الإثنين 13 ذو القعدة 1445 . 20 مايو 2024

الحلقة (222) - سورة الأنفال 30-35

إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله مِن شرور أنفسنا ومِن سيئات أعمالنا, مَن يهده الله فلا مضل له، ومَن يضلله فلا هادى له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله.

أما بعد فإنَّ خير الكلام كلام الله تعالى، وخير الهَدْى هَدْى محمد -صلى الله عليه وسلم-, وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة فى النار.

 وبعد؛ فيقول الله -تبارك وتعالى- : {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}[الأنفال:30], {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ}[الأنفال:31], {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}[الأنفال:32], {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}[الأنفال:33], الآيات منِ سورة الأنفال، وهي في سياق حث الله -تبارك وتعالى- عباده المؤمنين على قتال الكفار، وبيان صفات هؤلاء الكفار الذين يجب أنْ يُقَاتَلُوا، وأنهم مجرمون بكل معانى الإجرام؛ فمِن إجرامهم تآمرهم بالرسول؛ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي جاءهم بالهُدى والرحمة مِن الله -تبارك وتعالى- والدين القويم ليستخرجهم مِن الظلمات إلى النور، ويسير بهم إلى طريق الفلاح، طريق الجنة، لكن ماذا كان مِن أمرهم؟ قال -جلَّ وعَلا- : {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}[الأنفال:30], هذا فعلهم مع النبي الخاتم -صلوات الله والسلام عليه- الذي جاء منهم، أولًا هم عرب، قرشي، وعامة الذين تآمروا عليه بل الذين أرادوا أنْ يصنعوا فيه هذا الصنيع هم مِن قريش آتاهم لينقذهم الله -تبارك وتعالى- به مما كانوا فيه إلى طريق الهُدى، وهذا صنيعهم, {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ}, المكر هو محاولة إيصال الضر للغير عن طريق خفى، وإذا كان مع إظهار المودة؛ فيكون أشد, {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا}, وذلك أنهم دَبَّرُوا أمرهم في أنفسهم، وأخفوا مرادهم عن كل أحد حتى لا ينكشف أمرهم, {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ}, والذين كفروا كبار قريش، وصناديدها الذين كرهوا هذا الدين، وخشوه على رئاساتهم وعلى أموالهم، وعلى مكانتهم، وعلى أنْ يتركوا دين آبائهم وأجدادهم بشتى الدوافع التي دفعتهم لأنْ يُكَذِّبُوا رسولهم، وأنْ يقفوا في وجهه, {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ}, في مكة، ومعنى يُثْبِتُوهُ أي يجعلوه ثابتًا فيها، وذلك بحبسه وسجنه، ومنع أي أحد مِن الذبن آمنوا به أنْ يصلوا إليه, {أَوْ يَقْتُلُوكَ}, القتل معروف, {أَوْ يُخْرِجُوكَ}, أي مِن أرض مكة وكان هذا عندما اجتمعوا في دار الندوة بعد أنْ ضاقت بهم طرق الوقوف أمام هذا الدين، ورأوا أنه في كل يوم في انتشار، وهذا الأمر بعد عشر سنوات مِن دعوة النبي -صلوات الله والسلام عليه- فإنهم رأو أنَّ هذا الدين دائمَا  في تقدم، وفي انتصار، ويدخل فيه كل يوم أناس جُدد، وأرادوا أنْ يفكروا في الأمر أي في ظنهم الحاسم الذي يقطع مادة هذا الدين، ويُنْتَهَى منه؛ فاجتمعوا في دار الندوة، كبرائهم، وجاء في الحديث الصحيح أنه حضرهم إبليس، جاءهم في صورة شيخ مِن أهل نَجْد ليحضر هذه الجلسة، وهذا المؤتمر الذي كان موضوعه هو كيف يُوقَف مَد هذا الإسلام، ويُنْتَهَى منه؛ فقال لهم أنا شيخ  مِن أهل نَجْد علمت أنكم قد اجتمعتم في شأن هذا الرجل الذي خرج فيكم يزعم أنه نبي لن تعدموا مشورة مني؛ فأدخلوه تكلم بعضهم فقال : نحبس محمد -صلى الله عليه وسلم- نبي الله ورسوله في مكة فلا ندع أحدًا يأتيه، ولا يأتي هو أحد، وبذلك يموت أمره وينتهى, فقال لهم : ذلك الإبليس هذا الشيطان الذي جاءهم في تلك الصورة، قال : لا والله هذا ليس بالرأى، قال لهم: ليس هذا بالرأي أولًا قال : فإنكم لا تستطيعون ذلك، وإن َّأصحابه، والمؤمنون به لن يدعوه، ولن يدعوكم تمنعونه على هذا الأمر، بل يوشك أنْ يأخذوه منكم، ويذهبوا به، قال لهم: هذا ليس بالرأى انظروا رأيًا آخر؛ فقالوا: نخرجه، نخرجه عنا من مكة، وليفعل بعد ذلك ما يشاء؛ فقال لهم : هذا ليس هذا بالرأي، وهذا رأي أشر، وإنه إنْ خرج؛ فإنه سيؤلب عليكم، وسسيجتمع الناس إليه ألم تروا عَذْبَ حديثه، وحلو كلامه؛ فقام أبو جهل وهو عمرو بن هشام، ويسمونه أبا الحكَمَ, فقال الرأي عندي أرى أنْ نختار مِن كل قبيلة مِن قبائل قريش فتًا، قويًا، ومعه سيف؛ ثم يخرجوا على محمد ويضربوه ضربة رجل واحد؛ فيتفرق دمه في القبائل، يتفرق دمه في كل قبائل قريش، وبالتالي لا يستطيع بنو هاشم أنْ يقاتلوا الجميع، بل يرضوا فيه بالدية، وينتهى أمره, قوله بنو هاشم، وذلك أنَّ بني هاشم، وبني المُطَّلِب هؤلاء هم أقرباء النبي -صلوات الله والسلام عليه- وفارقوا قريش في شأن النبي محمد -صلوات الله والسلام عليه- فإنَّ قريش بالرغم أنها جميعها كانت معادين له إلا أنَّ بنو هاشم، وبنو المُطَّلِب مَن آمن منهم، ومَن كفر كذلك كانوا عصبية للنبي محمد -صلى الله عليه وسلم- معًا، ومِن ذلك عمه أبوطالب؛ فإنَّ أبا طالب وقد كان شيخ بني هاشم في وقته، وهو عم النبي -صلوات الله والسلام عليه-, ناصر النبي نصرة عظيمة، عصبية له، ولم يرضَ أنْ يخلص له، وما تعرض النبي للأذى إلا بعد موت أبي طالب, فقول أبي جهل محمد إذا قُتِلَ على هذا النحو تفرق دمه في قبائل قريش، ولم تستطع بنو هاشم أنْ يقاتلوا كل فروع القبيلة، وبالتالي يقبلوا فيه الدية، وينتهى أمره؛ فقال إبليس: هذا هو الرأي، أرى أنَّ هذا هو الرأي، ولما تم أمرهم على هذا النحو، وشرعوا في تنفيذ الأمر اختاروا هؤلاء الشباب، وعزموا على ذلك على باب النبي محمد -صلوات الله والسلام عليه- أخبر الله -تبارك وتعالى- نبيه -صلوات الله والسلام عليه-, واستخلف النبي علي بن أبى طالب -رضي الله تعالى عنه- فنام في فراشه, ثم خرج النبي مَن وسط الليل، لأنه إذا خرج النبي في صبح هذا اليوم فكلهم قاموا، وضربوه ضربة واحدة، مرة واحدة؛ فخرج النبي -صلى الله عليه وسلم- ألقى الله -تبارك وتعالى- عليهم النوم، أخذ النبي ترابًا، ووضعه على رأس كل واحد منهم؛ ثم خرج إلى صديقه أبوبكر الصديق -رضي الله تعالى عنه- حيث كان النبي قد أعدَّ العدة هو وأبوبكر لأنْ يخرج مِن مكة، وكان مِن شأنهما في الهجرة ما قصَّه الله -تبارك وتعالى- وما هو مذكور في السيرة, فالله -تبارك وتعالى- يُذَكِّرُ المؤمنين بعمل هؤلاء المجرمين، وأنهم هذا عملهم، كيف لا يقاتل هؤلاء! والآيات هنا  في سورة الأنفال بدئًا مِن قول الله -تبارك وتعالى- : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ}[الأنفال:20], {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ}[الأنفال:21], {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ}[الأنفال:22], {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ}[الأنفال:23], {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ........ }[الأنفال:24], وهو القتال,  {........وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}[الأنفال:24], {وَاتَّقُوا فِتْنَةً}, بيان أنه لا بد أنْ يقاتلوا، ومِن جملة حث الله -تبارك وتعالى- المؤمنين على القتال هو بيان أنَّ هؤلاء الذين يُقَاتَلُونَ يستحقون هذا القتال، وأنهم مجرمون, {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}[الأنفال:30], يُخِبرُ -سبحانه وتعالى- أنهم هنا مكروا، قال الله -تبارك وتعالى- : {وَيَمْكُرُونَ}, مكروا في قتل النبي -صلى الله عليه وسلم-, {وَيَمْكُرُونَ}, أنَّ هذا فعلهم الدائب، وأنهم ما فقط هذا هو نهاية مكرهم، بل هذا أمرٌ مستمر؛ لذلك جاء بيان هذا الأمر بصيغة الفعل المضارع, {وَيَمْكُرُونَ}, ثم قال -جلَّ وعَلا- {وَيَمْكُرُ اللَّهُ}, إبطالًا -سبحانه وتعالى- لمكرهم هذا؛ فإنَّ الله -تبارك وتعالى- هو العليم بتدبير هؤلاء، ومكر هؤلاء، ولن يسير هذا على الله؛  وذلك أنَّ هذا رسوله -صلوات الله والسلام عليه-, {وَيَمْكُرُ اللَّهُ}, -تبارك وتعالى- مكرهم هذا بما يبطله -سبحانه وتعالى- مِن فعله، وتدبيره -جلَّ وعَلا-, {وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}, الله -سبحانه وتعالى-, {خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}, وذلك أنَّ مكر الله حق, أي أنها صفة مِن صفات الفضل والخير، صفة مِن الصفات العلية لذات الرَّب -تبارك وتعالى- وذلك أنَّ المكر بالمجرمين، وإبطال مكرهم، وقلب الأمر عليهم هذا حقٌ وخيرٌ، وفعل الله -تبارك وتعالى- كله خير، وكله حق, {وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}, فمكرهم مكر سيء، والله -تبارك وتعالى- يبطل مكرهم -سبحانه وتعالى- بتدبيره العظيم -سبحانه وتعالى-, انظر كيف كان تدبير الله -تبارك وتعالى- فإنهم أرادوا قتل النبي -صلى الله عليه وسلم- فإنَّ الله -تبارك وتعالى- أخرجه مِن بين أظهرهم دون أنْ يمسوه, ثم أوجد الله -تبارك وتعالى- له العُصْبَة، القوية، الطيبة التى آزرته ونصرته وقامت معه, ثم كان الأمر إلى أن في ظرف ثماني سنوات فقط دخل النبي -صلى الله عليه وسلم- مكة فاتحًا، منتصرًا، وكل هؤلاء الذين حاربوه، ووقفوا معه إما أنَّ الله -تبارك وتعالى- استأصلهم كما فعل في بدر بعد سنة فقط, استأصلهم الله -تبارك وتعالى- في بدر كبرائهم ومنهم هؤلاء الذين حضروا هذا المجلس، حضروا في دار الندوة، وحضروا هذه المؤامرة، واشتركوا في التدبير لقتل النبي -صلوات الله والسلام عليه-, فقبل عامين كان الله -تبارك وتعالى- قد قتلهم جميعًا في بَدْر, ثم بعد ذلك مَكَّنَ الله -تبارك وتعالى- رسوله حتى دخل مكة منتصرًا في ثماني سنوات, وأذعن له الجميع, {........وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}[الأنفال:30].

 ثم بيَّن -سبحانه وتعالى- أيضًا مِن صفاتهم الإجرامية تعاليهم عن الرَّب، والتي بها يستحقوا حض الله -تبارك وتعالى- المؤمنين على قتالهم, قال -جلَّ وعَلا- : {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ}[الأنفال:31], انظر كبرهم وتعاليهم على آيات الله - تبارك وتعالى-, {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا}, {تُتْلَى}, تُقْرَأ, {عَلَيْهِمْ}, على هؤلاء الكفار, {آيَاتُنَا}, يقول الله -تبارك وتعالى- : {آيَاتُنَا}, يعنى أنها آيات الله -تبارك تعالى- آيات مَن؟ آيات الرب الإله خالق السماوات والأرض، وخالقهم يقرأها عليهم, {قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا}, بكل هذا التعالي والغطرسة, {قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا}, أي سمعنا هذا الكلام, {لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا}, أي لو نشاء أنْ نأتي بكلام مِن مثل هذا الكلام لفعلنا، وهم متكبرون، كاذبون، مجرمون فإنَّ هذا القرآن قد تحداهم أنْ يأتوا بسورة مِن مثل سوره، بل سُوَر يفترونها، ويكذبونها لكن يصوغونها صياغة في ميزان النقد تكون كهذا الكلام المنزل مِن الله -تبارك وتعالى-, {........قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ}[هود:13], وقد عجزت ألسنتهم، وعجز فصحاؤهم وبلغاؤهم أنْ يأتوا بسورة مِن مِثْلِ سور القرآن لكن هذا يقولونه هنا في مجال الكبر والغطرسة، وأنَّ هذا الكلام أساطير الأولين، نستطيع أنْ نقول كلام مِثل هذا الكلام, {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ}[الأنفال:31], {إِنْ هَذَا}, بالحصر أي ما هذا القرآن, {إِلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ}, الأساطير جمع أسطورة، والأسطورة مِن التسطير أي سَطَّرَهَا الأولون كتابة كتبها، وسطرها الأولون الذين سبقونهم لم يقل من هؤلاء الأولون الذين أخذ النبي هذا الكلام عنهم فقط للكذب، كذب وافتراء، ويلقون الكلام على عواهنه بالظن، وهذا يعارضون به مَن؟ الرب الإله، وكلام الله -تبارك وتعالى-, فالحال أنَّ هؤلاء مجرمون عُتَاةٌ في الإجرام، وأنَّ قتالهم حق، والله -تبارك وتعالى- يُحَرِّض أهل الإيمان على قتالهم، ويقول هؤلاء يستحقون القتال، وانظروا كلامهم, {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ}[الأنفال:31], جريمة أخرى, {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}[الأنفال:32], انظر العتو في الإجرام، وأنهم لن يقبلوا بهذا الدين، ولو كان مِن الله كما يَدَّعِي النبي يقولوا : لن نقبله، بل الموت هو خير لنا مِن أنْ نقبل هذا الدين ونذعن له, {وَإِذْ قَالُوا}, داعين الله -تبارك وتعالى-, {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ}, {اللَّهُمَّ}، وهذا دعاؤهم، وكان دعاء قريش اللهم أي يا الله, {إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ}, كان المفروض أنْ يقولوا فاهدنا إليه، ووفقنا إليه، وأدخلنا فيه إذا {كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ}, ولكنهم قالوا : {........فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}[الأنفال:32], لا إجرام أكبر مِن هذا، ولا عُتُو أكبر مِن هذا؛ فهم حتى لو أنَّ الله -تبارك وتعالى- لو أنهم أيقنوا بأنَّ هذا هو الحق مِن الله؛ فإنهم لا يريدونه ولن يقبلوه، والهلاك بهذه الصورة التي طلبوها عندهم هو أحب إليهم، وأقرب إليهم مِن أنْ يهتدوا لهذا الطريق، وأنْ يسيروا فيه, {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ........}[الأنفال:32], انظروا صورة العذاب التي اختاروها واقترحوها لأنفسهم، اقترحوها فقط، بل دعوا الله -تبارك وتعالى- أنْ ينزلها عليهم, {........فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}[الأنفال:32] أى مِن عندك, فماذا يُنْتَظَر مِن هؤلاء؟ لا يُنْتَظَر منهم خير، وهم لن يقبلوا هذا الدين مهما كان؛ فهم يكرهونه لا نقول كراهة الموت، بل الموت عندهم هو خير مِن أنْ يَتَّبِعُوا هذا الدين وأنْ يأخذوه، حتى لو أيقنوا أنه مِن الله -سبحانه وتعالى-, قال -جلَّ وعَلا سبحانه وتعالى- هو الرب لا إله إلا الله : {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}[الأنفال:33], خطاب كريم للنبي -صلوات الله والسلام عليه- أي كأن الله -تبارك وتعالى- يقول هؤلاء الذين سبوني وشتموني وتحدوني على هذا النحو لكن إكرامًا لك أيها النبي حتى لا ينشق قلبك، وتحزن الحزن الكبير لا نعذبهم, {وَأَنْتَ فِيهِمْ}, قال -جلَّ وعَلا- {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ}, كرامة للنبي -صلوات الله عليه وسلم- إنَّ الله إذا أراد بقوم خيرًا لم يعذبهم، ونبيهم حاضر، ولم ينظر إليهم فيمهلهم -سبحانه وتعالى- {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ}, طالما أنت فيهم موجود، حيّ؛ فإنَّ الله -تبارك وتعالى- لا يستأصلهم بالعذاب، وهذه مِن الرحمة التي جعلها الله -تبارك وتعالى- مصاحبة لهذا النبي الكريم, {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}[الأنبياء:107], فَمِن رحمة الله -تبارك وتعالى- المصاحبة لهذا النبي رحمة النبي لِمَن اتبعه، وكذلك لِمَن عصاه؛ فإنَّ مَن عصوا النبي -صلوات الله والسلام عليه- فإنَّ الله -تبارك وتعالى- رحمهم بألا يُعَجِّل لهم العذاب في هذه الدنيا مع موجبات ذلك مِن إجرامهم وعنادهم وكفرهم وعتوهم واستعلائهم أي طلب الاستعلاء على أمر الله على هذا النحو, {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} خطاب عظيم، كريم للنبي -صلى الله عليه وسلم- ثم : {........وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}[الأنفال:33], كرامة كذلك لهذه الأمة، طالما بقي فيَ هذه الأمة مَن يستغفر الله -تبارك وتعالى- ومَن يؤمن بالله -تبارك وتعالى- فإنَّ الله -تبارك وتعالى- لا يُعَاجِل الكفار مِن هذه الأمة، أُمة محمد، أُمة الدعوة بالاستئصال، بل يمهلهم الله -تبارك وتعالى-, {........وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}[الأنفال:33], {وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}, طالما بقي فيهم أهل الاستغفار مِن الله -تبارك وتعالى-؛ فإنَّ الله -جل وعلا- لا يعذبهم.

 ثم قال -جلَّ وعَلا- : {وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ}[الأنفال:34], ثم يُخْبِرُ -سبحانه وتعالى- أنَّ تعذيبهم حق، ولو أنزل الله -تبارك وتعالى- عليهم العذاب الآن، وفي هذه الدنيا لما كان ظالمًا لهم؛ فهذا حق, {وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ}, أي هل لهم أي أبقوا شيء مِن الخلق، أو الدين، أو الكرامة التي يستحقون بها أنْ يمهلهم الله -تبارك وتعالى- لا، بل انظروا كذلك أنهم يصدون الناس عن بيت الله -تبارك وتعالى-, {وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ........}[الأنفال:34], {يَصُدُّونَ}, الصد؛ المنع والدفع, {يَصُدُّونَ}, الناس, {عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}, بيت الله -تبارك وتعالى- والحرام؛ لأنَّ الله -تبارك وتعالى- حرَّم فيه أمور كثيرة هي مباحة في غيره, {الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}, أرض مكة حرَّم فيه الصيد، حرَّم فيه المطالبة بالدم، حرَّم لُقَطَتَهُ، حرَّم شجره أي شجره آمِن، خلاؤه آمِن، صيده آمِن، مَن دخله كان آمنًا؛ فهذا له حرمته، حرمه الله -تبارك وتعالى-, {الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}, قال -جلَّ وعَلا- : {وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ}, أي هؤلاء الكفار ليسوا أولياءه، وإنْ ادَّعوا أنهم أولياؤه، وأهل بيت الله، وأنهم الحُمْس، وأنهم قريش، وهم أهل بيت الله، وهم القائمون به، فسَدَنَةُ البيت وحجابته وسقايته كل هذا يفتخرون به، وهي لهم، قال -جلَّ وعَلا- {وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ}, ليسوا بأوليائه, {........إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ}[الأنفال:34], أولياء البيت الذين هم أولياؤه على الحقيقة الْمُتَّقُونَ الخائفون مِن الله -تبارك وتعالى- الذين يخافون الله -تبارك وتعالى- ويقومون بحق هذا الخوف، وهم المؤمنون بالله -تبارك وتعالى- المُتَّبِعُونَ لأمره هذا معنى التقوى, {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ}, ولكن أكثر هؤلاء لا يعلمون يظنون أنهم، وهم بالكفر وبالعناد أنهم أولياء هذا البيت، وقد ملؤوه شركًا وأصنامًا، وعبادةً لغير الله -تبارك وتعالى- وصَدُّوا أهله عنه؛ فأهله الذين هم أهله أولهم النبي -صلوات الله والسلام عليه- وكذلك المؤمنون معه؛ فإنَّ النبي -صلى الله وسلم- جاء ليكون هذا البيت هو قبلته، ويُعَظِّم هذا البيت، هذا بيت الله -تبارك وتعالى- ولِيُصَلَّى عنه الصلاة التي يحبها الله -تبارك وتعالى-, وليقوم عنده الحج الذي شرعه الله -تبارك وتعالى-, والعبادة التي يريدها الله -تبارك وتعالى- فالنبي جاء لهذا البيت؛ فهذا هو أهله، وهؤلاء الكفار ليسوا أهله الذين دَنَّسُوه بكل أنواع الدنس هذى ليسوا أهله, {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ}.

 ثم قال -جلَّ وعَلا- : {وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ}[الأنفال:35], {وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ}, هذه الصلاة عند البيت، البيت وُضِعَ للصلاة؛ فهذا الأمر الذى وُضِعَ له البيت انظروا صلاتهم عنده كانت {مُكَاءً وَتَصْدِيَةً}, المكاء هو صوت القطط، وكانوا هؤلاء يخرجون أصواتًا تُشْبِه المكاء، وهو الصفير يصفرون، وكذلك التصدية هو التصفيق؛ فقد كانوا إذا طافوا بالبيت صفروا بأفواههم، وصفقوا بأيديهم، وهذا هو طوافهم هذه صلاتهم، هذه هي صلاتهم عند البيت، صلاة المشركين, {وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً}, قال -جلَّ وعَلا- : {........فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ }[الأنفال:35], عذاب يوم بَدْر, {فَذُوقُوا الْعَذَابَ}, قاسوه,{ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ}, بسبب كفركم, أي أنَّ الله -تبارك وتعالى- قد أوقع بكم ما أوقع في بدر قُتِلَ أشرافكم، أُسِرُوا، صابكم الخزي والعار بهذه الهزيمة المنكرة لهم هذا مِن تدبير الله -تبارك وتعالى- بهذه الجرائم التي كانت منهم, ثم هم ليسوا أهل بيت الله -تبارك وتعالى-, وإنهم هم الصادون عن بيت الله -تبارك وتعالى-, قال -جلَّ وعَلا- : {فَذُوقُوا الْعَذَابَ}, عذاب يوم بدر, {بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ}, أي أيها الكفار.

نقف هنا -إنْ شاء الله-، ونكمل في الحلقة الآتية، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم مِن كل ذنب، وصلى الله وسلم على عبده، ورسوله محمد.