الجمعة 21 جمادى الأولى 1446 . 22 نوفمبر 2024

الحلقة (226) - سورة الأنفال 55-63

الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة  والسلام على عبده ورسوله الأمين, سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه، ومَن اهتدى بهديه، وعَمِلَ بسنته إلى يوم الدين.

وبعد؛ فيقول الله -تبارك وتعالى-  : {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ}[الأنفال:55], {الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ}[الأنفال:56], {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ}[الأنفال:57], {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ}[الأنفال:58], {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ}[الأنفال:59], هذا فاصل جديد مِن هذه السورة؛ سورة الأنفال، وفيها يُعَلِّمُ الله -تبارك وتعالى- عباده المؤمنين كيف التعامل مع الكفار، وذلك في مسألة العهود، والمواثيق, فقال -جلَّ وعَلا- : {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ}[الأنفال:55], هذا إخبارٌ مِن الله -تبارك وتعالى- أنَّ شر مَن يدب على هذه الأرض الكفار, {الدَّوَابِّ}, جمع دابة، والدابة كل ما له دبيب، وسير على الأرض مِن النملة الصغيرة إلى الفيل الكبير؛ فشر مَن يدب على الأرض، ويسير عليها الكفار، شر مِن كل الدواب حتى أَشَر هذه الدواب؛ فإنَّ كل هذه الدواب مِن الحيوانات هي سائرة وقائمة بما خُلِقَت له إلا الكافر، الكافر هذا هو أخس كل هذه الدواب، وذلك أنه منتكس لا يقوم بما خُلِقَ له مِن عبادة الرب -تبارك وتعالى- والإيمان به، والقيام بأمره -سبحانه وتعالى-, وشكره على ما أعطاه وأولاه، وهو الله ربه وخالقه ومولاه، ولكنه جاحدٌ لربه، كافرٌ به؛ فهو أخس أنواع الدواب على هذه الأرض,  {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ}[الأنفال:55], {كَفَرُوا}, بالحق، بآيات الله -تبارك وتعالى- وهم {لا يُؤْمِنُونَ}, لا يُصَدِّقُونَ ولا يعملون بمقتضى التصديق؛ فهم لا يُصَدِّقُونَ كلام الله -تبارك وتعالى- بل ردوه مع وضوح آيات الإيمان؛ فهذا أنجس عمل، وقد تمثل به هؤلاء الكفار؛ فكانوا بذلك أنجس وأشر ما يدب على وجه هذه الأرض مِن دوابها, ثم ذَكَرَ الله -تبارك وتعالى- كذلك نوع مِن خِسَّةِ هؤلاء الكفار أنهم لا يقيمون عهدهم لا مع الله -سبحانه وتعالى-, ولا مع عباده المؤمنين، قال: {الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ}[الأنفال:56], الكافر خسيس، وهذا مِن فعل الكافر, {الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ}, والعهد هو الميثاق المؤكد, {ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ}, في كل مرة يُعَاهِدُوا على أمر معين، ولكنهم ينقضوه، ونقضه هو مخالفته أصل النقد هو الفك بعد الإحكام؛ فيفكون هذا الأمر بعد ما يحكمونه بعد ما أعطوا عهدهم وميثاقهم، وأشهدوا على هذا؛ فيقوموا بنقض هذا العهد ومخالفته وخيانته, {الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ}, أي في كل مرة تعاهدهم يعودون إلى النقض, {وَهُمْ لا يَتَّقُونَ}, لا يخافون ربهم -سبحانه وتعالى- لا يخافون إلههم ومولاهم، وكذلك : {لا يَتَّقُونَ}, مِن العقوبة التي يُنْزِلُهَا الله -تبارك وتعالى- فيهم بأيدي هؤلاء المؤمنين، قال -جلَّ وعَلا سبحانه وتعالى- مُعَلِّمًا رسوله -صلوات الله والسلام عليه-, وبيَّن لهم السياسة والطريقة التي يتعامل بها مع هؤلاء الذين هم أَشَر دواب هذه الأرض، وأهل نقض العهود قال : {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ}[الأنفال:57], {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ}, {تَثْقَفَنَّهُمْ}, تقبضن عليهم يقعوا تحت قهرك وأسرك، وثَقِفَهُ بمعنى أنه تَمَلَّكَ منه وأخذه, {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ}, تتغلب عليهم، وتأخذهم ويصبحوا في حوزتك، وتحت قبضة يدك في الحرب, {فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ}, أي نَكِّل بهم تنكيلًا شديدًا بحيث أنَّ البعيد عنهم يخاف كل الخوف منك؛ فيَشْرد, {فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ}, أي البعيدين منهم؛ مِن الكفار الذين هم بعيدين عن قبضة أهل الإيمان؛ فإذا رأوا أنَّ هؤلاء قد نُكِّلَ بهم؛ فإنهم عند ذلك يخافون ويشردون, {فَشَرِّدْ بِهِمْ}, شَرِّد بهؤلاء, {مَنْ خَلْفَهُمْ}, أي أنزل بهم العقوبة الشديدة, هؤلاء الذين قد ثقفتهم في الحرب حتى يخافهم الآخرون, {لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ}, {........ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ}[الأنفال:57], لعل هؤلاء الكفار يتذكرون أنَّ الله -تبارك وتعالى- مُنْزِل عقوبته بهم، وأنه قوي، قاهر -سبحانه وتعالى-, وأنَّ سياسة أهل الإيمان أنه لا هوادة معهم، ولا رحمة بهم؛ فيتذكروا هذا الأمر، ويعوه تمامًا، وأنه ثمة أمر إلهى بالبطش بهم وبمعاقبتهم, {لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ}, يتذكرون هذا الأمر؛ فيخافونك.

 ثم قال -جلَّ وعَلا- : {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ........}[الأنفال:58], {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً}, مِمَن عاهدتهم، والتخوف هو أنْ يَطَّلِع منهم على أمر، وأنْ تظهر بوادر أمر، وأنْ تكون هناك قرائن أنهم يريدون أنْ يغدروا بك ويخالفوا عهدهم؛ فإذا خفت هذا الأمر منهم، والإنسان لا يخاف مِن أمر إلا إذا كانت هناك فيه له بوادره، وله أماراته, {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً}, أنْ يخونوك في العهد الذي أخذته معهم, {فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ}, النبذ هو الإلقاء بإهمال أي انبذ إليهم عهدهم, {عَلَى سَوَاءٍ}, أنْ تقول لهم: نحن في حل مِن هذا العهد الذي عاهدناكم؛ لأنه قد ظهرت منكم بوادر خلاف هذا الأمر، وأنتم تنوون الخيانة لا عهد بيننا وبينكم على أمر، أي إذا خفت, {مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً}, فلا تخنهم, لا تغدر بهم لأنك قد رأيت أنهم سيخونوك؛ فأنت تغدر بهم قبل أنْ يخونوا، لا، بل لا بد قبل مهاجمتهم، ونقض العهد الذي بينك وبينهم أنْ يكون نقض العهد, {عَلَى سَوَاءٍ}, تعالوا العهد الذي بيننا وبينكم ألغيناه أو باطل؛ وذلك لما تَلَبَّسْتُم به أو ما تفعلونه، أو ما هو قائم مِن أمر الخيانة الذين تريدون أنْ تخالفوا بها العهد, {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ........}[الأنفال:58], {عَلَى سَوَاءٍ}, بينك وبينهم أنْ يكون الكل يَعْلَم, {........إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ}[الأنفال:58], أيًا إنْ كانوا؛ فالخيانة لا يرضاها الله -تبارك وتعالى-, لا يحبها مِن الكافر، والكافر هو أساسه خيانة؛ فإنه قد خان الله -تبارك وتعالى- وبالتالي  هيِّن عليه أنْ يخون المؤمنين، وكذلك لا يحب الله -تبارك وتعالى- الخيانة مِن عبده المؤمن؛ فحتى لو عاهد الكافر فإنه لا يجوز له أنْ يخونه؛ لأنَّ هذا عهد ومشارطة وميثاق؛ فلا يَحِلّ الله -تبارك وتعالى- للمؤمن أنْ يخون الكافر مع العلم أنه مؤمن، وهو في صف الله -تبارك وتعالى-, وفي صف أهل الإيمان لكن الله لا يحب مَن يخونون العهود, {........ فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ}[الأنفال:58].

 ثم قال -جلَّ وعَلا- : {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ}[الأنفال:59], هذا تهديدٌ مِن الله -تبارك وتعالى-, ونذارةٌ منه -جلَّ وعَلا- للكفار ألا يظنوا بأنفسهم أنهم أهل قوة ومَنَعَة، وأنهم سابقون غالبون لله -تبارك وتعالى- وغالبون لأهل الإيمان, {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا}, السبق هنا بمعنى الغَلَبَة أي أنهم غالبون وسابقون, {إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ}, لا يعجزوني, {إِنَّهُمْ }, أي الكفار, {لا يُعْجِزُونَ}, الله -تبارك وتعالى- يُعْجِزُوهُ قوة، وهربًا، وتسلطًا، لا، هم في قبضة الله -تبارك وتعالى- وتحت قهره، وبالتالي هم لا يعجزون الرب -تبارك وتعالى- فالله هو الرب الإله، الكبير -سبحانه وتعالى- لا أكبر منه، ولا أقوى منه -سبحانه وتعالى-, وهذا تبشيرٌ لأهل الإيمان أنَّ الله -سبحانه وتعالى- معهم، وهو الرب الإله، القوى -سبحانه وتعالى- والكفار مهما كانوا مِن القوة؛ فإنهم لن يعجزوا الرب -جلَّ وعَلا-.

 ثم قال -جل وعلا- موجهَا خطابه لأهل الإيمان، قال : {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ}[الأنفال:60], {وَأَعِدُّوا لَهُمْ}, أي يا معشر المؤمنين, {مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ}, والإعداد هو التجهيز والتحضير, {لَهُمْ}, للكفار, {مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ}, كلمةٌ جامعة كل ما هو في طوقكم, {مِنْ قُوَّةٍ}, أي قوة يُسْتَعَانُ بها على القتال، وهذا يدخل فيه كل شيء؛ يدخل فيه إعداد السلاح، المال، عتاد، الفكر، النظر، الرجال المدربين الأقوياء، الأشداء كل ما دخل في القوة، وقد بيَّن النبي أقوى هذه القُوَى وأعظمها فقال -صلى الله وسلم- : « ألا إنَّ القوة الرمي، ألا إنَّ القوة الرمي، ألا إنَّ القوة الرمي»  أي ألا إنَّ القوة التي هي فوق كل قوة هي الرمي، وقول النبي : «القوة الرمي», كما يقول : «الحج عرفة», فعرفة ركن الحجِّ الأعظم، وإنْ كان في الحج مناسك أخرى لكن هذا ركنه الأعظم؛ فقول النبي : «القوة الرمي», أي أنَّ الرمي هو أعظم القوى، وها قد صدق رسول الله -صلى الله وسلم- فإن الرمي بدئًا بالرمي بالنبل وبالسهام والقوس, ثم نهاية بكل هذه المقذوفات هي التي شَكَّلَت في كل هذه العصور سلاح الحرب الأقوى والأعظم، ومَن مَلَكَ الرمي، مَلَكَ الحرب الرمي بالمقذوف؛ فكان القوم إذا فيهم رماة بالسهام في أول الأمر كانت فيهم قوة كبيرة، وكان الرامي الواحد يستطيع أنْ يوقف أضعاف، أضعاف عدده مِن الآخرين، راجلين، وهو محاربةٌ عن بعد, ثم بعد ذلك لما جاء بالمنجنيق, ثم لما اخْتُرِعَت البنادق, ثم, ثم مِن هذه المقذوفات العظمى، والكبرى صَدَقَ رسول الله «ألا إنْ القوة الرمي», فقول الله : {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ}, قوة للقتال, ثم خصَّ الله -تبارك وتعالى- بعد العموم، قال : {وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ}, بعد أنْ أَمَرَ الله -تبارك وتعالى- بأنْ يَعُدّ المسلمون كل عُدَّة للحرب خص رباط الخيل لما للخيل مِن شأن عظيم في القتال؛ فخصها بعد العموم؛ فقال : {وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ}, رباط الخيل المربوطة أي المحبوسة فقط على القتال لا تُسْتَخْدَم في أي أمر آخر هذا القتال محبوسة عليه؛ فخيل محبوسة فقط على القتال، ومُعَدَّة له؛ فهذه لها شأن أولًا أنها تكون مستعدة لهذا الأمر, ثم أنها تكون كذلك بنظر الكفار, ثم معلوم أنَّ الخيل بلاؤها أكثر مِن مجموعة مِن الرجال؛ فإنَّ مَن كان عنده فَرَسٌ أو حصان في القتال؛ فإنه يستطيع أنْ يقاوم عشرة وعشرين مِن الذين يحاربون على أرجلهم مِن الرَّجَالَة, {وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ}, قال -جلَّ وعَلا- : {تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ}, {تُرْهِبُونَ}, تخيفون، والرهبة هي الخوف مع التعظيم, {تُرْهِبُونَ بِهِ}, فيخافكم، ويعظموا شأنكم أعداء الله, {عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ}, وعدو الله هو عدوهم لكن هنا جاء التفصيل للتحضيض والحث, {تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ}, كل أعداء الله -تبارك وتعالى- وعدو جاء مفرد مضاف إلى معرفة؛ فيعم أعداء الله -تبارك وتعالى-, {وَعَدُوَّكُمْ}, وذلك أنهم هم في جانب الله -تبارك وتعالى- فعدو الله هو عدوهم، وقال: {وَعَدُوَّكُمْ}, أي مَن يعاديهم لله، وكذلك مَن يعاديهم لعزتهم ولمكانتهم؛ فهؤلاء كذلك يخافونكم, {تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ}.

 ثم قال -جلَّ وعَلا- : {وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ}, {وَآخَرِينَ}, مِن غير هؤلاء الموجودين, {مِنْ دُونِهِمْ}, غير هؤلاء, {لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ}, لا تعلمون أعدائكم؛ فإنَّ هناك أعداء أنتم {لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ} -تبارك وتعالى- {يَعْلَمُهُمْ}, ثم قال -جلَّ وعَلا- : {........وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ}[الأنفال:60], وقت نزول هذه الآيات كان العدو محصور الآن في كفار العرب، ومشركي العرب، ولم يكن يوجد تَطَلُّع بعد ذلك إلى أعداء آخرين مِن الفُرس ومِن الروم, ومِن كافة الأمم والشعوب التي أهَّلَ الله -تبارك وتعالى- أهْلَ الإسلام لقتالهم ولحربهم؛ فأخبرهم كأن الله -تبارك وتعالى- يقول لهم: الطريق طويل، وأعدائكم كُثُر لا تعلمونهم الله يعلمهم -سبحانه وتعالى- وبالتالي أعدو العدة؛ لأنَّ أمامكم طريق طويل في الجهاد والقتال, {وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ}, ثم قال -جلَّ وعَلا- : {........وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ}[الأنفال:60], ختمت هذه الآية بختام عظيم، وهو أعظم الحض على البذل في هذا؛ لأنَّ إعداد العُدَّة يحتاج إلى مال وجهد ووقت؛ فإعداد الرجال والسلاح والخيل، وكل قوة يحتاج إلى أموال شديدة وأوقات ونفقات هائلة، فقال -جلَّ وعَلا- : {........وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ}[الأنفال:60], إذا كان الله قد أمركم بإعداد هذه العُدَّة، وهي تحتاج إلى هذه الجهود، وهذه الأموال؛ فاعلموا أنَّ أي شيءٍ تنفقونه في سبيل الله, {يُوَفَّ إِلَيْكُمْ}, تعطونه وافيًا, وافي كامل, {يُوَفَّ إِلَيْكُمْ}, في الآخرة؛ فتعطون أجركم  كاملًا عند الله -تبارك وتعالى-, {وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ}, الظلم هنا البخس أي لا تُبْخَسُونَ شيئًا مما تنفقونه في سبيل الله.

 ثم قال -جلَّ وعَلا- : {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}[الأنفال:61], {وَإِنْ جَنَحُوا}, الكفار، ومعنى جنحوا مالوا، وجُنُوحُ الطير إذا ضربت طير؛ فإنه يقع لجناحه أي عندما يصاد الطير؛ فإنه يقع يقول: جنح الطير، جَنَحَ بمعنى أنه طاح لجناحه, فالله يقول: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ}, أي كُسِرَ جناحهم، ومالوا طالبين السلم، قال -جلَّ وعَلا- : {فَاجْنَحْ لَهَا}, بمعنى أنك مِلْك ذلك إلى السلم، واقبل مسالمتهم, {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ}, اجعل توكلك على الرَّب -سبحانه وتعالى-, {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}, وذلك قد يقال بأنهم يريدون السلم لِيَتَقَوُوا، وليستعدوا إلى الحرب، فقال -جلَّ وعَلا- : {فَاجْنَحْ لَهَا}, ما دام أنهم طلبوا السلم بعد رؤيتهم غلبة أهل الإسلام، وقوتهم، قال -جلَّ وعَلا- اقبل هذ منهم، وذلك أنَّ السلم فرصته للدعوة إلى الله -تبارك وتعالى-, ودخول الناس في الدين لعلها أكبر مِن فرصة الحرب، قال : {........فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}[الأنفال:61], {إِنَّهُ}, الرب -سبحانه وتعالى-, هو {السَّمِيعُ}, لكل عباده -سبحانه وتعالى-, عليم بكل أحوالهم؛ فلا تخف؛ فإنَّ الله -تبارك وتعالى- معكم, هو {السَّمِيعُ}, وهو {الْعَلِيمُ}, -سبحانه وتعالى-.

 ثم قال -جل وعلا- {وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ}[الأنفال:62], {وَإِنْ يُرِيدُوا}, الكفار, {أَنْ يَخْدَعُوكَ}, أي بطلب الأمن والسلم، ووضع الحرب، ويتخذوا هذه الفُرصة للاستعداد بك، أو المكر بك، أو خيانتك؛ فيأمنوك, ثم بعد ذلك يغدروا بك، قال -جلَّ وعَلا- : {فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ}, كافيك، الحسب هو الكافي؛ فلمَّا تقول لإنسان حسبك كذا يكفيك أي حسبك مِن القراءة، حسبك مِن جمع المال أي يكفيك ما جمعته, {حَسْبَكَ اللَّهُ}, أي يكفيك الله كل ما أهمك، {فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ}, أي أنه كافيك مِن كل ما يهمك، مِن كل ما يشغلك، ومِن كل نواحيك يكفيك الله -تبارك وتعالى- الله هو الحسب، وهو الكافي -سبحانه وتعالى-, كما قال -جلَّ وعَلا- : {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ........}[الزمر:36], أي بكافيه، لا يطلب مع الله أحد إذا كان الله معك، فلا تحتاج إلى غيره -سبحانه وتعالى-, {فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ}, كافيك, {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ}, هو الرب -سبحانه وتعالى-, {الَّذِي أَيَّدَكَ}, قواك التأييد التقوية، هو الذي قواك -سبحان وتعالى-, {بِنَصْرِهِ}, في بدر, {وَبِالْمُؤْمِنِينَ}, وأيدك بالمؤمنين، جعل الله -تبارك وتعالى- هؤلاء المؤمنين الذين التفوا حولك واجتمعوا بك، قوة قواك الله -تبارك وتعالى- بهم، وهذا مِن أسباب نصره -سبحانه وتعالى-, {........ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال:62], {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ}, هذا مِن أسباب النصر تأليف الله -تبارك وتعالى- بين قلوب أهل الإيمان، والتأليف التوفيق، والجمع مع عدم النفرة والخلاف جمعهم، وجعل قلوبهم مؤتلفة، متحابة، متراصة، منسجمة يحب بعضهم بعضًا, {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ........}[الأنفال:63], هذا بيان أنَّ هذا الفعل لا يقدر عليه إلا الله -سبحانه وتعالى-, وأنه لو بُذِلَ في هذا السبيل مِن الأسباب ما بُذِل لم يتحقق هذا، وقد حققه الله -تبارك وتعالى- مِن عنده -سبحانه وتعالى- بأدنى شيء, {لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا}, أي عليهم إذ تألف قلوبهم، تُعْطِى هذا عندك كل الأموال، وتُعْطِى هذا، وتُعْطِى هذا حتى تجمعهم هذا الجمع، وتؤلف بين قلوبهم هذا التأليف، وتجعلهم مستعدين للبذل والتضحية على هذا النحو, {مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ}, هذا التأليف الذي ألَّفَهُ الله -تبارك وتعالى- وقد كان لا شك أنه معجزة أي هذا أمر مُعْجِز؛ فإنه كيف استطاع النبي -صلوات الله والسلام عليه- أنْ يجمع هذه شعوب العرب وقبائلها المتنافرة، المتحاربة كل أبناء عم يقتل بعضهم بعضًا، لا يوجد أبناء عم كانوا على وِفَاق الأوس والخزرج أبناء عم، ولكن الحروب بينهما مستمرة لمئات السنين، وهم يحارب بعضهم بعضًا، ولا توجد في الجزيرة إلا وحروب مشتعلة، وخصومات دائمة, ثم إنَّ الله -تبارك وتعالى- جمع هذا الشتات المختلف، المتحارب، المتعادي، وأصبحوا إخوة يُصَلُّونَ في مسجدٍ واحدٍ، يفدي كل منهم أخاه، يؤثر أخاه على نفسه، وعلى أولاده، بل قد يُعْطِي الآخر طعامه الذي هو في حاجةٍ إليه، كما وصف الله الأنصار، قال : {........وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[الحشر:9], كيف اجتمع هذا القرشي  والأوسي والخزرجي والغِفَارِي والتميمي والهُذَلِي! كيف اجتمع هؤلاء مع ما كان بينهم مِن هذه النفرة، والخلاف والشقاق اجتمعوا حتى أصبحوا إخوة على هذا النحو! هذا أمر الله -تبارك وتعالى- ولو أنَّ حاكمًا وملكًا قام في العرب، وكانت عنده خزائن الأرض، وأعطى هؤلاء، وأغدق أمواله عليهم ليجعل هذا التأليف بينهم ما ألَّفَ بين هؤلاء، قال تعالى : {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ}, قلوب أصحاب النبي -صلوات الله والسلام عليه- الذين اجتمعوا عليه، واجتمعوا على نصرة هذا الدين, {لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ}, هذا فِعْلُ الله, {وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ}, غالب لا يغلبه أحد -سبحانه وتعالى-, {حَكِيمٌ}, يضع الأمور في نصابها؛ فَمِن عزته ومِن غَلَبَتِهِ -سبحانه وتعالى- أنْ جمع هؤلاء المختلفين هذا الجمع، وألَّف بينهم -سبحانه وتعالى- هذا التأليف, {حَكِيمٌ}, ثم أمرٌ للنبي، وتوجيه نداء إلى النبي، قال الله -تبارك وتعالى- : {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال:64], {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ}, خطاب إلهى مِن الله -تبارك وتعالى- لنبيه -صلوات الله والسلام عليه-, خاطبه الله واصفًا إياه بالنبوة, {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ}, وهذا مِن تكريم الله -تبارك وتعالى- لعبده ورسوله محمد -صلوات الله والسلام عليه-؛ فإنَّ الله -تبارك وتعالى- لم ينادِه قَط إلا بهذه الأوصاف، بالأوصاف العظيمة، وصف النبي له {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ},{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ}, {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ}[المدثر:1], {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ}[المزمل:1]، ولم يناده قَطّ باسمه -صلى الله عليه وسلم- في القرآن، ما قال له أبدًا يا محمد، أو يا بن عبدالله، أو يا أبا القاسم ما نداه باسمه ولا بكنيته، وإنما ناداه بهذا بوصفه الشريف، العظيم كونه نبي الله -تبارك وتعالى-, وكونه رسوله, فقال له -جل َّوعَلا- : {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ}, {النَّبِيُّ}, النبيء مُنَبَّأ مِن الله -تبارك وتعالى-, {حَسْبُكَ اللَّهُ}, كافيك لا تحتاج مع الله -تبارك وتعالى- إلى غيره, كافيك في كل ما يهمك, {........وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}[الأنفال:64], أي حسبهم الله؛ فَمَن اتبعك مِن المؤمنين كذلك الله -تبارك وتعالى- حسبهم بمعنى أنَّ الله -تبارك وتعالى- كافيهم بل يعلم أهل الإيمان أنَّ الله -سبحانه وتعالى- حسبهم.

 عود -إنْ شاء الله- إلى هذه الآية مع سياقها -إنْ شاء الله- في الحلقة الآتية, أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم مِن كل ذنب، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد.