياء نحو ألف شخص، وخرجوا معهم أيضًا بقوتهم وعزتهم، ورأوا أنَّ أمر العدوان على تجارتهم أمر عظيم لا يمكن أنْ يسمحوا بحدوثه، ولابد أنْ يقفوا للنبي -صلوات الله والسلام عليه-.
لمَّا خرجوا على هذا النحو وأتوا إلى الملتقى التي يمكن أنْ يكون فيه النبي -صلى الله عليه وسلم-، حتى يستنقذوا قافلتهم، لمَّا بعد ذلك استطاع أبو سُفْيَان بأنْ يُفْلِت بالقافلة ويساحل بها جهات البحر وتبتعد عن الطريق، وبالتالي يُصْبِح الطلب؛ طلب النبي لها، طلب بعيد ما يستطيع أنْ يصلها المسلمون، أَرْسَلَ أبو سُفْيَان لقريش أنَّ العير قد نَجَت فالأفضل لكم أنْ ترجعوا، فقام أبو جهل وغيره قال والله لا نرجع، حتى نذهب إلى بدر ونَنْحَر الجُزُر ونشرب الخمر وتغنينا القِيَان ونَمْكُث في بَدْر ثلاثة أيام حتى تهابنا العرب كلها، ويسمع بنا العرب أننا نحن نحمي أموالنا ، حاول بعض الناس أنْ يُثْنُوهُ فلم ينثِن، وشجع الجميع وأتوا لما قدره الله -تبارك وتعالى- لهم مِن الأمر –سبحانه وتعالى-، النبي -صلى الله عليه وسلم- لما عَلِمَ أرسل النبي عيونه تستطلع الخبر، ينظروا متى تصل القافلة، فأرسل علي بن أبي طالب -رضي الله تعالى عنه- والمِقْدِاد وغيره مِن الصحابة، فوجدوا مجموعة مِن الرعيات أي خُدَّام القوافل والجيوش يستقون الماء، فأخذهم علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- وأتى بهم، وكان لمَّا أتى بهم إلى مُعَسْكَر النبي -صلى الله عليه وسلم- كان النبي قائمًا يُصَلِّي، فسألهم عَلِيّ بن أبي طالب لِمَن أنتما؟ فقالوا نحن لقريش، فظن أنهم يكذبان عليه فضربوهما ضربًا شديدًا حتى يعترفا، وقد كان الغالب على الظن بل يقين عندهم أنَّ هؤلاء إنما هم لأبي سُفْيَان ولكنهم يُعَمِّيَان الأمر، فلما ضرباهما قالوا نحن لأبي سُفْيَان أي تحت الضَّرب، لمَّا أَتَمَّ النبي صلاته فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- قال هم لقريش، ثم قال لهم عندما كذباكما ضربتماهما، وعندما صدقاكما تركتماهما وهما لقريش، ثم جاء النبي وسألهما، قال لهما كم القوم؟ فقالوا لا نأتي، قال لهم كم تذبحون؟ قالا نذبح كل يوم عشرة مِن الإبل، قالوا نَذْبَح نحن نذبح تسعة مِن الإبل وأحيانًا عشرة، قال النبي القوم بين التسعمائة والأف.
ثم إنَّ النبي لمَّا حَدَثَ هذا الأمر كان الله -تبارك وتعالى- قد أَوحَى إليه، وأخبره بأنَّ واحدة مِن هاتين الإثنتين هي للمسلمين، العير أو النَّفِير، العير هي لأبي سُفْيَان التي هي التجارة، والنَّفِير نفير قريش؛ جيشها، أي أنَّ الله -تبارك وتعالى- وعد النبي أنَّه سيغنمه واحدة مِن الأمر؛ العير أو النفير، فالنبي استشار أصحابه وقال لهم ما ترون الآن؟ أي ما خرجوا إليه وكان في نِيَّتهِم أنْ يدركوه وهو العِير قد فاتتهم، وهذه قريش قد جاءت بهذا العدد الكبير والمسلمون الذين خَرَجُوا لم يكونوا مستعدين لِلِقَاء هذا العَدَد ولم يَتَهَيَّؤا لذلك، وقد كان الرسول ترك مجموعة كبيرة جدًا مِن المسلمين لم يخرجوا معه، وإنَّما خرج معه أي مَن كان كما قال النبي : «مَن كان ظَهْره حاضرًا فليخرج»، عنده ما يركبه موجود، فَتَكَلَّم أبو بكر فأَحْسَن، وتَكَلَّم عمر وقام المِقْدَاد بن الأسود -رضي الله تعالى عنه- وقال يارسول الله : (والله لا نقول لك كما قالت بنوا إسرائيل لموسى، اذهب أنت وربك فقاتلا أي إنا ها هنا قاعدون، بل إذهب أنت وربك فقاتلا إنَّا معكما مقاتلون)، والنبي في كل هذا يقول أشيروا عَلَيَّ أيها الناس، فجاء سيد الأنصار سعد بن مُعَاذ -رضي الله تعالى عنه- فقال له كأنك تعنينا يا رسول الله، أي كل وقت تقول أشيروا عَلَيَّ أيها الناس، قد تكَلَمَّ أبو بكر وتَكَلَّم عمر وتَكَلَّم المِقْدَاد، فقال نَعَم أنتم الناس، أنتم الناس وذلك أنَّ عامة الجيش كان مِن الأنصار، وهذه أول مرة يخرج بهم النبي -صلوات الله عليه وسلم- في الغزو، لم يخرج بالأنصار قبل ذلك، كل الغزوات التي سبقت هذا مِن سَرَايا النبي كلها كانت سَرَايَا مِن المهاجرين، هذا أول مرة يخرج جيش مِن الأنصار، وقد يُظَن أنَّ الأنصار إنَّما بايعوا النبي على أنْ يحموه في المدينة فقط، ولا يقاتلوا معه عدوه في خارج المدينة، وذلك أنَّ النبي قد أخذ عليهم العهد، قال لهم إنْ أتيتكم هذا في بيعة العقبة الثانية، إنْ أتيتكم أي هاجرت إليكم وأتيتكم تحموني مما تحمون منه أنفسكم وزراريكم، وأُخَذَ عليه العهد في هذا، فرُبَّما فَهِمُوا مِن ذلك العهد أنهم يَحْمُونَ النبي في المدينة؛ في مكانهم، أمَّا أنْ يُقَاتِلُوا معه ويخرجوا معه إلى خارج المدينة ليقاتلوا عدوه فقد يكون لهم رأي في هذا، والآن هذه هي موقعة خارج المدينة، وقد كانوا كما ذكرنا هم عامة الجيش، كان المهاجرون عددهم بِضْع وسبعون رجلًا أي نحو ثمانين رجل والباقي كلهم كانوا مِن الأنصار، فلمَّا قال سعد بن مُعَاذ يا رسول الله كأنك تعنينا يا رسول الله، فقال النبي نَعَم أنتم الناس، فقام سعد بن مُعَاذ وخَطَبَ خُطْبته العظيمة، قال : (يا رسول الله فإنَّا قد آمنا بك وصَدَّقْنَاك، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا)، قال له نحن قد آمنا بك لأنَّك رسول الله وصَدَّقْنَاك وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا، (والله لو خُضْتَ بنا هذا البحر لَخُضْنَاهُ معك ما تَخلَّفَ مِنَّا رَجُل، ولو ذهب بنا إلى بَرك الغماد)، هذا كان جهة اليمن، ((لجالَدْنَا معك مِن دوننا))، أي كل منهم هم مِن الناسُ ما بيننا وبين بَرك الغماد مِن القبائل والأمم نحاربهم معك، ثم قال له قُم يا رسول الله لما أمرك الله أو لما أرادك الله، فلعل الله -تبارك وتعالى- أنَّ يُقِرَّ عينيك بنا غدًا، إنَّا والله لَصُدُق عن اللقاء، صُبُر في الحرب، قال له نحن صُبُر جمع صابر، أي نحن ناس أهل صُبْر في الحرب، صدق؛ نصدق عند اللقاء، الصدق في قتالنا وفي عهدنا معك، فالنبي سُرَّ بخطبة سعد هذه سرورًا عظيمًا.
وقام النبي -صلى الله عليه وسلم- وقال قوموا، فإنَّ الله قد وعدني إحدى الطائفتين، قال لهم ربنا وعدني واحدة يا إما العير وإما النفير، ثم إنِّ سعد أشار على النبي -صلى الله عليه وسلم- ألَّا يُبَاشَر القتال في هذه الموقعة بنفسه -صلوات الله عليه وسلم-، مِن باب اتخاذ الأسباب وأنَّ هذا رسول الله، لو أنه أصابه شيء في هذه الغزوة أول معركة مِن المعارك لانتهت، وأنَّ هؤلاء ليسوا كلهم هم أهل الإسلام، أهل الإسلام مازال هناك مِن المسلمين كُثُر في المدينة لم يخرجوا مع النبي -صلى الله عليه وسلم-، لأنَّ النبي كان متعجلًا في الخروج حتى يلحق بتلك العير، فقال له يا رسول الله نحن نكفيك القتال في هذه الموقعة ونبني لَك عريشًا تُشْرف به على القتال، تدير منه المعركة ولا تباشر بنفسك وتدخل بنفسك في المعركة، فَبُنِي للنبي عريش يطل على المعركة ثم نزل النبي -صلى الله عليه وسلم- فرتب الجيش، ووضع مِن على الميمنة في الميمنة ومِن على الميسرة في الميسرة , القلب المبارزون، رَتَّبَ أمر هذه وقبل هذا خرج النبي -صلى الله عليه وسلم- مبشرًا لهم وقال لهم هنا يُقْتَلُ هنا يُقْتَلُ فلان وهنا يقتل فلان وهنا يقتل فلان وهنا يقتل فلان ...، فأراهم المواقع التي سيلقى كل أحد مِن الكفار حَتْفه فيها، يقول ابن مسعود بعد نهاية المعركة يقول : (والله الذي لا إله إلا هو ما جاوز أحد مضجعه)، المكان الذي قال النبي أنَّه سيضجع فيه هذا الكافر هو المكان الذي أشار له النبي -صلوات الله والسلام عليه-.
بدأت الغزوة بـ ...، قريش أولًا كانت تنظر إلى المسلمين هؤلاء الذي خرجوا نظرة استصغار واحتقار، مَن هؤلاء الذين قد خرجوا لقتالهم، وكان هذا الغرور هو أيضًا مِن فِعْلِ الله -تبارك وتعالى- بهم لتكون الهزيمة، كما قال -تبارك وتعالى- : {وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ}، فيروا أنَّ هؤلاء المسلمين قلة وأنَّه مِن أول هَجْمَة سَيُوَلُّوا الأدبار، وكذلك الله -تبارك وتعالى- وَضَعَ الشجاعة والقوة في قلوب أهل الإيمان وكانوا يظنوا إلى هذا الجمع أنَّه قليل مع كثرته، كما قال -تبارك وتعالى- : {إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}[الأنفال:43]، {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ ........}[الأنفال:44]، فالمؤمنون رأوا أنَّ الكفار قليلي العدد ما هذا العدد الضخم الكثير اللي هو ضعفهم ثلاث أضعاف رأوا أنَّه قليل, فتشجع المؤمنون بهذا وهذه، والكفار رأوا أنَّ المؤمنين قِلَّة فاستهانوا بهم ولم يأخذوا للأمر عُدَّته وأُهْبَتَهُ فكانت الهزيمة، قلنا بدأت قريش في أول الأمر فأرسلت ثلاثة مِن مُقَاتِليها الأشداء الشجعان، شَيْبَة بن ربيعة وعُتْبَة بن ربيعة والوليد بن عتبة، أي أَخَوَان وابن أخ منهم، وهؤلاء مِن كَبَار القوم ليبارزوه، قالوا يا محمد أخرج لنا أكْفَائنا مِن قومنا، فخرج بعض الأنصار فلما رأوهم قالوا مَن؟ قالوا مِن الأنصار، فقالوا أنتم أكفاء كرام لكن لا نريدكم نريد أكفائنا مِن قريش مِن هؤلاء الذي خرجوا، فأخرج النبي لهم حمزة بن عبد المطلب -رضي الله تعالى عنه- وعُبَيْد بن الحارث وعلي بن أبي طالب -رضي الله تعالى عنه-، فأمَّا علي فإنَّه قَابَل الوليد بن عُتْبَة ولم يمهله فقتله، وكذلك حمزة -رضي الله تعالى عنه- قابل عتبة بن ربيعة فلم يمهله كذلك وقتله، وأما شيبة اختلف هو وعبيدة ضربتين فجائت الضربة في يد عبيدة بن الحارث فكسرت رجله، ثم إنَّ حمزة وعلي كَرَّا على شيبة فقتلاه، فأصبحت نهاية هذه المبارزة أنْ قُتِلَ ثلاثة، الثلاثة الذين خرجوا مِن الكفار للمبارزة قتلوا جميعًا، ولم يقتل مِن المسلمين أحد وإنَّما أُصِيبَ رجلًا واحد من الثلاثة، فَكَبَّرَ المسلمون تكبيرًا عظيمًا.
النبي -صلى الله عليه وسلم- أَخَذَ حفْنَة مِن التراب بالأرض، ثم ألقاها في وجوه القوم فلم تترك أحد مِن هؤلاء الألف إلَّا ودخل شيء منها في عينيه، فكان هذا نوع مِن إشارة النصر مِن الله -تبارك وتعالى- والكرامة العظيمة والمعجزة، والضربة التي تكون تؤدي إلى كَسْرِ النفوس، هذه كسر نفوس الكفار وكذا وكذا، إذ بحفنة مِن التراب يلقيها النبي -صلى الله عليه وسلم- ، وفيها نَزَلَ قول الله -تبارك وتعالى- : {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَنًا}، أَثَّرَت هذه الغزوة في النهاية لمَّا هَجَمَ المسلمون على الكفار وقامت المعركة لم يَصْمُد الكفار في مواقعهم شيء، حتى قال أحدهم كيف هُزمتوا؟! قال والله ما رأينا إلا أن التقينا مع القوم إلا وأعطيناهم أكتافنا وظهورنا، يقول ما كدنا أننا نحن نلتقي بهم إلا ورأينا وأننا قد أعطينا للقوم ظهورنا وأكتافنا وولينا الأدبار، عند ذلك أسر المسلمون، قتل المسلمون منهم سبعون ثم بدأ المسلمون يأسرون، سعد بن عبادة -رضي الله تعالى عنه- كان في العريش مع النبي -صلوات الله عليه وسلم- هو وأبو بكر الصديق -رضي الله تعالى عنه-، وفيه أمر لم نذكره ينبغي أنْ نذكره لأنه سيتعلق أيضًا بالآيات أي نزل فيه الآيات، وهو أنَّ النبي قبل الغزوة قام يدعو ويناشد ربه ويدعوه ويقول (أي رب إنْ تَهْلِك هذه العصابة لا تعبد في الأرض)، هؤلاء هم أهل الإيمان، وظل يدعو ويُنَاشِد ربه -سبحانه وتعالى- ويقول يا رب نصرك الذي وعدتني، نصرك الذي وعدتني، فيطلب مِن الله -تبارك وتعالى- نصره ويقول ربي إنْ تهلك هذه العصابة، إذا هلكت هذه العصابة أي فلن تعبد في الأرض بعد اليوم، ومِن رفعه يديه -صلوات الله عليه وسلم- لمَّا سَقَطَ ردائه عن يديه وهو يدعو الله -تبارك وتعالى-، فجاء أبو بكر -رضي الله تعالى عنه- فوضع الرداء على كتف النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقال له يا رسول الله بعض مناشدتك ربك إنه مُنْجِز لك ما وعدك، أي مشفق على النبي -صلى الله عليه وسلم- من إجتهاده وإلحاحه في الدعاء، وأنَّ الله -تبارك وتعالى- لابد أنْ ينجز وعده لرسوله -صلى الله عليه وسلم-، ثم بعد هذا الدعاء قال القوم المقالة التي قولناها آلفًا أنه قال لهم ( قوموا وأبشروا فإنَّ الله قد وعدني إحدى الطائفتين).
نقول انتهت هذه المعركة بهذا النصر المبين لأهل الإيمان، قُتِلَ سبعون من الكفار وأسر المسلمون سبعون، وفي أثناء الأسر رأى سعد إبن عبادة المسلمين وهم يأسرون فتألم، ورأى النبي في وجهه الكراهية فقاله كأني أرى في وجهك الكراهية لمِا يفعله القوم مِن الأسر، فقال يا رسول الله هذي أول معركة أوقع الله -تبارك وتعالى- فيه بالكفار، قال له القتل أحب إليَّ مِن إستبقاء الرجال، قاله القتل الآن أولى مِن أنْ نأسر رجالًا هذا وقت القتل، وقد جاء القرآن أن هذا هو الذي كان ينبغي وأنما الأسر إنما هو خلاف الأَوْلَى، كما قال –تبارك وتعالى- وسيأتي في السورة : {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}[الأنفال:67]، {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}[الأنفال:68]، {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[الأنفال:69].
هذه مقدمة لهذه السورة، والمقصود هو بيان أهم الأحداث التي كانت في هذه الغزوة؛ غزوة بدر، التي كانت نصرًا عظيمًا وفرقانًا عظيمًا وترتبت عليها أمور عظيمة ووقعت فيها أمور كثيرة، أَنْزَلَ الله -تبارك وتعالى- فيها هذا القرآن عظة وتذكير وبيان، نشرع -إنْ شاء الله- مع تفسير آيات الله -تبارك وتعالى- في هذه الغزوة، في الحلقة الآتية -إنْ شاء الله-، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم مِن كل ذنب، وصلى الله على عبده ورسوله محمد.