الخميس 20 جمادى الأولى 1446 . 21 نوفمبر 2024

الحلقة (224) - سورة الأنفال 41-46

الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة  والسلام على عبده ورسوله الأمين سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه، ومَن اهتدى بهداه، وعَمِلَ بسنته إلى يوم الدين.

وبعد؛ فيقول الله -تبارك وتعالى- : {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[الأنفال:41], {إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ}[الأنفال:42],  يُخْبِرُ -سبحانه وتعالى- عباده المؤمنين أن َّالذي يغنموه مِن الكفار؛ فإنَّ تقسيمه على هذا النحو، قال -جلَّ وعلَا- : {وَاعْلَمُوا}, أي أيها المؤمنون، وهذا العلم ليس مجرد أنْ يعلموه، وإنما هو فَرْضٌ مِن الله -تبارك وتعالى- وكتابة وتشريع, {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ}, أي شيء تغنموه، والغُنْم هو الكسب مِن الكفار على أي صورة مِن صور الكسب المشروع, {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ}, {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ}, الله -تبارك وتعالى- غني، وإنما شُرِّفَ هذا الخُمُس وهو خُمُس الغنائم دلَّ على أنَّ الغنيمة ستقسم إلى قسمين الخمُس وهذا هي مصارفه، والأربعة أقسام الباقية بعد الخمُس، وهي الأربعة أخماس فهذه إنما يأخذها الغانمون، ويستفاد هذا مِن قول الله : {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ}, فنسب الغُنْم إليهم؛ إلى المحاربين, {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ}, أي خمُس الغنيمة يخرج لهذه الأصناف الخمسة, شَرَّفَ الله -تبارك وتعالى- هذا الخمس، وجعله له -سبحانه وتعالى- فقال: {لِلَّهِ}, ليس قِسمًا وإنما هذا الخمس إنما هو يُخْرَج لله -تبارك وتعالى- وكأنه زكاة هذا الأمر أو الغنيمة، أو حق الله -تبارك وتعالى- في الغنيمة، وأما مصارفه فقال -جلَّ وعَلا- : {وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ}, خمسة مصارف؛ للرسول -صلوات الله والسلام عليه- جعل الله -تبارك وتعالى- خمس هذا الخمس للنبي -صلى الله عليه وسلم-, أو أنَّ هؤلاء الخمسة هم مشتركون في هذا الخمس، وقد قال كثير مِن أهل العلم أنه لا يشترط تقسيم الخمس بالتساوي بين هؤلاء الخمسة، وإنما بحاجة كل منهم؛ فالنبي قد كان مستغنيًا -صلوات الله والسلام عليه- وكان نصيبه في الغنيمة يجعله -صلى الله وسلم- في سبيل الله بعد أنْ يأخذ نفقة سَنَة لزوجاته, ثم بعد ذلك يجعل كل ما بقي بعد ذلك في سبيل الله, {وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى}, وهم قرابة النبي -صلوات الله والسلام عليه- شرفهم الله -تبارك وتعالى- وخصهم بجزء مِن هذا الخمس، أو بخمس الخمس، وذلك لأنَّ الله -تبارك وتعالى- قد حرمهم مِن مال الصدقات لأنَّ الصدقة والزكاة إنما هي تدخل في باب مد اليد، والذُّل, اليد العليا خير مِن اليد السفلى, لم يرد الله -تبارك وتعالى- أنْ يجعل يدى أقارب النبي -صلى الله وسلم- السُّفلى؛ فلذلك لم يبح لهم الصدقة، ولا الزكاة تباح لهم، وجعل لهم نصيبًا مِن هذا المال الشريف مال الغنيمة، مال شريف فجعله الله -تبارك وتعالى- جعله لهم قسمة مِن هذا، وقرابة النبي -صلى الله عليه وسلم- الذين لهم خُمْس هذا الخُمس هم بنو هاشم، وبنو المطلب الذين لم يفترقوا مع النبي لا في الجاهلية، ولا في الإسلام؛ ففي الجاهلية كان بنو المطلب وبنو هاشم شيئًا واحدًا، بل إنه لمَّا شرف الله -تبارك وتعالى- نبيه بالرسالة، وبعثه إلى الناس كان كل بني هاشم معه