الإثنين 13 ذو القعدة 1445 . 20 مايو 2024

الحلقة (223) - سورة الأنفال 36-40

 الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة  والسلام على عبده ورسوله الأمين سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله، وأصحابه، ومَن اهتدى بهداه، وعَمِلَ  بسنته إلى يوم الدين.

وبعد؛ فيقول الله -تبارك وتعالى- : {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ}[الأنفال:36], {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}[الأنفال:37], {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ}[الأنفال:38], {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}[الأنفال:39], {وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ}[الأنفال:40], هذه الآيات مِن سورة الأنفال جاءت في ختام هذا الفاصل مِن السورة، والتي كان فيها نداء للمؤمنين، وحض لهم على قتال الكفار، والاستمرار في هذا القتال، وبيان الصفات الإجرامية الدنيئة، الخسيسة التي عليها هؤلاء الكفار، وبيان أنَّ ما ذاقوه في بَدْر مما أوقعه الله -تبارك وتعالى- فيهم أمر يستحقونه، وأنهم كانوا يستحقون هذا، ومِن جملة هذا صدهم عن هذا البيت، قال -جل وعلا- : {وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ}[الأنفال:35], عذاب يوم بدر, ثم أخبر -سبحانه وتعالى- بعد ذلك بالحقيقة المستقبلية، وماذا سيكون عليه الأمر، قال -جلَّ وعَلا- : {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ}[الأنفال:36], هذا حكم إلهى، حَكَمَ الله -تبارك وتعالى- به ويخبر به عباده -سبحانه وتعالى- {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا}, تأكيدٌ مِن الله -تبارك وتعالى-, {الَّذِينَ كَفَرُوا}, هؤلاء وغيرهم, كل مَن اتصف بهذه الصفة، صفة الكفر، وحقيقة الكفر هو معرفة الإيمان بعد عرضه أي إبلاغه ثم رده؛ رد الحق وتغطيته, فحقيقة الكفر تغطية للإيمان عرف الإيمان لكنه لا يريده فغطاه ودفعه وكذَّب مَن أتى به, تكذيب للنبي -صلوات الله عليه وسلم- وقول بأنَّ هذه الأخبار كذب, {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}, يدفعون أموالهم ليصدوا عن سبييل الله هذا مرادهم؛ فقد بذلوا أموالهم في حرب النبي -صلوات الله والسلام عليه-, والمال شقيق الروح، ومع أنَّ شقيق أرواحهم إلا أنهم بذلوه, فانظر شدتهم على دينهم، ومحبتهم له، وقيامهم به, فهم باذلون لأموالهم, {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}, يمنعوا الناس عن هذا الدين، وسبيل الله طريقه -سبحانه وتعالى- والذي جاء يدعو لهذا السبيل محمد -صلوات الله عليه وسلم- ,رسول الله، قال -جلَّ وعَلا- : {فَسَيُنفِقُونَهَا}, أي أنَّ الله -تبارك وتعالى- سيقدر عليهم أنْ ينفقوها, {ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً}, تكون هذه الأموال عليهم حسرة في الدنيا وفي الآخرة، حسرة في الدنيا أنها تضيع ولا تحقق المراد الذي مِن أجله أنفقوه, سيصير لهم الهزيمة؛ فيتحسرون على أنهم بذلوا في هذا الطريق ما بذلوه, ثم لم يحصل مرادهم, {فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ}, يغلبهم أهل الإيمان، وبذلك يتحسرون على المال الذي أنفقوه في سبيل مغالبة هذا الدين, ثم : {........وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ}[الأنفال:36], فهذا خسارتهم في الدنيا، وخسارتهم في الآخرة، قال الله -جلَّ وعَلا- : {وَالَّذِينَ كَفَرُوا}, ليشمل هذا كل مِن هذه صفته, {إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ}, لا إلى غيرها، والحشر هو الجمع؛ فيحشرون يوم القيامة إلى جهنم, وقدَّم الله ما قال يحشرون إلى جهنم، قال : {إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ}, ليبيِّن أنه ليس لهم حشر إلا هذا ما لهم حشر إلى أي جهة أخرى، ولا جمع جهة أخرى إلا في جهنم عياذاً بالله، قال -جلَّ وعَلا- : {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ}, يميز يُفَرِّق؛ فيميز هذا عن هذا، بمعنى أنه إذا أصبح تفريق بين الصنفين؛ فأصبح هذا على جهة، وهذا على جهة تميز هذا مِن هذا, {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ}, الكفر خُبْث؛ لأنه دَنَس وقَذَر للقلب أولًا وللجوارح؛ اعتقاد نجس أنْ تعتقد أنَّ لله -تبارك وتعالى- نِدّ، شريك، شبيه، هناك إله معه غيره، أنْ تعبد مَن لم يخلقك، ولم يرزقك، ولم ينفعك، ولم يضرك، ولا بيده شيءٌ مِن هذا، وتترك، لا تعبد إلهك الحق، ومولاك الحق الذي خلقك وسوَّاك وعدلك وأقامك ورزقك, فتركك عبادة الإله الحق الذي له كل المِنَّة عليك، والذي به حياتك وبه موتك، وبه رزقك, كل أمرك إنما هو منه، وعنده ما تخاف، وعنده ما تحب, الذي يخاف منه عنده، عنده ناره التي يُعَذِّبُ بها الكفار، وعنده الذي تحب جنته ورضوانه, فهذا الذي يملك نفعك وضرك, هذا تتركه وتعبد غيره أكبر نجاسة، ونجاسة الشرك ليس بعدها نجاسة, {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا}[النساء:117], {لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا}[النساء:118], {وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ........}[النساء:119], فهذا يُتَّبَع الشيطان العدو, الإنسان هو الذي يُتَّبَع ويُسَار معه، ويُحَبّ، ويسار في طريقه، ويُتْرَك الرَّب، الإله، الخالق، الرازق، المحيي، المميت، الذي بيده الأمر كله ؟؟؟؟؟؟؟ فخبيث، الكفر خبث, ثم بعد ذلك مفردات هذا الكفر بعد ذلك مما يجعله، ويبيحه للكفار لأنفسهم مِن عند أنفسهم أباحوا لأنفسهم ما حرَّم الله -تبارك وتعالى-, وحرموا كذلك ما أحل الله -سبحانه وتعالى- فهو يُوَلِّد بعد ذلك طريق طويل مِن الخبث، الإيمان طيب، وذلك أنَّ المؤمن طيب؛ فقد اعترف أولًا، وآمن بإلهه ربه، مولاه وخالقه -سبحانه وتعالى- وبيده الأمر كله، واستقام على أمر الله -تبارك وتعالى- وأمر الله -عزَّ وجلَّ- كله طيبة, {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}[النحل:90], كل ما أمر الله به خير عند كل ذي عقل، وذي لُب، وكل ما نهى الله -تبارك وتعالى- عنه شر، لا يوجد شيء مما نهى الله -تبارك وتعالى- عنه وهو فيه خير، بل كله شر, فإذن هذا طريق الطيبين، الدين، والصراط المستقيم طريق الطيبين؛ فالله يخبر -سبحانه وتعالى- بأنه هذا حكمه{ لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ}, فى الآخرة كل الخبثة يكونوا بناحية، كل الطيبين بناحية، قال : {وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ}, الخبيث كله يجمعه الله -تبارك وتعالى- فيجعل بعضه على بعض, {فَيَرْكُمَهُ}, في جهنم, {فَيَرْكُمَهُ}, أي يجعله رُكَام طبقة فوق طبقة مِن هذا الرُّكام, {فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ}, الجعل التصيير أي يصير الله -تبارك وتعالى- كل هذا الخُبْث منذ بدأ في هذا الإنسان وإلى أنْ ينتهى يجمعه الله -تبارك وتعالى- كله بعضه مع بعض, {فَيَرْكُمَهُ}, في جهنم, الركام هو الهدم، فمصيره مصير الأمر الذي يُسْتَغْنَى عنه ولا يُرَاد؛ فَيُرْكَم في جهنم يُجْمَع، وجهنم حفرة، بئر عميق وتُلْقَى فيها الأفواج مِن هؤلاء الخبثاء فوجًا بعد فوج, {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}[الأنفال:37], {أُوْلَئِكَ}, بالإشارة إليهم، وإشارة البعيد, {هُمُ الْخَاسِرُونَ}, بالجملة الاسمية التي تدل على التمكن في الخبرية, {هُمُ الْخَاسِرُونَ}, كأنه لا يوجد خسارة إلا هؤلاء وهذه هي الخسارة الحقيقية؛ لأنَّ مَن كان مع هذا الركام فإنه خسر كل شيء، أول شيء لا مال، لا أهل، لا بيت، لا أولاد لا يوجد شيء مِن هذا، لا أصدقاء، لا خِلَّان، لا، لا، ليس له وَلِىّ, ثم نَفْسُهُ التي هي نَفْسُهُ خسرها، وذلك أنه أوردها هذا المكان أتى بها إلى هذه النار بعمله وظلمه وكفره هو الذي أوصلها إلى هذا المكان، وهذا المكان لن يموت فيه, لن يحيا فيه, لن يموت موت يستريح منه فتكون هذه النار محرقة، ويحترق وينتهى لا، ولا كذلك يحيا حياة نافعة له فيها شيء مِن الراحة، فيها شيء مِن الأمن، فيها شيء مِن الطمأنينة، فيها شربة ماء، فيها غفوة، فيها نومة، فيها نُعَاس لا، بل عذاب مستمر، وفي ازدياد، ازدياده مستمر, {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ}, هذا إذا استغاثوا بعد الضيق، والغم الشديد، وما هم فيه؛ فيستغيثوا؛ فالغوث بزيادة العذاب, {يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ}, المُهْل هو كل معدن مُذاب, العرب تسمي كل معدن مُذَاب مُهْل؛ فالرصاص المذاب، الحديد المذاب، النحاس المذاب مهل هذا؛ إذن ماء غليظ؛ لأنَّ الرصاص إذا أُذِيب ما يكون في رِقَّةِ الماء لا، هذا يصير سائل غليظ شديد، هذا معدن؛ فالله -تبارك وتعالى- يخبر بأنَّ الماء الذي يشربونه في غِلَظِ المهل، غليظ, {كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ}, ليس يشوى البطون، أو الشفاه لا، الوجه إذا قرب مِن الوجه، انشوى الوجه؛ فتسقط فروة وجهه في هذا الماء عياذاً بالله هذا مِن شدة حرارته، الله يقول : {........بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا}[الكهف:29], ساء هذا رِفقًا بهم، هذا ليس رِفق؛ لأنَّ هذا زيادة في العذاب عياذاً بالله؛ فالله يقول: {أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}, هؤلاء هم الخاسرون، إذن الكافر خسران في الدنيا والآخرة، يحارب الإسلام لكن حرب الإسلام ستنتهى بهزيمته، ضيع ماله؛ ثم ستكون له الهزيمة؛ ثم بعد ذلك خسر في الدنيا؛ ثم هذه خسارته في الآخرة, {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}[الأنفال:37].

 ثم نداء أخير للكفار : {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ}[الأنفال:38], {قُلْ}, الله -تبارك وتعالى- وَجَّهَ هذا النداء للكفار عن طريق النبي محمد، قل لهم، وذلك ليقوله النبي، وليقرأه عليهم -صلى الله عليه وسلم-, {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا}, عن حرب الله ورسوله, {يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ}, الإجرام السابق مِن التأليب والإنفاق والسعي في حرب النبي -صلى الله عليه وسلم- هذا يغفره الله -تبارك وتعالى-, الإسلام يَجُبُّ ما قبله، كل ما مَضَى مِن الكافر مِن إجرامه؛ فإنه إذا أتى الله -تبارك وتعالى- ودخل الإسلام أزال الله -تبارك وتعالى- عنه كل ما سبق, {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا}, عن الكفر وحرب الله ورسوله, {يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ}, لمَّا جاء عمرو بن العاص -رضي الله تعالى عنه- يبايع النبي -صلى الله عليه وسلم- وكان هذا في السنة السابعة مِن هجرة النبي بعد الحديبية، الحديبية كانت في السنة السادسة وبعد ذلك كانت في السنة السابعة عمرة القضاء جاء في هذه  الفترة، فترة الهدنة أسلم كثير مِن كبار قريش منهم عمرو بن العاص -رضي الله تعالى عنه-، يقول : لما جئت أُبَايِع النبي -صلى الله وسلم- على الإسلام قلت له يا رسول الله أمدد يدك لأبايعك، قال : فمد رسول الله يده؛ فقبضت يدي؛ فقال: مالك يا عمرو، قال: قلت اشترط يا رسول الله لي شرط؛ فقال لي: تشترط ماذا، قال: أشترط أنْ يُغْفَر لي يقول: فقال لي النبي: «يا عمرو ألم تدرى أنَّ الإسلام يَجُبَّ ما قبله، وأنَّ الهجرة تَجُبُّ ما قبلها، وأنَّ الحَجَّ يَجُبُّ ما قبله», فقال له: ما دريت إذا دخل الإنسان في الإسلام يُجُبّ، الجَبّ هو القطع مِن الأصل أي يقطع ما قبله؛ فيستأصله مِن أصله كل أعمال الكفر السابقة الله -تبارك وتعالى- يقطعها عن هذا المؤمن، وكأنه دخل اليوم، كأنه مولود الآن، كيوم ولدته أمه، وأنَّ الهجرة تَجُبُّ ما قبلها، وأنَّ الحج يَجُبُّ ما قبله, هذا رحمة مِن الله -تبارك وتعالى- وكلام عمرو، وذلك أنه قد سلف منه، مِن الذين سلف منهم حرب لله ورسوله، وحرب الإسلام، ووقوف في صف الكفار كل هذه السنين الطويلة؛ فلذلك خشي أنْ يكون يدخل الإسلام، وعليه هذا الحمل الكبير الذى يتحمله في حرب النبي -صلوات الله والسلام عليه- فى الكفر قبل هذا، قال: أشترط يا رسول الله، أشترط أنْ يُغْفَرَ لي؛ فقال له النبي : «الإسلام يَجُبُّ ما قبله», {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا}, أي لقتال النبي، والتأليب عليه وحربه, {.......فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ}[الأنفال:38], أي فليتعلموا منِ الدرس السابق, {.......فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ}[الأنفال:38], سَنَّةَ الله في الأولين، طريقته -سبحانه وتعالى-, {الأَوَّلِينَ}, أي منهم؛ ففي بَدْر قتلهم الله -تبارك وتعالى- وكذلك في {الأَوَّلِينَ}, قبل هذا مِمَن عاندوا الرسل، وقاتلوهم ماذا كان فِعْل الله -تبارك وتعالى- لهم؟ فإنَّ الله -تبارك وتعالى- كذلك أهلكهم، لا يوجد قوم مِن الأقوام السابقة مِمَن عاندوا رسولهم، وكفروا به، وتحدوه إلا وقد استأصلهم الله -عزَّ وجلَّ-, هؤلاء قوم نوح أغرقهم الله -تبارك وتعالى- ولم يبقَ منهم أحد، ودعاء نوح عليهم حَقَّقَه الله -تبارك وتعالى- كما دعاه, {........رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا}[نوح:26], ساكن دار, {إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا}[نوح:27], وقد كان، الله -تبارك وتعالى- استأصلهم مِن الأرض، وكذلك عاد؛ فإنَّ الله -تبارك وتعالى- استأصلهم، ثمود كذلك بعدهم، قال -جلَّ وعَلا- : {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الأُولَى}[النجم:50], {وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى}[النجم:51], {وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى}[النجم:52], {وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى}[النجم:53], {فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى}[النجم:54], {وَالْمُؤْتَفِكَةَ}, قُرَى لوط, {أَهْوَى قلبها على رؤوس أصحابها, {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى}[النجم:55], {هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الأُولَى}[النجم:56], فالله يقول لهم : {.......فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ}[الأنفال:38] أي اتعظوا بما مضى مِن صنيع الرب -تبارك وتعالى- في {الأَوَّلِينَ}, قبلكم مِن الكفار انظروا ماذا صنع الله -تبارك وتعالى- بهم.

 ثم وَجَّهَ الله -تبارك وتعالى- الخطاب إلى أهل الإيمان فقال: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ}, {وَقَاتِلُوهُمْ}, أي يا أيها المؤمنون، إنَّ الله حَمَّلَ المؤمنين هذا العبء، وهو قتال الكفار ليس لأنَّ الله -تبارك وتعالى- يَعْجَز عن قتالهم، أو أنَّ الله يستعين بالمؤمنين على الكفار، لا, {وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ}, فهذا حِمْل حَمَّلَهُ الله -تبارك وتعالى- أهل الإيمان, فقال: {وَقَاتِلُوهُمْ}, أيها المؤمنون قاتلوا هؤلاء الكفار, {حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ}, هذا المدى الذي ينتهى عنده القتال, {حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ}, فُسِّرَت الفتنة بتفسيرين, التفسير الأول: {فِتْنَةٌ}, شِرك لأنَّ الشِّرك هو الفتنة فلا يبقى في الأرض شِرك، ظاهر، مستعلٍ, {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ}, الأمر الثاني : {حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ}, لمؤمن أي مؤمن يُعَذَّب، ويُفْتَن عن دينه حتى يعود عن الإسلام إلى الكفر, {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ}, أي حتى لا يكون لكافرٍ قوة وسلطان ومَنَعَة، وصد عن سبيل الله, يستطيع أنْ يَصُد عن سبيل الله، ويَفْتِن أهل الإيمان أنْ يدخلوا في الدين, {وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ}, الدين الخضوع يكون خضوع الجميع لله رب العالمين -سبحانه وتعالى-, هذا هو المدى الذي أمر الله -تبارك وتعالى- أهل الإيمان أنْ يقاتلوا ليصلوا إليه, {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ}, وهذا الأمر في قتال الطلب أي اطلبوا الكفار أين ما يكونوا، ولو في أقصى الأرض حتى لا يبقى في الأرض شِرك، ظاهر، مستعلٍ، ونقول ظاهر، مستعلٍ، وذلك أنَّ الله -تبارك وتعالى- قد سبق في علمه أنَّ الكفار يقاتلوا، وأهل الكتاب, {........حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}[التوبة:29], وإنْ بقوا على دينهم، وكذلك حتى لا يبقى في الأرض مؤمن يُفْتَنُ عن دينه, {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ}, الدين كله خضوع العباد جميعًا لله -تبارك وتعالى-, {........ فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}[الأنفال:39], {فَإِنِ انتَهَوْا}, الكفار عن فتنة المؤمنين، وعن الدين, {فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}, الله بصير بما يعملون، أو {فَإِنِ انتَهَوْا}, أي للكفر، ودخلوا؛ فإنَّ الله -سبحانه وتعالى- {بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}, عليمٌ بعملهم -سبحانه وتعالى- وسَيُحَاسِبُ كل إنسان على عمله, {وَإِنْ تَوَلَّوْا}, ما قبلوا هذا, لم يقبلوا هذا الإنذار مِن الله -تبارك وتعالى-, هذا تهديد وإنذار مِن الله -تبارك وتعالى-, هذه رسالة للكفار، الله يُرْسِل لهم هذه الرسالة ويحذرهم فيها, {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ........}[الأنفال:38], هذا دعوة تعالى كل جرائمك السابقة تُمْحَى عنك, {........وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ}[الأنفال:38], احذر إذا استمريت فيه عقوبة، انظر مَن سبقك, {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}[الأنفال:39], {وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ........}[الأنفال:40], {وَإِنْ تَوَلَّوْا}, عن سماع أمر الله -تبارك وتعالى- وعن الإذعان له, {فَاعْلَمُوا}, يا أيها المؤمنون, {أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ}, أعظم بشارة، أعظم قوة, الله الذي لا إله إلا هو -سبحانه وتعالى- رب السماوات، والأرض, {مَوْلاكُمْ}, أي يا أيها المؤمنون, المولى الناصر، ناصركم, معكم -سبحانه وتعالى-, {فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ}, ثم قال -جلَّ وعَلا- : {........نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ}[الأنفال:40], لا يوجد مَوْلَى مِثْل الله -سبحانه وتعالى-, {نِعْمَ الْمَوْلَى}, هو، وذلك بأنه بيده الأمر كله، وإليه يرجع الأمر كله هو القوي, هو العزيز، هو الغالب الذي لا يغلبه أحد -سبحانه وتعالى- هو الذي بيده مقادير الخلق، مُطَّلِعٌ على خفايا النفوس، ما يدبره الكفار؛ فإذا كنت في ولاية الله، لا توجد ولاية بعده أي قوة في الكون غير الله -تبارك وتعالى- لا يمكن أنْ تكون كقوة الرب -تبارك وتعالى-, {وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى}, {نِعْمَ}, للمدح لا مَوْلَى كالله -سبحانه وتعالى-, {وَنِعْمَ النَّصِيرُ}, الله -سبحانه وتعالى- نعم هو النصير لا نصير ينصر مَن والاه كالله -سبحانه وتعالى-.

 بهذا ينتهى هذا الفاصل العظيم جدًا مِن السورة بهذا التحذير للكفار, ثم بهذا الأمر الإلهى لأهل الإيمان أنْ يقوموا بواجب الجهاد إلى هذه الغاية هي بعيدة، ولكنها في دين الله -تبارك وتعالى- قريبة وقد كانت؛ فإنَّ المؤمنين قاموا بذلك حتى أصبح الدين كله في الأرض المعروفة في وقتهم لله -سبحانه وتعالى-, ثم يبدأ بعد ذلك فى السورة فاصل جديد فيه بيان الأحكام، وفيه رَد إلى ما كان مِن أول السورة, {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ}[الأنفال:1], يأتي هنا في هذه الآية تقسيم هذه الأنفال كيف تُقَسَّم هذه الأنفال، وبعد أنْ بَيَّنَ الله -تبارك وتعالى- في مَطْلَعِ هذه السورة أنَّ هذا الأمر له، وأنه ليس باقتراح أحد, الشباب يقولوا هذا نحن قاتلنا لنا، والشيوخ يقولوا بلاؤنا مثل بلائكم؛ فنحن كنا مع النبي أو كنا نحرسه، لا الأمر هنا مَرَدُّ الحكم في هذا الغنائم لله -تبارك وتعالى-, يقول الله -تبارك وتعالى- : {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[الأنفال:41], {إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ}[الأنفال:42], شَرَعَ الله -تبارك وتعالى- في هذه الآيات يُبَيِّن كيف تُقَسَّم الغنائم, فقال : {وَاعْلَمُوا}, أي يا أيها المؤمنون, {أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ}, {غَنِمْتُمْ}, أخذ غنيمة مِن الكفار, {مِنْ شَيْءٍ}, أي شيء, {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ}, خمُس الغنيمة كلها هذه الخُمس لله، أي أنه لله أي هذا كأنه قِسْم الله -تبارك وتعالى- وهذا القِسْم لخمسة مصارف, {وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ}, هم خمسة الله -تبارك وتعالى- ذكر نَفْسَهُ واسمه العزيز هنا في بداية هؤلاء لتشريف هذا الخُمس، تشريفه -سبحانه وتعالى- فقال لله : {........وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[الأنفال:41].

 لهذا تفصيل -إنْ شاء الله- في الحلقة الآتية، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم مِن كل ذنب، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد.