الجمعة 21 جمادى الأولى 1446 . 22 نوفمبر 2024

الحلقة (229) - سورة التوبة 1-6

الحمد لله ربِّ العالمين, والصلاة والسلام على عبده ورسوله الأمين, سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه، ومَن اهتدى بهداه، وعَمِلَ بسنته إلى يوم الدين.

وبعد؛ فيقول الله -تبارك وتعالى- : {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}[التوبة:1], {فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ}[التوبة:2], {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}[التوبة:3], {إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ}[التوبة:4], هذه الآيات مطلع سورة براءة، وهذه السورة مَدَنِيِّة بتمامها، وقد نزلت بعد غزوة تبوك، وقد كانت في السنة التاسعة مِن هجرة النبي -صلوات الله والسلام عليه-, غزوة تبوك كانت غزوة مِن الغزوات الشديدة، العسيرة؛ وذلك أنها كانت لعدو عظيم بخلاف عداوة العرب، كانت للروم، خرج النبى لقتال الروم، وهم أُمة عظيمة كانوا يملكون أكثر المعمور في ذلك الوقت، أوروبا بكاملها، بلاد الشام كلها، شمال إفريقيا كله، مصر وليبيا المعروفة الآن، وتونس والجزائر ومراكش، وكان البحر المُسَمَّى الآن بالبحر المتوسط يُسَمَّى بحيرة الروم، أو بحر الروم؛ فكان بحيرة داخل هذه المملكة العظيمة، الكنيسة كانت روما نشأت دولة وثنية تعبد النجوم، والكواكب, ثم دخلت في النصرانية بعد ميلاد المسيح بنحو مِن ثلاث قرون، دخلت بالنصرانية بعقلية روما الوثنية، وأدخلت عبادة الأصنام إلى والنصرانية، وبذلك قيل أنَّ النصارى ترووا، ولم يتنصروا الرومان أي الروم ما تنصروا، وإنما النصارى أصبحوا روم؛ فأخذوا أخلاقهم، وأخذوا طرائقهم وعباداتهم وأدخلوها إلى النصرانية، كانت قد انشقت الكنيسة كذلك إلى كنيسة شرقية عاصمتها القسطنطينية، والكنيسة غربية عاصمتها روما، وما زالت هي عاصمتها إلى يومنا هذا، وكانت الغزوة في وقت حر شديد كذلك، وسفر بعيد مِن المدينة إلى بلاد الشام نحو قريب مِن الألف كيلومتر، أعداد المسلمين في هذا، النبي لم يخرج بأكثر مِن ثلاثين ألف مِن المسلمين نفير عام للكل، والروم يستطيعون أنْ يجمعوا مئات الآلاف في وقتٍ يسير الأمر كله كانت الغزوة شديدة، وصعبة لذلك ظهر النفاق فيها بصورة جَلِيِّة أحيانًا، وبصورة خفية كذلك؛ فجاءت السورة لتفضح هؤلاء المنافقين, فقالوا إنَّ هذه السورة، وهذه السورة قد كانتا كأنهما  شيئًا واحدًا، وكان النبي أنْ يَصِل بين هذه السورة، وهذه السورة لذلك لم يضعوا بسم الله الرحمن الرحيم بينهما، وقيل بأنَّ هذه السورة بدأت بقول الله : {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}[التوبة:1], وفيها إعلان لكل مَن عاهدهم النبى -صلوات الله والسلام عليه- عهدًا مُطْلَقًا بدون تحديد زمني أنه قد انتهى العهد معه, {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ........}[التوبة:3], فقول الله : {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}[التوبة:1], هذا إعلان أنَّ العهود التي بين المسلمين، وبين المشركين وهي العهود غير المؤقتة أنها قد انتهت، وأنَّ العرب كانت مِن عادتها أنها إذا أرسلت رسالة، وفيها إلغاء لعهد، أو إعلان حرب؛ فإنهم لا يبدؤنها ببسمك اللهم كما كانوا يبدؤون, لا يقولون بسمك اللهم في كتابة رسائلهم إلا في الرسائل التي يكون فيها إعلان حرب؛ فإنهم لا يبدؤنها بسمك اللهم، وإنما يدخلون في موضوعهم مباشرة قيل هذا القول كذلك في عدم وجود بسم الله الرحمن الرحيم في مطلع هذه السورة.

بدأ الله -تبارك وتعالى- هذه السورة بقوله -جلَّ وعَلا- : {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}[التوبة:1], البراءة إعلان البراءة أنَّ العهد الذي كان نحن بُرَئَاءُ منه بمعنى أنه قد انتهى هذا الأمر، وهذه البراءة مِن الله -سبحانه وتعالى- ورسوله, {إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}, إلى كل مَن عاهدتم أيها المسلمين مِن المشركين وهو هذه العهود غير المؤقتة؛ فاعلموا أنَّ هذا براءة مِن هذا العهد أنه خروجٌ منه، وتخلصٌ منه، وإنهاءٌ له كل العهود التي كانت عهود مُطْلَقَة غير مؤقتة بوقت، ومحددة بسنوات معينة فهذا الأمر وهو العهد المطلق يجوز الخروج منه في أى وقت مع إعلان الطرف الآخر أنه العهد إذا كان بينا وبينك عهد بالموادعة، وبترك الحرب بدون تحديد هذا لكل أحد أنْ يُخْبِرُ الآخر بـأنَّ العهد الذي بينك قد أوقفناه لأنه ليس له تحديد حد زمني, {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}[التوبة:1], ثم إمهال لإعلان الحرب، إمهال أربع شهور، وهذا فيه كذلك مِن العدل الإلهي، التشريع السماوي مع الكفار بأنه يُمْهَلُونَ أربع شهور ما يقول له العهد الذى بيننا، وبينكم قد انتهى، وسنحاربكم اليوم لأنه هذا يكون فيه نوع مِن الفجائية، وقد يؤخذ على أنه شيء مِن الغدر؛ فأعطاهم الله مُهْلَة أربعة أشهر، قال : {فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ}, السياحة في الأرض السير فيها دون أنْ يكون هناك عائقٌ أو حربٌ لكم, {فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ}, أرض الجزيرة, {أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ}, هذه هي فترة السماح, {........وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ}[التوبة:2], فترة سماح للسير فى الأرض مع الوعيد والتهديد, {وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ}, أي لا تفكروا في التأليب والتحريض والجمع لحرب أهل الإسلام، بل اعلموا أنكم لا تفوتون الله -تبارك وتعالى- فمهما حاولتم الفرار أو التأليب؛ فإنَّ الله -تبارك وتعالى- إنكم لن تعجزوه بمعنى أنكم تفوتوه وتغلبوه, {........وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ}[التوبة:2], مخزيهم بأنواع الخزي في الدنيا والآخرة؛ فالخزي في الدنيا بالقتل والهزيمة مِن تمكين الله -تبارك وتعالى- لأهل الإيمان منهم، والخزي في الآخرة في النار عياذًا بالله, {........إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ}[آل عمران:192], {وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ}, أي في الدنيا والآخرة.

 ثم : {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}[التوبة:3], {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ}, الآذان هو الإعلام أي إعلام هذا خبر، وهو مطلوب أمر كذلك مِن أنْ يُعْلِنَ النبي -صلى الله عليه وسلم- ويعلن المؤمنون في {يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ}, ويوم الحج الأكبر هو يوم عرفة، أو يوم النحر على قول آخر لأهل التأويل؛ فَيُؤذَّن في الناس يعلمون في يوم الحج الأكبر، وهو اليوم الذي يجتمع فيه الناس في هذا الموضع مِن الجزيرة، وكانت العرب تحج البيت، ويجتمعون مِن أنحاء الجزيرة في هذا الحج؛ فإذا أُعْلِنَ وأُخْبِرَ خبر في هذا اليوم؛ فإنَّ هذا الخبر سيصل أطراف الجزيرة عندما يعود هؤلاء إلى أماكنهم، وقبائلهم؛ فإنَّ هذا الخبر سيعم أطراف الجزيرة كلها, {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ}, إعلام مِن الله ورسوله, {إِلَى النَّاسِ}, جميع الناس، وهم العرب هنا في الجزيرة, {يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ}, وهو اليوم الذي يجتمعون فيه يوم عرفة, {أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ}, هذا إعلان براءة مِن الله -تبارك وتعالى- مِن المشركين، وبالتالي هذا بمثابة إعلان حرب، أنه إذا حورب وإذا قوتل؛ فهذا لا عهد له مع الله -تبارك وتعالى-, وكذلك لا عهد له مع رسوله -صلى الله عليه وسلم-, {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ........}[التوبة:3], أي ورسوله كذلك برئٌ مِن المشركين, {فَإِنْ تُبْتُمْ}, هذا الخطاب للكفار والمشركين, {فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ}, إنْ تبتم عن الشرك والكفر، وحرب الله وحرب رسوله, {فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ}, أي اعلموا أيها المشركون أنَّ هذا خير لكم إذا رجعتم عن كفركم، وشرككم، ورجعتم للإسلام, {وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ}, التولِّي هو البُعْد وإعطاء الظهر والسير بعيدًا عن طريق الرَّب, {فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ}, تهديد كذلك اعلموا {أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ}, لن تفوتوه، ولن تغلبوه -سبحانه وتعالى-, ثم قال -جلَّ وعَلا- : {........وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}[التوبة:3],  {وَبَشِّرِ}, البشارة هي الإخبار بما يَسُر، ولكن هنا جاءت بالتهديد والوعيد، قال : {........بَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}[التوبة:3], وهذا للسخرية بهم، وبيان أنهم ينتظرون هذا العذاب؛ فهذا إذا جاءت البشارة بما يسوء؛ فهذا مِن باب السخرية والاستهزاء بهم، وذلك أنَّ الكافر يتمنى الحياة الطيبة والخير والأمل في هذه؛ فيقول لك لا بَشِرْهُ بهذا، بشره بأنَّ البشرى التي تُحْمَل له مِن أهل الإيمان هي العذاب الأليم مِن الله -تبارك وتعالى-, {........وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}[التوبة:3], وعذاب أليم يشمل هذا العذاب، عذابه في الدنيا بأيدى المؤمنين بالقتل والأسر والذُّل والهزيمة، وكذلك بعذاب الله -تبارك وتعالى- في الآخرة.

 ثم قال -جلَّ وعَلا- : {إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ}[التوبة:4], {إِلَّا الَّذِينَ}, أي هذه العهود التي نُقِضَت إنما هي العهود المطلقة, أما {الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا}, أي وَفُّوا جميع ما اشترطتموه عليهم، ما نقصوا شيء مِن هذه الشروط, {وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا}, كذلك لم يُعِينُوا أحد مِمَن يقاتلكم عليكم، بل التزموا بما عاهدتموهم عليه، قال -جلَّ وعَلا- : {فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ}, فهذا العهد الذي له مدة، عهد مؤقت إنه مثلًا كان وضع الحرب لعشر سنين ، لخمس سنوات، لثلاثة بينا معاهدة لمدة ثلاث سنوات، أو أربعة، أو خمسة هذه أمر الله -تبارك وتعالى- رسوله والمؤمنون أنْ يتموا { إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ}, لأنَّ هذا مقتضى الوفاء بالعهد، وأما الإخلال به أو قطع هذا العهد قبل تمام المدة يكون هذا فيه نوع مِن نقض العهود، والله -تبارك وتعالى- لا يأمر بنقض العهود إذا كان الطرف الآخر مُوْفِي، وملتزم بما شَرَطَ عليه, {إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ}[التوبة:4], ختم الله هذه الآية ببيان أنه يحب عباده المتقين الذين يخافونه -سبحانه وتعالى- ويقدرون عقابه، ومِن تقوى الله -تبارك وتعالى- أنْ يلتزم الإنسان بما عاهد عليه، وإنْ كان كافر لكن ما دام الكافر ملتزم بعهده يجب على المؤمن بأنْ يلتزم بعهده معه.

 ثم قال -جلَّ وعَلا- : {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[التوبة:5], {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ}, انسلخت هذه الأشهر بمعنى أنها انتهت وذهبت، وسُمِّىَ انسلخت؛ لأنَّ السلخ هو الإزالة والإبعاد إذا انسلخت الأشهر الحُرُم أي زالت هذه الأشهر الحرم، خلصت، والأشهر الحرم هنا أشهر السماح، أشهر السماح لهم بأنْ يسيحوا فى الأرض أربعة أشهر؛ فإذا انتهت الأربعة أشهر وهي المدة التي جعلها الله -تبارك وتعالى- للكفار ليراجعوا فيها أنفسهم إما للإسلام، وإما بعد ذلك أنْ يعلموا أنَّ الحرب معلنةٌ عليهم, {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ}, مضت الأربعة أشهر، والله سماها حُرُم؛ لأنه حرم فيها القتال في وقتها على المسلمين حتى تنتهي، قال -جلَّ وعَلا- : {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ}, هذا أمرٌ مِن الله -تبارك وتعالى- بأنَّ المسلمين يقتلوا المشركين ليس يقاتلوهم، بل يقتلوهم؛ فيصبح هنا دم مشركي العرب فى الجزيرة حلال قتله في أي مكان, {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ}, أي في أي مكان تجدوهم فيه؛ فاقتلوهم, {وَخُذُوهُمْ}, أي القبض عليهم وأسرهم, {وَاحْصُرُوهُمْ}, كذلك حصرهم هو حصارهم وحجرهم في أي مكان يكونوا فيه، وهذا يكون بِعُدَّة، وجيش يحصرهم, {وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ}, أي بكل سبيل، والمرصد هوم مكان الرصد، وهو مكان المراقبة أي على كل ثَنِيَّة، وعلى كل جبل، وعلى كل طريق ترصدوا لهم واجلسوهم، على كل ماء يأتون إليه يجدون إنَّ أهل الإسلام قد جلسوا لهم عند هذا، فأي فَارّ بعد ذلك منهم؛ فإنه يؤخذ حيث أي يقبضوا عليه, {وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ}, أي مكان رصد ممكن يمرون فيه، أو يأتونه، أو هو طريق لهم؛ فاجلسوا لهم عنده, ثم قال -جلَّ وعَلا- : {فَإِنْ تَابُوا}, أي عن الكفر والشرك, {وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ}, وهذا دليل الإيمان وعلامته؛ فإنْ تابوا عن الشرك وقالوا : نشهد أن لا إله إلا الله وأنَّ محمدًا رسول الله؛ فأعلنوا الإسلام, ثم : {وَأَقَامُوا الصَّلاةَ}, أقاموها؛ أدوها كما أمر الله -تبارك وتعالى-, {وَآتَوُا الزَّكَاةَ}, بمعنى أنهم أعطوها، والزكاة هي ما فرضه الله -تبارك وتعالى- أنْ يخرج مِن المال طهرة مِن المال، وتُعْطَى في مصارفها, سميت زكاة لأنها؛ زكاة للمال طهرة له، وطهرة لنَفْسِ المزكي مِن الشح والبخل، خيانة أمر الله -تبارك وتعالى-, قال -جلَّ وعَلا- : {فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ}, اتركوهم يُصْبِح مسلم؛ فيُخَلَّي سبيله ليسير آمنًا في هذه الجزيرة ليصبح له حقوق المسلم ما دام أنه تاب عن الشرك، وفعل هذه الأركان التي تدل على إسلامه مِن إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، قال -جلَّ وعَلا- : {........فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[التوبة:5], {غَفُورٌ}, مسامحٌ -سبحانه وتعالى- فإنْ كانوا في سابق هذا، قبل هذا كانوا محاربين لله ورسوله، فاعلين الأفاعيل، لكنهم لما تابوا عما هم فيه، وعادوا إلى الرَّب -تبارك وتعالى- فإنَّ الله يغفر ذنوبهم, {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}, فأخبر أنه يقبلهم -سبحانه وتعالى- عبادًا له، مؤمنين، صالحين ما دام أنهم رجعوا عن الكفر إلى الإسلام.

 ثم قال -جلَّ وعَلا- : {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ}[التوبة:6], {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ}, لما كان هذا الحكم عام، وفيه أمر بقتل المشركين حيث وُجِدُوا وأينما كانوا وحصرهم، وعدم تخلية سبيلهم إلا بإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة قد يحصل بأن مشرك يكون ما علم أمر الله -تبارك وتعالى- ولا يتبين الدين، قال -جلَّ وعَلا- : {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ}, طلب جوارك، واستغاث بك، وأنه يريد أنْ يَعْلَم هذا الدين, {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ}, أجره أعطيه الأمن على نفسه، وعلى أهله، وعلى ماله, {حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ}, هذا القرآن، والقرآن كلام الله -تبارك وتعالى- فيُقْرَأ عليه القرآن، ويُدْعَى إلى الإسلام كل مشرك يقول: ما الأمر؟ وما هو هذا الدين؟ أعلمونى ماذا عندكم؟ فهذا يُؤَمَّن, {حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ}, قال -جلَّ وعَلا- : {ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ}, أي أنه إما أن هذا الشخص يدخل في الإسلام، وإما أنْ يبقى على كفره، ولا يرضى أنْ يدخل في الإسلام، قال -جلَّ وعَلا- : {ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ}, إذا لم يستجب لهذا الدين؛ فأبلغه أوصله إلى مأمنه المكان الذي يأمن فيه على نفسه، قال -جلَّ وعَلا- : {........ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ}[التوبة:6], {ذَلِكَ}, أي هذا الحُكْم الذي جعله الله -تبارك وتعالى- مِن إعطاء الكافر الأمن, {حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ}, بأنهم, {قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ}, فيكون هذا بالنسبة إليهم فرصة لأنْ يتعلموا، وأنْ يسمعوا عن الله -تبارك وتعالى-, ويسمعوا هذا الدين، ولعل هذا يكون باب ليدخلوا في الإسلام.

 ثم قال -تبارك وتعالى- : {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ}[التوبة:7], {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ}, هذا بيان وتبرير وتعليل لمَ قُطِعَت عهود هؤلاء الكفار, قَطَعَ الله -تبارك وتعالى- عهودهم هذه العهود المُطْلَقَة، قال -جلَّ وعَلا- : {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ}, أي كيف يجعل الله -تبارك وتعالى- لهؤلاء المشركين هذه القيمة، وهذا الشأن في أنْ يجعل لهم عهدًا ممتدًا، دائمًا مع الله ورسوله، والحال أنهم مشركون, كفار, وهم قائمون فى هذه الأرض الطاهرة الطيبة التي اختارها الله -تبارك وتعالى- لهذا الدين؛ فبيَّن أنَّ هذا سؤال يراد به الإنكار، وأنَّ هذا لا يكون,{ كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ}, وهم قائمون بالشرك ادِّعَاء أنَّ لله -تبارك وتعالى- شريك سواء إنْ كان شريك في المُلْكِ، شريك في التصريف، أو شريك في الخَلْقِ، أو شريك في الحق؛ فهذا أمر عظيم جدًا الشِّرك أكبر الذنوب, {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ}, ثم استثنى الله فقال : {إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}, قيل إنهم هُذَيْل؛ فإنهم عاهدوا النبي، وكانوا معه مسلميهم وكفارهم، والتزموا بعدهم تامًا مع النبي -صلى الله عليه وسلم-, {إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}, {الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ},المسجد الحرام مكة، قال -جلَّ وعَلا- : {........فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ}[التوبة:7] طالما كانوا مستقيمين لكم في أنهم لم يروغوا، ولم يخونوا في عهدهم, {فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ}.

 ثم قال -جلَّ وعَلا- : {كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ}[التوبة:8], {اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[التوبة:9], {لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ}[التوبة:10], كل هذه الآيات جاءت في هذا السياق بيان أنَّ قَطْعَ العهود مع المشركين هو الحق، وأنهم لا يستحقون أنْ يكون هناك عهدٌ إلى ما لا نهاية؛ عهود دائمة، وإقرار لهم على ما هم فيه من الشرك، والكفر، وما فى قلوبهم من الإحَن، والبغضاء على أهل الإسلام، ومِن انتهاز الفرص للقضاء على المسلمين، وسيأتي -إنْ شاء الله-.

 نعيش مع هذه الآيات في الحلقة الآتية -إنْ شاء الله-, أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم مِن كل ذنب، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد.