الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله الأمين, سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه، ومَن اهتدى بهداه إلى يوم الدين.
وبعد؛ فيقول الله -تبارك وتعالى- : {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[الأنفال:70], {وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}[الأنفال:71], هذا أمرٌ مِن الله -تبارك وتعالى- لرسوله -صلى الله عليه وسلم- صدَّره الله -تبارك وتعالى- بنداءه للنبي, {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ}, مناداة النبي بوصفه تكريم لنبيه -صلوات الله عليه وسلم- وتشريف للخطاب, {قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الأَسْرَى}, وهم السبعون الذين كانوا بعد بدر, {إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا}, مِن محبة الدين أو الإسلام، أو أنهم كانوا مسلمين، أو أنهم خرجوا مُكْرَهِينَ كما كان الشأن في العباس بن عبد المطلب عم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-, {إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ}, إذا دخلتم الإسلام، وأصبحتم مسلمين، ويغفر لكم خروجكم مع الكفار، وكونكم معهم، وحربكم لله ورسوله, {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}, -سبحانه وتعالى- مسامحٌ كريمٌ, {غَفُورٌ}, يستر الذنب, {رَحِيمٌ}, بعباده -سبحانه وتعالى- أنه لم يؤاخذهم بالذنب أبدًا بل جعل لهم الفرصة في التوبة، والرجوع إلى الله -تبارك وتعالى- هذا مِن رحمته وإحسانه -سبحانه وتعالى- بعباده.
ثم قال -جلَّ وعَلا- : {وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}[الأنفال:71], أي {وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ}, يُظْهِرُوا الإسلام، ويُظْهِرُوا الدين، ويُظْهِرُوا أنهم عائدون عن هذا الكفر مِن أجل أنْ يعفوا عنهم النبي -صلوات الله والسلام عليه- ويتركهم, ثم بعد ذلك ينقلبوا عليه ويحاربوه، قال -جلَّ وعَلا- : {وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ}, بإظهار الإسلام، وهم في حال الأسر حتى يتم لهم المَنّ والعفو، قال -جلَّ وعَلا- : {فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ}, وذلك بأنْ أتوا لحربه، أتوا لحرب الله -تبارك وتعالى- وحرب رسوله، وهذا مِن خيانتهم لله، وعهدهم ما عاهدوا الله -تبارك وتعالى- عليه عباده أنْ يؤمنوا به، وأنْ ينصروا رسله، خانوا هذه العهود، والله -تبارك وتعالى- أَمْكَنَ منهم، مَكَّنَ منهم رسوله؛ فاسْتُؤْسِرُوا؛ فليعلموا هذا الدرس، وأنهم عندما حاربوا الله -تبارك وتعالى- أَمْكَنَ الله منهم, {فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ}, أي مَكَّنَ رسوله -صلى الله عليه وسلم- مِن رقابهم فأسروا, {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}, {عَلِيمٌ}, بكل عباده, {حَكِيمٌ}, يضع كل أمر في نصابه، وهذا تهديد لهؤلاء، وقد كان مِن هؤلاء الأسرى من لما وقع في الأسر رجى النبي -صلى الله عليه وسلم- ولحَّ عليه في أنه أتركني، لن أحاربك، سأرد عنك، سأفعل؛ ثم يتركه النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم يُؤْسَر مرة ثانية لما أُسِر مثل هذا، قال النبي لأحد هؤلاء، قال له : (لا يُلْدَغُ المؤمن مِن جحر واحد مرتين), لما طلب منه أنْ يعفو عنه فى المرة الثانية؛ فقال له النبي: (نعم حتى تذهب إلى قومك هناك، وتفتل شاربك، وتقول خدعت محمد مرتين), فقال له النبي : (لا يُلْدَغُ المؤمن مِن جحر واحد مرتين)، ونَكَّلَ به النبي -صلوات الله والسلام عليه- فالشاهد أنَّ هذا قول الله : {وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ}, أي بأنْ يعاهدوك على أنْ اعفوا عنا، لا نقاتلك، لا نكون مع أعدائك ونحو ذلك، أو نحن قد دخلنا فى الإسلام سندعوا قومنا إليه فيعفوا عنهم, ثم بعد ذلك يحاربوا النبي؛ فيخونوا العهد الذي يقطعونه مع النبي، قال : {وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ}, يَعلموا هذا, {........فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}[الأنفال:71].
ثم جاء الفاصل الأخير فى هذه السورة لبيان ولاية المؤمنين بعضهم ببعض، قال -جلَّ وعَلا- : {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ........}[الأنفال:72], هذا إخبارٌ مِن الله -تبارك وتعالى- وأمر كذلك, {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا}, هؤلاء تأكيد مِن الله -تبارك وتعالى- بأن أهل الإيمان، والهجرة الذين هاجروا، وهؤلاء كل الذين آمنوا مِن خارج المدينة, ثم هاجروا إليها بهجرة النبي -صلى الله وسلم- وقبل هجرة النبي, ثم هاجروا بعد هجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- لينصروه, {وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}, دفعوا بأموالهم، وكذلك بعد ذلك أنفسهم, {فِي سَبِيلِ اللَّهِ}, قدَّم الأموال لأنها في البدايات هنا في البدايات المكان ليس في مقام بيان فضل الجهاد بالنَّفْسِ عن المال، إنما في بيان أنَّ هؤلاء الناس قد فعلوا هذه الأعمال العظيمة الهجرة في سبيل الله, ثم أول الإنسان ما يبدأ للقتال يقاتل بماله, ثم بعد ذلك يقاتل بنَفْسِهِ, {وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}, وسبيل الله الجهاد، وسُمِّىَ سبيل الله؛ لأنه طريقه للعز والنصر, للشهادة، والفضل, لإعلاء كلمة الدين فهذا سبيله, {وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا}, {آوَوا}, إخوانهم المهاجرين، {وَنَصَرُوا}, رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقد آووا النبي -صلى الله عليه وسلم- بأنْ يكون عندهم، أو في المدينة ونصروه، وقاموا معه -صلى الله عليه وسلم-, {وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا}, قال -جلَّ وعَلا- : {أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}, أي أنَّ المهاجرين أولياء للأنصار، والأنصار أولياء للمهاجرين, {أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}, ولاية كانت ولاية محبة، ولاية نصرة، ولاية أُخُوَّة في الله -تبارك وتعالى- ولاية عهد مع الله -تبارك وتعالى- وبيعة؛ فهذا كله يجمعهم كل هذا، يجمعهم الإيمان بالله -تبارك وتعالى-, والقيام بأمره ونصرة دينه, {أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}, وكانت هذه الولاية كذلك فيها مؤاخاة كان بها التوارث إلى حد في أول الإسلام كان الشخصين الذى يؤاخي النبي بينهما أنصاري ومهاجري كانوا يتوارثان إذا مات هذا ورثه هذا، وإذا مات هذا ورثه هذا, {أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}, ثم قال -جلَّ وعَلا- : {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجَرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا}, أما الذين آمنوا في أنحاء الجزيرة، ولم يهاجروا إلى المدينة لنصرة الإسلام، ونصرة النبي -صلى الله عليه وسلم-, قال -جلَّ وعَلا- : {مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا}, أي لا توالوهم إلا إذا هاجروا، والمولاة أنْ يكون بينكم وبينهم هذا العهد والحِلْف والنصرة إلا إذا هاجروا؛ فعند ذلك يدخلون في عهد المسلمين وفي ولايتهم, {مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا}, ثم قال -جلَّ وعَلا- : {وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ}, لكن {إِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ}, أي استغاثوا بكم، طلبوا منكم أنْ تنصروهم لأجل الدين بأنْ يكون هناك قوم يعذبونهم، يضطهدونهم، يحاربونهم لدينهم حرب للدين، قال -جلَّ وعَلا- : {فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ}, يجب أنْ تقوموا بنصرهم، مفهوم هذا أنه إذا كانت هذا الاستنصار ليس للدين، وإنما مثلًا يعاديهم ناس للقبيلة كأن يكون هجوم على قبيلتهم لأجل مصالح دنيوية ففي هذه الحالة ليس على المؤمنين أنْ ينصروهم، وإنما ينصروهم فقط وهم المهاجرون والأنصار ينصروا إخوانهم الذين لم يهاجروا إذا استنصروهم في الدين، قال -جلَّ وعَلا- : {فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ}, {إِلَّا}, هذا استثناء, {عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ}, إذا كان يوجد ناس مِن الكفار بينهم وبين النبي -صلى الله عليه وسلم- عهد وميثاق، فيه مثلًا عهد موادعة لا تحاربنا ولا نحاربك، وأنَّ هذا العهد مثلًا مؤقت، أو دائم؛ فإذا كان مِن هؤلاء الموادعين للنبي، أو المعاهدين له مؤمنين، ووقعوا تحت ظلم واضطهاد، وجاء هؤلاء المؤمنون؛ فاستغاثوا بالنبي والمؤمنين؛ فإنهم لا يستطيعون أنْ يدخلوا حربًا مع قومهم الكفار؛ لأنهم معاهدون لأنه بينهم وبين النبي عهد؛ فقال -جل َّوعَلا- : {إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ}, فلا تنقضوا عهدهم لأجل ذلك؛ فلا يُنْقَضُ العهد معهم لهذا لأنَّ هناك عهد بين هؤلاء، وبين المؤمنين، وبالتالي فيجب على المؤمنين أنْ يَكُفُّوا، وليس لهم أنْ ينصروا إخوانهم المسلمين، وإنْ كانوا مضطهدين ومعذبين مِن هؤلاء الكفار لكن لما كان هؤلاء الكفار بينهم عهد مع النبي -صلى الله وسلم- فإنهم لا يُقَاتَلُونَ, {إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ}, ثم قال -جلَّ وعَلا- : {........وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}[الأنفال:72] ختام هذه الآية فيه تهديد، فيه وعيد أي اعلموا أنَّ الله -تبارك وتعالى-, {بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}, وذلك أنَّ هذه الآية فيها أوامر كثيرة جدًا، مِن وجوب موالاة المهاجرين للأنصار، والأنصار للمهاجرين، وأنهم لا بد أنْ يكونوا أولياء؛ ثم أنهم ينصروا إخوانهم المسلمين الذين لم يهاجروا إذا استنصروهم في الدين، وهذا بما معناه أنْ يهبوا لنصرة المسلم، المستضعف مِمَن لم يهاجر، وينصروه إذا استنصرهم في الدين, ثم فيه ضوابط أنهم لا ينقضوا عهدهم مع الكفار حتى وإنْ كان مِن أجل نصرة إخوانهم المستضعفين؛ فهذه أمور أي أحكام فيها بَذْل، فيها تضحية، فيها حدود معينة، وختم الله -تبارك وتعالى- هذه الأوامر بقوله : {........وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}[الأنفال:72], اعلموا أنَّ الله بصير بأعمالكم، بمعنى أنَّ أعمالكم تحت بصره -سبحانه وتعالى- وهو مُطَّلِعٌ عليها -سبحانه وتعالى- ومعنى ذلك أنه سيحاسبكم عليه, ثم قال -جلَّ وعَلا- : {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}, هذا إخبارٌ مِن الله -تبارك وتعالى- أنَّ أهل الكفر هم في موالاة بعضهم لبعض كأنهم أهل مِلَّةٍ واحدةٍ؛ فيوالي بعضهم بعضًا على اختلاف مللهم وأديانهم وعقائدهم ونحلهم, إلا أنهم أمام المسلمين يكونون يدًا واحدة ضد أهل الإسلام مهما اختلفت ملتهم؛ فهم ملةٌ واحدةٌ في قتال أهل الإيمان، وإنْ كانوا هم في أنفسهم مِلل شتى، قال -جلَّ وعَلا- : {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}, بعضهم، مللهم, {أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}, كل منهم يُوَالِي الآخر على هذا الدين, ثم قال -جلَّ وعَلا- : {........إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ}[الأنفال:73], {إِلَّا تَفْعَلُوهُ}, أي إنْ لم تفعلوا هذا الأمر، وهو أن يُوَالِي أهل الإيمان بعضهم بعضًا مِن المؤمنين والمهاجرين، وأنْ يهاجر مَن لم يهاجر إلى أهل الإيمان ليكونوا أمةً واحدة على الإيمان، وكذلك إنَّ هؤلاء المؤمنون يعادوا أهل الكفر، وذلك أنهم مهما اختلفت أديانهم؛ فإنهم مِلَّةٌ واحدة أمام أهل الإسلام، وعصبةٌ واحدة؛ فهم يُوَالِي بعضهم بعضًا أمام المسلمين؛ فالله -تبارك وتعالى- يقول إلا تفعلوا هذا، موالاة المؤمنين بعضهم لبعض، ومعاداتهم للكفار جميعًا مع اختلاف نحلهم, {........تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ}[الأنفال:73], {فِتْنَةٌ}, أولًا مِن موالاة أعداء الله -تبارك وتعالى- مِن دخول هؤلاء، مِن تفرق الأُمَّة بدخول هؤلاء بينها، وقوع الخصومة والبغضاء، فشل أهل الإيمان، وتفرقهم يقع بهذا بلاءٌ عظيم وفسادٌ كبير, {........إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ}[الأنفال:73], فساد في حياة المسلمين يؤدي بهم إلى الفشل والتنازع وضياع الأمر، وغلبة أهل الكفر على أهل الإسلام، ومَن يُطَالِع ما حَلَّ بالمسلمين يجد أنه بسبب هذا بل أنَّ هذا كان هو السبب الحقيقي في غلبة أهل الكفر على الإسلام، وحصول الفساد العظيم مِن انتشار ما انتشر مِن دين الكفار، ومِن أخلاقهم، ومِن التشبه بهم كله جاء مِن موالاة الكفار، ومِن عدم موالاة المؤمنين بعضهم بعضًا، وأن يكونوا عسكرًا واحدًا في مقابل معسكر الكفار، وإنْ اختلفت مللهم ونِحَلُهُم, {........إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ}[الأنفال:73], تحذيرٌ عظيمٌ مِن الله -تبارك وتعالى- لأمة الإسلام ألا يوالي بعضهم بعضًا في مقابل الكفار الذين يوالي بعضهم بعضًا على أهل الإسلام.
ثم قال -جلَّ وعَلا- : {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}[الأنفال:74], هذه الآية فيها إشادة بأهل الهجرة والنصرة، وأنَّ هؤلاء هم أهل الإيمان حقًا، قال -جلَّ وعَلا- : {وَالَّذِينَ آمَنُوا}, هذا الإيمان الحقيقي, {وَهَاجَرُوا}, فالإنسان الهجرة ترك وطنه وترك ماله وأهله، وانتقال إلى مكان آخر يتعرض فيه لحرب الكفار ولأذاهم, هذا دليل صِدْقِ الإيمان, {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ}, الجهاد بذل هذا الجهد, {فِي سَبِيلِ اللَّهِ}, ويدخل فيه كل أنواع الجهاد, ثم قال -جلَّ وعَلا- : {وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا}, أهل الدار مِن أهل المدينة الذين {آوَوا}, إخوانهم إليهم أي ألجئوهم وحموهم ونصروهم، قال -جلَّ وعلا- : {أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا}, {أُوْلَئِكَ}, أي هذين الصنفين, {هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا}, المؤمنون إيمانًا حقًا مفهوم هذا أنَّ مثلاً مَن كان مؤمنَا، ولكنه بعيد ليس مِن أهل الهجرة، ولا مِن أهل النصرة، وإنما دخل في الإيمان هكذا، وانتظر ما الذي يكون عليه الأمر؛ فهذا ليس مِن أهل الإيمان الحقيقي، قال -جلَّ وعَلا- : {........أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}[الأنفال:74], وعد عظيم مِن الله -تبارك وتعالى- لهم, {مَغْفِرَةٌ}, لذنوبهم, {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}, في الجنة, {كَرِيمٌ}, نفيس, {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}, أي نفيس، ورزق الجنة وذلك أنَّ هذا رزقٌ عظيمٌ جدًا لا ينفد ولا يزول، وليست فيه آفة مِن آفات رزق هذه الدنيا في الطعام ليس كالطعام، واللباس ليس كاللباس، والمراكب ليست كالمراكب، والمُتَع في الجنة ليست كمُتَعِ الدنيا، تلك مُتَعٌ منزهة عن كل نقص، باقية، دائمة، لا تزول ولا تفنى؛ فهذا رزق كريم في الآخرة, ثم قال -جلَّ وعَلا- : {وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُوْلَئِكَ مِنْكُمْ........}[الأنفال:75], فيخبر -سبحانه وتعالى- أنَّ الذين آمنوا بعد هؤلاء المهاجرين والأنصار، جاءوا بعد ذلك، {وَهَاجَرُوا}, أيضًا إلى الله ورسوله, {وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ}, جاهدوا مع المهاجرين والأنصار، قال -جلَّ وعَلا- : {فَأُوْلَئِكَ مِنْكُمْ}, أي أنَّ هذه المنزلة والمكانة لم يتبوئها فقط أوائل المهاجرين، وأوائل الأنصار، وأنَّ مَن أتى بعد ليس له هذه المنزلة، بل لا، بل إنَّ الجيل الذي يأتي بعد ذلك مِن الذين يؤمنون ويهاجرون، وكذلك مِن الجيل الذي ينشأ في المدينة، ويكونون مِن أنصار الله -تبارك وتعالى- ورسوله فهم أمة واحدة؛ فالسابقون لهم فضل السبق، واللاحقون هم ملتحقون بأهل الفضل والسبق، وهذا فتح مِن الله -تبارك وتعالى- لباب الرحمات لهذه الأُمَّة، وأنَّ الجديد منهم، والقادم منهم إنما هو على إثر أهل السبق والفضيلة، وأهل السبق لهم سابقتهم, {وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُوْلَئِكَ مِنْكُمْ........}[الأنفال:75], ومعني أنهم, {مِنْكُمْ}, أنهم مِن أهل الإيمان كذلك لهم ما لهم، وعليهم ما عليهم، وأنه يجب موالاتهم ومودتهم في هذا، ولا يكون الإسلام طبقات هذه الطبقة لها مميزات، والطبقة الأخرى لا مميزات لها، بل هم أُمَّةٌ واحدة، كما قال -تبارك وتعالى- : {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}[التوبة:117], {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}[التوبة:118], {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}[التوبة:119], فالدخول مع هؤلاء الصادقين هو دخول مع هذه الفئة الطيبة، وكذلك قال -تبارك وتعالى- : {وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ}, فالذين اتبعوا أهل الإيمان بإحسان هم كذلك مع أهل الإيمان, {وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ........}[الأنفال:75], قال -جلَّ وعَلا- : {فَأُوْلَئِكَ مِنْكُمْ وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ}, هذه الآية نسخت حُكْم التوارث السابق الذي كان قد شرعه النبي -صلوات الله والسلام عليه- بحكم المؤاخاة؛ فإنَّ النبى -صلوات الله والسلام عليه- لما هاجر إلى مكة آخى بين المهاجرين والأنصار، وكان مِن شأن الأنصار رضوان الله -تبارك وتعالى- عليهم أنه كان لا ينزل المهاجر على الأنصارى إلا بقرعة مِن تنافس الأنصار في أنَّ كل واحد مهاجر يأتي يقول يا رسول الله أنا أخوة إعطيه لي، سَلِّمْهُ لي أي واحد يأتيهم؛ فكانوا يتنافسون في كل مَن يأتي مهاجر يتنافس الأنصار في أنْ يحوز عنده هذا المهاجر، وقد جاء أنه ما نَزَلَ أنصاري على مهاجري إلا بقرعة، وكذلك في حديث البخاري أنَّ أُم العلاء قالت : (طار لنا عثمان بن مظعون في القرعة), أي أنَّ عثمان بن مظعون -رضى الله تعالى عنه- لما أتى مهاجر إلى المدينة لم يدخل بيت هؤلاء الأنصار إلا بقرعة؛ فإنهم لما اقترعوا عليه طلع نحن الذين نأخذه، وتقول ما رأيت رجلًا يُصَلِّى الخمس أفضل مِن عثمان بن مظعون -رضى الله تعالى عنه-، وله قصته الطويلة, الشاهد أنَّ الأنصار -رضوان الله عليهم- كان هذا شأنهم في محبة إخوانهم الذين يأتونهم مِن آفاق هذه الجزيرة مهاجرين إلى الله ورسوله، وقد مدحهم الله -تبارك وتعالى- بهذا فقال : {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[الحشر:9], فهذا مدحٌ مِن الله -تبارك وتعالى- للأنصار بهذا الأمر، لما آخى النبي بين المهاجرون والأنصار كان المهاجري يرث الأنصاري، والأنصاري يرث المهاجري, ثم إنَّ الله -تبارك وتعالى- نسخ هذا الحكم هنا فقال : {وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ}, أولو الأرحام الذين يجتمعون في رحم واحدة، والرحم هي منبت الولد، وكل مَن يلتقون عند رحم واحدة هؤلاء قد فرض الله -تبارك وتعالى- عليهم التراحم؛ فأرحم الرحم الأُم، ثم الأب, ثم الإخوة الأشقاء, ثم الإخوة لأم, ثم الإخوة لأب, ثم بعد ذلك الأقارب مِن جهة الأم لأنَّ الأم أقرب, فيكون الأقارب مِن جهتها أقرب، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- الخالة بمنزلة الأم؛ فالخالة كالأم, ثم الأقارب مِن جهة الأب، وذلك أنَّ الأب يأتي بعد الأم؛ فالأقارب مِن جهته كذلك يأتون بعد الأقارب مِن جهة الأم؛ فهؤلاء هذه الدائرة هي دائرة الأرحام الله -تبارك وتعالى- قال : {وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ}, وذلك بعضهم لأنهم نسبة الرحم، ونسبة هذه متفاوتة, {أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ}, وقد جعل الله -تبارك وتعالى- لهم مواريث يرجعون إليها، وأنزل الله -تبارك وتعالى- المواريث بعد ذلك في سورة النساء, {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ........}[النساء:11], إلى آخره؛ فأنزل الله -تبارك وتعالى- التوارث في الأرحام، ونُسِخَ بذلك التوارث الذي كان معمولًا به بعقد المؤاخاة؛ فعقد المؤخاة كان هذا العقد فيه كثير مِن أمور الموالاة منها النصرة والمحبة والتعاون في شئون الدنيا، وفي شئون الدين، ومنه أنْ يتوارثوا، وهو إذا مات هذا ورثه هذا, نُسِخَ التوارث فقط، وبقي ما بقي مِن شئون الأخوة، ومعنى الأخوة فيه أخوة في الإسلام مِن كل مسلم أخ لكل مسلم، لكن إذا كان فيه عقد أخوة إنَّ فلان أنت أخ لفلان فيه هذا عقد أخوة يصير فيه, هذا أمر زائد عن الأخوة الإيمانية العامة بين المسلمين؛ فبقي هذه الأخوة بعقد الأخوة، ونُسِخَ حكُمْ التوارث، قال -جلَّ وعَلا- : {وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ}, أي مِن أخوة المؤاخاة, {فِي كِتَابِ اللَّهِ}, في فريضة الله -تبارك وتعالى- وقد أنزل الله -تبارك وتعالى- في كتاب فرائض التوارث, {........إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}[الأنفال:75], -سبحانه وتعالى- ختم الله -تبارك وتعالى- هذه الآية وهو ختام لهذه السورة كذلك, {........إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}[الأنفال:75], عليم بكل الأشياء -سبحانه وتعالى- ويضع -سبحانه وتعالى- كل أمرٍ في نصابه.
وبهذا يكون -الحمد لله رب العالمين- قد وصلنا إلى نهاية سورة الأنفال، هذه السورة العظيمة، نسأل الله -تبارك وتعالى- أنْ يُقِرَّ قلوبنا، وعيوننا بكتابه الكريم، اللهم إجعله نورًا لنا في الدنيا، وحجة لنا في الآخرة، اللهم علِّمْنَا منه ما جهلنا، وذَكِّرْنَا منه ما نسينا، أستغفرك الله لي ولإخوانى مِن كل ذنب والحمد لله رب العالمين، وأُصَلِّى وأُسَلِّم على عبدالله ورسوله الأمين.