إنَّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله مِن شُرور أنفسنا ومِن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومَن يضلله فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله.
وبعد, عَدَّدَ الله -تبارك وتعالى- أسباب النصر في بدر، وذَكَّرَ أهل الإيمان بهذه الأسباب ليعلموا أنَّ النصر مِن عنده وأنْ يشكروه -سبحانه وتعالى-، قال -جلَّ وعَلا- : {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ}[الأنفال:9]، كان هذا أول سبب مِن هذه الأسباب أنْ بَشَّرَ الله -تبارك وتعالى- نبيه بأنه مُنْزِلٌ على المؤمنين في هذه الغزوة ألف مِن الملائكة مردفين يتبع بعضهم بعضًا، قال -جلَّ وعَلا- : {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}[الأنفال:10]، أمرٌ أخر قال : {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ}[الأنفال:11]، النُّعَاس في الحرب أَمَنَة مِن الله -تبارك وتعالى-, ودليل على الأمن وعدم الخوف وذهابه، وهذا أنزله الله -تبارك وتعالى- على المؤمنين في بدر، المطر مِن السماء بما فيه مِن المنافع العظيمة، الطهارة والنشاط وتثبيت الأرض الدَّهِسَة تحت أقدام المؤمنين، {........ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ}[الأنفال:11]، ثم سببٌ بعد السبب : {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ}[الأنفال:12]، الملائكة بما يلقونه في خَلَدِ المؤمنين, وفي قلوبهم, وينفثون في رَوْعِهِم مِن الثبات واليقين وملاقاة الرَّب -تبارك وتعالى-، فَيُثَبِّت هذا المؤمنين ثم إنَّ الله -تبارك وتعالى- تولى أنْ يقذف الرعب في قلوب الكفار، {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ}، {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ}, إذا كان الأمر للملائكة فالملائكة قد شاركت المؤمنين القتال يوم بدر، وقد جاءت آثار كثيرة تبيِّن أن َّالملائكة باشروا نوعًا مِن القتال، {وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ}، يحمل سيفًا، يحمل رمحًا وهذه هي مواطن إهلاك العدو وإضعافه، الضرب فوق العُنُق وهذا الضرب في مقتل، والضرب على اليد لأنَّ هذه كذلك في نهايتها مقتل للعدو؛ وذلك أنه إذا شُلَّت يداه فإنه لا يقاتل.
ثم قال -جلَّ وعَلا- بعد ذلك : {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ}، أي هذه الأسباب التي هيأها الله -تبارك وتعالى- للمؤمنين لينتصروا هذا النصر، ويعاقب الكفار على هذا النحو, {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ}, أي الكفار, {شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ}، شاقوه أي كانوا في شِق؛ عادوه، المشاققة؛ العداوة، وذلك أنهم كانوا في شِق أي انعزلوا عن حزب الله -تبارك وتعالى-، فأصبحوا حزبًا يحارب الرَّب -تبارك وتعالى-، {........ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}[الأنفال:13]، هذا إنذارٌ ووعيدٌ مِن الله -تبارك وتعالى- بأنَّ مَن شاق الله ورسوله فليعلم أنَّ الله شديد العقاب وهذه مِن عقوبته، هذا هنا الهزيمة التي نالها الكفار هي مِن عقوبته المُعَجَّلَة للكفار في الدنيا، وما ادخره -سبحانه وتعالى- لهم مِن العقوبة الأخروية أشد وأنكل.
{ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ}، {ذَلِكُمْ}, هذا العذاب الذي حلَّ بكم أيها الكفار في بَدْر, فَذُوقُوهُ}، قاسوه وتألموا له، {........ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ}[الأنفال:14]، في الآخرة، هذا مِن عقوبة الله -عزَّ وجلَّ- أي {ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ}، ذوقوا هذا العذاب القريب بالضرب والقتل والأسر, وما يحصل لِمَن ورائهم مِن النساء والأولاد، كل هذا مِن العقوبة, {ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ}، وما ادخره الله أكبر لكم، {........ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ}[الأنفال:14]، عذاب النار للكافرين، وحَصَرَ الله -تبارك وتعالى- بأنَّ هذا لهم، كأنَّ عذاب النار جعلها الله -تبارك وتعالى- للكفار.
بعد هذا وَجَّهَ الله -تبارك وتعالى- ندائه وخطابه للمؤمنين فقال : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ}[الأنفال:15]، هذا أمرٌ مِن الله -تبارك وتعالى- لعباده المؤمنين، صَدَّرَ الله –تبارك وتعالى- هذا الأمر بقوله : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}، نداء لأهل الإيمان، وكون الله -تبارك وتعالى- ينادي المؤمنين بوصف الإيمان أولًا ليحثهم على الطاعة والأمر، أي يا مؤمن أنت مؤمن فافعل هذا ما دام أنت مؤمن، فهذا تهييج وحث على أنْ يطيع الرب -تبارك وتعالى-، وكذلك إلزام لأنَّ أنت مؤمن فَمِن لازم إيمانك أنْ تستجيب لأمر الله -تبارك وتعالى-، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا ........}[الأنفال:15]، أي حال كونكم زاحفين وهو عند تقدم الجيشين بعضهم مِن بعض، {فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ}، نَهْي أنْ يُعْطِي المسلم ظهره للعدو ويُوَلِّي الأدبار هاربًا وتاركًا، فإذا التقى الجمعان فإنه لا يَحِل للمسلم عند ذلك أنْ يفر مِن الزحف، {فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ}، الأدبار جمع دُبُر وهي الظهر.
ثم قال -جلَّ وعَلا- : {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}[الأنفال:16]، هذا وعيدٌ شديدٌ مِن الله -تبارك وتعالى- للمؤمن الذي يفر هاربًا ويُوَلِّي ظهره للعدو بعد أنْ يلتقي الجمعان، قال : {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ}، أي في يوم الزحف، {دُبُرَهُ}، أي ظهره ويفر، ثم استثنى الله -تبارك وتعالى- قال : {إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ}، {مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ}, مِن الحرف، أي أنه ينحرف عن هذه الجهة إلى جهة أخرى، فقد يكون في أثناء انسحابه مِن هذا الموقع إلى ذلك الموقع قد أعطى ظهره للعدو، لأنه انسحب مِن هذا الموقع لِيَسُدَّ هذه الثغرة أو لينتقل إلى الموقع الآخر، فهذا مُتَحَرِّف مِن أجل القتال، {أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ}، أي خرج مِن هذه الجماعة ليذهب إلى جماعةٍ أخرى مثلًا ليقاتل معها، كأن يخرج إلى جماعةٍ أخرى ستلتقي بجمعٍ آخر مِن جمع الكفار فهو يخرج مِن القتال إلى القتال، {أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ}، وهذا معناه أنه ليس فرارًا بالكلية وإنما فرار مِن موقع إلى موقع، مِن مكان إلى مكان، فإما هو تعديل في عمل المقاتل في المعركة أو مِن الخروج مِن جماعة إلى جماعة أخرى ليقاتل، وليس فرارًا مِن الغزو فرارًا نهائيًا وترك الجهاد في سبيل الله، قال -جلَّ وعَلا- : {فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ}، باء؛ تأتي بمعنى استحق غضبًا مِن الله، كما في كلام العرب (بُوء بشسع نعل كليب), أي أنت لا تستحق إلا هذا، هذا مِن كلام العرب أي لا تستحق إلى هذه، وباء بمعنى رجع, {فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ}، بمعنى أنه رجع بغضب مِن الله، بعد أنْ كان مؤمنًا مُقبلًا على الله -تبارك وتعالى-، راجيًا فضل الله -تبارك وتعال-، فلما فرَّ هذا الفرار فإنه رجع مِن ذلك خائبًا خاسرًا وباء بغضب مِن الله، رجع بالغضب الذي استحقه مِن الله، والغضب صفة مِن صفات الرَّب -تبارك وتعالى-، تقام بذاته ولها آثارها، فالنار والعقوبة مِن آثار غضبه -سبحانه وتعالى-، {فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ}، أنَّ الله قد غضب عليه وبالتالي هذا قد تُوُعِد بعقوبة، ممكن أنْ يُعَجِّل الله -تبارك وتعالى- له العقوبة في الدنيا أو يدخرها له في الآخرة، قال : {فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ}، هذه في الدنيا.
ثم قال : {وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}،المأوى هي ما يلجأ إليه الإنسان ليأمن ويستريح ويرتاح، فالسكن مثلًا سكن الإنسان مأوى، والنار ليست دار راحة ولا دار قرار، ولكنها لما كانت دار يستقر فيها مَن يدخلها استقرارًا فسُمِّيت مأوى مِن هذا، بأنها مكان وجوده ومكان قراره -عياذًا بالله-، {وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}، وجهنم هي ذلك السجن, العميق, الكبير, المخلوق, الموجود الذي كل بنائه نار، فأرضه نار وجدرانه مِن نيران -عياذًا بالله-، وطعام أهله النار وما يخرج من النار -عياذًا بالله-، فهذا السجن أعظم عقوبة هذه جهنم، {وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}، {بِئْسَ}, للذم، { الْمَصِيرُ}، المرجع والنهاية، أي بئست نهاية أنْ يكون نهاية الإنسان في آخر أمره أنْ يأوي إلى هذا السجن, ويُغْلَق عليه إغلاقًا لا يفتح بعده أبدًا -عياذًا بالله-، {وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}، وهذا تحذيرٌ مِن الله -تبارك وتعالى- على هذا الفعل الكبير وهو الفرار مِن الزحف، وقد أخبر النبي -صلي الله عليه وسلم- بأنه مِن السبع الموبقات؛ المهلكات، قال : «اتقوا السبع الموبقات، قيل وما هنَّ يا رسول الله؟ قال الشِّرك بالله والسِّحر, وأكل الرِّبا وأكل مال اليتيم, وقتل النفس التي حرم الله -تبارك وتعالى- إلا بالحق, والتولي يوم الزحف, وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات»، فعد النبي -صلى الله عليه وسلم- التولي يوم الزحف مِن السبع المهلكات، وهذه الآية وإنْ كان فيها أنَّ هذا مأواه النار وقد استحق غضب الله -تبارك وتعالى- هذا بالنسبة لأهل الإيمان، مَن مات على شيء مِن الإيمان هذه كبيرة لا تجعله مُخَلَّدًا في النار خلود الكفار، ولكنه متوعد بالنار على هذا النحو، ثم إنه لا يخلد فيها خلود الكفار كما الشأن في الكفار، في قول الله -تبارك وتعالى- : {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ........}[النساء:48]، ويُخْرِجُ الله -تبارك وتعالى- مِن النار مَن كان في قلبه مثقال ذرة مِن خير؛ مِن إيمان، ولكن هذا الذي فاعل هذه الكبيرة هو مُتَوَعَد بهذا الوعيد مِن الله -تبارك وتعالى-، {........ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}[الأنفال:16] -عياذًا بالله-.
ثم ذكر الله -تبارك وتعالى- المؤمنين بأنَّ الأمر كله له، فقال -جلَّ وعَلا- : {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}[الأنفال:17]، {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ}، وذلك أنَّ المؤمنين باشروا القتال وهم الذين قتلوا في هذه المباشرة قتلوا مَن قتلوا مِن الكفار؛ قتلوا السبعين، وأَسَرُوا مَن أسروا منهم وهذا فعلهم، لكن مَن الذي هيأهم لذلك وقَدَّرَ ذلك وأقامهم في هذا الأمر؟ إنه الله -تبارك وتعالى-، انظر من قول الله : {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ}[الأنفال:5]، {يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ}[الأنفال:6]، {وَإِذْ يَعِدُكُمُ}، ثم الأسباب كلها التي وضعها الله -تبارك وتعالى- مِن إنزال الملائكة، مِن إنزال النُّعاس، مِن إنزال المطر، مِن إرسال الملائكة لِيُثَبِّتُوا المؤمنين، مِن بَثِّهِ الرعب -سبحانه وتعالى- في قلوب الكافرين، كل هذا فهو الذي -سبحانه وتعالى- صنع هذا النصر، والذي هيأ أسبابه كلها، ثم هو الذي أقام أهل الإيمان فيما قاموا فيه، فلذلك نَسَبَ كل هذا الفعل إلى نفسه -سبحانه وتعالى-، فقال : {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ}، ليس بِحَوْلِكُم ولا قوتكم فعلتم هذا؛ وإنما بِحَوْلِ الله -تبارك وتعالى- وقوته وتدبيره، {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى}، {وَمَا رَمَيْتَ}, أي يا محمد، {إِذْ رَمَيْتَ}, عندما رمى، وفي هذه الحفنة التي أخذها النبي -صل الله عليه وسلم- بيده في بدء المعركة، ثم استقبل بها وجوه القوم فنثرها في وجوهم وقال : (شاهت الوجوه)، فلم تترك أحدًا مِن الكفار إلا أصابه شيء مِن هذا الحصى التي ضربها النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا جاءت في وجهه وعينيه، قال يقول له الله : {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ}، عندما رميت في وجوه الكفار، {وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى}، الله -سبحانه وتعالى- هو الذي رمى، فإنَّ الحول والقوة له -سبحانه وتعالى- ولا حول ولا قوة إلا به -جلَّ وعَلا-.
ثم قال -جلَّ وعَلا- {وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَنًا}، أي إنما أراد أنْ يقيم المؤمنين في هذا المقام اختبارًا منه -سبحانه وتعالى- وابتلاءً لهم، ليكون هذه النتيجة الحسنة لهم، أي أراد الله -تبارك وتعالى- لهم هذا الأمر، أنْ يقوموا بالإيمان، أنْ يجاهدوا في سبيله، أنْ يقع على أيديهم ما وقع من هذا الخير، ليكون هذا هو البلاء الحسن الذي ابتلاهم الله به ليكتب لهم هذا في صحائف أعمالهم أنهم قاموا به، والحق أنَّ الله -تبارك وتعالى- هو الذي أقامهم -سبحانه وتعالى-, وهو الذي اختار لهم هذه المواقف ليقوموا فيها وليقوموا بها، {وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}، إنه سميع لكل عباده -سبحانه وتعالى-، عليم بأحوالهم، فلما عَلِمَ الله -تبارك وتعالى- في المؤمنين ما عَلِمَ مِن إيمانهم وإخلاصهم، وفقهم الله -تبارك وتعالى- لهذه المواطن والمواقف ليقفوا هذا الموقف، لِيُبْلُوا هذا البلاء العظيم وبالتالي تكون لهم في صحائفهم وفي أعمالهم هذه الأعمال العظيمة، إنه سميع عليم.
ثم قال -جلَّ وعَلا- : {ذَلِكُمْ}، أي احفظوا هذا بالنسبة لأهل الإيمان، هذا فِعْلُ الله وصنيعه -سبحانه وتعالى- الجميل بأهل الإيمان، {ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ}[الأنفال:18]، وهذا صنيعه -سبحانه وتعالى- بأهل الكفر، فهذا صنيعهم بأهل الإيمان، انظر هو كيف أخرجهم، ثَبَّتهُم، جمع لهم كل الأسباب؛ أسباب الخير والنصر، وترفق بهم وفعل بهم كل هذا، ثم هذا صنيع الرَّب -تبارك وتعالى- بالكفار، {ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ}[الأنفال:18]، {مُوهِنُ}, مُضْعِف، والوَهَن هو الضعف، أي أنَّ الله سيجعل كيد الكافرين ضعيف، والكيد هو المكر وإيصال الضر إلى العدو بطريق الخفي، بطريق اللف والدوران، فقد يُظْهِر له المحبة وهو يعمل له بكل أنواع الضر، هذا كيد ومكر، فكيد الكافرين ومكرهم بأهل الإيمان الله -تبارك وتعالى- مضعفه؛ موهنه، أي سيجعله ضعيفًا موهنًا لا يصلون إلى مرادهم, ولا يبلغوا أثره، {ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ}[الأنفال:18].
ثم وَجَّهَ الله -تبارك وتعالى- كلامه للكفار، فقال لهم : {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ}، {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا}، تطلبوا الفتح، والفتح؛ الحكم، وقد فعل الكفار هذا في صبيحة يوم بدر، فإنَّ أبا جهل دعا الله -تبارك وتعالى- وقال : (اللهم أَقْطَعَنَا للرحم أي نحن ومحمد، أقطعنا؛ أكثرنا قطيعًا إلى الرحم، وآتانا بما لم يُعْرَف وأبغضنا عندك فأَحْنِهِ لغداه)، فدعا بأن يهزم الله -تبارك وتعالى- أكثر الفريقين قطعًا للرحم ومجيئًا بدين لا يُعْرَف, وأبغض الفريقين عند الله، فالله -تبارك وتعالى- قد حَكَم بحكمه، هم طلبوا الحُكم بينهم وبين النبي -صلى الله عليه وسلم-، أيهما أحب إليك يا رب؟ وأيهما تريد؟ فالله –تبارك وتعالى- لما نصر عبده ورسوله -صلوات الله والسلام عليه- وكَسرَ هؤلاء الكفار فقد حَكَم، هذا حُكْمُ الله -تبارك وتعالى-، فقال الله للكفار : {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ}، أنتم دعوتم الله -تبارك وتعالى- وطلبتم منه أنْ يحكم بينكم وبين عدوكم؛ وبين محمد وأصحابه، قد حَكَمَ الله -تبارك وتعالى-، هذا حُكْمُهُ الذي أنزله يوم بدر هو حُكْمُهُ -سبحانه وتعالى-، {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ}، إذا انتهيتم عن حرب الدين وحرب الإسلام، انتهيتم عن الكفر، رجعتم عنه، {فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ}، أفضل لكم مِن هذا أنْ تعودوا إلى رشدكم وإلى عقولكم، وأنْ تعلموا أنَّ هذا طريق الرَّب -سبحانه وتعالى-, طريق محمد -صلوات الله والسلام عليه- فترجعوا إليه، وإن تنتهوا عن حرب النبي -صل الله عليه وسلم-، {فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ}، أي إنْ تعودوا إلى حربه عدنا لكسركم ولهزيمتكم، وهذا وعيدٌ شديدٌ مِن الرَّب -تبارك وتعالى-، {........ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ}[الأنفال:19]، لن وهذا مِن الرب -سبحانه وتعالى-، لن تنفي الفعل في المستقبل، {وَلَنْ تُغْنِيَ عَنكُمْ}, أيها الكفار, {فِئَتُكُمْ}, جماعتكم، {شَيْئًا}, أي شيء في النصر, {وَلَوْ كَثُرَتْ}, ولو كنتم تظنون أنكم كثير وأنتم ملء الأرض, وأنَّ النبي ليس معه إلا فئة قليلة وأنكم ستغلبونه، اعلموا أنَّ الله معه، {........وَلَنْ تُغْنِيَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ}[الأنفال:19]،، تأكيد أنَّ الله -تبارك وتعالى- مع المؤمنين بنصره -سبحانه وتعالى- وبأمره، خطاب عظيم يوجهه الله -تبارك وتعالى- للكفار، لو كان هناك مَن يعقل عن الله -تبارك وتعالى- ويعلم هذا الكلام لابد أنْ يَكُف وأنْ يعلم أنَّ هذا طريقه وهذا دينه، فإنَّ هذا حُكْم الله -تبارك وتعالى-، قد حَكَمَ الله –تبارك وتعالى- بأمر مادي, ملموس, ظاهر، وهم الذين دعوا هذا وأرادوا أنْ يحكم الله -تبارك وتعالى- بينهم وبين عدوهم، فقد حَكَمَ الله -تبارك وتعالى- وقد أنزل هذه الآيات البينات ويبين لهم فيها الأمر، ثم يهددهم أنهم يعودوا، {........ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ}[الأنفال:19]، لكن مَن مِن الكفار استجاب لذلك واستمع نداء الله –تبارك وتعالى- وفَقِهَ هذا، والحال أنَّ القرآن نازل بلغتهم أي يعلمونه، وابن عباس يقول (التفسير على أربعة أنحاء، تفسير القرآن تعرفه العرب مِن كلامها)، فهذا تفسير، أي العلم بالقرآن بحسب معانيه العربية، وهذا العرب تعرفه مِن كلامه فهذا أمر واضح جدًا، (وتفسير لا يعلمه إلا العلماء، وتفسير استأثر الله -تبارك وتعالى- بعلمه)، فهذا كلام بيِّن تعرفه العرب مِن كلامها، وكان يجب عندما نَزَلَ هذا الكلام أنْ يرعوا لكنهم لم يرعوا.
ثم وَجَّهَ الله -تبارك وتعالى- بعد ذلك خطابه إلى المؤمنين، مُذَكِّرًا بأنَّ هؤلاء الكفار انظروا حالهم لا يسمعون، فقال -جلَّ وعَلا- : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ}[الأنفال:20]، {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ}[الأنفال:21]، {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ}[الأنفال:22]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}، خطابُ آخر, نداءٌ آخر إلى أهل الإيمان، يناديهم الله -تبارك وتعالى- بمسمى الإيمان حضًا لهم على الفعل وإلزاما لهم بالفعل، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ ........}[الأنفال:20]، أمرٌ مِن الله -تبارك وتعالى- أهل الإيمان أنْ يطيعوا الله ويطيعوا الرسول، وطاعة الرسول طاعةٌ لله -تبارك وتعالى-، {وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ}، {وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ}, والتولي هو الإعراض والبعد، أي لا تعرضوا عن الله ورسوله، { وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ}، أي والحال أنكم تسمعون هذا كلام الله -تبارك وتعالى- يناديكم ويصل إليكم.
{وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ}[الأنفال:21]، نهاهم الله -تبارك وتعالى- أنْ يكونوا كهذه الطائفة، الذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون، هذا وقع في أُمة اليهود فإنهم أنزل الله -تبارك وتعالى- عليهم التوراة, واستمعوا كلام الرَّب -تبارك وتعالى-، لكنهم قالوا كما قال الله -عزَّ وجلَّ- عنهم : {سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا}، سمعوا كلام الله -تبارك وتعالى- وفهموه وعقلوه, ولكنهم ابتعدوا عنه ولم ينفذوه، فالله -تبارك وتعالى- نَهَى المسلمين أنْ يتشبهوا بأولئك القوم، الذين سمعوا كلام الرب وأعلنوا استماعهم له, وفهمهم له, ومراد الله -تبارك وتعالى- ولكنهم لم ينفذوا أمره -سبحانه وتعالى-، {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ}[الأنفال:21].
ثم قال -جلَّ وعَلا- : {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ}[الأنفال:22]، {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ}، شَر تأتي بمعنى أَشَرّ، فالعرب في خير وشر لا يقولون أخير وأشر, وإنما يقولون خير وشر، خير وشر على وجه التفضيل، فشر الدواب أي أبعدها عن الخير، الدواب جمع دابة، والدابة كل ما يدب على الأرض مِن النملة الصغيرة إلى الفيل الكبير، كل ما يدب على الأرض فهو دابة، فشر الدواب؛ ما يدب على هذه الأرض، عند الله منزلة ومكانة، {........ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ}[الأنفال:22]، وهذا وصف للكفار، شَبَّههُم الله -تبارك وتعالى-, وصفهم الله -عزَّ وجلَّ- بالصمم، الصمم؛ عدم السمع، والبكم وهذا فَقْدُ النطق، ثم الذي لا يعقلون وهذا فَقْدُ العقل، وذلك أنهم لم يستفيدوا لا بأسماعهم ولا بألسنتهم ولا بقلوبهم، فلم يسمعوا الحق أي سمعوا الحق ولكن لم يستفيدوا به فكانوا كالذي لم يسمعه، ولم يتكلموا بخير بل كل كلامهم بشر، وكذلك لم يعقلوا عن الله -تبارك وتعالى- فأصبحوا شر ما يدب على هذه الأرض، بل هم أَشَرُّ مِن أَشَرِّ دوابها وذلك أن ما دون ذلك من الحيوانات والزواحف دون الإنسان فإنه قائم بما خُلِقَ له، أي بالذي خُلِقَ له هو يقوم به، أما الإنسان فإنه مخلوق لعبادة ربه -سبحانه وتعالى-، لأمر عظيم جدًا وهو أنْ يقوم بعبادة الرب -تبارك وتعالى-، بحمل الأمانة، حَمْل أمانة الطاعة والعبادة للرب -تبارك وتعالى- والقيام بأمره، {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً}، فهذا الأمر بأنْ يقوم بهذا حق الاستخلاف وهو أنْ يقيم أمر الله -تبارك وتعالى- على هذه الأرض، فلم يقم فيصير شر مِن الكلب والحمار والحيَّة والعقرب، فهذه هي مُصَرَّفَةٌ قائمة بالوضع الذي خُلِقَت له، وأما الإنسان الكافر فإنه أشر من ذلك.
نقف -إنْ شاء الله- عند هذه، ونُكمل -إنْ شاء الله- في الحلقة الآتية، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم مِن كل ذنب، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد.