إنّ الحمد لله, نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله مِن شرورو أنفسنا، ومِن سيئات أعمالنا, مَن يهده الله فلا مضل له، ومَن يضلله فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله.
وبعد؛ فكنا في الحلقة الماضية مع قول الله -تبارك وتعالى- : {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}[الأنفال:64], {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ}[الأنفال:65], {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}[الأنفال:66], هذه الآيات في سياق سورة الأنفال، وهي السورة التي نزلت بعد بدر، وموضوعها في القتال هذه الآيات الثلاث في سياق السورة فيها حضٌ مِن الله -تبارك وتعالى- لنبيه -صلى الله وسلم- وللمؤمنين بالقتال، يقول الله -تبارك وتعالى- : {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}[الأنفال:64], هذه آيةٌ عظيمة، وهي قاعدة الأمر كله في شأن القتال، وهو أنَّ الله -تبارك وتعالى- يُعلن لنبيه أولًا، قال : {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ}, خاطبه -سبحانه وتعالى- بهذا الوصف أنه نبيه المنبأ مِن عنده، وقد ذكرنا في الحلقة الماضية أنَّ الله -تبارك وتعالى- لم يخاطب نبيه إلا بهذا الوصف الشريف: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ}, {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ}, {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ}[المزمل:1]، {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ}[المدثر:1], ولم يناده قَطّ في القرآن كله باسمه يا محمد مثلًا، أو بكنيته يا أبا القاسم، وإنما ناداه -سبحانه وتعالى- بوصفه وكونه النبي والرسول، وهذا مِن تكريم الله -تبارك وتعالى- لنبيه -صلى الله وسلم- خطاب تكريم, {حَسْبُكَ اللَّهُ}, إخبارٌ مِن الله -تبارك وتعالى-, {حَسْبُكَ اللَّهُ}, كافيك, إخبارٌ أنَّ الله -تبارك وتعالى- كافيه كل ما أهمه، وأعظم ما يهم الإنسان شأن القتال، والعدو والنصر عليه، وهذا له جوانب كثيرة، والله -تبارك وتعالى- يقول له : الله كافيك لا يحتاج مَن يكون الله -تبارك وتعالى- وَلِيُّه إلى أحد آخر، بل يكفيه مِن كل ما همه -سبحانه وتعالى- به, {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ}, إخبار وكذلك إعلام بأن اجعل الله -تبارك وتعالى- حسبك في كل شؤونك؛ فهو كافيك؛ فليكن توكلك واعتمادك والتجاؤك إليه -سبحانه وتعالى- وهو يكفيك مِن كل ما أهمك, ثم : {........وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}[الأنفال:64], كذلك بُشْرَى مِن الله -تبارك وتعالى- لعباده المؤمنين أنَّ الله -تبارك وتعالى- حسبهم كما أنه حسب رسوله؛ فالله -تبارك وتعالى- كذلك كافي عباده المؤمنين -سبحانه وتعالى- فأين ما كانوا وحيثما كانوا إذا كانوا متوجهين إلى الله -تبارك وتعالى- ملتجئين إليه، متوكلين عليه؛ فإنَّ الله -تبارك وتعالى- يكفيهم كل ما أهمهم -سبحانه وتعالى- وليس {........وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}[الأنفال:64], أي يكفونك مع الله, {........ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}[الأنفال:64], تكون الواو عاطفة, مَن ظن هنا أنَّ الواو عاطفة أخطأ خطئًا كبيرًا؛ فكأن المعنى يكون : {........ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}[الأنفال:64], كذلك يكفيك الله والمؤمنون، وهذا لا شك شِرك بالله -تبارك وتعالى-, وأنَّ الله -تبارك وتعالى- كافيه وناصره، ولو دون أحد دون المؤمنين لا يحتاج الله -تبارك وتعالى- أنْ يؤيد رسوله -صلى الله وسلم- بأنْ يجعل المؤمنين شركاء لله -تبارك وتعالى- في كفايته ونصره، لا، قال -جلَّ وعَلا- مؤكدًا نصره لرسوله قال : {إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}[التوبة:40], فالله كافٍ عبده وحده -سبحانه وتعالى-, ولا يحتاج الله -تبارك وتعالى- إلى أنْ يشرك غيره معه في كفاية عبده، وفي حسبه، بل الله -تبارك وتعالى- حَسْب عباده -سبحانه وتعالى- وهو كافيهم -سبحانه وتعالى-, وما يوجد الله -تبارك وتعالى- لهم مِن الأسباب هذا مِن فعله -سبحانه وتعالى- ومِن تيسيره وتدبيره, {........وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}[الأنفال:64], أي حسبهم الله؛ فليعلموا أنَّ الله -تبارك وتعالى- هو كافيهم، وهو متولي شؤونهم، وهو مولاهم -سبحانه وتعالى-, وقد قال -جلَّ وعَلا- : {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ........}[الزمر:36], الله وحده -سبحانه وتعالى- بكاف عبده سؤال للتقرير, {........وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ}[الزمر:36], فالله يكفي عبده -سبحانه وتعالى- مِن كل ما أهمه، وهذا في سياق القتال توجيه، قلنا أنه إخبار وتوجيه، إخبار مِن الله -تبارك وتعالى- أنَّ الله حسبه، وتوجيه وأمر لرسوله وللمؤمنين أن ْيكون لَجْئُهُم، وتوكلهم كله، وولايتهم كلها لربهم، وإلههم -جلَّ وعَلا-.
ثم قال -جلَّ وعَلا- : {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ}[الأنفال:65], أمرٌ مِن الله -تبارك وتعالى- بعد هذا النداء, {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ}, التحريض هو الحث والدفع، وهذا يدخل فيه أمور عظيمة مِن التحريض، مِن الترغيب في القتال والتخويف والترهيب مِن القعود عن نصرة الحق، وما في القتال مِن المنافع العظيمة، والآثار العظيمة في الدنيا والآخرة مِن النصر والتميكن، وإعلاء كلمة الله تبارك وتعالى, ثم الفوز برضوانه وبجنته؛ فيأمر الله تبارك وتعالى رسوله بأنْ يقوم بتشجيع المؤمنين وحثهم وحضهم على أنْ يقاتلوا في سبيل الله, {حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ}, ثم إخبارٌ مِن الله -تبارك وتعالى- وأمر, {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ}, هذا خبرٌ مِن الله -تبارك وتعالى- وبُشْرَى، وأنَّ الله -تبارك وتعالى- مؤيدٌ عباده المؤمنين، وأنه إنْ كان منهم عشرون صابرون يغلبوا مائتين، عشرون بوصف الصبر، وذلك أنَّ الصبر عماد النصر في القتال, {وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا}, فجعل الله -تبارك وتعالى- النسبة بين المؤمنين، والكفار نسبة واحد إلى العشرة {........يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ}[الأنفال:65], علل الله -تبارك وتعالى- هزيمة هذا العدد الكبير مِن العدد القليل مِن أهل الإيمان، قال: {بِأَنَّهُمْ}, أي الكفار, {قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ}, الفِقْه هو أخص مِن الفهم، وهو الفهم العميق للأمور؛ وذلك أنهم يقاتلون مِن أجل الدنيا، ويحرصون عليها، وهي غايتهم ومنتهاهم، وأما أهل الإيمان؛ فإنهم يقاتلون في سبيل الله يبتغون إحدى الحسنيين لا يوجد عندهم في نتائج القتال شر إنْ كانت الموت؛ فشهادة، وإنْ كان النصر؛ فانتصار، {قُلْ هَلْ تَربَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ}, {إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ},النصر أو الشهادة؛ فهذا حال المؤمن في القتال كله على خير يعلم أنَّ قتاله في سبيل الله خير كله مهما كانت نتيجة القتال حتى لو أنه قُتِلَ في سبيل الله؛ فإنَّ قتله شهادة ورِفعة ودرجة عند الله -تبارك وتعالى-, وأما الكفار فإنهم يقاتلون مِن أجل الدنيا، وبالتالي يحرصون على الحياة؛ ثم يقاتلون مِن أجل عقائد زائفة، أصنامهم وآلهتهم الباطلة ينصرونها، وهي لا تملأ القلب، وعندما يَجِدّ الجد ينفرون عنها، ويتركونها؛ فهم قوم لا يفقهون، لا يفقهون المعنى الحقيقي للقتال، وبذلك تظل قلوبهم خاوية، مُعَلَّقَة بهذه الدنيا، وأما المؤمن فإنه صابرٌ، محتسبٌ له هدف يَرْمِي إليه في القتال، وكل النتائج عنده هي خير؛ فإنْ قُتِلَ ففي سبيل الله، وإنْ انتصر؛ فإعلاء لكلمة الله؛ فلذلك كان قتال أهل الإيمان غير قتال أهل الكفران, {الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا}[النساء:76], قال ذلك : {بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ}.
ثم قال -جلَّ وعَلا- : {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا}, هذه الآية ناسخة للآية السابقة, {الآنَ}, نزلت هذه بعد تلك, {خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا}, خفف الله عنكم الإلزام، والإيجاب بأنْ يصابر المؤمن الواحد عشرة مِن الكفار، قال -جلَّ وعَلا- {........فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}[الأنفال:66], {فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ}, أيضًا بوصف الصبر وصفها الله -تبارك وتعالى-, {يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ}, أي مِن الكفار, {وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ}, فأصبحت النسبة واحد إلى إثنين؛ فإذا كان هناك مؤمن واحد يقابل رجلين مِن الكفار؛ فإنه سيغلبهم بإذن الله بهذا إذا قام بالوصف الذي وصفه الله -تبارك وتعالى- وهو الصبر, ثم قال -جلَّ وعَلا- : {وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}, ذُكِرَ الصبر في هاتين الآيتين ثلاث مرات لبيان أنَّ الصبر هو فقار، وعمود النصر في سبيل الله قلنا إنَّ هذه الآية جاءت خبر لأنها في واقع الأمر كذلك هي أمر؛ فهي خبر, {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ}, وهنا : {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ........}[الأنفال:66], إخبار ولكنه في صورة الأمر بأنْ يصابر المؤمن كان الأول المطلوب مِن المؤمن الواحد أنْ يصابر عشرة, ثم خفف الله هذا الحكم؛ فأصبح المؤمن الواحد يصابر ولا يفر مِن إثنين؛ فإنْ فرَّ بعد ذلك مِن ثلاثة لا يكون هذا فرارًا مِن الزحف، والدليل على هذا هو قول الله -تبارك وتعالى- : {خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا}, فدَلَّ على أنَّ هذا تكليف، ولكن هذا التكليف بالأمر جاء في صورة الخبر ليتضمن بُشْرَى الرَّب -تبارك وتعالى- وأنَّ القلة مِن المؤمنين تغلب الكثرة مِن الكافرين بهذا الوصف الذي هو وصف لازم للنصر وهو الصبر, إذن هذه الآيات في تعليم أسس وقواعد القتال آيات شاملة مِن قول الله -تبارك وتعالى- : {........هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ}[الأنفال:62], {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}[الأنفال:63], {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}[الأنفال:64], {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ}[الأنفال:65],{الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}[الأنفال:66].
ثم فاصل جديد من السورة، وعتاب من الله -تبارك وتعالى- لرسوله وللمؤمنين في أخذهم فداء أسرى بدر، وكان الأَوْلَى مِن ذلك أنْ يقتلوهم؛ فإنْ هذا كان أعز للدين، وأمكن للإسلام مِن أنْ يُبْقُوا الأسرى أحياء، ويأخذوا الفدية منهم، قال -جلَّ وعَلا- : {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}[الأنفال:67], {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}[الأنفال:68], {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[الأنفال:69], لما قامت المعركة، ووَلَّى الكفار الأدبار مِن أولها في غزوة بدر، ولما ولووا الأدبار شرع المسلمون في قتل مَن يثقفونه، وكذلك شرع كثير منهم في أَسْرِ الرجال، ذهب للأسر، كان سعد بن معاذ -رضى الله تعالى عنه- في العريش مع النبي -صلوات الله والسلام عليه-, واشمئز ورأى النبي في وجهه الكراهية، وقال له: أرى في وجهك الكراهية مما يصنع القوم؛ فقال له: (يا رسول الله إنَّ هذه أول واقعة أوقع الله فيها بالكفار، وقد كان القتل أحب إلىَّ مِن استبقاء الرجال)، قال له : القتل أحب مِن استبقاء الرجال؛ وذلك بأنَّ الأسير بوجه عام أسره فيه فوائد في القتال في الأسر أنْ يُعْلَمَ أخباره، أنْ تُكْسَرَ شوكة الكفار نسبيًا، أنْ يُفَاوَضَ عليه بعد ذلك في تبادل الأسرى الآخرين، أو في أخذ المال منه لكن القتل وخاصة في أول المعارك هو أشد على الكفار وأنكى، وأمكن لنصر أهل الإسلام, ثم إنَّ النبى -صلى الله وسلم- فاوض أصحابه بعد ذلك بعد هذا النصر في الأسرى الذين بين أيديهم، وقد كانوا سبعين مِن الكفار؛ فأشار عمر بن الخطاب -رضى الله تعالى عنه- على النبي -صلى الله وسلم- بقتلهم، وأنْ يُسَلَّم كل أسير مِن الكفار الى أقربائه مِن المؤمنين حتى يَقْتُلَ الإنسان قريبه إنْ كان أخاه، إنْ كان عمه، إنْ كان أباه؛ فيقتل هؤلاء المشركين؛ فيكون هذا أمكن لعزيمة أهل الإيمان، وقوتهم على الحق، وكذلك أقطع لمادة الكفر، وأثخن في الأرض، وأشار أبوبكر الصديق -رضى الله تعالى عنه-، وجَمْعُ الصحابة على النبي -صلى الله وسلم- فقالوا: يارسول الله هم أبناء عمنا وعشيرتنا، ولعل الله أنْ يهديهم للإسلام، ونقبل منهم الفدية، نأخذ منهم الفدية يتقوى بها المسلمون، ولعل الله أنْ يهديهم في مستقبل أمرهم للإسلام، وأخذ النبي بهذا الرأي، وقَبِلَ الفداء مِن الأسرى، وفاداهم, هنا عتاب مِن الله -تبارك وتعالى- وبيان أنه قد كان الأَوْلَى أنْ يُقْتَل الأسرى، وألا توخذ الفدية منهم ويُسْتَبْقُونَ، قال -جلَّ وعَلا- : {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ}, {مَا كَانَ}, ما ينبغي ولا يصح, {لِنَبِيٍّ}, مِن الأنبياء يُقاتل في سبيل الله, {أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى}, أنْ يستبقي أسرى, {حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ}, والإثخان في الأرض كثرة القتل والجراحة في جسد الكفار، حتى يكسر شوكتهم, {حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ}, والإثخان هو إكثار القتل، قال -جلَّ وعَلا- : {........تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}[الأنفال:67], {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا}, وعَرَضَ الدنيا وهو الفدية مِن الأسرى، وأنَّ هذا عرض هذا مال يَعْرِض، {وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ}, هم لا يريدوا عَرَضَ الدنيا للدنيا، هم أرادوا ما يأخذونه مِن الكفار مِن الفدية ليتقووا به في قتالهم، وفي قيامهم بأمر الله -تبارك وتعالى-, {وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ}, الله -تبارك وتعالى- يريد لكم الآخرة، أنْ يكون عملكم، لنصر الدين، وإنْ لم يتحقق هذا العَرَض الدنيوي, {وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ}, ليكون حظكم وافيًا عند الله -تبارك وتعالى- في الآخرة, {وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}, الله, {عَزِيزٌ}, غالب -سبحانه وتعالى- لا يغلبه أحد, {حَكِيمٌ}, يضع الأمور في نصابها، كل أمر في نصابه، وهذا مِن حكمته -سبحانه وتعالى- قَتْلِ المحرضين، وهؤلاء الكفار رؤوس الكفار في أول هذه المعارك هذا مِن الحكمة العظيمة؛ لأنه أقوى لأهل الإسلام, {وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}.
ثم قال -جلَّ وعَلا- : {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}[الأنفال:68], {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ}, {كِتَابٌ}, فريضة، وكتاب الله -تبارك وتعالى- هنا أنْ يبيح لهم الغنائم، ولا يحرمها عليهم، كما كانت محرمةً على الأنبياء السابقين؛ فإنَّ الله -تبارك وتعالى- لم يبح لنبي قاتل قَبْلَ نبينا أنْ يأخذ شيئًا مما يغنمه مِن الكفار، وإنما كان ما يغنمونه مِن الكفار يضعونه، وتأتي نار تحرقه مِن السماء، ولا يأخذونه ولا يستفيدون به, لكنَّ الله -تبارك وتعالى- قد سبق في علمه أنْ يُبِيْحَ لنبيه الغنائم، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- : «فُضِّلْتُ على الأنبياء بست»، ومنها قال : «وأُحِلَّت لي الغنائم، ولم تحل لأحد قبلي», {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ}, أي بأنْ يبيح لكم الغنائم لما رأى الرب مِن ضعف أهل الإسلام وفقرهم فأباح لهم الغنائم, {........لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}[الأنفال:68], {لَمَسَّكُمْ}, المسيس وهو الوصول والحصول, {فِيمَا أَخَذْتُمْ}, أي مِن الغنائم, {عَذَابٌ عَظِيمٌ}, في الدنيا عذاب بسبب هذا الأمر, {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[الأنفال:69], {فَكُلُوا}, أي أيها المؤمنون, {مِمَّا غَنِمْتُمْ}, أخذتم مِن الكفار سواءً أخذوه في أرض المعركة، والذي كان فدية فادوا بها هؤلاء الكفار, {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالًا طَيِّبًا}, أحله الله -تبارك وتعالى- لكم, {طَيِّبًا}, أنه مال طيب ليس خبيث بمعنى الطيبة والخبث هنا بالحل، وذلك لما أحله الله -تبارك وتعالى- فأصبح طيبًا, {........حَلالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[الأنفال:69], {وَاتَّقُوا اللَّهَ}, خافوه -سبحانه وتعالى-, {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}, مسامحٌ لكم، ومسامحٌ لذنوبكم يغفر هذا، ويستره -سبحانه وتعالى-, وقد جاء أنَّ النبي -صلوات الله والسلام عليه- جلس بعد هذه الغزوة يقول : جاءه عمر بن الخطاب -رضى الله تعالى عنه-، والنبي يبكي وأبو بكر, ثم قال النبي: (لقد أُرِيت عذابكم دون هذه الشجرة)، أريت عذابكم أنَّ العذاب قد وصل، قال : (دون هذه الشجرة)، وأنَّ الله لو أنزل عذابًا لم ينجُ منه إلا عمر، وذلك أنَّ عمر أراد ألا يُقْبَلَ مِن الكفار فدية في هذه الغزوة, {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[الأنفال:69], كان مِن الأسرى مِن كانوا مع النبي -صلى الله وسلم- وكانوا مِن أهل الإسلام في الباطن لكنهم كانوا مع الكفار في الظاهر، ومنهم العباس بن عبد المطلب -رضى الله تعالى عنه-؛ فإنه خرج مُكْرَهًا، وهو قد كان في حقيقته مسلم يخفي إيمانه، وباقٍ في مكة، ولكنه خرج مكرهًا، مُشَايعًا للكفار لما خرج، ووقع في الأسر عندما أُسِرَ مَن أُسِر وقع العباس بن عبد المطلب -رضى الله تعالى عنه- في الأسر, بعض هؤلاء الأسرى أقول كانوا يميلون للإسلام فالرب -سبحانه وتعالى- قال لنبيه، قال -جلَّ وعَلا- : {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[الأنفال:70], {وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}[الأنفال:71], {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ}, أيضًا خطاب مِن الله -تبارك وتعالى- ونداء لنبيه -صلى الله عليه وسلم- بهذا الوصف, {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الأَسْرَى}, وهم هؤلاء السبعون الذين أُسِرُوا في بدر, {إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا}, إذا عَلِمَ الله -تبارك وتعالى- أنَّ في قلوبكم خيرًا مِن الدين، أو مِن محبة الإسلام والتوجه إليه, {يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ}, إذا أعلنتم الإسلام، ودخلتم مسلمين، وآمنتم بالله -تبارك وتعالى- وبرسوله؛ فإنَّ الله -تبارك وتعالى-, {يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ}, في الإسلام، تكونوا مع المسلمين وتغنمون، ويعوضكم الله -تبارك وتعالى- تعويضًا كبيرًا عن هذا الذى أُخِذَ منكم في حال وجودكم مع الكفار, {وَيَغْفِرْ لَكُمْ}, خروجكم مع الكفار كونكم معهم، وحربكم لله، ورسوله, {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}, -سبحانه وتعالى- وهذا حض مِن الله -تبارك وتعالى- وحث لِمَن كان في قلبه خير مِن الأسرى أنَّ الباب مفتوح للدخول في الإسلام ولإعلانه، وأنه وإنْ أُخِذَت منه فدية الآن؛ فإنَّ هذا مُعَوَّضٌ، وسيأخذ أضعافه إذا دخل في الإسلام، وقد كان هذا بالنسبة مثلًا للعباس بن عبد المطلب -رضى الله تعالى عنه-؛ فإنه أسلم في فتح مكة، وكان مع النبي -صلى الله وسلم- ومرة لما جاء مال مِن البحرين، وهو مما أفاء الله -تبارك وتعالى- على رسوله كا هذا مِن مال الجزية المفروضة على مجوس البحرين؛ فإنه قال: يا رسول الله, طلب مِن النبي مالًا، وقال أنا قد فديت نفسي في بدر؛ فقال له النبى: (أُبْسُط ثوبك، واحمل مِن هذا المال قَدْر ما تحمل)، فوضع في المال حتى حَمَلَ حملًا عجز عنه، وقال : مُر أحدًا مِن أصحابك يحمل عنى؛ فقال له النبى: (لا, خذ القدر الذي أنت تحمله فقط), أي ما تستطيع حمله فقط؛ فحط منه ما يستطيع حمله، وأخذه؛ فهذا قد عوضه الله -تبارك وتعالى- في حياته مِن الغنيمة أضعاف ما أُخِذَ منه في بدر, {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ........}[الأنفال:70], أي حربكم السابقة لله ورسوله, {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}, ثم قال -جلَّ وعَلا- : {وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}[الأنفال:71].
نقف هنا -إنْ شاء الله- ونُكْمِل في الحلقة الآتية, أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله على عبده ورسوله محمد.