حتى كفارهم مَن آمن منهم، ولم يؤمن منهم كانوا موازيًا له، وكذلك بنو المطلب، وقد قال النبي: إنا وبنو المطلب لم نفترق لا في الجاهلية ولا في الإسلام؛ فهؤلاء هم ذوي القربى الذين لا تحل لهم الصدقة، وهم الذين خصهم الله -تبارك وتعالى- بهذا الخُمس مِن الخُمس, {وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى}, كل يتيم، اليتيم هو مَن مات أبوه، وهو دون البلوغ؛ فجعلها الله -تبارك وتعالى- هذا القِسْم كذلك لليتامى ذَكَر أو أنثى المسلمين, {وَالْمَسَاكِينِ}, جمع مسكين، والمسكين هو الذي لا يجد غِنىً يُغْنِيه، ولا يُفْطَنُ له فَيُتَصَدَّقُ عليه كما جاء وصفه في الحديث هو صاحب الحاجة، وغالبًا يكون مِن أهل المستورين الذين لا يسألون الناس إلحافًا جعل الله -تبارك وتعالى- لهم هذا القِسم، وهو خُمْس أيضًا مِن الخُمْسِ لهم, {وَابْنِ السَّبِيلِ}, هو كل مَن انقطعت به السُّبُل بعيدًا عن وطنه، وبعيدًا عن أهله، وليست له نفقة ينفق بها سُمِّىَ ابن سبيل نسبة إلى الطريق؛ فهذا المسافر الذي انقطعت نفقته وهو محتاج جعل الله -تبارك وتعالى- لهم خمُسْ الخُمْسِ؛ فهذا إذن هذا الخُمْس خُمْس الغنيمة سيقسم إلى خمسة أقسام للرسول -صلى الله عليه وسلم-, {وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ}, وأما الأربعة الأقسام الباقية مِن الغنيمة؛ فإنها توزع بين الغانمين والمحاربين، وكان النبي -صلوات الله والسلام عليه- يُعْطِي الأسهم بالتساوي، ويُعْطِي مَن يقاتل راجلًا سهم، ومن يقاتل على فرسه يعطي الفرس سهم، وللراجل سهم، وأحيانًا كان يُعْطِي الفرس سهمين، والراجل سهمٌ واحد، قال -جلَّ وعَلا- : {إِنْ كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ}, أي اعلموا هذا و التزموه ونَفِّذُوهُ، وبَيَّنَ أنَّ هذا شرط في إيمانهم؛ فقال : {إِنْ كُنتُمْ}, الشرطية, {إِنْ كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ}, أي فافعلوا هذا, {وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا}, المُنْزَلُ على النبي -صلى الله وسلم- وهو القرآن, {يَوْمَ الْفُرْقَانِ}, يوم الفرقان هو يوم بدر, سماه الله -تبارك وتعالى- فرقانًا لأنَّ الله -تبارك وتعالى- فرَّق به بين الحق والباطل؛ فأحق الحق جعل الحق ظاهرًا لكل ذي عين، وجعل الباطل باطلًا، كما قال الله فيه : {لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ}[الأنفال:8], فَنَصْرُ الله -تبارك وتعالى- للفئة القليلة على هذه الفئة الكثيرة هذه برهان، برهان لأنَّ هذا على اختلاف الأسباب؛ فالأسباب الجارية، والسنن الجارية أنَّ الكثرة تغلب القلة؛ فأما إذا جاءت قلة ضعيفة تغلب كثرةً قويةً هذا على خلاف نظام الأسباب والمسببات؛ فالله -تبارك وتعالى- خرق العادة على هذا النحو؛ ليكون هذا دليل وبرهان على أن الله -تبارك وتعالى- مع هذه الفئة المؤمنة, {يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ}, الجمعان؛ جَمْعُ النبي -صلى الله عليه وسلم- وأهل الإيمان هذا جَمْع، والجمع الآخر قريش التي اجتمعت لحرب النبي -صلوات الله والسلام عليه- {........وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[الأنفال:41], والله -سبحانه وتعالى- {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}, ومَن قدرته -سبحانه وتعالى- أنه نصر الفئة القليلة على الفئة الكثيرة؛ فهذا مِن عظيم قدرته -سبحانه وتعالى- والله -تبارك وتعالى- لا يَحُدُّ قدرته شيء, {........وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[الأنفال:41].

 ثم ذَكَّرَهُم الله -تبارك وتعالى- بأن كل أمر هذه الغزوة كان بتدبيره، وبترتيبه -سبحانه وتعالى- قال : {إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ}[الأنفال:42], هذا بيان عظيم قدرته -سبحانه وتعالى- وتدبيره -جلَّ وعَلا- في هذه الغزوة, {إِذْ أَنْتُمْ}, أي اذكروا {إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا}, العدوة هي جانب الوادي، الوادي هو مجرى السيل، وأحيانًا يأتي يصطدم بمكان مرتفع؛ فيقوم يعدو عن هذا المكان المرتفع ويميل عنه؛ فهذه الجانب هو انحناءة الوادي، وتكون مرتفعة هذه عدوة الوادي, {إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا}, وهي القريبة، وهي جهة المدينة, {وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى}, البعيدة والتي هي جهة مكة, {إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا}, جانب الوادي مِن جهة الدنيا لكم جهة المدينة, {الدُّنْيَا}, القريبة, {وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى}, البعيدة, {وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ}, {الرَّكْبُ}, هو عِير أبى سفيان، العِير التي كان عليها أبي سفيان, {أَسْفَلَ مِنْكُمْ}, وذلك أنها كانت بِسَاحِل، أي سَاحَلَ جهة البحر وابتعد عن الطريق، كان هذا هو الطريق، ولكنه ابتعد هناك أَسَفَلَ منهم وذلك أنَّ هذا المكان مرتفع، وذلك المكان الذي بساحِل البحر مكان منخفض, {وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ}, قال -جلَّ وعَلا- : {وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا}, أي لو تواعدتم لأنْ تلتقوا للحرب على هذا النحو, {لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ}, إما أنكم تأخرتم قليلًا، هم تأخروا، لم تنزلوا في هذا المكان، نزلتم في مكانٍ آخر، وإنما رَتَّبَ الله -تبارك وتعالى- هذا الأمر على غير مواعدة منكم، وتنظيم لهذا الأمر مِن عندكم، ولكن الله -تبارك وتعالى- دَبَّرَهُ، ورتب الأمر ليكون اللقاء على هذا النحو، في هذا المكان بهذا الزمان، بهذه الصورة التي أَهَّلَت المسلمين بعد ذلك لأن ينتصروا على عدوهم, {وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا}, أي أراد الله -تبارك وتعالى- أنْ يقضي، القضاء هو الإبرام والفعل, {أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا}, لا بد أنْ يُفْعَلَ، وذلك أنه قضاء الله -تبارك وتعالى- وقدره، وهو أنْ ينصر عبده، ورسوله محمدًا -صلوات الله والسلام عليه- على هؤلاء الكفار, {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ}, أي صَنَعَ الله -تبارك وتعالى- ذلك، ودَبَّرَ ذلك {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ}, مِن الناس, {عَنْ بَيِّنَةٍ}, فيكون قد استبان له الأمر، واتضح تمامًا أنَّ النبي على حق، وأنَّ هؤلاء هم أهل الله وهم أُمَّتُهُ، وأنَّ هؤلاء الكفار جهم على غير دينه، وملته؛ فيصبح بعد ذلك الذي يهلك، يموت بعد واقعة بدر يموت كافرًا؛ فيموت على تَبَيُّنِهِ للكفر، وظهوره له، وأنه لا شُبْهَةَ فيه، ولا أمر شك يخالط القلب؛ فيهلك مَن هلك بعد ذلك كافرًا, {عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ}, ويحيا بعد ذلك من حي، {عَنْ بَيِّنَةٍ}, يحيا بالإيمان، والدين؛ فيحيا على البينة، وأنَّ هذا هو الحق؛ فيزداد المؤمن بذلك إيمانًا، قال -جلَّ وعَلا- {........وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ}[الأنفال:42], تأكيد, الله -جلَّ وعَلا- سميع لعباده -سبحانه وتعالى-, {عَلِيمٌ}, بأحوالهم -سبحانه وتعالى-, {........وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ}[الأنفال:42], وهذا فيه بيان أنَّ كل أمر إنما هو تحت بصر الرب -تبارك وتعالى-, وبعلمه -سبحانه وتعالى- فلا يغيب عنه شيء مِن أعمال خلقه -سبحانه وتعالى-, وفي هذا تحذيرٌ وتهديدٌ للكافر أنه اعلم أنَّ كفرك وعنادك إنما هو واقعٌ تحت سمع الله -تبارك وتعالى-  وبصره، وكذلك فيه بيان للمؤمن أنَّ الله -تبارك وتعالى- سميع عليم به؛ فيطمئن إلى جناب الرَّب -تبارك وتعالى- وأنَّ كل ما يعمله مِن خير، وما يقوم به إنما هو بسمع الله -تبارك وتعالى- وبصره وعلمه.

 ثم بيَّن كذلك مِن تدبير الله -تبارك وتعالى- كذلك استطراد لتدبير الله -تبارك وتعالى- فيَّ نصر عباده المؤمنين، قال -جل وعَلا- : {إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}[الأنفال:43], {إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا}, رؤية إلهية للنبي -صلوات الله والسلام عليه- أراه الله -تبارك وتعالى- أنَّ الكفار قليل، وقال -جلَّ وعَلا- : {وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا}, لو أراك الله -تبارك وتعالى- في نومك أنَّ الكفار كثيرون, {لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ}, وأخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه فقال لهم: إنَّ الكفار عددهم كثير، وكذا، وأنتم بالنسبة إليهم ستكونون قِلَّة؛ فإنَّ هذا كان يمكن أنْ يؤدى إلى تأخر بعض المؤمنين عن القتال، وخوفهم مِن أنْ يجابهوا عدوهم، وهم على هذا النحو؛ فيحصل الفشل والخلاف، ولكن الله -تبارك وتعالى- أرى نبيه -صلى الله عليه وسلم- أنَّ الكفار قليل، وهذا الذي وقع؛ فهم بالنسبة إلى المؤمنين، وإنْ كانوا كثرة لكنهم كانوا قليل، وذلك أنهم بمجرد أن رأوا المؤمنين ولوا الأدبار؛ فكان المؤمنون كأنهم لم يقاتلوا إلا عددًا قليلًا, {إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ........}[الأنفال:43], {وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ}, أي يقول بعضكم نقاتلهم، والبعض الآخر لا نقاتلهم، أو نُرْجِئ هذا، أو حتى نعود مرة ثانية، ونأتي بإخواننا الذين خلفناهم في المدينة، وهم يتوقون إلى القتال معنا؛ فنتقوى أكثر مِن هذه المرة، أو نحو ذلك؛ فيحصل التنازع في الأمر، قال -جلَّ وعَلا- : {وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ}, ولكن الله -تبارك وتعالى- سَلَّم المؤمنين مِن هذا الفشل، ومِن هذا التنازع بأنْ أرى الله تبارك وتعالى نبيه محمدًا -صلى الله عليه وسلم- أنَّ الكفار قليلون، وكذلك بَشَّرَهُ الله -تبارك وتعالى- بأنه سينتصر عليهم، كما قال النبي -صلى الله وسلم- قوموا، وأبشروا فإنَّ الله قد وعدني إحدى الطائفتين, وقد كان, {........وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}[الأنفال:43], {إِنَّهُ}, الرَّب -سبحانه وتعالى- الإله, {عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}, أي عليم بذوات صدوركم، وأنه لو كانت الرؤيا في أنَّ العدد هذا كبير لحصل هذا التنازع الذي يُخْبِرُ الله -تبارك وتعالى- عنه.

 ثم قال -جلَّ وعَلا- : {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ........}[الأنفال:44],  هذا كذلك مِن صنيع الرب -تبارك وتعالى- ليتم النصر, {وَإِذْ}, اذكروا, {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا}, أرى الله -تبارك وتعالى- عندما أصبحت الآن هذه رؤيا بصرية الآن عندما التقى الجمعان رأى المؤمنون أنَّ الكفار هذا العدد الذي هو أكبر منهم ثلاث أضعافهم رأوا أنهم عدد قليل؛ فأصبحت رؤية بصرية، ولكنهم رأوا أنَّ الذي أمامهم هذا قليل، وبذلك تشجعوا ليقاتلوا، وأنهم منتصرون إنْ شاء الله، قال -جلَّ وعَلا- : {وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ}, كذلك لمَّا نظر الكفار إلى جمع النبي -صلوات الله والسلام عليه- رأوا أنهم عدد قليل؛ فاستهانوا بهم، وقع عندهم الاستهانة، وترك أخذ الأُهْبَة والجِد والحزم في الأمر؛ فوجدوا أنَّ الأمر لن يكلفهم شيئًا كثيرًا، وأنهم منتصرون عليهم وبذلك ضعفوا ولم تشتد عزيمتهم للقتال, وكان هذا تدبير الله -تبارك وتعالى-, {وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ}, قال -جلَّ وعَلا- : {لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا}, النصر لأهل الإيمان، والهزيمة هذه المُذِلَّة، الماحقة لأهل الكفران, {لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا}, وذلك أنَّ الله قد قضاه أنَّ الله -سبحانه وتعالى- قد قضاه ما دام أنَّ الله -تبارك وتعالى- قد قضاه؛ فإنه لا بد أنْ يقع, {........لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ}[الأنفال:44], {وَإِلَى اللَّهِ}, لا إلى غيره، إلى الله وحده -سبحانه وتعالى-, {تُرْجَعُ الأُمُورُ}, الشئون؛ كل شئون الخلَقْ ترجع إلى الله -تبارك وتعالى- وذلك أنَّ الله -تبارك وتعالى- هو مُدَبِّرُ الأمر، وهو الذي يرجع إليه الأمر كله، وهو الحاكم في كل خلافٍ وقع بين عباده، وهو الحَكَم الفصل؛ فكل شئون العباد في النهاية راجعةٌ إليه -سبحانه وتعالى- في يوم القيامة, {وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ}, إبرامًا وفعلًا وحكمًا في نهاية المطاف الله -تبارك وتعالى- هو الذي ترجع إليه الأمور، وهو الحكم فيها، والحاكم فيها -سبحانه وتعالى-, كل هذا تذكيرٌ مِن الرب -تبارك وتعالى- بأنه هو الله, الإله -سبحانه وتعالى- الذي رَتَّبَ لهم هذا النصر، وساقه لهم على هذا النحو، ونقلهم خطوة خطوة في هذا الأمر حتى يتم أمر الله -تبارك وتعالى- الذي قد قضاه بأنْ ينصر عبده ورسوله محمد، وأنْ يُذِلَّ هؤلاء الكفار.

 ثم وَجَّهَ الله -تبارك وتعالى- بعد ذلك الخطاب إلى  أهل الإيمان ليأخذوا عُدَّةَ النصر, فقال -جلَّ وعَلا- : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[الأنفال:45], تنتقل الآيات إلى أسباب النصر، يُعَلِّمُ الله -تبارك وتعالى- عباده المؤمنين كيف ينتصروا، ما هي الأسباب التي يجب أنْ يأخذوها لينتصروا على عدوهم في كل وقت هذه أسباب الدائمة، قال : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}, نداءٌ لأهل الإيمان سماهم الله -تبارك وتعالى- عندما يناديهم ليُشَرِّعَ لهم، ليأمرهم، لينهاهم يناديهم بأحب الأسماء وأعلاها وأشرفها الإيمان فقال : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}, هذا حض على الفعل يا مؤمن، كما يقال لك يا ابن الأكرمين افعل كذا، وكذا؛ فهذا حضٌ وكذلك إلزام, {يَا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا}, أنت مؤمن يجب أنْ تلتزم بهذا؛ لأنَّ هذا مِن شرائط الإيمان، ومِن مقتضياته أنْ تطيع أمر الله -تبارك وتعالى- إذ يأمرك بكذا، أو ينهاك عن كذا لذلك مِن كلام ابن مسعود في هذا الأمر يقول: إذا سمعت, {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}, فارعه سمعك, إذا قرأت وسمعت إنَّ الله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}, ارعه سمعك، يقول: لأنَّ هذا أمر الله -تبارك وتعالى- إما أنْ يأمرك بخير، أو ينهاك عن شر؛ فاعلم أنَّ هذا أمر الله لا بد أنْ تسمع؛ لأنَّ هذا توجه لأمر مِن الله -تبارك وتعالى-, {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا}, إذا لقيتم لقاء حرب, {فِئَةً}, مِن الكفار, {فَاثْبُتُوا}, الثبات البقاء في الموقع، وفي المكان؛ فهذا الثابت, ضد الثبات هنا الفرار والخوف, {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[الأنفال:45], فأول شيء أمر بالثبات؛ ثم أمرٌ بِذِكْر الله -تبارك وتعالى- ذكرًا كثيرًا، ذكر الله استحضار أسماءه، وصفاته، وعظمته -سبحانه وتعالى- ذكر كثير، وذِكْرُ الله -تبارك وتعالى- فائدته، وثمرته في هذا الموطن أولًا أنْ يخاف الإنسان أنْ يخالف أمره لما في ذلك مِن العقوبة، كذلك أنْ يعلم ما على أمره مِن الخير؛ فيثبت لأنَّ طاعة أمر الله -تبارك وتعالى- وراها الخير والفلاح, كذلك أنه يذكر أنه مراقب له، وأنه عليم به؛ فيراقب العبد ربه -تبارك وتعالى- فهذا مِن أعظم أسباب النصر بعد الثبات؛ فالثبات هو حبس النَّفْسِ وصبرها في موقع القتال، وهو أشد المواقع كرهًا للنَّفْسِ، كما قال -جلَّ وعَلا- : {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ........}[البقرة:216], فأعظم ما تكرهه النفوس هو القتال، وذلك أنه تعريض النَّفْس للموت، وتعريضٌ للمال بالذهاب، وتيتيمٌ للأولاد، وما فيه مِن الآثار الكثيرة؛ فلذلك هو مِن مواضع الكره، أمر بالثبات؛ ثم أمر بذكر الله -تبارك وتعالى- ثم قال -جلَّ وعَلا- : {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}, أي بالثبات في موطن القتال؛ ثم بذكر الله -تبارك وتعالى- قال : {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}, لعل للترجي أي إذا اتخذتم هذه الأسباب أفلحتم، والفلاح هو النُّجْح، وحصول ما يتمناه الإنسان مِن مطلوبه الأكبر، ولا شك أنَّ الفلاح لا يكون على أعظم صوره إلا بدخول الجنة، والنجاة مِن النار هذا هو الفوز المبين، وهذا هو الفلاح الحق, {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}, تفوزوا برضوان الله -تبارك وتعالى- وجنته، وتنجو مِن عقابه -جلَّ وعَلا-.

 ثم قال -جلَّ وعَلا- : {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}[الأنفال:46], الآية الثانية جاء فيها ثلاث أسباب من أسباب النصر, فقال : {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ}, أمرٌ بطاعة الله -تبارك وتعالى- وطاعة رسوله طاعة مُطْلَقَة, {وَأَطِيعُوا اللَّهَ}, في أوامره، ما يأمركم الله به، وكذلك أطيعوا رسوله طاعة النبي -صلى الله عليه وسلم- لمن كان في وقته، أولًا طاعة لأمره التشريعي، وكذلك طاعة له بصفته هو الإمام والقائد والأمير؛ فحيث قال النبي -صلى الله عليه وسلم- افعل كذا، افعل كذا، كن في هذا المكان، كن في هذا المكان؛ فهذه كذلك يطاع هنا، وأما بعد موت النبي -صلى الله عليه وسلم- المقصود بطاعة النبي -صلى الله عليه وسلم- طاعته في كل ما أمر به -صلوات اِلله والسلام عليه- مِن أمور الدين, {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا}, التنازع، وهو الخلاف، وأنْ يشد هذا، ويشذ برأيه، ويلتزم برأيه فعند ذلك يصبح كأنه يتشقق أمرهم يتنازعون الأمر كل ينصرف إلى ناحية؛ فتتفرق جماعتهم,  {وَلا تَنَازَعُوا}, قال -جلَّ وعَلا- : {فَتَفْشَلُوا}, والفشل ضد النجاح وذلك إذا ظهر هذا الخلاف ظهر العدو، وجد العدو طريقه، والثغرة التي يدخل منها إليهم, {........فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}[الأنفال:46].

 سنعود -إنْ شاء الله- إلى هذه الآية في الحلقة الآتية، نكتفى اليوم بهذا, أستغفر الله لي ولكم مِن كل ذنب، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد.