الخميس 28 ربيع الآخر 1446 . 31 أكتوبر 2024

الحلقة (230) - سورة التوبة 7-16

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله الأمين, سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه، ومَن اهتدى بهديه، وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد؛ فيقول الله -تبارك وتعالى-:  {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ}[التوبة:7], {كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ}[التوبة:8], {اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[التوبة:9], {لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ}[التوبة:10], الآيات مِن سورة براءة، وهذا الفاصل في سياق بيان الرب -تبارك وتعالى- لماذا أنهى الله -تبارك وتعالى- وأمر رسوله بأنْ يُنْهِى العقود المُطْلَقَة التي كانت للمشركين، وقد بدأت هذه السورة بقطع هذه العقود، قال -جلَّ وعَلا- : {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}[التوبة:1], ثم بعد ذلك الإعلام في السنة التاسعة مِن هجرة النبي -صلوات الله والسلام عليه- بأنه أنَّ لا يَحَجَّ بعد العام مُشْرِك، وألا يطوف بالبيت عريان, {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ........}[التوبة:3], أمهلهم الله -تبارك وتعالى- بعد هذا الإعلان بقطع العهود بأنهم سيقتلون في أي مكان يكونون، قال : {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[التوبة:5], ثم جعل الله -تبارك وتعالى- للملتجئ إلى المسلمين الفرصة في أنْ يسمع كلام الله، وأنْ يُعْرَضَ عليه الإسلام إنْ قَبِلَ هذا، وإلا ما دام أنه قد التجأ إلى المسلمين واستجار بهم؛ فإنَّ المسلمين يجب عليهم أنْ يُبَلِّغُوهُ مأمنه، قال -جلَّ وعَلا- : {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ}[التوبة:6].

 ثم قال -جلَّ وعَلا- : {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ}, سؤال يراد به إنكار أنْ يكون عهد دائم مع المشركين، وهذا حالهم استثنى الله -تبارك وتعالى- : {إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}, قيل أنهم خُزَاعَة؛ فإنهم عاهدوا النبي -صلى الله عليه وسلم- وأوفوا له -صلوات الله والسلام عليه-, والتزم مؤمنهم وكافرهم كان مع النبي -صلوات الله والسلام عليه-, ولم يخالفوا شيئًا مما عاهدوا النبي عليه -صلوات الله والسلام عليه-, أما قريش فإنَّ النبي عاهدها في الحديبية، ووضع الحرب بين النبي -صلى الله عليه وسلم- وبينهم عشر سنوات، ولكنهم لم يصبروا على هذا، بل بعد سنتين فقط نقضوا عهدهم مع النبي -صلى الله عليه وسلم- وحلفاؤهم مِن بني بكر غزوا خُزَاعَة وقتلوا منهم، وكثير مِمَن عاهد النبي -صلى الله عليه وسلم- مِن هؤلاء غدروا في عهودهم؛ فالله يقول : {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ}[التوبة:7], {كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً}, {كَيْفَ}, كذلك لبقاء عهد مع هؤلاء الناكثين, {وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ}, لو أنهم تَغَّلُبوا عليكم، وأصبحت الغَلَبَة لهم, {لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً}, كما كان هذا حال مشركي قريش عندما كانت لهم اليد العليا في مكة؛ فإنهم لم يرقبوا في مؤمنٍ لا إل ولا ذِمَّة، لا عهد وهو الذمة، ولا الإل القرابة، فقد آذوا وأكثر ما آذوا قراباتهم، كان الأب يُذِلُّ ابنه إذا دخل في الإسلام، وهذا أبو جَنْدَل قد سجنوه وربطوه بالحديد، وكذلك أكثر مِمَن آذى النبي -صلى الله عليه وسلم- أقرباؤه مِن قريش، وكذلك تسلطت كل كافر على مَن عندهم مِن أهل الإيمان مِن قراباتهم, فالله يقول : {كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ........}[التوبة:8], أحيانًا في حال ضعفهم؛ فإنهم {يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ}, يرضون أهل الإيمان, {بِأَفْوَاهِهِمْ}, بكلام على غير ما في قلوبهم, {وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ}, تأبى قلوبهم هذا الكلام الطيب إذا وافقوا المسلمين ظاهرًا في حال ضعفهم، وعاهدوا المسلمين لكنهم يرضونهم بكلام في ظاهره، وقلوبهم على غير ذلك, {........وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ}[التوبة:8] لا دين لهم ولا عهد, {فَاسِقُونَ}, خارجون عن أمر الله -تبارك وتعالى- وطاعته.

 ثم قال -جلَّ وعَلا- : {اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[التوبة:9], {اشْتَرَوْا}, الشراء الاستبدال استبدلوا, {بِآيَاتِ اللَّهِ}, وهي التي دفعوها ثمن قليل الذي أخذوه ولوكان الدنيا، الدنيا كلها ثمن قليل في مقابل آيات الله -تبارك وتعالى- والالتزام؛ لأن الإيمان بآيات الله -تبارك وتعالى- هذا الخير كله في الدنيا والآخرة الجنة، والفوز العظيم؛ فسمى أخذهم، ورضائهم بهذه الدنيا التي ارتضوها، وتركهم الدين من أجل هذه الدنيا أنهم أخذوا ثمن قليل، أخذوا ثمن قليل في سبيل دفعهم الآخرة؛ فكل مَن آثر الدنيا على الآخرة؛ فقد باع آيات الله -تبارك وتعالى- بثمن قليل، استبدل بالجنة والرضوان والفوز بالمطلوب الأكبر استبدل هذا بما أخذه مِن هذه الدنيا القليلة، الفانية, {اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ........}[التوبة:9] صدُّوا بأنفسهم، وصدُّوا غيرهم، منعوا غيرهم عن الإيمان بالله -تبارك وتعالى- وكل هذا مِن أجل حرصهم على هذه الدنيا التي  أرادوها، وتركهم لدين الله -تبارك وتعالى-, قال -جلَّ وعَلا- : {إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}, هذا الفعل الذي يعملوه أسوأ الأفعال أسوأ فعل هو أنْ يصدُّوا بأنفسهم، ويصدُّوا الناس عن دين الله -تبارك وتعالى- ويستميتوا لهذه الدنيا، ويتركوا دين الله -تبارك وتعالى- لا شك هذا أسوأ عمل ممكن أنْ يقع مِن الإنسان, {........إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[التوبة:9], الذي يعملونه في منتهى السوء.

 ثم قال -جلَّ وعَلا- : {لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ}[التوبة:10] هذا وصفٌ دائم؛ لأنه هذا حالهم, {لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً}, فهم, {لا يَرْقُبُونَ}, أي ينظرون ويفعلون ويخافون مِن إيذاء المؤمن، بل لا يراعون في هذا أي حُرْمَة, {لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا}, قرابة, {وَلا ذِمَّةً ولا عهد بل لا قرابة يحترمونها، ويراقبونها ويرعونها، ولا عهد كذلك يراقبونه وينظرون فيه، وقد عاهدوا ويلتزمون به؛ فلا هذا، ولا هذا, {لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ}, ما دام هو مؤمن تسقط كل حقوقه, المؤمن عندهم تسقط كل حقوقه سواءً كان حق فيه قرابة، وحق الذي أخذه بعهد منهم كله هذا يسقطونه، قال -جَّل وعَلا- : {وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ}, أي بجعل العدوان منحصر فيهم هؤلاء هم المعتدون، إذن نفى العدوان عن غيرهم؛ فإذن هؤلاء هم أهل العدوان، هؤلاء أهل الكفر الذين لا يراعون في المؤمن عهد يعاهدونه، ولا قرابة له, ثم قال -جل َّوعلا- إذن السياسة معهم، والواجب إزائهم، قال : {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ........}[التوبة:11], إنْ تابوا عن الكفر والشرك، ونقض هذه العهود، ورجعوا إلى الله -تبارك وتعالى-, {تَابُوا},ثابوا مِمَّا هم فيه، وأعظم ما هم فيه كفرهم وشركهم وعدوانهم على المسلمين، وأصبحوا مسلمين, {وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ}, وإقامة الصلاة أدائها على وجهها الأكمل, {وَآتَوُا الزَّكَاةَ}, وهي حق الله -تبارك وتعالى- في المال للمصارف التي أمر الله أنْ تُصْرَفَ فيها الزكاة، وسميت إخراج هذا المال بالزكاة؛ لأنه طهرة للنفوس مِن شحها وبخلها، ومنع حق الله -تبارك وتعالى- عن مصرفه الذي أمر أنْ يُصْرَفَ فيه، وكذلك طهرة للأموال، قال -جلَّ وعَلا- : {فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ}, فيتحولوا مِن أعداء إلى إخوان، قال : {فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ}, أي يصبح هؤلاء الأعداء الذين كانوا في حال الكفر هكذا أهل عداوة إذا انتقلوا، تركوا الكفر، ودخلوا في الإسلام، وأقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة يصبحون إخوانكم في الدين, {فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ}, ثم قال -جلَّ وعَلا- : {........وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}[التوبة:11], {وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ}, بهذا التفصيل، وتفصيلها بيانها وفصل بين المعاني المشتبهة حتى  يظهر كل معنى على حدِهَ؛ فتتضح الأمور بين الله -تبارك وتعالى- آياته هذه المنزلة بترتيبها وعناصرها، ووضع كل أمر في نصابه حتى يُعْلَم ما يجب على المؤمن أنْ يعمله في كل شأن مِن الشئون، وهذا الشأن قد فصَّلَهُ الله -تبارك وتعالى- لأهل السياسة الواجبة, لأهل الإيمان مع أهل الكفر كيف يتخذون معهم في حال كفرهم، وفي حال إسلامهم فصَّلَهُ الله -عزَّ وجلَّ- الله يقول هنا : {وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ}, أي هذا التفصيل, {لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}, أهل العلم، لِمَن يعلم هذا مفهوم هذا أنَّ مَن لا يعلم عن الله -تبارك وتعالى- ويصم آذانه؛ فإنه لا يستفيد بهذا التفصيل.

 ثم قال -جلَّ وعَلا- : {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ}[التوبة:12], أي أعلنوا توبتهم عن الكفر، ودخولهم في الإسلام، وصَلُّوا مع المسلمين، ولكن كان هذا ظاهرًا وحقيقة قلوبهم وحقيقة أنفسهم على غير ذلك, {نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ}, حلفهم، وما عاهدوا عليه, {مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ}, بعد أنْ عاهدوكم، وأقسموا الأيمان على أنْ يلتزموا بما عاهدوا عليه, {وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ}, الطعن في الدين هو ذَمُّه، وإلقاء الشبهات والشكوك, والطعن معروف الطعن هو الضرب بشدة بشيء كالطعن بالرمح؛ فطعنوا في دينكم فيُطْلَق هذا الأمر المعنوي، طعنهم في الدين غمزهم فيه، وإلحادهم في أسماء الله -تبارك وتعالى- وصفاته، في حقيقة الدين، في الرسول، في تشريع الله -تبارك وتعالى- كل هذا داخل في أبواب الطعن في الدين, أي تَنَقُّص وعيب لشيء مِن هذا الدين, {وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ}, قال -جلَّ وعَلا- : {فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ}, سماهم الله -تبارك وتعالى- أئمة جمع إمام، والإمام هو الفرد المُقْتَدَى به، وهؤلاء يكونون أفراد يُقْتَدَى بهم في الشر؛ فالإمام قد يكون إمام هُدَى، ويوجد إمام ضلالة؛ فهؤلاء أئمة ضلالة، كما قال الله في قوم فرعون : {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ}[القصص:41]، أي أنهم قدوة وأسوة، أعلام تقود غيرها، ويَأتمُّ بها غيرها الى النار عياذاً بالله؛ فهؤلاء أئمة الكفر، هؤلاء رؤسائه وزعمائه وقواده، الله -تبارك وتعالى- يقول هؤلاء الذين تولوا كبر الطعن في الدين بعد نكثهم للعهود الله يقول قاتلوهم، قال -جلَّ وعَلا- : {........إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ}[التوبة:12], {إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ},{أَيْمَانَ}, جمع يمين، واليمين هو الحلف أي يحلف ويُقْسِم لكنه لا يلتزم بِقَسَمِهِ {........إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ}[التوبة:12], {لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ}, أي بقتالهم، إذا رأوا قيامكم على الأمر، وأنكم لا تغشون، ولا تخدعون بِمَن يظهر الدين، ولكنه يدخل فيه مِن باب أنْ يطعن فيه، وأنْ يضربه مِن داخله؛ فإذا عرفوا هذا، وقاتلتم أئمة الكفر الذين يطعنون في الدين حتى، وإنْ تظاهروا بالدخول فيه، قال - جلَّ وعَلا- : {لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ}, عن فعله؛ فإنَّ الكفار إذا يئسوا مِن القتال الظاهري ممكن أنْ يدخلوا الإسلام، ويقاتلوا من داخله، قال -جلَّ وعَلا- : {........ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ}[التوبة:12].

 ثم حرَّض الله -تبارك وتعالى- أهل الإيمان، وهَيَّجَهُم في قتال هؤلاء الناكثين الكفار لعهودهم الباقين على الكفر منهم، والمحاربين لله ورسوله، تهييج مِن الله -تبارك وتعالى- وحث وحض، قال : {أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ}[التوبة:13], هذه الآية تضمنت أنواع مِن حض الله -تبارك وتعالى- وحثه عباده المؤمنين أنْ يقاتلوا هؤلاء؛ فقال : {أَلا}, الإعلامية، الحضية, {تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ}, أي ألَا يستحق هؤلاء أنْ تقاتلوهم, {قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ}, النكث هو النقض والفسخ, {أَيْمَانَهُمْ}, عهودهم، أقسامهم أي حلفوا بالله على أمر؛ ثم بعد ذلك نقضوه وفسخوه وطرحوه, {نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ}, يوم كان النبي -صلى الله عليه وسلم- عندهم في مكة؛ فإنهم همُّوا بإخراجه، واجتمعوا على هذا وتآمروا وقالوا نخرجه مِن مكة، وهو نبي حَرَمِيّ مِن أهل الحَرَم، ومِن أهل هذا البلد، والحال أنهم هذا البلد كانوا يُؤَمِّنُونَ فيه حتى الطير والصيد والعشب النامي، وهذا في جاهليتهم يرون أنَّ هذا البلد الحرام؛ فحتى هذه أحكام الحرم كانوا يراعونها، ولا يقتل العربي ويطالب بدم كل لائذٍ إلى هذا الحرم؛ فكيف والنبي هو رسول الله، نبي الله، وهو مِن أهل هذا البلد، وهو منهم وهم معه في قرابة، ومع ذلك همُّوا بإخراج الرسول، والله -تبارك وتعالى- أخرج رسوله -صلوات الله والسلام عليه-  مهاجرًا إلى المدينة مِن بين أظهرهم لم ينالوه بسوء، وهذا مِن مكر الله -تبارك وتعالى- بهم، كما قال -جلَّ وعَلا- : {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ}, {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ........}[الأنفال:30], أي يحبسوك في مكة, {........أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}[الأنفال:30], فالله يقول : هؤلاء مكروا بالنبي -صلى الله عليه وسلم- وأرادوا أنْ يخرجوه ألا يستحق هؤلاء أنْ يُقَاتَلُوا, {أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ........}[التوبة:13], {هُمْ}, هؤلاء الكفار, {بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ}, عندما أخرجوا المؤمنين وقاتلوهم وقتلوا منهم وآذوهم، وحاربوهم في كل مكان، وألَّبُوا عليهم هؤلاء هم الذين بدئوا حرب أهل الإسلام, {وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ}, قال -جلَّ وعَلا- : {........أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ}[التوبة:13], تخشونهم تخافونهم، والخشية خوف لكنهم مع تعظيم ورهبة هؤلاء لهم مِن الرهبة، والإجلال في قلوبكم، والخشية، أنْ تخافوهم، أنْ تهابوا حربهم، قال -جلَّ وعَلا- : {فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ}, الله -سبحانه وتعالى- الذي تعبدونه إلهكم، إله السماوات والأرض, {أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ}, تخافوه وتُعَظِّمُوهُ -سبحانه وتعالى- في قلوبكم وترهبون منه، وإذا أمركم ولم تفعلوا؛ فهذا فيه تعريض لعقوبة الرَّب -تبارك وتعالى-, {فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ}, ثم حض إثر حض على قتال هؤلاء، هذا الأول ببيان المبرر أنهم يقاتلوا هؤلاء يستحقوا أن يقاتلوا هؤلاء الكفار, ثم بعد ذلك المآثر، أو الثمرات التي يمكن أنْ تتحقق مِن قتال هؤلاء, قال –جلَّ وعَلا- : {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ}[التوبة:14], {وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ}, كل السياق الآن فيه تهييج ودفع المسلمين إلى قتال هؤلاء هنا الثمرات، وثمرات دنيوية عاجلة تتحقق, الله -تبارك وتعالى- يخبرهم بأنَّ هناك ثمرات عظيمة ستتحقق بقتالهم لهؤلاء، قال : {قَاتِلُوهُمْ}, أي الكفار, {يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ}, الله يعذبهم لكن بأيديكم، انظر الكرامة، كرامة أهل الإيمان على الله -تبارك وتعالى- هؤلاء يستحقون التعذيب بالهزيمة، بالقتل، بالخزي، بالعار الذي ينالهم انتصار المسلمين عليهم؛ فالله يقول : {يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ}, ولكن, {بِأَيْدِيكُمْ}, فيجعل أيدي المؤمنين هذه سِتَار لقدرته، وتنفيذ لإرادته -سبحانه وتعالى-, {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ}, يخزهم في هذه الدنيا خزي أنْ ينظروا أنَّ هذه الفئة المؤمنة قد غلبتهم وأسرتهم، وقتلت منهم، وفعلت فيهم, {وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ}, ينصركم أنتم يا مؤمنين عليهم، وإمداده بالنصر الله -تبارك وتعالى- هو الذى بيده الأمر كله؛ فهذا وعدٌ منه أنه سيجعلكم منتصرين عليهم, {وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ}, ثم : {........وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ}[التوبة:14], الشفاء ضد المرض معروف، وصدور المؤمنين كان فيها ألم شديد وتَقَرُّح، ومما لا قوة مِن هؤلاء الكفار، وكانوا يتمنون ويريدون أنْ يروا في هؤلاء الكفار يوم يهانون فيه، ويعذبون فيه كما أهانوهم وعذبوهم، وشردوهم، كما فعل بلال -رضى الله تعالى- عنه يوم بدر، وقد رأى أنَّ عبدالرحمن بن عوف قد أسر أُمَيَّة بن خلف، وكان حليفًا له في الجاهلية هذا جابه أسير؛ فرآه بلال؛ فقال: (أُمية؟! رأس الكفر لا نجوت إنْ نجا)؛ فيقول له عبد الرحمن : يا بلال إنه أسيرى؛ فقال له : (والله لا نجوت إنْ نجا)، ما أنجو إذا نجا، وقال: يا معشر المسلمين، هذا معشر المسلمين، هذا أمية بن خلف،؛ أمية بن خلف كان هو وأخوه أُبي كانوا يَجُرُّونَ بلال -رضى الله تعالى- عنه، وهو في مكة على ظهره، وعلى وجهه, يلقون ظهره في رمضاء مكة الحارقة، ويأتون بالصخرة العظيمة؛ فيضعونها فوق صدره، ويقولون : (والله لا ترفع عنك حتى تكفر بمحمد)؛ فيقول : (أحد أحد), ثم يقول : (لو أعلم أنَّ هناك كلمة تغيظكم أكثر مِن هذه أكثر مِن أحدٌ أحد، الله -سبحانه وتعالى- أحدٌ أحد لقلتها), ثم كانوا يربطونه بالحبل مِن رقبته، ويعطونه للصبية الصغار، ويقولون طوفوا به، دوروا به في مكة سخرية منه واستهزاء به؛ فهذا مِثْلُ بلال ومثل هؤلاء الذين لاقوا هذا التعذيب، والإهانات الشديدة، والأذى الشديد في مكة يتمنون أنْ يروا هؤلاء رؤوس هذه الكفر تسقط، ويروا فيهم يوم مِن الأيام؛ فالله -تبارك وتعالى- قال : {........وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ}[التوبة:14], يشفي صدورهم بأنْ أعزَّهم الله -تبارك وتعالى- ونصرهم بعد ذُلّ، وهؤلاء هم الذين آذوهم، وفعلوا بهم، وفعلوا هذا هو المآل الذي آلوا إليه, {وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ}, أي يشفي صدور قوم مؤمنين مِن الألم أي للآلام السابقة التي كانت فيه, {وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ}, الغيظ هو شدة الغضب والألم الذي يكون في النفس لأمر مؤلم، ولا يجد الإنسان ما يُفَرِّجُهُ عنه ويُخْرِجُهُ؛ فيغتاظ، {وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ}, تغيظهم وغضبهم الشديد، وامتلائه بالحُنْقِ على هؤلاء الكفار الذين علوا في الأرض، وفعلوا وفعلوا, هذا الآن كله مِن الله -تبارك وتعالى- سياق إنما هو حث منه -سبحانه وتعالى- وحض لهؤلاء المؤمنين على مواصلة قتال هؤلاء الكفار, {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ}, {يُخْزِهِمْ}, {يَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ}، {يَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ}, {يُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ}, ثم قال -جلَّ وعَلا- : {........وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}[التوبة:15], بعد هذا ليس كل هؤلاء الكفار سيكونون إلى هذا المآل؛ فإنَّ الله -تبارك وتعالى- سيتوب على مَن يشاء منهم, {وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ}, أي مِن هؤلاء الكفار الذين فعلوا كل هذا الإجرام، وكان منهم كل هذا ممكن أنْ يتوب الله -تبارك وتعالى-  على مَن يشاء منهم، والتوبة هو أنْ يقبل توبتهم ورجوعهم أي يرجعوا إلى الله -تبارك وتعالى- عن هذا الكفر؛ فيقبل الله -تبارك وتعالى- رجوعهم وتوبتهم إليه, {عَلَى مَنْ يَشَاءُ}, والأمر له -سبحانه وتعالى- كله؛ فالأمر كله بمشيئته -جلَّ وعَلا- مَن شاء الله –تبارك وتعالى- هداه ووفَّقَهُ، ومَّن شاء أضله -سبحانه وتعالى- والأمر كله إليه -جلَّ وعَلا-, {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}, {عَلِيمٌ}, بكل خَلْقِهِ -سبحانه وتعالى-, {حَكِيمٌ}, يضع كل أمر في نصابه؛ فالهُدى أي الهداية يضعها الله -تبارك وتعالى- في نصابها في مَن يستحق، والضلال والموت على الكفر يجعله الله -تبارك وتعالى- كذلك في أهله، ومَن يستحق هذا؛ فالأمر إليه -سبحانه وتعالى-  وهو العليم بخلقه -سبحانه وتعالى-, {عَلِيمٌ}, أي مَن يستحق أنْ يُهْدَى فيهديه، ومَن يستحق الضلالة فيلقيه فيها الأمر كله إليه -سبحانه وتعالى-,