الإثنين 13 ذو القعدة 1445 . 20 مايو 2024

الحلقة (225) - سورة الأنفال 46-54

الحمد لله ربِّ العالمين والصلاة والسلام على عبده ورسوله الأمين, سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه، ومَن اهتدى بهديه، وعَمِلَ بسنته إلى يوم الدين.

وبعد؛ فيقول الله -تبارك وتعالى- : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[الأنفال:45], {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}[الأنفال:46], في هاتين الآيتين جمع الله -تبارك وتعالى- أسباب النصر لأهل الإيمان يُعَلِّمهُم الله -تبارك وتعالى- كيف يتخذون الأسباب التي ىنتصرون بها على عدوهم, فقال : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا}, هذا أول أمر، الصبر والثبات والبقاء في موقع القتال، وعدم الفرار, {فَاثْبُتُوا}, ثم : {وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}, استحضِروا أسماء الرب -تبارك وتعالى- وصفاته -سبحانه وتعالى- مِن أنه مُطَّلِعٌ عليكم، ناظرٌ لكم, وهو مولاكم، هو مؤيدكم، هو معكم -سبحانه وتعالى-, أنه هو الرَّب العزيز، الكبير الذي هو أكبر مِن هؤلاء الكفار، وأعظم منهم -سبحانه وتعالى-, سبحوه، أَحْسِنُوا الظن به -سبحانه وتعالى- فَذِكْرُ الله -تبارك وتعالى- بأسمائه وصفاته أكبر معين للمقاتل في سبيل الله، المُقْدِم على الله -تبارك وتعالى- الذي يعلم أنَّ الله -تبارك وتعالى- لن يُضَيِّعَ عمله الصالح، وكذلك الذي يخافه إنْ خالف أمره، ولم يقم بما أمره عاقبه -سبحانه وتعالى- فاستحضار عظمة الرب استحضار أسمائه وصفاته وذكره أعظم معين لهم على ثباتهم، وعلى صبرهم، وعلى أنْ يتغلبوا على عدوهم، وأنْ لا تقف قوة بتاتًا أمامهم، قال : {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}, فلاح الدنيا والآخرة، فلاح الدنيا بالنصر والتمكين والمعافاة، وكذلك فلاح الآخرة بالفوز بالمطلوب الأكبر بجنة الله -تبارك وتعالى- ورضوانه، والنجاة مِن عقوبته وناره, {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ}, هذا مِن أسباب النصر أنْ تكونوا مطيعين لله -تبارك وتعالى- ورسوله طاعة مُطْلَقَة حيث أمر الله -تبارك وتعالى- بصلاةٍ وصيامٍ، بزكاةِ، بحجٍ، فتكونوا مطيعين لله -تبارك وتعالى- في أوامره -سبحانه وتعالى- كل ما يأمركم به، وكذلك أنْ تنتهوا عن كل ما نهاكم عنه، وكذلك طاعة رسوله؛ فطاعة النبي طاعة لله -تبارك وتعالى- فهذا مِن أسباب النصر، وكذلك طاعة النبي بالنسبة لِمَن معه طاعة ثانية، وهو أنه ما يأمركم به مِن شئون القتال يجب أنْ تطيعوه -صلى الله عليه وسلم-, {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا}, أي أمركم بينكم بمعنى تتقاسموه، ويشد كلٌ مِن ناحيته، وتختلفوا في الرأي, {فَتَفْشَلُوا}, الفشل ضد النجاح، وهو ظهور الخيبة والخسارة, {وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}, ذهاب الريح، ومجيء الريح العرب تقول : (هذا ريحه مواتية), مَن كانت الأمور تسير على حسب ما يتمنى ويريد، وهذا الآخر ذهبت ريحه، بمعنى أنه ليس الأمر سائرًا على ما يشتهي، كشأن مَن يسير في البحر؛ فتكون الريح رُخاء وعذبة؛ فيسير حيث يريد، وأما إذا اختلفت عليه رياحه تشتت أمره، ولم يصل بغيته, {وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}, تفشلوا، ولا يصبح أمركم قائمًا، مواتيًا, {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}, الصبر وهو حبس النَّفس عن المكروه، وهذا مِن أعظم أسباب النصر فإنَّ النصر مع الصبر لايمكن أنْ ينتصر الجيش والأمة إلا بأنْ تصبر، تصبر على الآلام، على الجراحات، على أنْ يقتل بعضها؛ فتحبس نَفْسَهَا؛ فإذا صبرت في مواطن القتال فازت في النهاية، فكل مَن التقى أعظمهم صبرًا هو الذي سيفوز في نهاية المطاف, {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}, معهم -سبحانه وتعالى- بتأييده ونصره وقوته -سبحانه وتعالى-.

ثم قال -جلَّ وعَلا- : {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ........}[الأنفال:47], هذا وصف لقريش الكفار عندما خرجوا لحرب النبي -صلوات الله والسلام عليه-, {خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ}, مِن مكة, {بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ}, كِبرًا وتعاليًا وافتخارًا بقوتهم، وما هم فيه مِن الإمكانيات والعدد والقوة والسُّمْعة, {وَرِئَاءَ النَّاسِ}, مرآة للناس ليراهم الناس؛ فخرجوا حتى يرى الناس قوتهم، وشدتهم، وبأسهم، وأنه لا أحد يستطيع أنْ يعارض أمرهم، وأنْ يقف سبيلهم، ويعترض تجاراتهم؛ فهم يريدون أنْ يُرُوا الناس ما هم فيه مِن العزة والقوة والأنفة, {وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}, هذا حقيقة فعلهم أنْ يصدوا الناس عن طريق الله -تبارك وتعالى-؛ فيحاربوا رسول الله، ويحاربوا أهل الإيمان ليمنعوا الناس أنْ يدخلوا في دين الله -تبارك وتعالى-, {وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}, قال -جلَّ وعَلا- : {وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ}, الله -سبحانه وتعالى- بما يعملونه, {مُحِيطٌ}, أي عَالِمٌ به مِن كل جوانبه لا يَخْفَى عليه شيء مِن أمرهم -سبحانه وتعالى-, الله نهى أهل الإيمان أنْ يكونوا كهؤلاء؛ فأولًا بيان ما كان عليه الكفار, ثم تحذير المؤمنين أنْ يخرجوا في يوم مِن الأيام، وهم يتشبهون ببعض صفات الكفار في فعلهم وخروجهم للقتال.

 قال -جلَّ وعَلا- : {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ}[الأنفال:48], {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ}, للكفار, اذكروا, {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ}, التزيين هو التجميل والتحسين، والشيطان زَيَّنَ للكفار أعمالهم القبيحة؛ فكل هذا أعمال قبيحة صد عن سبيل الله، حرب الله وحرب رسوله والبطر والأَشَر، وما هم فيه, كل هذه الأعمال والصفات القبيحة زَيَّنها الشيطان، وجَمَّلَهَا لهم في ناظريهم، وفي قلوبهم، فحسَّن لهم أعمالهم القبيحة, {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ}, قال لهم في نفوسهم : مَن يستطيع أنْ يقف أمامكم؟ {لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ}, كل العرب ليست هناك أُمَّة ولا قبيلة في العرب تستطيع أنْ تغلبكم، قال لهم هذا، وأدخل في روعهم أنهم هم القبيلة العليا، والجيش المنتصر، وأنه لا يستطيع أحدٌ أنْ يقف أمامهم، وقال : {لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ}, {َإِنِّي}, أي الشيطان، وذلك أنه قد أتاهم في صورة سُراقة بن مالك بن جُعْشَم المدلجي، وكانت قريش قد تخوفت مِن سُراقة، وذلك أنهم كانوا على خلاف مع بني مُدْلِج، وخافوا أنهم إنْ خرجوا لقتال النبي -صلى الله عليه وسلم- أنْ يخالف بنو مُدْلِج عليهم فيحاربوهم؛ فجاء الشيطان، وتصور لهم في صورة سُراقة، وهو سيد القوم، وقال لهم : {وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ}, أي أنا معين لكم، ومؤيد لكم، والجوار وهو أنْ يدخل إنسان مع إنسان فينصره، ويكون معه على أمره, {وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ}, قال -جلَّ وعَلا- : {فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ},{فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ}, أي رأت كل فئة الأخرى, أي جيش النبي -صلى الله وسلم- رأى جيش الكفار، وجيش الكفار رأى جيش النبى -صلى الله وسلم-, جاء هذا الشيطان الذي كان قد تصور في صورة سُراقة فنكص, والنكوص هو العودة إلى الخلف بشدة وبسرعة, {نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ}, أي ارتد راجعًا على عقبيه؛ فنادته قريش: إلى أين يا سراقة؟  فقال : {إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ}, الشيطان قال لهم، وذلك أنَّ الشيطان لما تراءى الجمعان رأى إبليس هذا اللعين رأى جبريل -عليه السلام- والملائكة، وقد نزلوا في صف أهل الإيمان مع النبي محمد -صلوات الله والسلام عليه-؛ فعلم أنَّ الإسلام وجيش النبي، وجيش الإيمان منتصرٌ لا محالة هذا معهم جبريل، ومعهم الملائكة؛ فعند ذلك فرَّ وخشي أنْ تكون هذه نهايته، وأنه إنْ قاتل معهم قُتِلَ في هذا الموطن؛ فعند ذلك فرَّ مِن المعركة، وقال للكفار وهم يرونه أنه هو سُراقة : {إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ}, البراءة هي البُعْد التام، والمنافاة التامة بين شأني وشأنكم, {إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ}, يبدو أنه قال هذا في نفسه، أو أسمعهم إياه, {إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ}, أرى شيئًا لا ترونه أنتم، وذلك أنه هو إبليس مِن الجِنِّ، ويرى الملائكة, {إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ}, رَأَى جبريل, {........إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ}[الأنفال:48], {إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ}, إما أنْ يكون كاذب على عادته؛ فإنه معاند لله -تبارك وتعالى- أو الخوف هنا يكون خوف مِن أمر محدد وهو أنْ يخاف أنْ يقتله الله -تبارك وتعالى- في هذا الوقت، وفي هذا المكان، أنْ يعاجل الله –تبارك وتعالى- له العقوبة في الدنيا, {........إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ}[الأنفال:48], وقوله : {وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ}, فإنَّ الله -تبارك وتعالى-, {شَدِيدُ الْعِقَابِ}, وهو هذا الخبيث يَعْلَمُ هذا، ولكنه مخذول، وإبليس لا ينقصه عِلْم بصفات الرب -تبارك وتعالى-, ولا بوعده، ولا بوعيده، ولكنه مخذول، ملعون، مطرود مِن رحمة الله -تبارك وتعالى- وقد سار في طريق الكفر، وأراد أنْ يسير فيه إلى نهايته عياذاً بالله, {إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ}, فخذلهم بعد أنْ شجعهم وزَيَّنَ لهم أعمالهم القبيحة، وقال لهم أنتم على الحق، ومحمد على الباطل، واذهبوا وقاتلوا، ولا أحد يستطيع أنْ يقف أمامكم، {لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ}, فبعد أنْ صنع هذا بهم، وأوصلهم إلى هذا المكان الذي فيه حتفهم، تخلي عنهم وهرب وتركهم, شأن الشيطان, {........إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ}[الأنفال:48].

 قال -جلَّ وعَلا- : {إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}[الأنفال:49], هذا أيضًا مقالة أخرى لمعاندين ومعارضين لأمر الدين, {إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ}, المنافقون مِن أهل المدينة، والنفاق إظهار الإيمان وإبطان الكفر, {وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ}, {مَرَضٌ}, الشك, الذين يشكون في أنَّ الله -تبارك وتعالى- سينصر رسوله، وسيعز دينه كانوا متخوفين الأمر يروا، دخلوا الإيمان مع النبي -صلوات الله والسلام عليه-, ولكن لم يتمكن الإيمان الحق مِن قلوبهم، ويثبتون على الإيمان، بل كأن أحيانًا تأتيهم ريب وشك في هل سينتصر هذا الدين؟ وهل سيقوم؟ أم لا يقوم؟ {إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ},  {مَرَضٌ}, الشك, {غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ}, لما هؤلاء رأوا أنَّ النبي خرج -صلوات الله والسلام عليه- ومعه هذه الفئة القليلة بالنسبة للكفار، وأنه ذهب ليقابل جَبَل, قريش بحدِّها وحديدها قالوا : أنَّى لهؤلاء أنْ يقاتلوا هؤلاء، قالوا هؤلاء ناس مغرورين، هؤلاء محمد ومَن معه مغرورون، ويظنون, {غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ}, دينهم غرَّهم يقولون : دينهم ألقى في نفوسهم شجاعةٌ موهومة، وإقدامٌ كاذب، وأنَّ هذا دفع بهم إلى هذا التغرير ليناطحوا الصخور والجبال؛ فهؤلاء قد غرهم هذا الدين، دينهم الذي يقول لهم أنتم الأعلون، وأنتم الشجعان وأنتم المنتصرون، وأنتم وأنتم؛ فاغتروا بهذا الدين, {إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ}, وهذه مقالة نجسة مِن مقالات هؤلاء المنافقين، قال -جلَّ وعَلا- : {........وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}[الأنفال:49], {مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ}, أى أحد وأُمَّة تتوكل على الله تُسَلِّمُ أمورها لله -تبارك وتعالى- وتجعل الله هو وكيلها وأنه هو القائم بشؤنها، والذي تُسَلَّم له الأمور -سبحانه وتعالى- فسلموا أمورهم لله بعد أنْ قاموا بما أمرهم الله -تبارك وتعالى- به، قال -جلَّ وعَلا- : {فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ}, العزيز الغالب، العِزَّة الغلبة، والعرب تقول: مَن عزَّ بزَّ، يعنون مَن غَلَبَ استلب؛ فالله عزيز لا يغلبه أحد -سبحانه وتعالى-, {حَكِيمٌ}, يضع كل أمر في نصابه -سبحانه وتعالى-, ومِن حكمته تمكينه لعباده المؤمنين -جلَّ وعَلا-, {فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}.

 ثم قال -جلَّ وعَلا- مبينًا نواحي عزته وحكمته -سبحانه وتعالى- وقوته، قال : {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ}[الأنفال:50], أي لو رأيت هذا لرأيت أمرًا عظيمًا، فظيعًا, {وَلَوْ تَرَى}, {لَوْ}, الامتناعية التي تَقْلِب الفعل المضارع إلى فعل ماضي, أي لو رأيت هذا, {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ}, الملائكة يتوفون الذين كفروا، والتَّوفِّي هنا هو قبض أرواحهم، وسُمِّىَ قبض الروح وأخذه والموت وفاة؛ لأنَّ الوفاة هي الأخذ وافيًا أي يأخذونهم كاملين, {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ}, الملائكة يتوفونهم, {يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ}, عند الموت, {يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ}, ضَرْبُ الوجه، وكذلك الضرب مِن الدُّبر ضربهم على أقفائهم، وعلى ظهورهم, {........يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ}[الأنفال:50], أي يقول لهم كذلك : {ذُوقُوا}, قاسوا, {عَذَابَ الْحَرِيقِ}, عذاب النار المُحْرِق لكم عياذاً بالله؛ فهذا قوة الله -تبارك وتعالى- أي لم يُنَكِّل الله -تبارك وتعالى- ويعذب الكفار بأيدي المؤمنين فقط، بل بأيدي الملائكة الذين يقبضون أرواحهم، ويصنعون بهم هذا الصنيع, {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ}[الأنفال:50] يتوفونهم الذين قُتِلُوا في بدر، وكذلك هذا الحال في كل وفاة للكافر؛ فإنه تأتيه ملائكة العذاب، وتصنع به هذا الصنيع عياذاً بالله, {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ}[الأنفال:50], {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ}[الأنفال:51], {ذَلِكَ}, أي هذا العذاب، وهذا النكال, {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ}, بالسبب الذي قدَّمته أيديكم, و {قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ}, أي أسلفت قبل الموت ما سبق منكم مِن هذا العمل، ونَسَبَ عملهم كله إلى اليد؛ لأنَّ اليد هي أعظم الجوارح كسبًا، العرب تقول: هذا بما جنته يداك، وقد يكون جَنَىَ بعض الأشياء هذا بلسانه، برجله لكن اليد؛ لأنها أعظم جوارح الإنسان في الكسب؛ فلذلكم يُنْسَبُ لها الكسب كله, {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ}[الأنفال:51], واعلموا أنَّ الله -سبحانه وتعالى-, {لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ}, جاء هنا على صيغة المبالغة في الظلم، ولا شك أنَّ الله -تبارك وتعالى- لا يظلم مثقال ذرة, {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا}[النساء:40], فالمنفي هنا عظيم الظلم، وليس هنا لمفهوم المخالفة أنه يظلم شيئًا قليلًا، وذلك أنَّ المُخْبَرُ به قد يظن الناس أنه ظلم عظيم, انظر صنيع الله -تبارك وتعالى- في هؤلاء الكفار كيف يرسل لهم الملائكة يفعلون بهم هذا الفعل؛ فيبدأون العذاب مِن عند قبض الروح، مِن قبل أنْ تُقْبَضَ أرواحهم يبدؤون الدخول في العذاب, {إِذْ يَتَوَفَّى}, في حال التوفي, {يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ}, في حال توفيهم, ثم : {وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ}, في الآخرة، قال -جلَّ وعَلا- إنَّ هذا ليس الذي تظنونه أنه مِن الظلم الكبير هذا الله ليس بظلام -سبحانه وتعالى-, {وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ}, لعباده -سبحانه وتعالى- وإنما هذا بما جنته يداهم، قال : {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ}, ذلك العذاب الذي هو على هذه الصورة مِن الإهانة والشدة هو بالسبب الذي قدَّمته أيديكم, {وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ}.

 ثم أَخْبَرَ سبحانه وتعالى أنَّ شأن هؤلاء الكفار مِن قريش كشأن مَن سبقهم، قال : {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ}[الأنفال:52], {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ}, الدأب هو السيرة والحالة؛ فآل فرعون، فرعون وقومه وجنوده قد انتهجوا هذه السيرة التي انتهجها هؤلاء، أو العكس أي أبو جهل فرعون هذه الأمة، ومَن معه ساروا على نَفْسِ السيرة والطريقة, وكانوا على نَفْسِ الحال الذي كان عليه فرعون الأول، فرعون موسى؛ فأخبر الله -تبارك وتعالى- أنَّ هؤلاء على درب أولئك قال : {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}, مِن قبل آل فرعون, {كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ}, كفروا بها؛ جحدوها، ولما جاءتهم أدلة التوحيد كتموها وغطوها، ودفعوا الحق, {كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ}, قال -جلَّ وعَلا- : {فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ}, الأخذ هو الإهلاك, أخذهم الله -سبحانه وتعالى- بمعنى أنه جمعهم وأهلكهم -سبحانه وتعالى- جميعًا {بِذُنُوبِهِمْ}, بسبب ذنوبهم التي ارتكبوها مِن الكفر والعناد؛ فإنه قد جاءهم أخذ الله -تبارك وتعالى-, {إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ}, تُخْتَمُ الآية هنا بهذا البيان الذي يُعَلِّل ويُبَيِّن لمَ فعل الله -تبارك وتعالى- بهم هذا، قال : {إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ}, لا توجد قوة تقف أمام قوته، وإنْ كانت قوة فرعون، {شَدِيدُ الْعِقَابِ}, شديد المعاقبة المؤاخذة، والعقاب هو النكال على الذنب، وسُمَّىَ عقاب؛ لأنه يأتى بعد الذنب؛ فالله -تبارك وتعالى- عاقبهم بهذا العقاب الشديد لأنه هو هكذا -سبحانه وتعالى-, هذه صفة مِن صفة الرب -تبارك وتعالى-, {إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ}, {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}[الأنفال:53], {ذَلِكَ}, لتعلموا, الإشارة هنا إلى سُنَّةِ الله -تبارك وتعالى- في عقاب هؤلاء المجرمين, {........بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}[الأنفال:53], أي أنَّ مِن صفة الرب -تبارك وتعالى- أنه لا يُغَيِّر نعمة أنعمها على قوم, أنعم على قوم بالأمن والطمأنينة والرزق الوفير، والصحة والعافية وخير هذه الدنيا، لا يُغَيِّر الله -تبارك وتعالى- ما بهم مِن هذه النعمة إلا إذا غَيَّرُوا ما بأنفسهم مِن طاعة الله -تبارك وتعالى-, والإذعان له إلى الكفر، والعناد؛ فلما يكفروا، ويعاندوا، ويغيروا ما بأنفسهم مما هو سبب لنعم الله -تبارك وتعالى- عند ذلك يُغَيِّرُ الله -تبارك وتعالى- عليهم؛ فلما كان مِن شأن هؤلاء الكفار أنهم قد مَكَّنَهُم الله -تبارك وتعالى- في مكة وأعطاهم وبذل لهم الأسباب التى يعيشون بها أفضل العيش، ولكنهم بعد ذلك قاموا؛ فكفروا بالله -تبارك وتعالى- وعاندوا رسله؛ فإنَّ الله -تبارك وتعالى- غَيَّرَ أمر النعمة التي كانوا فيها إلى هذه النقمة، وهذه العقوبة التي عاقبهم الله بها, {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ........}[الأنفال:53], أي مِن طاعة الله -تبارك وتعالى- والإذعان له, {........وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}[الأنفال:53], {سَمِيعٌ}, لعباده -سبحانه وتعالى- لا يخفى عليه صوت مِن أصواتهم, {عَلِيمٌ}, بأحوالهم -سبحانه وتعالى-؛ ولذلك فإنه لا يمكن أنْ تأتي عقوبة مِن الله -تبارك وتعالى- بغير ذنب، أو في غير محلها لا؛ فالله -تبارك وتعالى-, {سَمِيعٌ}, بكل عباده, {عَلِيمٌ}, بهم -جلَّ وعَلا-, ثم قال -جلَّ وعَلا- موضحًا الصورة أكثر :{كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ}[الأنفال:54], حال هؤلاء الكفار في أخذ الله -تبارك وتعالى- لهم في بدر, {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}, كذلك, {كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ}, كذبوها؛ قالوا إنَّ هذا الصدق كَذِب، قال -جلَّ وعَلا- : {فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ}, الإهلاك هنا كل أمة بصورة مِن صور الهلاك؛ فقوم نوح بالغرق، قوم عاد بالريح، قوم ثمود بالصيحة، قوم مَدْيَن بالظُّلَة، قوم فرعون بالغرق، قال -جل وعلا- : {فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ}, ثم بيَّن الله -تبارك وتعالى- كيف أهلك آل فرعون، قال : {وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ}, هذه صورة مِن صِوَر العذاب الذي نالهم، قال -جلَّ وعَلا- : {وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ}, كلٌ مِن هذه الأُمم التي أهلكها, {كَانُوا ظَالِمِينَ}, فلم يهلك الله -تبارك وتعالى- أُمَّة مِن تلك الأُمَم السابقة، وهم على العدل، وعلى الدين, بل {كَانُوا ظَالِمِينَ}, ظالمين لأنفسهم بما هم فيه مِن الكفر والشِّرك، ورَدّ آيات الله -تبارك وتعالى- والتكذيب بها.

 نقف هنا، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد.