الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على عبد الله والرسول
الأمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، وعمل بسنته إلى يوم الدين.
إخواني الكرام يقول الله -تبارك وتعالى- {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ
اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ}[البقرة:51]،
{ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ
لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}[البقرة:52]، {وَإِذْ
آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}[البقرة:53]، يذكِّر الله -تبارك وتعالى- بني إسرائيل نعمته على
آبائهم، وما كان من شأنهم بعد كل نعمة من هذه النعم، يقول -جل وعلا- {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى}، أي اذكروا يا بني إسرائيل،
إذ واعدنا موسى أربعين ليلة، واعده الله -تبارك وتعالى- أربعين ليلة ليُنزل عليه التوراة،
وليعلمه إياها، وكذلك هذه فرصة لتلقي والترقي وتربية القائد، الذي يقود الأمة
ويعلمها.
{ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ
مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ}، وقد فصل الله --تبارك وتعالى-- أمر
ذلك في آيات أخر، وأن موسى عندما ترك بني إسرائيل لميعاد الله -تبارك وتعالى- خلّف
عليهم أخاه هارون، الذي نبأه الله -تبارك وتعالى- معه، كما قال -تبارك وتعالى- {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا
بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ
هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ
الْمُفْسِدِينَ}[الأعراف:142]، وأخبر الله -تبارك وتعالى- بأنه بعد أن ذهب موسى وبقي
هارون قائدًا وإمامًا في بني إسرائيل، جاء رجل منهم؛ وهو السامري، فرأى أثر من أثر
جبريل، عندما جاءهم يقودهم في رحلتهم من مصر إلى سيناء عبر البحر، أخذ أثر من أثر
جبريل، وكان بنو إسرائيل قد أمرهم موسى أن يلقوا بالذهب الذي سلبوه من المصريين
عند خروجهم، وذلك أنهم بنو إسرائيل طلبوا عندما علموا أنهم سيخرجون من أرض مصر، طلبوا
من المصريين على وجه الإعارة، كانت المرأة اليهودية تطلب من المصرية ذهبها إعارة،
ثم لما أعاروهم إياه أخذوه معهم، من باب نوع من السلب والإغاظة، فلما علم موسى
بهذا بعد أن خرجوا، قال لهم إنه لا يحل لكم فألقوه، فألقوا ما أخذوه من هذا الذهب،
ورأه السامري فجمعه، ووضعه ليسبكه، وجاءته فكرة في أن يخرج منه تمثال ونصب، قال -تبارك
وتعالى- {قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ
بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ
فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ}[طه:87]، {فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا
جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ ................}[طه:88]، أخذ الأثر الذي أخذه من أثر جبريل، وسولت له نفسه أن يلقيه في هذا الذهب،
الذي كان يسبكه في جفنته، وصنع منه التمثال، فبقدرة من الله -تبارك وتعالى- واختبار
لهم، تحول هذا التمثال الذهبي إلى عجل حقيقي، جسد، قال الله {فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا}، والجسد لا يطلق إلا على الجسم الحي، {لَهُ خُوَارٌ}، فلما رأوه أمامهم على هذا النحو؛ عجل ذهبي
يتحرك، {فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى
فَنَسِيَ}، اتخذوا العجل؛ المراد اتخذوه إلهًا، اتخذتم العجل أي إله، {فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ}،
نسي موسى أن ربه ها هنا، وذهب يطلبه في الجبل، وهذا من عظيم جهلهم، وفرط كفرهم،
بالله -تبارك وتعالى-.
{ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ
مِنْ بَعْدِهِ}، من بعد موسى إذ ذهب
ليخاطب ربه، وليناجي ربه -تبارك وتعالى-، وتنزل عليه أحكام التوراة، فمن بعد موسى اتخذوا
هذا العجل، اتخذوه إلهًا، وطبعًا حذف المفعول به الاتخاذ هنا، اتخذتهم العجل -المفعول
الثاني- إلهًا، حذف لفظاعته ولقباحته، ثم الأمر معروف، فقد اتخذوه إلهًا يعبدونه
من دون الله، {فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ
مُوسَى فَنَسِيَ}، {ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ
مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ}، والحال وأنتم ظالمون؛ هذا أكبر
الظلم، لأن العبادة عبادة الله، التي هي أشرف الأعمال، بدل من أن تعطى لله -تبارك
وتعالى- أعطيت لمخلوق، لعجل! ظنوه هو الرب الإله، خالق السموات والأرض، ولذلك قال
لهم موسى {أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ
قَوْلًا وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا}[طه:89]، كيف يكون هذا
إله! وقال موسى للسامري أرأيت هذا الذي صنعت، وقال وأنظر إلى إلهك الذي ظلت عليه
عاكفًا؛ لنحرقنه، ثم لننسفنه في اليم نسفًا، فاتخذوه وهم ظالمون؛ بهذا الاتخاذ أن
يجعلوا الإله خالق السموات والأرض هو هذا العجل، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا،
فهذا من فرط جهلهم، وفرط كذلك غبائهم، بل كفرهم وعنادهم.
قال -جل وعلا- {ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ
تَشْكُرُونَ}[البقرة:52]، بعد
هذه الجريمة الكبرى، والشرك الأعظم، وظنهم أن الرب الإله الذي أنجاهم بيدٍ قوية من
أرض مصر، وصنع هذه الأعاجيب لهم، أنه هو هذا العجل الذي صنعوه، وسبكوه بأيديهم، جعلوه
هو الرب الإله -سبحانه وتعالى-، مفارقة عجيبةٌ جدًا تدل على انحطاط في العقل
والفهم؛ انحطاط عظيم، لكنهم لما تابوا، وأمر الله -تبارك وتعالى- أمرهم بأن يتوبوا
توبة شديدة، وهي أن يقتل كل من عبد العجل.
{وَإِذْ قَالَ مُوسَى
لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ
فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ
عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}[البقرة:54]، هنا طبعًا بين الله -تبارك وتعالى- هذه النتيجة، أنه عفا
عنهم، وإن كان عفا عنهم بهذه العقوبة الشديدة، لكنه عفو، فالله قدم هذا لأن هذا من
باب رحمته -سبحانه وتعالى- بهم بآبائهم، قال {ثُمَّ
عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ}، بعد هذه الجريمة الكبرى التي
فعلتموها، عفا الله -تبارك وتعالى- عنهم، بمن قُتِلوا فكان هذا كفارة لهم، ومن قَتَلوا
كان هذا كذلك رفعة لهم وتوبة للجميع.
{ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ
مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}[البقرة:52]، لعلكم تشكرون الله -تبارك وتعالى- على هذا الإنعام، منه -سبحانه وتعالى-
أن تجاوز لكم عن هذا الخطأ الأكبر، الذي كنتم تسحتقون به الخلود في النار، والإبادة
والتخلية عنكم، فإن هذه جريمة لا يتصور أن يقع مثلها، من مثل من أكرمهم الله -تبارك
وتعالى- وعلمهم، وصنع لهم هذه الآيات والمعجزات، كيف يخفى عليهم الرب الإله! خالق
السموات والأرض، ويختلط الأمر عندهم بعجل يصنعونه بأيديهم، {ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ
تَشْكُرُونَ}[البقرة:52].
{وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى
الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}[البقرة:53]، هذا من
جملة نعم الله -تبارك وتعالى- عليهم، أن الله آتى موسى الكتاب؛ وهو التوراة، سمي
بالكتاب لأنه يكتب، ولأنه مكتوب، والفرقان هذا وصفٌ بعد وصف، الفرقان هو الكتاب
المنزل، وهو التوراة، وسميت بالفرقان لأنها تفرق بين الحق والباطل، كما قال -جل
وعلا- {إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى
وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا
وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ .............}[المائدة:44]، فهو فرقان يفرق هذا النور الذي فيه، والهدى الذي فيه،
يفرق بين الحق والباطل، بين الهدى والضلال، {وَإِذْ
آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}[البقرة:53]،
لعلكم تهتدون، لعل هنا بحسب الإنسان، لأنها للترجي، والله لا يترجى -سبحانه
وتعالى-، المراد هذا الرجاء ليس بحسب الرب -تبارك وتعالى-، وإنما بحسب هؤلاء
المخاطبين، المراد لعل نزول الكتاب إليكم، ونزول الفرقان، ووجود الفرقان فيكم،
يحملكم على الهداية أن تهتدوا، طبعًا إذا أحسنوا أخذ الكتاب، وأخذ الفرقان، وأما
إذا أساءوا فإنهم يضلون وإن جاءهم الهدى، لعلكم تهتدون، المراد في السير في طريق
الرب -سبحانه وتعالى-.
ثم نعمة أخرى من نعم الله -تبارك وتعالى- {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ
ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ
فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ
عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}[البقرة:54]، وإذ المراد أذكروا إذ قال موسى، موسى النبي؛ نبي بني
إسرائيل -صلى الله عليه وسلم- لقومه، أي بني إسرائيل، يا قوم، ناداهم يا قومي، {إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ}،
إنكم تأكيد، ظلمتم أنفسكم، والذي يرتكب ذنب لا يظلم إلا نفسه، وذلك أنه يريد لها
الهلاك، وهو في النهاية ظلم لا يقع على الله -تبارك وتعالى-، وإنما على نفس الفاعل،
لأن الجزاء والعقوبة على الفاعل؛ على نفس الفاعل، والله -سبحانه وتعالى- فوق الضر،
لا يضره أحد -سبحانه وتعالى-، وكل من كفر بالله لا يضر إلا نفسه، ظلمتم أنفسكم باتخاذكم
العجل إلهًا، واتخذتم من هذا العجل إله من دون الله -تبارك وتعالى- فقد ظلمتم
أنفسكم بذلك.
{فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ}،
توبوا التوبة تاب يتوب بمعنى رجع، أي ارجعوا إلى الله -تبارك وتعالى- من هذا الذنب
العظيم الذي أذنبتموه، إلى بارئكم؛ البارئ الخالق، إلى إلهكم الذي خلقكم -سبحانه
وتعالى-، وذكر الرب هنا بأنه البارئ حتى يبين أن العجل ليس إلهًا، لأن العجل ما هو
ليس خالقًا بارئًا، {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ}،
إلى الله -سبحانه وتعالى- الذي خلقكم، {فَاقْتُلُوا
أَنفُسَكُمْ}، فاقتلوا أنفسكم هنا المراد إخوانكم، الذين عبدوا العجل،
والأخ يعبر عنه بمنزلة النفس، كما قال -تبارك وتعالى- مثلًا في قول الله -عز وجل- {وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ}، ولا تلمزوا أنفسكم أي
تلمزوا إخوانكم، الإنسان إذا لمز أخاه فكأنما استهزء بنفسه، فالأخ هو شقيق النفس،
فهو نفسه، فاقتلوا أنفسكم المراد إخوانكم الذين هم بمنزلة النفس، {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ}، هذا ذلكم أي الفعل، وهو أن
يقتل من عبد العجل توبة له إلى الله -سبحانه وتعالى-، فهذا خيرٌ له، لأنه إذا قتل
توبة وكان قتله هذا فيه محو لذنبه وغفران له، وبها يكون أتى الله -تبارك وتعالى-
بلا هذا الذنب؛ هذا خيرٌ له، ومن لم يمت بالسيف مات بغيره، الموت واحد سيكون، فإذا
قتل هنا في سبيل الله تكفيرًا لخطيئته، كان هذا خير، ثم هذا بالنسبة للمقتول،
وكذلك للقاتل، فإن صبره على هذا الأمر، وأن يقتل الأخ أخاه، والابن أباه، والأب ابنه،
كذلك فيه ابتلاء وامتحان لهؤلاء، ولما يصبروا على هذا الأمر فهو رفعة لهم، وكفارة
لهم كذلك، ثم أنه كذلك تنفيذ هذا الحد فيه منافع عظيمة، قطع لدابر الشر والفتنة،
وكذلك تحذير من الوقوع في مثل ذلك، فالحدود زواجر، فالقتل هنا إنما هو قتل حد،
وليس قتل للكفر، وإنما قتل لأنهم فعلوا الكفر فيقتلون، لا يقتلون كفرًا، وإنما
يقتلون توبة لهم، وطهرة لهم من الله –تبارك وتعالى-، {فَاقْتُلُوا
أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ}، ذلكم وهو قتل من
عبد العجل، خيرٌ لكم أخير، عند بارئكم عند إلهكم –سبحانه وتعالى- الذي خلقكم، قال
–جل وعلا- {فَتَابَ عَلَيْكُمْ}، أي لما فعلتم
هذا تاب عليكم، تاب الله –تبارك وتعالى- عليكم، إنه هو التواب الرحيم، وقد جاء
أنهم قتلوا ثلاثين ألفًا من الذين عبدوا العجل في يومٍ واحد، وأن الله ليهون عليهم
الأمر، طبعًا أَمر الذين عبدوا العجل أن يصفّوا وحدهم، والذين لم يعبدوا العجل أن
يأخذوا سيوفهم، ثم ألقيت عليهم الظلمة، ثم بدأوا التقتيل في هؤلاء؛ فقتلوهم دفعة
واحدة، ثلاثين ألف قتلوهم دفعة واحدة، وطبعًا كانت صلة القرابة موجودة، أولًا هم
كلهم من بني إسرائيل، فهم ينتمون إلى أمة واحدة، والموجودون أبٌ هنا، وابنٌ هنا،
وأخٌ هنا وأخٌ هنا، فالإنسان كان يقتل أباه، يقتل أخاه، وألقيت عليهم الظلمة هذه
حتى لا يرى الإنسان من يقتل، أيضًا رحمة من الله –تبارك وتعالى- بهم في تنفيذ هذا
الحد في الذين عبدوا العجل، {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ
عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ ....} إنه الله –سبحانه
وتعالى- هو الرب –جل وعلا- التواب، قابل التوب –سبحانه وتعالى- الرحيم بعباده
–سبحانه وتعالى-، وهنا يدلهم بعد أن فعلوا هذه الجريمة المنكرة التي تستحق الخلود
في النار، يدلهم على هذا الأمر، وإن كان فيه شدة، لكنه هينٌ جدًا بمقابل ما
ينتظرهم لو بقوا على الكفر والشرك، وهو الخلود في النار عياذًا بالله.
أمرٌ أخر يقول الله –تبارك وتعالى- {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى
اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ}[البقرة:55]،
وإذ قلتم اذكروا، إذ قلتم لنبيكم موسى ((ياموسى))، وأيضًا قولهم يا موسى أيضًا فيه
إشارة إنهم كانوا أهل جفاء، وأهل عدم احترام لنبيهم، ما قالوا له يا أيها النبي،
ولا يا أيها الرسول، ولا حتى كنوه بكنيته يا أبا فلان، وإنما يا موسى، باسمه
المجرد، وإذ قلتم يا موسى، والواجب أي أدبًا، أي أن يتأدبوا معه، ويقولوا له يا
أيها النبي، أو يا أيها الرسول، فيصفوه بصفته، ولا يخاطبوه باسمه، {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى
اللَّهَ جَهْرَةً}، لن التي تنفي الفعل في مستقبل الزمان، {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً}، علقوا
إيمانهم بالله –تبارك وتعالى- على أن يروا الله جهرة، وجهرة أي جهارًا ليس سرًا، أي
مواجهةً، فنراه بغير واسطة، وبغير حائل يحول بيننا وبينه.
قال –جل وعلا- {فَأَخَذَتْكُمُ
الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ}، أي أن الله –تبارك وتعالى- عاقبهم
لطلبهم هذا الذي فيه تعال، وإفتئات وتجبر، وطلب الآيات كما يقترحونها، واستهانة
بالرب –تبارك وتعالى- الجليل العظيم، المحتجب عن عباده بعظمتة وكبريائه –سبحانه
وتعالى-، وأنه ليس في حاجة إلى أن يظهر نفسه ليؤمن العباد به، بل هذه آياته
–سبحانه وتعالى- المنصوبة في كل مكان، بل وجودهم آية، بل ما أنزل عليهم الله
–تبارك وتعالى- عليهم من الآيات أمر عظيم الإيمان، من إرسال موسى، وإنزال الكتاب
عليه، وإجراء هذه الآيات، فإن موسى قد جرت على يديه تسع آيات بينات، عصاه، ويده
السمراء التي يضعها في جيبه فتخرج بيضاء، وما أرسل الله –تبارك وتعالى- على أعدائهم،
وهم يرون هذا، من الطوفان والجراد والقُمَّل والضفادع والدم، آياتٍ مفصلات رآها
بنوا إسرائيل بأنفسهم، آية مثلًا من هذه الآيات ((الدم))، كانت اليهودية تذهب إلى
النهر فتأخذ الماء كما هو، في جرتها وتأخذه، وإذا جاءت الفرعونية تأخذ الماء من
النهر، بمجرد ما تضعهُ في جرتها يتحول إلى دم عبيط، دم كامل، آية يرونها، ثم تقول
فرعونية للإسرائيلية ((صبي لي من جرتك في جرتي))، فتصب لها الماء من جرتها إلى
جرتها، فينزل ماء من جرة الإسرائيلية، فإذا وصل إلى جرة الفرعونية يتحول إلى دم،
آيات رأوها بأعينهم، وعاشوها كلها تدل على عظمة الرب، وقدرته –سبحانه وتعالى-،
فكيف من يعش هذه الآيات ومن يرها! وقد احتفت به المكاره يقول لا أؤمن حتى أرى الله
ذاته –سبحانه وتعالى-، فهذا طلبٌ يدل على ظلمة، وتعال وإفتئات وإجرام، ومع ذلك
طبعًا الله –تبارك وتعالى- عاقبهم، قال {فَأَخَذَتْكُمُ
الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ}، وأنتم تنظرون كيف أن الصاعقة تنزل
عليكم من السماء، فتأخذكم وتميتكم، والحال أنها في رؤية كذلك، حتى أخذ الصاعقة فيه
آية من آيات الله –تبارك وتعالى-.
{ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ
بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}[البقرة:56]، ثم أن الله –تبارك
وتعالى- يقول ((بعثناكم))، أحياهم الله –تبارك وتعالى- بعد أن أماتهم بالصاعقة على
هذا النحو، {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}، لعلكم وقد
عاقبكم الله –تبارك وتعالى- بعقوبة أي جزئية، وإلا فقد كنتم تستحقون الموت،
والخلود في النار كذلك، لأنكم علقتم الإيمان على ما تقترحونه أنتم من الآيات، ولم
يكفيكم ما كان من آيات الرب –تبارك وتعالى- لكم، لكن من رحمة الله –تبارك وتعالى-
يقول {ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ}،
أي بعد موتكم بالصاعقة لعلكم تشكرون، وهذا يدل على أن الصاعقة قد أماتتهم، ولم فقط
تجعلهم في حالة إغماء -وهم أحياء-، ثم بعد ذلك أفاقوا من إغماءاتهم هذه بالصاعقة،
بل إن الصاعقة قد أماتتهم الموت المعروف، ثم إن الله –تبارك وتعالى- يقول بعثناكم
من بعد موتكم أي بالصاعقة، لعلكم تشكرون الرب –تبارك وتعالى- أن مَنَّ عليكم، في
أن يحيكم مرة ثانية، لتكونوا في الدنيا، وتأخذوا من هذه عبرة، وتؤمنوا وتسيروا في
طريق الإيمان، إلى أن يأتي كل أحدٌ منكم أجله.
ثم قال –جل وعلا- {وَظَلَّلْنَا
عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ
طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ
يَظْلِمُونَ}[البقرة:57]، هذا كذلك من جملة أنعام الله –تبارك وتعالى- على
بني إسرائيل، إنه قال {وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ
الْغَمَامَ}، وهذا عندما كانوا في التيه في أرض سيناء، التي انتقلوا إليها
بعد خروجهم من مصر، صحراء قاحلة حارة، وكان من رحمة الله أن ترفق الله –تبارك
وتعالى- بهم، فجعل الغمام يظللهم دائمًا في هذه الصحراء، حتى يمنع عنهم حرها، {وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ}، الغمام هو السحاب
الرقيق الخفيف، الذي يكون كالمظلة كالحائل؛ حائل بينهم وبين حرارة الشمس وحرقتها.
{وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ
الْمَنَّ وَالسَّلْوَى}، أما المَّن فهو نوع من العسل أو الروبّ، كان الله
–تبارك وتعالى- ينزله ليلًا- على الأحجار والأشجار، وذلك أنهم قد انتقلوا إلى مكان
ليس فيه زرع، وكذلك ليس فيه تجارة، لأنهم حبسوا في هذا المكان، وذلك بعد أن جبنوا
أن يجاهدوا كما أمر الله –تبارك وتعالى-، فإنهم بعد أن خرجوا أمرهم موسى أن يدخلوا
قال {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ
الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ
فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ}[المائدة:21]، {قَالُوا
يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى
يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ}[المائدة:22]، إلى أن {قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا
دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ}[المائدة:24]،
{قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي
فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ}[المائدة:25]، {قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً
يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ}[المائدة:26]،
أربعين سنة بقوا في أرض سيناء تائهين، يسيرون اليوم كله، ثم يصبحون فيجدون أنهم في
المكان الذي بدأوا فيه السير أمس، وظلوا على هذا النحو، صحراء مقطوعة لا يستطيعون
أن يتصلوا بأحد خارج المكان اللي همَ فيه، ولا يتصل بهم أحد، علمًا أن هذا طريق
تجارة الناس يعبرون فيه، لكن لا أحد يعرفهم، ولا إنسان يصل إليهم، وهم لا يستطيعون
الوصول إلى احد، وبقوا ضرب الله –عز وجل- عليهم التيه على هذا النحو، أربعين سنة
في هذا المكان، فكان من رحمة الله –تبارك وتعالى- عليهم وهم في هذا المكان؛
الصحراء الجافة أن أولًا أظلهم الله –تبارك وتعالى- بالغمام.
وقال {وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ
الْمَنَّ}، هذا العسل الذي يأتيهم، يجمعوا هذا الروبّ؛ يجمعوه ويأكلوه
كالعسل، أو يذيبوه في الماء ويشربونه، {وَالسَّلْوَى}،
السلوى قيل أنها طيور السمان، كانت تأتيهم زرافةً ووحدانًا، ولا تفر منهم،
يصيدونها بغير كلفة، لا بسهام ولا بشباك ولا بغيرها، وإنما تقف ويأخذونها ويشونها
ويطبخونها ويأكلونها، {وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ
وَالسَّلْوَى}، سمي إنزال لأن المن ينزل من السماء، وكان هذا كذلك السلوى
تأتيهم من السماء لأنها طيور ثم تأتيهم.
{ كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا
رَزَقْنَاكُمْ}، كلوا إباحة من الله –تبارك وتعالى-، كلوا من طيبات من هذا
الأمر الطيب، ما رزقناكم وهذا ربنا جعله عِوضًا من أن يعيشوا في مدينة فيها الزروع
والثمار، فالله –تبارك وتعالى- جعل هذا الطعام عِوضًا لهم عن ذلك، { كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ}، ثم قال
–جل وعلا- {وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا
أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}، وما ظلمونا بتبرمهم لهذه الحياة، كما سيأتي أنهم
قالوا يا موسى لن نصبر على طعامٍ واحد، وجعلوا هذا الطعام واحد لأنه يتكرر، شافوا
أن كله يتكرر، كل يوم نفس الطعام، المن والسلوى، المن والسلوى، المن والسلوى ليس
غيره، {لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ
لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ}، وسيأتي تبريهم
بهذا الأمر، كذلك جحودهم لهذه النعمة، جحودهم لنعمة الله –تبارك وتعالى- التي
رزقهم الله –تبارك وتعالى- بها، وتحنن الله –تبارك وتعالى- وتفضل عليهم وهم في
التيه على هذا النحو، قال –جل وعلا- {وَمَا ظَلَمُونَا}،
لا لم يظلم الله –تبارك وتعالى- بالجحود، ولا بعدم تقدير هذه النعمة، ولا بتبربهم
بها، وهو طعامٌ طيب يأتيهم بغير كلفة وبغير عناء وبغير كد في زراعة أو في غيرها أو
في تجارة، بل يأتي كل أحد، وهم زول لكل أحد بدون تعب ولا مشقة، {وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}، ظلموا
أنفسهم بجحودهم، وذلك أن مغبة هذا الجحود وهذا الكفر لا تكون إلا عليهم، ولا تكون
على الله –سبحانه وتعالى-.
ثم قال الله –تبارك وتعالى- {وَإِذْ
قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا
وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ
وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ}[البقرة:58]، {فَبَدَّلَ
الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى
الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ}[البقرة:59]،
وموعد تفصيل هذه الآيات في حلقة آتية –إن شاء الله-.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، وصلى الله وسلم على عبد ورسوله محمد.