إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من
شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهديه الله فلا مضل له، ومن يضلله فلا هادي
له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمد عبده ورسوله، أما
بعد فإن خير الكلام كلام الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد –صلى الله عليه وسلم-،
وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار.
وبعد فيقول الله –تبارك وتعالى- {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا
حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ
نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ}[البقرة:58]، {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ
لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا
كَانُوا يَفْسُقُونَ}[البقرة:59]، يذكِّر الله –تبارك وتعالى- بني إسرائيل
بنعمه عليهم –جل وعلا-، وكيف عاملهم بالفضل والإحسان، وأنهم قابلوا معاملة الرب –تبارك
وتعالى- بغيرها، يقول –تبارك وتعالى- {وَإِذْ قُلْنَا
ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا}، وإذ
قلنا أوحى الله -تبارك وتعالى- إلى نبيهم، أن يدخلوا هذه القرية، قيل إن هذه
القرية هي بيت المقدس، يدخلوها فاتحين، وذلك بعد موسى –عليه السلام- فإن موسى قد
مات في التيه، ثم ولى بعده على بني إسرائيل فتاه يوشع بن نون، وهو الذي قاد جيوش
بني إسرائيل بعد ذلك لفتح الأرض المقدسة، فقول الله –تبارك وتعالى- هذا قول شرعي،
وحيٌ أوحاه الله –تبارك وتعالى- إلى النبي، أنهم سيدخلوا هذه المدينة فاتحين،
وأمرهم الله –تبارك وتعالى- عند فتحها أولًا؛ أن يدخلوا الباب سجدا، وأخبرهم الله –سبحانه
وتعالى- أنه قد أباح لهم أن يأكلوا مما في هذه المدينة حيث شاءوا، رغدًا أي واسعًا
طيبًا، - {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ
فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ}، أباح الله –تبارك وتعالى- طيباتها
وخيراتها، وبالتالي سكناها، وأن يأكلوا حيث شاءوا، فينزلوا حيث شاءوا، ويأكلوا من
حيث شاءوا رغدًا؛ أي واسعًا طيبًا.
{وَادْخُلُوا الْبَابَ
سُجَّدًا}، الباب باب القرية، أحد الأبواب التي يدخلونها، يدخلون منها هذه
القرية فاتحين، أنهم إذا دخلوها دخلوا سجدًا لله –تبارك وتعالى-، أي دخلوا ساجدين
لله –جل وعلا-، شكرانًا لأنعامه وأفضالهِ أن مكنهم من الفتح والنصر، {وَقُولُوا حِطَّةٌ}، حطة أي حط يا رب عنا ذنوبنا، أمرهم
الله –تبارك وتعالى- أن يتوبوا إليه، وأن يستغفروه من ذنوبهم، قال –جل وعلا- {نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ}، المراد إن فعلتم هذا
غفرنا لكم خطاياكم، خطاياكم؛ الخطيئة هي السيئة، ليس الخطأ الذي يأتي عن غير قصد،
ولكن الخطأ المتعمد وهو السيئة، {نَغْفِرْ لَكُمْ
خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ}، أي إحسانًا علوًا ورفعة ودرجات
في الجنة.
ولكن انظر كيف قابلوا نعمة الله –تبارك وتعالى- عليهم هذه،
قال –جل وعلا- {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا
غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ
السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ}[البقرة:59]، {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ
لَهُمْ}، بدلًا أن يقولوا حطة، اللهم حط عنا خطايانا، وأغفر لنا ذنوبنا،
قالوا غير ذلك كلمات يستهزءون بها، فبدلوها إلى حنطة، أو قالوا حبةٌ في شعرة، أو
حبةٌ في شعيرة، كلمات أرادوا بها الاستهزاء من قول الله –تبارك وتعالى- لهم، قولوا
حطة فغيروا هذه الكلمة، إلى كلمة بعيدةٍ عن هذا المعنى، استهزاءً بأمر الله –تبارك
وتعالى- لهم، لما فعلوا ذلك عاقبهم الله – تبارك وتعالى- قال {فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ
السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ}، قال أهل العلم؛ قال ضربهم الله –تبارك
وتعالى- بالطاعون، فقتل منهم الآلاف في يومٍ واحد، عقوبةً لهم من الله –تبارك
وتعالى- أن قابلوا نعمته وإحسانه إليهم بالنصر والتمكين، ودخول الأرض المقدسة،
دخول عاصمتها، بأن يقولوا هذا القول الذي قالوه.
انظر هذا؛ وانظر فعل النبي –صلى الله عليه وسلم- عندما
دخل مكة منتصرًا، فإنه كان رأسه –صلى الله عليه وسلم- يكاد يصل إلى ظهر بعيرهِ –صلوات
الله وسلامه عليه-، دخل لله –تبارك وتعالى- ساجدًا على بعيرهِ، يوم دخل مكة فاتحًا
منتصرًا –صلوات الله وسلامه عليه-، ودخل المؤمنون معه مهللين مكبرين شاكرين لله –تبارك
وتعالى- أن مكنهم الله –تبارك وتعالى- ونصرهم، الفارق الهائل بين بني إسرائيل
عندما مكنهم الله –تبارك وتعالى-، وأهل الإسلام عندما مكنهم الله –جل وعلا-.
قول الله –تبارك وتعالى- {فَأَنزَلْنَا
عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ}،
أي في فسقهم، فالفسق هو الخروج عن طاعة الله –تبارك وتعالى-، ولما خرجوا عن طاعة
الله وقالوا هذا القول الآثم الفاجر، بدلًا من أن يستغفروا الله –تبارك وتعالى-
نالتهم هذه العقوبة الدنيوية من الله –تبارك وتعالى- على فسقهم، وبالطبع كان هذا
الذي قالوه ليسوا كلهم، وإنما كما قال {فَبَدَّلَ
الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ}.
صورةٌ أخرى من صور أنعام الله –تبارك وتعالى- على بني
إسرائيل، قال –جل وعلا- {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى
لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا
عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ
رِزْقِ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ}[البقرة:60]، أي
إذكروا يا بني إسرائيل {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى
لِقَوْمِهِ}، استسقى طلب السقية، وذلك عندما خرج موسى –عليه السلام- بقومه
بني إسرائيل من أرض مصر إلى بريّة سيناء، وكتب عليهم التيه بعد ذلك بجبنهم أن
يقاتلوا في سبيل الله، عطشوا في البريّة بالطبع، ليس في هذه البريّة أنهارٌ جارية،
فطلبوا من موسى السقية أن يسقيهم، فاستسقى موسى ربه –سبحانه وتعالى-، قال الله –تبارك
وتعالى- له {اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ}، عصا
موسى لا شك أنها عصا من جملة العصا، وقد جاء أول ذكر لها عند عودة موسى من أرض
مدين إلى مصر، وتكليف الله –تبارك وتعالى- له بحمل الرسالة، فإنه مما قال له الله –تبارك
وتعالى- {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى}[طه:17]،
{قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ
بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى}[طه:18]، وقد تبسط في
الكلام وأطال فيه، ائتناسًا بالرب الذي يكلمه –سبحانه وتعالى-، فهي كانت عصا راعي
من جملة العصا التي يحملها الرعاةُ في أيديهم، وليست هي عصا خاصة نزلت من الجنة،
أو فيها خاصية خاصة، وإنما هي عصا من خشب ومن شجر هذه الأرض، فقول الله –تبارك
وتعالى- هي نفس العصا التي كانت تقلب حية عندما يلقيها على الأرض أمام فرعون، وهي
العصا التي تحولت إلى هذا الثعبان العظيم، الذي لقف كل ما أفكهُ السحرة في يوم
الزينة، وعقد المباراة الهائلة بين موسى وبين السحرة، كما في قول الله –تبارك
وتعالى- {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ
عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ}[الأعراف:117]، {فَوَقَعَ الْحَقُّ ...........}[الأعراف:118]، فهي نفس
العصا؛ وهي عصاه التي أمره الله –تبارك وتعالى- أن يضرب بها البحر، كما في قول
الله –تبارك وتعالى- {فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ
اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ
الْعَظِيمِ}[الشعراء:63]، وهي عصاه هنا التي أمره الله –تبارك وتعالى- أن
يضرب بها الحجر، والصحيح أن هذا الحجر حجر من الأحجار، وليس حجرًا خاصًا كما قال
بعض أهل العلم في التفسير، إنه كان حجر خاص ينقله موسى معه كلما انتقلوا في
البريّة في مرحلة، ينقله معه ثم يضعه ويضربه بعصاه، وإنما هو حجرٌ من جملة الأحجار
الموجودة.
{فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ
الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا}، الانفجار هو اندفاع
هذا الماء من بطن هذا الحجر بقوة وبصوت، انفجرت منه اثنتا عشرة عينًا من عيون
الماء، وجعلها الله –تبارك وتعالى- اثنتا عشرة عين بعدد أسباط بني إسرائيل، وذلك
تسهيلًا لهم للسقية، وكذلك ليجتمع كل سبطٍ من أسباطهم حول عين من هذه العيون، ولا
يكون ثمَّ تنازع على الماء، وهذا رفقٌ بعد رفق من الله –تبارك وتعالى-، {فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا}، قال –جل
وعلا- -، {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ}،
قد علم كل أناس؛ كل مجموعة، كل سبط من أسباط بني إسرائيل مشربهم، أي العين التي
يشربون منها حتى لا يتنازعون، ثم قال –جل وعلا- { كُلُوا
وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ}، كلوا إباحة وهنيئًا، وأشربوا من رزق
الله، إن الله –تبارك وتعالى- يرزقكم؛ وهذا رزقٌ بغير واسطة، بل بهذه المعجزة
الظاهرة، يرزقهم الله –تبارك وتعالى- الرزق هذا اليوم بهذه المعجزة الظاهرة.
{ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ
رِزْقِ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ}، تعثوا تفسدوا،
والعثى هو الفساد، أو أعظم الفساد، حال كونكم مفسدين، لا تعثوا في الأرض حال كونكم
مفسدين، أو مفسدين مفعول مطلق فيكون تأكيد لإفسادهم وعثوِّهم في الأرض، نهاهم الله
بأن أمرهم الله –تبارك وتعالى- أن يأكلوا من رزقه، ويشربوا من رزقه شاكرين له –تبارك
وتعالى- غير مفسدين في الأرض بالمعاصي والعتو عن أمر الله –تبارك وتعالى-.
صورة كذلك أخرى من صور عناد بني إسرائيل، يقول الله –تبارك
وتعالى- {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ
عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ
الأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ
أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا
فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ
وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ
اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا
وَكَانُوا يَعْتَدُونَ}[البقرة:61]، وإذ قلتم اذكروا، إذ قلتم يا موسى؛ قوم
موسى يقولون له يا موسى مرةً ثانية أيضًا بسوء أدب، لا يا أيها النبي ولا يا أيها
الرسول، وإنما يخاطبونه باسمه هكذا، {يَا مُوسَى لَنْ
نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ}، هذا قالوه يوم كانوا في التيه، ولم يكن
لهم سبب يمكن أن يزرعوا وأن يفلحوا، وإنما كانوا مسافرين عابرين راحلين، ذاهبين
إلى الأرض المقدسة، قم حبسوا في هذا المكان بقعودهم عن الجهاد والغزو، فرزقهم الله
–تبارك وتعالى- رزقًا بغير سبب منهم، بأن أنزل عليهم المن والسلوى، هذا طعامهم
وشرابهم يأتيهم بهذه الصورة من صور الإعجاز، وهي أن يضرب موسى الحجر، فتنفجر
المياه من كل جانب؛ اثنا عشرة عين، ويشرب منها الشعب كله، ومع هذا قالوا {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ
وَاحِدٍ}، لن لنفي الفعل في مستقبل الزمان، {نَصْبِرَ
عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ}، قالوا طعام واحد علمًا أنه منٌ وسلوى، لكن لما
تكرر كل يوم سموه طعامًا واحدًا، وإن كان هو مكون من العسل وطير السمان، لكنهم
جعلوه طعام واحد أنه يتكرر كل يوم، {لَنْ نَصْبِرَ عَلَى
طَعَامٍ وَاحِدٍ}، فليس ثمَّت مخرج وقد أخبروا بأنهم باقون في هذا المكان
أربعين سنة، يتيهون في الأرض، واشتاقوا إلى حياتهم الأولى، حيث كانوا أهل زراعة
وأهل تنويع في الطعام والشراب.
فقالوا {لَنْ نَصْبِرَ عَلَى
طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ}،
اقترحوا على موسى أن يدعو الله –تبارك وتعالى- أن يحول لهم هذه الصحراء التي هم
فيها؛ إلى وادٍ يزرعون فيه، وتخرج الأرض أيضًا مادام أن الماء ينفجر بغير سبب
فتخرج كذلك الأرض نباتها بغير سبب، {يُخْرِجْ لَنَا
مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ}، والله هو الذي يخرج، {مِنْ
بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا}، الكل هذا
شيء يؤكل نيئًا أخضر هذا البقول، والقثَّاء معروف، والفوم قيل فومها بمعنى ثومها،
أن الفوم هو الثوم، أن العرب تبدل الثاء فاء، كما يقولون في جدث جدف، فيكون فومها
ثومها، وعدسها أيضًا من البقول المعروفة وبصلها، لما اقترحوا هذا قال لهم موسى –عليه
السلام- {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى
بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ}، أتستبدلون تريدون بدل ما أنتم فيه، من الطعام
الطيب المن والسلوى، بهذا الطعام الذي هو أدنى من ذلك، الطعام الذي يعطيكم الله –تبارك
وتعالى-، أتستبدلون الذي هو أدنى من الطعام بالذي هو خير، {اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ}، اهبطوا
مصرًا، ارجعوا إلى ما كنتم فيه من الذل والعبودية عند الفراعنة، حيث كان هذا
الطعام موفرًا لكم وموجودًا لكم، {فَإِنَّ لَكُمْ مَا
سَأَلْتُمْ}، وذلك أنهم قالوا –كما جاء في التوراة- قالوا أخرجتنا من مصر،
كنا الآن بجوار قدور اللحم تفور، وعندنا من هذه البقول ما عندنا، فعاتبهم وأنكر
عليهم موسى أنهم يستحبون أن يأكلوا مثل هذا الطعام مع الذل والعبودية، وأن حياة
الحرية والبعد عن الذل والخضوع مع هذا الطعام الذي وفره الله –تبارك وتعالى- لهم
لا يريدونه، فقال لهم نبيهم اهبطوا مصرًا، صحيح مصرًا أنها أرض مصر، وإنما جاءت
هنا منونة، إذا جاء التنوين تصبح مصر من الأمصار، قال بعض أهل العلم ادخلوا مصرًا
من الأمصار، أي مصرٍ تدخلوه، أو أي مكانٍ تدخلوه فإنكم تجدون مثل هذا الطعام الذي
تشتهونه وتطلبونه، اهبطوا مصرًا أي مصر، أو اهبطوا مصرًا؛ مصر التي هي أرض مصر
التي كنتم فيها، {فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ}،
فيكون هذا من موسى –عليه السلام- تعيير لهم، وبيان أن حياة الذل هي أحب إليهم من
حياة العز التي نقلم الله –تبارك وتعالى- إليها، {فَإِنَّ
لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ}، قال –جل وعلا- لما كان هذا شأنهم في حقارة أنفسهم،
وطلبهم الذي هو أدنى، وتبرمهم بما هو خير.
قال –جل وعلا- {وَضُرِبَتْ
عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ}، ضربت؛ الضرب يأتي بمعنى الطبع،
كما نقول ضربت هذه العملة في كذا، ويأتي بمعنى النصب كما أقول ضربت الخيمة أي
نصبتها، وهذا المعنى في ضربت عليهم الذلة والمسكنة، ضرب الذلة والمسكنة بهذين
المعنيين، ضربت عليهم الذلة والمسكنة أي طبعت عليهم طبعًا، فأصبحوا كالمطبوع عليه
هذا الأمر، أو ضربت عليهم الذلة والمسكنة أي لُبِّست عليهم وغطيت بهم، فحيثما
كانوا هو أهل ذل وأهل مسكنة، ولو كانوا ما كانوا، لو كان أحدهم غنيًا أكبر الغنى، وعزيزًا
أكبر العِزة، فهو في ذاته ذليل متمسكن، {وَضُرِبَتْ
عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ}، الذِلّة؛ المهانة والرضا بالدنيء من العيش
والحياة، والمسكنة بمعنى ذِلّة كذلك، لأن المسكين هو من السكون، مأخوذ المسكين من
السكون، أنه ساكنٌ خاشعٌ من ذلته ومن ضعفه.
{وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ
اللَّهِ}، باءوا بمعنى رجعوا أو استحقوا، باء تأتي بمعنى رجع أو استحق، {وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ}، أي رجعوا بعد هذه
المعاصي، وبعد هذا العناد لآيات الرب فرجعوا بغضب من الله، أو استحقوا غضب الله،
كما جاء باء بمعنى استحق في قول مهلل ((بؤ بشسع نعل كليب))، أي لا تستحق إلا هذا، {وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ}، الغضب في المخلوق
معروف، وهو ثورة في النفس، ورغبة في الانتقام، وهو صفة مدح للمخلوق، فالذي يغضب
إذا انتهكت حرمته؛ لا شك أنه يمدح، وأما الذليل المهين الذي لا يستثيره أمر ليغضب،
ليرد عن نفسه عدونًا وشرًا، فلا شك أن هذا من معاني الذِلّة، هذا في المخلوق، لكن
الغضب الذي في المخلوق الذي يفقد الإنسان سيطرته على نفسه، ويجاوز الحد فهو مذموم،
كما في الحديث «أن رجلًا قال للنبي عظني، قال لا تغضب، قال عظني، قال لا تغضب، قال
عظني يا رسول الله، قال لا تغضب»، كررها ثلاثً، لا تغضب، فالغضب من المخلوق إذا
كان في غير محله، وقد جاوز حده فهو مذموم، ولذلك قال النبي –صلى الله عليه وسلم-
«ليس الشديد بالسرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عندالغضب»، هذا هو الشديد الذي
يملك نفسه عند الغضب، فلا ينفس غضبه إلا بالقدر المناسب، وفي المكان المناسب، هذا
الغضب بالنسبة للمخلوق، لا شك أن الله –سبحانه وتعالى- هو الموصوف بصفات الكمال،
فالغضب بالنسبة لله –تبارك وتعالى- صفة من الصفات اللائقة بذاته –سبحانه وتعالى-،
وغضب الله –جل وعلا- أن تنتهك حرماته، وهو كسائر الصفات، أي نفهمه كسائر الصفات،
الرحمة والشفقة، والله –تبارك وتعالى- رحيم، رءوف –سبحانه وتعالى-، وكذلك هو يغضب،
هو ذو انتقام –سبحانه وتعالى-، {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي
أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}[الحجر:49]، {وَأَنَّ
عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ}[الحجر:50]، فالغضب صفة من صفة الرب؛
صفة كمال لائقةٌ بذاته –سبحانه وتعالى-، وهذا قول الله –تبارك وتعالى- عن اليهود
هنا، {وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ}، أي استحقوا
أن يغضب الله –تبارك وتعالى- عليهم، مرة ثانية أقول صفة من صفاته، وأثر هذا الغضب
هي العقوبة، أي من أثر غضب الله –تبارك وتعالى- عليهم، أن يعاقبهم بما شاء من
عقوبة في الدنيا، النار من آثار غضبه –سبحانه وتعالى-، إنما خلق الله –تبارك
وتعالى- النار، لتكون مستقر لمن غضب الله –تبارك وتعالى- عليهم، كما قال –جل وعلا-
{وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ
فَهُمْ يُوزَعُونَ}[فصلت:19]، فالله يعذب أعداءه بهذه النار، فالذي غضب
الله –تبارك وتعالى- عليهم، استحقوا وباءوا غضبه، واستحقوا عقوبته –سبحانه وتعالى-
وهذه العقوبة هي من آثار غضبه –جل وعلا-.
{وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ
اللَّهِ ذَلِكَ}، أخبر –تبارك وتعالى- لماذا عاقبهم بهذه العقوبات، أن ضرب
عليهم في الدنيا الذِلّة والمسكنة، وأن استحقوا في النهاية غضبه –سبحانه وتعالى-، {وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ}، قال {ذَلِكَ}، أي هذا الذي وقع بهم من العقوبة بأنهم كانوا
يكفرون بآيات الله، لأنهم كانوا يكفرون بآيات الله، وهذه صور كثيرة من صور الكفر، الكفر
ذكرناه مرارًا، بمعنى الجحود والستر والتغطية، {يَكْفُرُونَ
بِآيَاتِ اللَّهِ}، فلا يؤمنون بها، يجحدونها، يفعلون بضدها.
{وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ}، أن
كذلك من جرائمهم قتل النبيين، أي أنبيائهم الذين أرسلهم الله –تبارك وتعالى- فيهم
بغير الحق، ولا شك أنه لا يمكن أن يقتل نبيٌ بحق، ولكن هذا تأكيد من أنهم معتدون، اعتدوا
على أنبيائهم، وقتلوهم بغير الحق، قال –جل وعلا-
{ذَلِكَ}، مرةً ثانية، أي عقوبة الله –تبارك
وتعالى- لهم، هذه بأن ضرب عليهم الذِلّة والمسكنة، واستحقوا غضبه –سبحانه وتعالى- {ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ}، بسبب
عصيانهم لله –تبارك وتعالى-، والسبب عدوانهم على أمر الله –جل وعلا-.
هذه مجموعة من صور أنعام الله –تبارك وتعالى- وأفضاله على آباء بني إسرائيل الموجودين، الذي يخاطبهم الله –تبارك وتعالى- في هذا القرآن، ثم على مقابلتهم أنعام الله –تبارك وتعالى- وإحسانه بالكفر والعناد، نقف عند هذا وأصلي وأسلم على عبد الله ورسوله محمد، والحمد لله رب العالمين.