الإثنين 24 جمادى الأولى 1446 . 25 نوفمبر 2024

الحلقة (231) - سورة التوبة 16-21

 

الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله الأمين, سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومَن اهتدى بهديه، وعَمِلَ بسنته إلى يوم الدين.

وبعد؛ فيقول الله -تبارك وتعالى- : {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}[التوبة:16], كنا مع هذه الآية في الحلقة الماضية، وذكرنا أنَّ هذه الآية جاءت في ختام هذا الفاصل مِن هذه السورة، سورة براءة في الحض على قتال هؤلاء المشركين, الناكثين لعهودهم أهل الفسق والظلم في ختام هذا قال -جلَّ وعَلا- للمؤمنين : أنه لا بد أنْ يختبرهم ويمتحنهم في مُسَمَّى الإيمان، ومِن هذا الاختبار أنه يختبرهم بالجهاد في سبيل الله، وأنَّ المؤمن كان في صَفِّ الإسلام وحده، ولم يكن له يدٌ أخرى مع الكفار، قال -جلَّ وعَلا- : {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا}, أي يترككم الله -تبارك وتعالى- بعد أنْ قلتم إننا مؤمنين؛ فلا يختبركم ولا يمتحنكم, {أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ}, {وَلَمَّا}, لم يحصل بعد هذا نفى للفعل إلى وقت الكلام، وقت التكلم, {وَلَمَّا يَعْلَمِ}, العلم هنا، الله -تبارك وتعالى- لا شك أنَّ الله -تبارك وتعالى- عليم بخلقه -سبحانه وتعالى- لا يزداد علمًا بشيء لم يكن في علمه تعالى الله -تبارك وتعالى- عن ذلك؛ فإنَّ الله يَعْلَم ما كان، ما سيكون, مالا يكون لو كان كيف يكون؛ فلا يغيب عنه -سبحانه وتعالى- مِن العلم شيء هو عالم الغيب والشهادة -سبحانه وتعالى-, ومِن الغيب المستقبل كل ما هو مِن المستقبل قد عَلِمَهُ الله -تبارك وتعالى- كيف يكون؛ فالله يَعْلَم مَن هو على الإيمان، ومَن هو صادقٌ فيه، ومَن سيقول أنه مؤمن، وليس بصادقٍ فيه، ومَن يبقى ثابتًا عليه، ومَن ينقلب على وجهه كل هذا إنما هو بِعِلْمِ الله -تبارك وتعالى- لكن هنا, {وَلَمَّا يَعْلَمِ}, -سبحانه وتعالى- إنما هو العلم ظهور مقتضى هذا العلم، ظهور هذا العلم فى عالم الواقع حتى يكون على أساس هذا الحساب، وذلك أنَّ الله -تبارك وتعالى- لا يحاسب الخَلْق يوم القيامة على علمه فيهم -سبحانه وتعالى- السابق، بل على قيامهم بهذا العلم الذى علمه الله -تبارك وتعالى- فيهم فى عالم الواقع؛ فقال -جلَّ وعلَا- : {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ}, لأنَّ الجهاد في سبيل الله برهان على صِدْقِ الإيمان، وعلى أنَّ صاحبه بالفعل مؤمن، الجهاد فيه تعريضٌ للنَّفْسِ والمال للخطر, {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ........}[التوبة:111], فهو بيعٌ للنَّفْسِ والمال في سبيل الله، وقال -جلَّ وعَلا- : {الم}[العنكبوت:1], {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ}[العنكبوت:2], {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ}[العنكبوت:3], {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ}[العنكبوت:4], {مَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}[العنكبوت:5], {وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}[العنكبوت:6], فالجهاد في سبيل الله ابتلاء، الله يبتلي المؤمنين بالكفار لأمور عظيمة، مصالح عظيمة جدًا مِن هذه المصالح بيان مَن هو مؤمن حقًا، ومَن ليس بمؤمن, {وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ}, ثم : {وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً}, الوليجة الدخيلة لم يكن لهم أي صلة خَفِيِّة, مدخل مع الكفار دون الله ودون رسوله, أي شيء مِن وراء ظهر المؤمنين، كأن يكون له، يُوْصِلُوا للكفار أسرار المسلمين ليتخذ يدًا عندهم، له علاقة بهم على أهل الإيمان؛ فهذا الذي له يدٌ مع الكفار ضد أهل الإيمان هذا علمه الله -تبارك وتعالى-, أراد الله -تبارك وتعالى- أنْ يكون المؤمن في صف أهل الإيمان؛ فهذا المؤمن الصادق قَطَعَ صلته بالكفر والكافرين، وأصبح في معسكر أهل الإيمان، وليس له بينه وبين الكفار أى صلة الوليجة هذه, {وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً}, فهذا صادق؛ فهذا هو المؤمن الصادق, {........وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}[التوبة:16], تهديد ووعيد الله, {خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}, -سبحانه وتعالى- وكذلك هو بشارة للمؤمن, أي هذا تهديدٌ ووعيدٌ لِمَن هو كاذبٌ في دعوى الإيمان، له صلةٌ مع الكفار في الخفاء، وهو بشارةٌ لأهل الإيمان الله, {اللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}, أنَّ هذا المؤمن الذي صَدَقَ في إيمانه، وجاهد في سبيل الله، وليس بينه وبين الكفار أي صلة مِن وراء ظهر المؤمنين؛ فهذا علمه الله -تبارك وتعالى- فهذه بشارة له, {........وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}[التوبة:16].

 ثم بيَّن -سبحانه وتعالى- أنَّ حال هؤلاء المشركين الذين يُقَاتَلُونَ، قتالهم حق، وأنَّ ما يصنعونه أحيانًا مِن مشابهة لأعمال الدين، أو هي مِن أعمال الدين في الظاهر لكنها ليست بمقبولة، ولا هي بصحيحة، ولا هي مُخْرِجَةٌ لهم مِن الكفر الذي هم فيه، قال -جلَّ وعَلا- : {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ}[التوبة:17], {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ}, {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ}, المشرك هو الذي جعل مع الله -تبارك وتعالى- إلهًا آخر سواءً كان هذا في ذات الرب، في ذاته كما تقول النصارى : (ذاته ذاته), أي هو إله مِن إله عن عيسى -عليه السلام- تعالى الله عن ذلك، أو في صفاته إعطاء للمخلوق صفة مِن صفات الخالق أو أكثر؛ فهذا كذلك، الله -تبارك وتعالى- ليس كمثله شيء -سبحانه وتعالى- أو في حق مِن حقوق الرب -تبارك وتعالى- حق الله -عزَّ وجلَّ- على العباد أنْ يعبدوه وحده لا يشركون به شيئًا؛ فإذا صرَفَ أحد شيئًا مِن هذا الذي هو الله جعله حقًا له وحده -سبحانه وتعالى- لغيره، كسجد لغير الله -تبارك وتعالى- ,ذبح لغير الله، نذر لغير الله، هذه أمور مِن أمور العبادة، صام لغير الله؛ فهذا مشرك، أشرك في حق الله -تبارك وتعالى- وهي في الألوهية التي لا تنبغي لأحد إلا لله -تبارك وتعالى-, كل هذا مِن معانى الشرك؛ فهؤلاء المشركون الذين أشركوا بالله منهم مشركوا العرب؛ فإنهم شركهم شرِكْ مُرَكَّب، أولًا نسبوا الملائكة إلى الله -تبارك وتعالى- قالوا بناته ؛ فأعطوعهم البنوة لله -تبارك وتعالى-, وأعطوهم صفات مِن صفات الرب -تبارك وتعالى-, وأعطوهم حقوق مِن حقوقه، إنهم يشفعون لهم عند الله -تبارك وتعالى-, كذلك هذه الأصنام الكثيرة التي عبدوها مِن دون الله -تبارك وتعالى- اللات والعزى ومناة، وهُبَل, وكل قبيلة مِن قبائل العرب كانت لها صنمها الخاص؛ فهم مشركون عبدوا الشمس كذلك مع الله -تبارك وتعالى-, عبدوا آلهة شتى مع الله -تبارك وتعالى-, هؤلاء المشركين كيف يكونوا مِن عُمَّارِ مساجد الله -تبارك وتعالى ؟ عُمَّاُرُه بالصلاة الحقيقية وبالخشوع والإنابة إلى الله -تبارك وتعالى-, وقد كان العرب يقولون نحن أهل بيت الله، ونحن عُمَّارُهُ نبنيه، ونحن زوُّارُهُ والطائفون فيه، والمعظمون لأمره، قال -جلَّ وعَلا- لا يمكن لهؤلاء المشركين أنْ يكونوا عمارًا حقيقين لمساجد الله -عزَّ وجلَّ-,  قال حال كونهم شاهدين على أنفسهم بالكفر الشهادة إنما هي إدلاء بما يشاهده الإنسان، أي أنهم يشهدون على أنفسهم بأنهم كفار، الشهادة ممكن تكون شهادة مقال، أو شهادة حال، حال كونه كذا؛ فهو في حاله قائم، ويشهد على نفسه بأنه كافر؛ فهؤلاء الكفار شهدوا بمقالهم وبحالهم أنهم كافرون بالله -تبارك وتعالى- فأما بمقالهم؛ فإنهم قالوا نحن لا نريد هذا الدين، ولوكان مِن عند الله، ما دام هذا دين على رأسه، وهو ليس أَوْلَانَا بأنْ يقود وأنْ يكون عظيم، ما نقبله, {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ}[الزخرف:31], القرآن هذا لو كان نَزَلَ على رجل عظيم لاتبعناه وسرنا معه، بل من شدة بغضهم له كانوا يتمنون الموت، ولا يدخلون فى هذا الدين، كما قال الله -تبارك وتعالى- عنهم : {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}[الأنفال:32], إذا كان هو الحق، إذا كان هذا الدين الذي بُعِثَ به محمد هو الحق، ومِن الله  ويناشدنا الله -عزَّ وجلَّ- يقولوا : اذبحنا، أقتلنا، أنزل علينا حجارة مِن السماء تبيدنا، ولا ندخل في هذا الدين؛ فهؤلاء أعلنوا بصريح عباراتهم أنهم لن يقبلوا هذا الدين، ولا يدخلوا فيه؛ فشهدوا على أنفسهم بالكفر شهادة مقال؛ ثم شهدوا على أنفسهم بالكفر شاهدين على أنفسهم بالكفر شهادة حال؛ فها هم يعبدون هذه الأصنام مِن دون الله -تبارك وتعالى-, وهاهم يجعلون هذه الآلهة ند للرب -تبارك وتعالى-, وهاهم في تشريعهم، وفى عملهم تاركين تشريع الرب -تبارك وتعالى- والسير فيه، وهذا هو نداء الله -تبارك وتعالى- يناديهم، وهذا رسوله، وهم يسيرون بطريق آخر غير هذا الطريق؛ فهم أحوالهم القائمة شاهدةٌ عليهم بأنهم كفار خارجون عن أمر الله -تبارك وتعالى-, فكيف يكون هؤلاء مِمَن يَعْمُرُوا مساجد الله بالصلاة والعبادة! قال -جلَّ وعَلا- : {أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ}, أي أعمالهم الظاهرة ما كان يعمله العرب، قريش بالذات مِن أعمال العبادة مِن الحج، والاعتناء بالبيت، وسقاية أهل الحَرَم والحجاج وإطعامهم والطواف والسعي والوقوف بعرفة، وهذه المناسك كل هذا إنما هو عملٌ باطل بكفرهم، قال -جلَّ وعَلا- : {أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ}, الحَبَط هو الاضمحلال والهلاك، وأصله في اللغة داء يصيب الإبل في أجوافها تنتفخ، وتظهر كأنها سليمة, سمينة؛ ثم بعد ذلك تموت فجأة، تسقط فجأة؛ فهؤلاء حبطت أعمالهم، وذلك أنها هلكت هي في ظاهرها أنها شيء نافع، وأنها عبادة لكنها قائمة على الكفر والشرك؛ فلا تنفع, {أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ}, ثم قال -جلَّ وعَلا- : {وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ}, وقدم في النار على الخلود ليبين أنه لا خلود لهم إلا في هذا المكان، والخلود المكث الطويل، وقد أخبر الله أنه مكث لا ينقطع، قال -جلَّ وعَلا- : {وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ}, ما قال : وهم خالدون في النار، لا قال : {وَفِي النَّارِ}, حتى يدل على أنه لا مكان لهم إلا هذا المكان, {وَفِي النَّارِ}, نار الآخرة عياذاً بالله, {هُمْ خَالِدُونَ}, باقون بقاءً لا ينقطع إذن هؤلاء كفار، كُفْر مُخَلِّد لهم في النار، وليس مجرد أنه كفر دون كفر، بل هم {فَي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ}.

 ثم قال -جلَّ وعَلا- : {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ}[التوبة:18], هؤلاء هم أهل عمارة مساجد الله, {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ}, العمارة بالصلاة والذِّكْر والدعاء، وعمارة البناء كذلك, {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ}, المؤمنون بالله واليوم الآخر هذا عمارتهم للمسجد، وإقامتهم فيه وصلاتهم فيه، وبناؤهم له هذه العمارة الحقيقة هؤلاء الذين يُقْبَلُ منهم هذا الأمر لأنهم مؤمنون بالله، ومؤمنون باليوم الآخر وهو يوم القيامة الذي يقف فيه الناس بين يدى ربهم -سبحانه وتعالى- ليحاسبهم وسُمِّىَ أنه يوم آخر, هذا يوم مِن هذه المرحلة الطويلة مِن مراحل الإنسان مرحلة الاختبار، ومرحلة الحساب، وبعد ذلك كل يضع عصا التسيار، وأهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار، عياذاً بالله مِن حال أهل النار, {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ}, أقامها أدَّاهَا على وجهها الأكمل، والصلاة دائمًا يأتي الأمر بالإقامة، والإقامة هو الاستقامة, التعديل، ولا تكون الصلاة قائمة إلا بوجود شرائطها، وكذلك وجود أركانها؛ فهذه هي الصلاة المقامة, {وَآتَى الزَّكَاةَ}, أعطى الزكاة، والزكاة إخراج المال الذي أمر الله -تبارك وتعالى- أنْ يخرج منِ المال في الوجوه التي أمر الله -عز وجل- أنْ تخرج, سُمِّىَ زكاة لتزكيته للنفوس والأموال, ثم قال -جلَّ وعَلا- : {وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ}, لم يخف خوف تعظيم وإجلال, {إِلَّا اللَّهَ}, -سبحانه وتعالى-, قال -جلَّ وعَلا- : {........فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ}[التوبة:18], {فَعَسَى}, مَن يفعل هذه الأفعال, {أُوْلَئِكَ}, والإشارة لهم بالبعيد تعظيمًا لهم, {أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ}, وعسى مِن الله -عزَّ وجلَّ- تحقيق؛ فهؤلاء هم الذين عساهم عند الله -تبارك وتعالى-, {أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ}, إذن هؤلاء غير هؤلاء الكفار, المشركين, الشاهدين على أنفسهم بالكفر، ويظنون أنهم أهل الحظو والفضل والرفعة عند الله -تبارك وتعالى- بعمارتهم للمسجد الحرام.

 ثم قال -جلَّ وعَلا- : {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}[التوبة:19], هذه الآية الصحيح أنها في نَفْسِ السياق، سياق الأمر، وهي خطاب للكفار الذين يظنون أنهم هم أهل بيت الله، وهم القائمون عليه، ويعملون هذه الأعمال العظيمة مِن سقاية الحاج، وعمارة المسجد الحرام، وبالتالي هم أهل الفضل، وهم أهل الدين الحقيقي، وأنَّ النبي محمد وأهل الإيمان هؤلاء صبئة، خارجين عن الدين, {أَجَعَلْتُمْ}, أي أيها الكفار, {سِقَايَةَ الْحَاجِّ}, ما تقومونه بِسُقْيَا الحاج، وكانت السقيا في بني هاشم؛ لأنَّ عبد المطلب هو الذي وُفِّق إلى حفر زمزم بعد طمرها سنوات طويلة؛ فكانت فيه وفي ذريته السقاية، كانوا يسقون الحاج مجانًا, {الْحَاجِّ}, الحجاج اسم جنس لِمَن يحج بيت الله -تبارك وتعالى-, {وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}, مَن يقوم بعمارة المسجد الحرام بناؤه والقيام عليه, {كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}, أي جعلتم هذا عنايتكم بالحجاج، وسقايتكم لهم، وعمارتكم المسجد الحرام, {كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}, مثل الذين آمنوا، وهؤلاء هم النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- وأهل الإيمان معه, {كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ}, يوم القيامة, {وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}, قال -جلَّ وعَلا- : {لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ}, ما يستوى هؤلاء وهؤلاء، هؤلاء مع عمارتهم المسجد الحرام، وسقايتهم الحجاج مع الكفر لا يمكن أنْ يستووا مع مَن {آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}, قال -جلَّ وعَلا- : {........لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}[التوبة:19], {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}, بيان إنَّ هؤلاء الظالمون وهم الكفار ظنوا أنَّ ما هم عليه هو الهُدَى والنور والحق، وأنَّ ما عليه النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- وكذا وكذا هذا خارج عن الدين، وأنه قد جاء بدينٍ لا يُعْرَف؛ فالله لم يوفقهم، قال الله : {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}, فهؤلاء القوم لظلمهم، والظلم وضع الشيء في غير محله، وهم قد وضعوا كل شيء في غير محله العبادة وضعوها في غير محلها بدل أنْ يؤمنوا بالنبي رسول الله كفروا به, ساروا في الطريق المعاكس لطريق الرب -تبارك وتعالى-؛ فكل شيء عندهم موضوع في أمرهم, موضوع في غير محله؛ فهم ظالمون؛ لم يهدهم الله -تبارك وتعالى- ولو هداهم لعرفوا أنَّ هذا هو الطريق الحق أنَّ الإيمان بالله واليوم الآخر هو طريق الحق، وأنما مجرد أنْ يظنوا أنهم على الحق لمجرد أنهم قاموا بعمارة البيت، بيت الله -تبارك وتعالى- المسجد الحرام، وبسقي الحُجَّاج فهذا مِن ضلال سعيهم، وضلال فكرهم، وهذا فعل الله -تبارك وتعالى- بهم, {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}, مِن أهل العلم بالتفسير مَن قال بأنَّ هذه {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ........}[التوبة:19], أنَّ الخطاب هنا لأهل الإيمان، وليس للكفار، وأنَّ المؤمنين بعضهم أراد أنْ يترك الجهاد، ويجلس لخدمة حُجَّاج بيت الله، وعمارة المسجد بالصلاة، ويترك الجهاد؛ فقال لهم الله -عزَّ وجلَّ- : {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}, تُفَضِّلُونَ هذا عن مَن {آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ}, أي أن الإيمان بالله -تبارك وتعالى- واليوم الآخر، والجهاد فى سبيل الله أفضل مِن الجلوس عند المسجد الحرام والصلاة، وعمارة المسجد بالصلاة، وكذلك خدمة الحاج، لكن السياق يدل على غير هذا ما ذكرناه في القول الأول، وكذلك ختام هذه الآيات قول الله -تبارك وتعالى- فيها : {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}, ثم إنَّ المقارنة ليست مقارنة بين عملين صالحين مِن أعمال الدين نَفْلٌ ونَفْل، لا، هذه بين إيمان وكفر المقارنة هنالا بين إيمان وكفر, بين ما يفعلهم الكفار مِن صدهم عن سبيل الله وكفرهم، وأنهم على الهُدى لمجرد أنهم يسقون الحجاج، ويُعَمِّرُونَ المسجد الحرام، وفي الطرف الآخر الإيمان بالله واليوم الآخر، والجهاد فى سبيل الله؛ هذا باب آخر، ليست هنا مقارنة كما كان يحصل بين المسلمين بين أعمال الإسلام الفاضلة أيهما أفضل؟ أي أنْ تجاهد في سبيل الله، وأنْ تجلس في مكان للصلاة كما حصل مِن كثير مِن المسلمين، كما قال أحد المسلمين مرة والنبي راجع مِن غزوة تبوك، ورأى عُيينة مِن الماء، ورأى مكان وارف الظل وكذا، قال: لو جلست في هذا الوادي؛ فعبدت الله -تبارك وتعالى- حتى أموت أراد أنْ ينقطع للعبادة في مثل هذا؛ فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- أي : (مكث أحدكم، أو قتال أحدكم، فواق ناقة، ومَن قاتل فواق ناقة وجبت له الجنة، وإنَّ المجاهد في سبيل الله لا يبلغ أحدٌ منزلته), فهذا أمر عظيم الجهاد التفاضل هنا والفضل إنما هو بين أعمال مِن المستحبات هل يستحب هذا أم يستحب هذا؟ فيقال هذا أفضل مِن هذا، كما في أحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم- يا رسول الله أى العمل خير؟ أى الأعمال أفضل؟ مِن باب التفاضل بين الأعمال الفاضلة لاختيار أفضلها، وأكثرها أجرًا عند الله -تبارك وتعالى-, أما المقارنة هنا إنما يى مقارنة بين كُفْرٍ وإيمان، وليس بين إيمان وإيمان، قال : {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}[التوبة:19].

 ثم قال -جلَّ وعَلا-  : {الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ}[التوبة:20], {الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ}, {الَّذِينَ آمَنُوا}, النبي -صلى الله عليه وسلم- ومَن آمنوا معه, {وَهَاجَرُوا}, لله -تبارك وتعالى- والهجرة هي الانتقال مِن دار الكفر إلى دار الإسلام, {وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ}, الجهاد بذل الجهد, {فِي سَبِيلِ اللَّهِ}, ويكون هذا بَذْلُ الجهد سواء الجهد المالي يبذل الإنسان ماله، أو الجهد البدني بأنْ يقاتل في الكفار، أو جهد المقالة أنْ يقاتل ويجاهد الكفار بلسانه, {الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ........}[التوبة:20], {بِأَمْوَالِهِمْ}, جاهدوا بأموالهم وجاهدو بأنفسهم خروجًا في سبيل الله, {أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ}, هؤلاء لهم الدرجة العظيمة عند الله, {أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ}, الدرجة؛ المنزلة {وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ}, {وَأُوْلَئِكَ}, أي المشار إليهم, {هُمُ الْفَائِزُونَ}, أهل الفوز، وحصر الله -تبارك وتعالى- أهل الفوز في هؤلاء؛ فقال هؤلاء : {هُمُ الْفَائِزُونَ}, هم الذين فازوا برضوان الله -تبارك وتعالى- فحصر الفوز، قال : {وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ}, دلَّ على أنَّ المقارنة إنما في أولئك الآخرين لم يفوزوا، بل هؤلاء, {هُمُ الْفَائِزُونَ}, {الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ}[التوبة:20].

 ثم قال -جلَّ وعَلا- : {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ}[التوبة:21], {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ}[التوبة:22], {يُبَشِّرُهُمْ}, البشارة الإخبار بما يسر، وهذه على وجهها هنا، على بابها هنا هذا إخبار لأهل الإيمان يخبرهم الله، يبشرهم الله، يخبرهم خبرًا يسرهم، وقيل الخبر السار يُسَمَّى بشارة؛ لأنه يظهر أثر هذا على البشرة الإنسان؛ فيشرق مَن يخبر بالأخبار السارة يتهلل وجهه سرورًا، ويظهر النضارة فيه بعكس مَن يُخْبَرُ بالأخبار السيئة؛ فإنه يَسْوَدُّ وجهه ويَتَجَهَّم ويعلوه القتام؛ فالبشارة تُظِهِر السرور والبِشْر, {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ}, يخبرهم بهذه الأخبار السارة و {رَبُّهُمْ}, أنَّ الله هو الذي يبشرهم إذن هذا معناه أنه متحقق لا بد لأنَّ الله لا يخلف وعده -ىسبحانه وتعالى- ثم إنَّ هو ربهم، وهذا معناه أنه قريبٌ منه -سبحانه وتعالى- فهذا فيه رحمة أنَّ الله هو الذي يبشرهم -سبحانه وتعالى- {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ}, {رَحْمَةٍ}, هذه جاءت نكرة لتصبح عظيمة يذهب فيها العلم والخيال كل مذهب، {رَحْمَةٍ}, منه -سبحانه وتعالى- وهذا يشمل رحمته فى الدنيا بأنْ يخرجهم مِن الظلمات إلى النور، أنْ يتلطف بهم، وأنْ يثبتهم على الإيمان كل ما يعمله الله -عزَّ وجلَّ- مِن الخير لعباده المؤمنين, ثم رحمته العظمى بجنته -سبحانه وتعالى-, {بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ}, الرضوان؛ الرضا التام، الدائم، والله -تبارك وتعالى- هو الذى يرضى عنه، وسماه رضوان بالمبالغة بالألف، والنون ليبين أنَّ هذا أمرٌ عظيمٌ جدًا, {........وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ}[التوبة:21], {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ}[التوبة:22].

 نقف هنا -إنْ شاء الله-، ونعود في الحلقة الآتية إلى بعض المعانى في هذه الآيات العظيمة، أستغفر الله لي ولكم مِن كل ذنب، وصلى الله عليه وسلم على عبده ورسوله محمد