الخميس 20 جمادى الأولى 1446 . 21 نوفمبر 2024

الحلقة (218) - سورة الأنفال 1-4

الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على عبده والرسول الأمين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومَن اهتدى بهداه إلى يوم الدين.

وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- بسم الله الرحمن الرحيم، : {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ}[الأنفال:1]، {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}[الأنفال:2]، {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ}[الأنفال:3]، {أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}[الأنفال:4]، سورة الأنفال سورةٌ مَدَنِيَّة وقد نَزَلَت بعد بَدْر، وقد كانت بَدْر في السنة الثانية مِن هجرة النبي -صلوات الله والسلام عليه- في رمضان منها، وهذه الغزوة قد شرحنا أهم الأحداث التي فيها في الحلقة الماضية، لنكون في جو وفي معاني هذه الآيات، بَدَأ الله -تبارك وتعالى- هذه السورة بقوله -تبارك وتعالى- : {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ}، والأنفال هي الغَنَائِم، وقد جاء {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ}، وقد كان السؤال في كيف تُوَزَّعُ هذه الغنائم؟ وقد جاء في السيرة أنَّ أصحاب النبي -صلوات الله والسلام عليه- قد اختلفوا فيها، وذلك أنهم في بَدْر كانوا على ثلاثة أنحاء، قِسْمٌ كان في قِتَال القوم وقِسْمٌ اهْتمَّ بالأَسْرَى وجَمْع الغنائم وقِسْمٌ كان في ظَهْرِ الجيش وحراسته وحماية النبي -صلى الله عليه وسلم-، فظن الذين جمعوا الغنائم أنهم أَوْلَى بها لأنهم هم الذين حازوها وأخذوها، وقال الآخرون لَسْتُم بأَحَقَّ بها مِنَّا، فإنَّ الذين قاتلوا هم الذي أَبْلَوا وكذلك الذين قاموا بالحِرَاسَة وبحماية ظُهُور القوم قد كانوا كذلك في المعركة، لمَّا كان هناك خِلَاف حَوْلَ الغنائم فإنَّ الله -تبارك وتعالى- أخبرهم أولًا أنَّ هذه الأمر فيها إنما هو لله ولرسوله -صلى الله عليه وسلم-، {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ}، سُمِّيَت الغنائم أنفال وذلك أنَّها مِن الزيادة، فإنَّ المُقَاتِل في سبيل الله ينالُ فضلًا كثيرًا مِن الله -تبارك وتعالى- الأجر والمثوبة، لو نال الشهادة فقد نال أَعْظَمَ الجوائز، ثم إنَّ هذه الغنيمة زيادة على الأجر والمَثُوْبَة التي ينالها المُقَاتِل في سبيل الله، {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ}، الأنفال لله والرسول، لله الحُكْم فيها -سبحانه وتعالى- فَمَرَدُّ هذا الأمر إلى الله -جلَّ وعَلا-، فاللهُ هو الذي يَصْرِفُهَا ويجعلها حيث يشاء -سبحانه وتعالى-، وقد جاء بأنَّ الغنائم تُقَسَّم خَمس أقسام خُمس لخِمْسَة مَصَارِف، والأربع أخماس الباقية في المحاربين، وسيأتي هذا في قول الله -تبارك وتعالى- : {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ ........}[الأنفال:41]، كذلك هذا في ما يَغْنَمُهُ المسلمون فيما يكون فيه تحريك للخيل والرِّكَاب، أمَّا ما أخذه المسلمون بغير إيجافِ خَيْل ولا رِكَاب فإنَّ هذا كله يكون ممَّا أَفَاء الله -تبارك وتعالى- ولرسوله، ويُصْرَف مصارف أي الخمس التي هي خمس الغنائم، ثم هناك الأنفال كذلك وهو ما يُنَفِّله النبي -صلى الله عليه وسلم- لمِنَ يشاء أو مَن يقوم مقام النبي في إمارة الجيش، فله أنْ يصطفي شيء مِن الغنيمة ويُنَفِّله بعض المحاربين، إمَّا بسبق لهم وإمَّا بمجهود وجُهْد إضافي لهم فتكون بِمَثَابة الجائزة، ومِن هذا قال بعض أهل العلم بالتفسير {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ}،التي هي هذه ما يصطفيه الإمام ويعطيه بعض أفراد الجيش زيادة على حصته وعلى نصيبه مِن الغنيمة، والصحيح أنَّ الأنفال هنا إنما هو السؤال عن الغنائم كلها وذلك أنها هي التي وقع فيها الخِلَاف، وكانت هذه أول غزوة يَغْنَمُ فيها المسلمون هذه الغنيمة الكبيرة، أول غنيمة كبيرة غنمها المسلمون في هذه الغزوة؛ غزوة بَدْر.

{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ}، قال -جلَّ وعَلا- : {قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ}، اتقوا الله؛ خافوه -سبحانه وتعالى- ورَاقِبوه، وتقوى الله -تبارك وتعالى- إنما تكون بفعل ما يأمر به والانتهاء عما ينهى عنه -سبحانه وتعالى- وتعظيم أمره -جلَّ وعَلا-، وفعل هذا خوفًا مِن عقوبته -سبحانه وتعالى- ورجاءً في جنته، {فَاتَّقُوا اللَّهَ}، اجعلوا بينكم وبين عقوبة الله وِقَايَة، {وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ}، لا تختلفوا، وإصلاح ذات البَيْن أي المَوَدَّة والمَحَبَّة والنُّصْرة الواجبة بَيْنَ المسلمين وإزالة كل ما يُسَبِّب هذا الخِلَاف، ولمَّا كان هذا أمر الغنيمة مما سَبَّبَ خِلَافًا فإنَّ الله -تبارك وتعالى- أمرهم بإزالة هذا، وأرجع الأمر في الحُكْم في هذه الغنائم لله -تبارك وتعالى- هو الذي يحكم فيها، ويضعها النبي -صلى الله عليه وسلم- حيث شاء وإنَّما النبي قَاسِم، إنما النبي قَاسِم أرسله الله -تبارك وتعالى- قاسِمًا يَقْسِمُ بالحق وبالسَّوية، ويضع هذا المال حيث يشاء -صلوات الله والسلام عليه-، {........ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ}[الأنفال:1]، أمرٌ بطاعة الله -تبارك وتعالى- ورسوله، {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ}، استجيبوا لأمره، الالتزام بما يأمركم به الله ورسوله، َعَطَف الرسول على الله -تبارك وتعالى- لأنَّ أَمْر النبي هو مِن أَمْرِ الله -تبارك وتعالى-  مَن يُطِعِ الرَّسُول فقد أطاع الله، فالطاعة إنما هي لله ولرسوله، {إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ}، هذا حَضّ وتأكيد، أي إنْ كنت مؤمنًا فافعل هذا، أي إنْ كنت مؤمنًا حقًا فيجب أنْ تُطِيع الله ورسوله وأنْ تتقيه -سبحانه وتعالى-، {إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ}، وهذا فيه حض وحث على التزام هذه الأوامر، تقوى الله -تبارك وتعالى- وإصلاح ذات البَيْن وطاعة الله ورسوله، {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ}، أي إنْ كنتم مؤمنين فافعلوا هذا، مفهوم المخالفة أي أنَّ مَن لم يستجب هذا لم يكن مِن المؤمنين الممدوحين بمدح الإيمان باللفظ العام.

ثم بيَّن الله -تبارك وتعالى- المؤمنون على الحقيقة الممدوحون فقال : {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}[الأنفال:2]، {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ}[الأنفال:3]، {أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}[الأنفال:4]، لمَّا جاء مُسَمَّى الإيمان وأنَّ الإيمان هو البَاعِث على طاعة الله -تبارك وتعالى- وطاعة رسوله، فبيَّن الله -تبارك وتعالى- حقيقة المؤمن، المؤمن الحق الممدوح عند الله -تبارك وتعالى- الذي يستحق هذه الصفة الشريفة الكريمة و إذا أُطْلِق عليه مُسَمَّى الإيمان يكون كذلك، فقال الله -تبارك وتعالى- : {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ}، بالحصر، {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ}، إذا ذُكِرَ الله بالبناء لِما لم يُسمَ فاعله، إذا جاء ذِكْرُ الله -تبارك وتعالى- سواء مِن الرَّب الإله نفسه أو مِن رسوله أو جاء اسم الله -تبارك وتعالى- وَجِلَت قلوبهم، الوَجَل؛ الخوف مع التعظيم، وَجِلَت قلوبهم؛ خافت أشد الخوف عَظَّمَت أمر الرَّب -تبارك وتعالى-، ونَسَبَ هذا الفعل إلى القلب لأنَّ القلب هو سُلطان الإنسان وهو مَرْكَز القرار وهو محل الفَهْم فيخاف قلبه، وإذا خاف قلبه مِن الله -تبارك وتعالى- وَجِلَ قلبه لاشك أنه الأعضاء؛ كل أعضائه إنما هم تَبَع لهذا القلب، قال : {وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ}، فيأتي الشعور بالخوف الحقيقي ليس فقط ما يَظْهَرُ على أعضائهم بل هذا مِن مركز القَرَار مِن القلب، {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا}، {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ}، التِّلَاوة؛ القراءة، إذا قُرِئت عليهم آيات الله -تبارك وتعالى-؛ آياته هذه المنزلة، {زَادَتْهُمْ إِيمَانًا}، زادتهم إيمانًا لأنَّ كل آية تنزل فيها أَمْر أو نَهْي أو خَبَر، إذا فَعَل بمقتضى هذا الأمر أو النَّهْي أو الخَبَر فَصَدَّق فازداد إيمان بالتصديق، التزم الأمر هذا زيادة إيمان لأنَّ هذا عمل قلبي ثم يكون عَمَل على الجوارح، وكذلك نَهْي انتهى عما نَهَى الله -تبارك وتعالى-، وكل أمر وكل نهي إنما فيه أولًا في جانب اعتقادي وهو التصديق، والإقرار بأنَّ هذا مِن الله -تبارك وتعالى-، ثم الاستجابة والإذعان لهذا الأمر ما في رفض له، فيكون هذا كله عَمَل قلبي ثم بعد ذلك عمل الجوارح، ثم التصديق إذا كان هذا مجرد خَبَر، إخبار مِن الله -تبارك وتعالى- فَصَدَّقَ به العبد كل هذا به يزداد إيمان، فمقتضى العمل بآيات الله -تبارك وتعالى- هذه هي زيادة الإيمان، زيادة الإيمان الذي يَحْصُل في القلب وكذلك يَحْصُل في العمل بكل جديد ينزله الله -تبارك وتعالى- عليه.

{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا ........}[الأنفال:2]، بالاستجابة والإيمان والمحبة والإقرار والإذعان والعمل بهذه الآيات، {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}، وعلى ربهم لا على غيره، {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}، والتوكل هو تفويض الأمر وإيْكَالِه للرَّب -سبحانه وتعالى-، والتوكل على الله هذا معناه، هذا كله بعد بذل بالأسباب، بعد بذل الأسباب فإنَّ كل أمرٍ يُرَاد الوصول إليه يجب أنْ يبذل العبد الأسباب الموصلة إلى هذا الأمر ثم يَكِلُ نتائج هذا إلى الله -تبارك وتعالى-، وهذا في كل شئون العبد، شئونه الدنيوية وشئونه الأخروية، ففي شأنه مثلًا في القتال الواجب على المسلمين أنْ يبذلوا ما أَمَرَهُم الله -تبارك وتعالى- به مِن عزيمة القتال، مِن أخذ العدة، مِن أخذ العتاد، مِن البَذْل، مِن الحِيْطَة، مِن الحَذَرِ، مِن كل ما هو مُتَطلَّبات القِتَال المَادِيَّة، ثم بعد ذلك يُسلمون أمرهم إلى الله -تبارك وتعالى- في أنَّ الله هو ناصرهم، هو مؤيدهم، هو مُتَوَلِّي شئونهم -سبحانه وتعالى-، وهكذا القتال كنموذج في سائر شئون العبد هذا توكلهم على الله -تبارك وتعالى-، في أي شأن مِن شئون الدنيا يكون أو الرزق مثلًا؛ رزق العبد، فإنَّ العبد المطلوب منه أنْ يبذل الأسباب الموصلة إلى الرزق مِن السَّعْيِ والكَدِّ والكَدْحِ والجد في هذا الأمر وطلبه، ثم يُسلم بعد ذلك في أمر النتائج الأمر إلى الله -تبارك وتعالى- فإنِّ نتائج هذا الفعل إلى الله، وهكذا في كل الشئون، فهذا معنى التَّوَكُل {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}، أي لا يتوكلون على غيره، على ربِّهم للحصر، تقديم على ربهم يتوكلون ما قال يتوكلون على الله لأنَّ إذا قيل يتوكلون على الله فإنَّهُ في الُّلغَة لا ينفي أنْ يكون التَّوَكُل على الله ويتوكلون على غيره، لكن على ربهم يتوكلون؛ على الله يتوكلون، فإنَّ هذا معناه أنَّهم يتوكلون عليه ولا يتوكلون على غيره، فتفويضهم الأمر كله لله -تبارك وتعالى- لأنَّهم يعتقدون أنَّ الله -سبحانه وتعالى- هو مَلِكُ السماوات والأرض -سبحانه وتعالى-، وهو الذي بيده مَقَالَيد السماوات والأرض وإليه الأمر كله -سبحانه وتعالى-، {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}، هذه الصفات الثلاثة التي جاءت في هذه الآيات كلها أعمال قلبية، {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}[الأنفال:2]، هذه ثلاث صفات كلها مِن أعمال القلوب.

ثم قال -تبارك وتعالى- : {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ}[الأنفال:3]، فأتى في هذه الآية بصفتين -سبحانه وتعالى- وكلها مِن الأعمال الظاهرية، {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ ........}[الأنفال:3]، والإقامة؛ التعديل، وجَعْل الشيء قائمًا أي مستقيمًا ضد العَوَج، فيقيمون الصلاة يعني يصلون الصلاة قائمة، والصلاة المستقيمة القائمة هي الصلاة التي يُؤْتَى بها على وجهها كما شرعها الله -تبارك وتعالى-، بمستلزمات هذه الصلاة مِن أركانها وشرائطها، فمِن شروطها مثلًا الطهارة وسَتْر العورة واستقبال القِبْلَة وإخلاص النية لله -تبارك وتعالى-، مِن أركانها أنْ تُؤَدَّى على النحو الذي بيَّنه النبي -صلوات الله عليه وسلم-، مِن قيامٍ لها، مِن القراءة، قراءة الفاتحة، الركوع مع الاطمئنان، الاعتدال مع الاطمئنان، الجلوس، السجود مع الاطمئنان بِهَيْئة السَّجُود، أمرنا أنْ نسجد على سبعة أعظم، الجلوس بين السجدتين، أذكارها على النحو الذي بيَّنه النبي -صلوات الله والسلام عليه-، هذه الصلاة المستقيمة، فيقيمون الصلاة أي يؤدونها على وجهها أي الحَسَن الأكمل كما شُرِعَت بشرائطها وبأركانها، فهذه هي الصلاة القائمة، أمَّا إذا نَقَصَ مِن هذه الصلاة ما يُبْطلها فلا تكون إقامة للصلاة، كما جاء ذلك الرجل الذي صلى صلاةً ثم أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فسَلَّم عليه فقال له النبي ارجع فَصَلِ فإنك لم تُصَلِ، فَنَفَى النبي صلاته بالكلية، مرة ثانية وثالثة وكلٌ يقول له النبي ارجع فصلِّ فإنك لم تُصَلِّ، فقال والذي بَعَثَكَ بالحق لا أحسن غير هذا، هذا التي أحسنها؛ أي أعرفها فعَلَّمْنِي، فقال له النبي إذا قمت إلى الصلاة فَكَبِّر ثم اقرأ فاتحة الكتاب ثم اركع حتى تَطْمَئِّنَ راكعًا، ثم ارفع حتى تَعْتَدِل قائمًا، ثم اسْجُد حتى تَطْمَئِّن سَاجدًا، ثم اجْلِس حتى تَطْمَئِّن جالسًا، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها، افعل ذلك أي هذه الأركان وبهذه الطَّمَأْنِينَة؛ اطْمَئِّن فيها، والطَّمَأْنِينَة هو أنَّ الأعضاء تَسْتَقِّر بِحَسَب هيئة الرُّكْن، فهيئة القيام يجب أنْ تكون تامة، لا يقوم الإنسان قبل أنْ يقوم يركع، وكذلك الركوع يجب أنْ يكون تامًا، فيجب أنْ يركع ويطمئن في الركوع، وليس قبل أنْ تستقر أعضائه في الركوع يعتدل مِن الرُّكٌوع، وكذلك إذا قام مِن الركوع يجب أنْ يَرْجِع كل عَظْم مِن عظام ظَهْرِهِ مِن فِقَار ظَهْرِهِ إلى مكانه، كما قال النبي -صلوات الله والسلام عليه- : «لا يَنْظر الله إلا صلاة عبد لا يقيم صلبه مِن الركوع»، فلابد أنْ يُقِيم الصُّلْب، الصُّلْب هو عِظَام الظَّهْر مِن الرُّكُوع، رَكَعَ لابد أنْ يقول سَمِعَ الله لِمَن حمده ثم يعتدل حتى يصبح قائمًا، وتعود فِقَار ظَهْرِه كل فِقْرَة مِن فِقَار الظَّهْرِ إلى مكانها، أمَّا إذا سَجَدَ أي قام مِن الرُّكُوع ثم لم يعتدل قائمًا وسَجَدَ قبل أنْ يعتدل قائمًا فإنَّه قد أَبْطَلَ رُكْنًا مِن هذه الأركان، الشاهد أنَّ قول الله -تبارك وتعالى- : {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ ........}[الأنفال:3]، أي أنهم يؤدونها قائمة، نِيَّتُها، إخلاصها، خشوعها، شروطها، أركانها، هيئاتها، فهذه هي إقامة الصلاة.

ثم قال -جلَّ وعَلا- : {........ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ}[الأنفال:3]، مِمَّا؛ مِن ما، مِن الذي، مَا هُنَا موصولة مِن الذي رزقناهم ينفقون، ومِن للِتَّبْعِيض، ورزقناهم؛ الرِّزْق كل ما يعطيه الله -تبارك وتعالى- للإنسان مما ينتفع به في هذه الحياة، فكل ما ينتفع به في الحياة رزق، الطعام واللباس والكساء كل ما السكن وكل ما يُنْتَفع به في هذه رِزْق، فمما رزقناهم؛ مِن الذي أعطاهم الله -تبارك وتعالى- ورزقهم مِن منافع هذه الدنيا ينفقون، الإنفاق هو الإخراج، يخرجون جزءًا مِن هذا، وقد جاء هذا مُبَيَّن بمقاديره في الزكاة المفروضة، وأمَّا الصَّدَقَة أي صَدَقِة النَّفْل فإنَّه لا حَدَّ لها، {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ}، كل ما فَضَلَ عن حاجة العبد فله أنْ ينفقها، {........ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ}[الأنفال:3]، أصبحت أننا عندنا هنا خمس صفات، ثلاثة مِن أعمال القلوب واثنين هنا مِن أعمال الجوارح.

قال -جلَّ وعَلا- : {أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا}، أولئك؛ الإشارة إلى هؤلاء المؤمنين الذين يتصفون بهذه الصفات مِن أعمال القلوب، {........ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}[الأنفال:2]، {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ}[الأنفال:3]، أولئك المتصفون بهذه الصفات {هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا}، هذا هو المؤمن على الحقيقة، مفهوم هذا أنَّ مَن لم يؤدِ هذا لم يكن مؤمنًا على الحقيقة، إمَّا مؤمن على الزَّيْف والكَذِب كما الشأن في المنافقين، فإنَّ المنافقين ليس عندهم شيءٌ مِن أعمال هذه القلوب بل يقوم في قلوبهم ما يضادها، فإنهم يخادعون الله ورسوله ويكذبون ويقولون نحن مِن أهل الإيمان ولَسْنَا مِن أهل الإيمان، أو أنْ يكون هناك كذلك ممن يَزْعُم الإيمان لكن لم يقم بهذا العمل، ليس مِن أهل الصلاة ولا مِن أهل الصَّدَقَة فهو كذلك كاذبٌ في دعوى الإيمان، وإنْ كان كَذِبُه أقَلّ وأهْون مِن كَذِب المنافق الراد لخبر الله -تبارك وتعالى-، لكن جاء في معتقد أهل السنة والجماعة أنَّ الذي يقول بِلِسَانه أنَّه مؤمن وقلبي مُقِرٌ بهذا ولكنه لا يعمل شيئًا مِن العَمَل فإنَّ هذا كاذب كذلك، وشأنه شأن الكافر في دعوى الإيمان، {أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا}، الذين أتوا بهذه الصفات، ثم قال -جلَّ وعَلا- مادحًا لهم، قال : {........ لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}[الأنفال:4]، لهم؛ لهؤلاء المؤمنين، درجات؛ الدرجة هي المَنْزِلَة، وهذه المنزلة في العُلُوِّ، كل منزلة في العُلُوِّ فهي درجة، وكل منزلة في السُّفُل فهي دَرَكَة، فمثلًا النار دَرَكَات لأنها مَنْزِلَة أنزل مِن أختها، أشد نزولًا مِن أُخْتِهَا وهكذا، وأمَّا الجنة فدرجات، كما قال النبي : «الجنَّة مئة درجة، ما بين الدرجة والدرجة كما بين السماء والأرض»، بين الدرجة ومَن أعلى منها، وتفاضل المؤمنين في الدرجات لتفاضل أعمالهم، لمَّا تفاضلت أعمالهم فإنَّ الله -تبارك وتعالى- كذلك فضلهم في درجاتهم، فإنه مَن كان مِن أهل الجِهَاد والبَذْل والتضحية وقيام الليل والمسارعة في الخيرات ليس كمَن اكتفى بالواجبات، فإنَّ مَن اقتصر على الواجبات و انتهى عن المحرمات لا يكون كَمَن له باعٌ عظيم ومُسَارَعةٌ عظيمةٌ في الخيرات، وقد قال النبي -صلوات الله والسلام عليه- : «الإيمان بِضْعٌ وسِتُّونَ شُعْبَة، بِضْعٌ وسَبْعُونَ شُعْبَة عليها قول لا إله إلا الله، وأَدْنَاه إماطة الأذى عن الطريق، والحياءُ شُعْبَة مِن الإيمان»، فالقائمون بِشُعَب الإيمان كثيرًا كلما كان الإنسان أكثر قيامًا بِشُعَب الإيمان وأكثر خوفًا مِن الله -تبارك وتعالى- كلما عَلَت درجته في الجنة.

{لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ}، منازل في الجنة، {وَمَغْفِرَةٌ}، لذنوبهم، مغفرة لذنوبهم بمعنى أنَّ الله -تبارك وتعالى- يسترها، إمَّا أنَّه يسترها فلا يحاسبهم عليها -سبحانه وتعالى-، يسامحهم بها مسامحة، لا يؤاخذهم بالذنوب التي صَدَرَت منهم، فَيُغَطِّيهَا ويسترها عن العباد وكذلك لا يحاسبهم عليها -سبحانه وتعالى-، ولا يفضحهم بها، {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}، في الجنَّةِ، رِزْق، مَتَاع، عَطَاء منه -سبحانه وتعالى-، وهذا الرِّزْق شامل كل أنواع المُتَع واللذائذ التي خلقها الله –تبارك وتعالى- وأَعَدَّهَا لأهل الجنة، كما جاء في الحديث، الحديث القدسي، الحديث الإلهي : «أَعْدَدتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِين ما لا عَيْنٌ رَأَت ولا أُذُنٌ سَمِعَت ولا خَطَرَ على قلبِ بَشَر»، هذا زيادة على ما ذكره الله -تبارك وتعالى- مما ذكره مما في الجنة، مما له مثيل في هذه الدنيا مِن الزوجات الطيبات الصالحات التي قد خُلِقْن مِن مَواد لا يعرفها الناس في هذه الأرض، إنَّما حورٌ عين كأمثال اللؤلؤ المكنون، ومِن أنواع الأطعمة والأشربة والملابس والأواني والزخارف والمفارش وهذا ما ذَخَرَهُ الله -تبارك وتعالى- في الجنة، مما قد يكون له شبيه في هذه الدنيا، ولكن ما ذُكِرَ لنا في الأرض وما ذُكِرَ في الجنة ما في إلا الأسماء، فقول الله {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ}[الرحمن:68]، ليست الفاكهة كالفاكهة ولا النخل كالنخل ولا الرمان كالرمان لا شك، {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}، لذلك الله قال رزق كريم، كريم أي نفيس، نفيس هذا رزق الآخرة، رزق الدنيا يمكن أنْ يُسَمَّى رزق كريم ومقام كريم، نَفِيس مِن هذه الزينة والمتاع الذي أوجده الله -تبارك وتعالى- هنا، لكن ليس تسمية رزق الدنيا مثلًا بأنَّه رزق كريم ورزق الآخرة بأنَّه رزق كريم ليس هذا كهذا، أي شَتَّان بين ما أعده الله -تبارك وتعالى- في الجنة لأوليائه وبين ما أعطاه الله -تبارك وتعالى- في الدنيا لعباده في هذه الدنيا، {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}، نَفِيس جِدًا في الجنة لا يَفْنَى ولا يبيد، فمثلًا في الطعام ليست له آثاره كالذي يكون في الدنيا كطعام الدنيا، وكذلك اللباس لا يَبْلى فهو رزق كريم بكل معاني الكرم، {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}، هذا رزقهم في الجنة، نسأل الله -تبارك وتعالى- أنْ يجعلنا من هؤلاء.

نقف هنا ونُكْمِل -إنْ شاء الله- في الحلقة الآتية، أستغفر الله لي ولكم مِن كل ذنب، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد.