الجمعة 21 جمادى الأولى 1446 . 22 نوفمبر 2024

الحلقة (232) - سورة التوبة 21-22

الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله الأمين, سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومَن اهتدى بهديه، وعَمِلَ بسنته إلى يوم الدين.

كنا قد وقفنا في الحلقة الماضية عند قول الله -تبارك وتعالى- : {الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ}[التوبة:20], {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ}[التوبة:21], {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ}[التوبة:22], هذا بيان فضل الله -تبارك وتعالى- لهؤلاء المؤمنين الذين اتصفوا، وعملوا هذه الأعمال، وهذا في مقابل بيان أنَّ الكفار الذين قالوا نحن أهل بيت الله، ونحن أهل عمارة المسجد، ونحن فعلنا أنَّ هذا  لا مجال لأنْ يُقَارَنَ فعلهم مع كفرهم مع هؤلاء المؤمنين؛ فهؤلاء هم الذين يفوزون برضوان الله, {الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ........}[التوبة:20], وهذا ينطبق على النبي -صلى الله عليه وسلم- محمد، وعلى أصحابه الذين آمنوا وهاجروا، هؤلاء, {........أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ}[التوبة:20], {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ........}[التوبة:21], البشارة الاخبار بما يسر، وهذا أعظم سرور لهم أنه رحمة منه في الدنيا والآخرة, {وَرِضْوَانٍ}, رضا، واسع مِن الله -تبارك وتعالى- ورضاء الله -تبارك وتعالى- هذا لا حدَّ له، لا حدَّ لرضوان الله -تبارك وتعالى- ومِن نال رضوان الله -تبارك وتعالى- فقد نال كل شيء، نال أعظم المطلوب، هو أكبر مِن الجنَّة كما في الحديث : «أُحِلُّ عليكم رضواني فلا أَسْخَطُ عليكم بعده أبدا», هذا يقال لأهل الجنة الذين يقول لهم الرَّب -تبارك وتعالى- : «يا أهل الجنة هل تريدون شيئًا أزيدكم؟ فيقولون يا ربي ماذا نريد وقد بَيَّضتَ وجوهنا, وأدخلتنا الجنة, وأعطيتنا ما لا عين رأت ولا أذنٌ سمعت ولا خطر على قلب بشر», أي لا مَطْمَعَ لنا في زيادة خير مع هذا الذي قد أُعْطِينَا فيقول لهم الله -تبارك وتعالى- : «أُحْلِل عليكم رضواني فلا أَسْخَطُ عليكم بعده أبدا», فهذا أمر عظيم أنْ يفوز هؤلاء برضوان الله -تبارك وتعالى- رضوان الله، الرضوان صيغة مبالغة للرضا؛ فيرضى الله -تبارك وتعالى- عنهم رضاء لا سخط بعده أبدا؛ فهؤلاء المُبَشَّرُونَ مِن الله -تبارك وتعالى-, {بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ}, بساتين، جنة هي ليست جنة واحدة، ولكنها جنات سُمِّيَت جنة؛ لأنها تستر الداخل فيها مِن تشابك أغصانها, {لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ}, {نَعِيمٌ}, كل ما يتنعمون به مِمَّا رزقهم الله -تبارك وتعالى- مِن ألوان الأطعمة والأشربة والمتع والفسح، والنساء الجميلات، وكل ما تشتهيه أنفسهم, {نَعِيمٌ مُقِيمٌ}, لا يرحل باقي بقاءً سرمديًا لا ينقطع، ولا يرحل عنهم هذا النعيم لا هم يرحلون عنه، ولا هو يرحل عنهم، ويتناقص منه شيء, بل هو نعيم قائم، باقٍ {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا}, الخلود في لغة العرب هو المكث الطويل؛ فالله يقول : {خَالِدِينَ فِيهَا}, ماكثين فيها {أَبَدًا}, الأبد هو الزمن المستقبلي إلى ما لا نهاية لبقائهم في هذا النعيم الذي هم فيه، في هذه الجنة, {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا}, قال -جلَّ وعَلا- : {........إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ}[التوبة:22], هذا تعليل لهذا إنَّ الله -سبحانه وتعالى- الله خالق السماوات والأرض, {عِنْدَهُ}, وكون عنده ما يضيع، وأنه الله -سبحانه وتعالى-, {أَجْرٌ عَظِيمٌ}, ثواب, {عَظِيمٌ}, هذا كبير جدًا؛ فهذا أجر عظيم؛ فالله -تبارك وتعالى- أعطاهم هذا؛ لأنَّ الله يَأجُرُ هذا عبده المؤمن الذى قام بهذى الأعمال بهذا الأجر العظيم, {........إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ}[التوبة:22].

 ثم بعد ذلك يسير في سياق حض المؤمنين على القتال، وأنْ يكونوا صفًا واحدًا، وأنْ يقطعوا صلتهم بالكفار مهما كانوا، قال -جلَّ وعَلا- : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}[التوبة:23], صَدَّرَ الله -تبارك وتعالى- هذا الأمر الإلهي بندائه لأهل الإيمان, {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}, واصفًا إياهم بأنهم آمنوا، والإيمان أعظم الأوصاف بالنسبة للعبد إنه آمن بالله؛ فهذا فيه نداؤه بهذا الوصف، حض له على الإلتزام، وكذلك فيه له إلزام له بالالتزام بالأمر بأنه ما دام مؤمن لا بد أنه بأنْ يلتزم بهذا, {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ........}[التوبة:23], {آبَاءَكُمْ}, يدخل فيه كذلك الأمهات, {وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ}, أحباب وأنصار تحبونهم، تنصرونهم، تكونون معهم, {إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ}, {اسْتَحَبُّوا}, أحبوا وآثروا {الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ}, إذا بقوا كفار لم يدخلوا في هذا الدين، ولم يؤمنوا بالله ولا رسوله لا يجوز لكم أنْ تتخذوهم {أَوْلِيَاءَ}, حلفاء، نصراء، تحبونهم وتنصرونهم، لا، ما دام أنه بقي في الكفر ولم يؤثره ويدخل في الإيمان, ثم قال -جلَّ وعَلا- : {........وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}[التوبة:23], تهديد، وعيد بأنَّ مَن يتولى آباءه، وإخوانه {مِنْكُمْ}, أي أنتم يا أيها المؤمنون مع كفرهم، مع كفر هؤلاء الآباء والإخوان، قال -جلَّ وعَلا- : {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}, أولئك الذين يتولون الكفار, {هُمُ الظَّالِمُونَ}, الذين وضعوا الأمر في غير محله؛ لأنَّ الظلم وضع الشيء في غير محله؛ فوضعوا الولاية في غير محلها، الولاية يجب أنْ تكون لله ولرسوله، ولأهل الإيمان أما أنْ توضع في الكفار؛ فلا حتى، ولو كان هذا الكافر أبًا، أو أخًا:

 ثم جاءت آية تُفَاصِل أهل الإيمان إما أنْ تكون مع الله ورسوله، وإما أنْ تكون مع أي شيء مِن هذه مما يضاد الله ورسوله؛ فكن معه؛ فأنت قد فسدت وخرجت عن طاعة الله، قال -جلَّ وعَلا- : {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}[التوبة:24], {قُلْ}, أمر مِن الله -تبارك وتعالى- ولرسوله أنْ يعلن هذا، ويقوله {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ}, يدخل فيه الأمهات, {وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ}, زوجاتكم, {وَعَشِيرَتُكُمْ}, العشيرة هي جماعة الشخص, فَخِذُهُ في القبيلة, {وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا}, أموال لكم, {اقْتَرَفْتُمُوهَا}, الاقتراف؛ الاكتساب أي اكتسبتموها، وُصِفَت هذه الأموال بأنها الأموال التي تقترف قيل بأنَّ الأموال الذي يقترفها الإنسان، ويكتسبها أحب إليه مِن المال الذي يأتيه بدون كسب مِن نَفْسِهِ كأن يأتيه وراثة، يأتيه فماله المال المكتسب يكون الإنسان أَضَنّ به، وأحب له مِن غيره أموال اكتسبتموها؛ أخذتموها, {وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا}, الكساد وهو البوار، وعدم الرواج في أنْ تخسر، تبور، لا تُنْفَق, {وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا}, المساكن جمع مسكن وهي بيوتكم وقصوركم, {تَرْضَوْنَهَا}, يرضاها الإنسان؛ لِمَا فيها مِن مشتهياته، وراحة نَفْسِهِ، ظِلُّهَا، وفيها مرافقها وماؤها وزخارفها وزينتها؛ فهي مسكن ليس مسكن ضيق يكرهه الإنسان، لا، المساكن التي ترضونها لما فيها هوى نفوسكم، وشهواتكم ومتعكم إنْ كان كل هذه الأشياء الآباء والأبناء والأزواج، أو بعضها، أو العشيرة، أو الأموال التي تُقْتَرَف، أو التجارة الذي تخشون كسادها، المساكن التى ترضونها, {أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ}, أي تُؤْثِرُونَ محبة هذه الأشياء؛ فتبقون وتخافون عليها، وتبقون معها، وتتركون الجهاد في سبيل الله, {أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ}, أنْ تكونوا مع الله، وأنْ تكونوا مع رسوله في صف أهل الإيمان, {وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ}, تجاهدوا في سبيل الله؛ فإنَّ هذه الأمور كلها إذا اختارها الإنسان، وقعد بها عن الجهاد في سبيل الله، أحبها عن الجهاد فى سبيل الله، قال -جلَّ وعَلا- : {فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ}, {{فَتَرَبَّصُوا}, انتظروا، التربص الانتظار، وهذا تهديد مِن الله -تبارك وتعالى- أي خذوا مُهْلَة, {حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ}, فيكم, بأنْ يعاقبكم عقوبة شديدة في الدنيا، وكذلك العقوبة في الآخرة, قال –جلَّ وعَلا- : {........وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}[التوبة:24], الفسق الخروج عن طاعة الله؛ فكأن مَن آثر هذه الأمور على الجهاد في سبيل الله بعد أنْ كان مِن أهل الإيمان، فَسَقَ, خرج مِن الطاعة إلى المعصية، آثر هذه الدنيا على الآخرة، آثر هذه الأمور المشتهيات على محبة الله -تبارك وتعالى- ورسوله, خشي أنْ يجاهد ويُقَاتِل؛ لأنه آثر البقاء في حلف، وفي والديه وإخوانه وجماعته وعشيرته، أقعدته زوجته عن الجهاد في سبيل الله، أقعده ماله عن الجهاد في سبيل الله؛ فآثر المال وخاف على تجارته، أنَّه إذا جاهد في سبيل الله كسدت التجارة، وبارت كذلك أقعده بيته، ومسكنه المريح ذو المرافق يترك هذا البيت بمرافقه، ومشتهياته ومنمنماته ومنماقته، ويخرج للجهاد يعرض نَفْسَهُ للقتال، وذهاب المال في سبيل الله؛ فهذا الذي آثر هذا، وقعد لها عن الجهاد، الواجب، المفروض هذا  خرج فَسَقَ عن أمر ربه، وفَسَقَ عن طاعة الله، قال -جلَّ وعَلا- : {فَتَرَبَّصُوا}, تهديد, {فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ}, أي فيكم، أمره الكوني، القَدَرِي عقوبته، وكون الله يُهَدِّد و يُهَدِّد أهل الإيمان هذا يجب أنْ يرعب لا شك أنْ هذا يُرْعِب المؤمن ويرى أنَّ هذا الأمر الله الذي يهدد -سبحانه وتعالى-, {فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ}, والله أخفى العقوبة حتى تصبح يذهب فيها العقل كل مذهب, إما أنْ يعاقبوا بسلب هذه الأمور، يعاقبوا بالذُّل، بالهوان، بالعذاب، بالموت على الفسق، أمورٌ عظيمةٌ جدًا مِن العقوبة, {حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ}, ثم قال -جلَّ وعَلا- : {........وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}[التوبة:24], لا يهديهم الله -عزَّ وجلَّ- ما دام أنهم فسقوا هكذا، واختاروا طريق الغواية فإنَّ الله لا يوفقهم إلى أنْ يلتزموا طريق الحق مرة ثانية، ولا حول ولا قوة إلا بالله، كما قال -جلَّ وعَلا- في اليهود : {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ}, فعاقبهم -سبحانه وتعالى-.

ثم ذَكَّرَ الله -تبارك وتعالى- أهل الإيمان بأنَّ الله معهم، ولينظروا إلى تاريخ سابق، وصنيع الرب -تبارك وتعالى- لهم فيما مضى مِن سالف الأيام انظروا كيف صنع الله بهم، قال -جلَّ وعَلا- : {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ}[التوبة:25], {ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ}[التوبة:26], {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ}, اعلموا هذا, {لَقَدْ}, بالتحقيق, {نَصَرَكُمُ}, النصر هو العُلُوّ على الكفار وهزيمتهم, {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ}, أعزكم, {فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ}, مواطن مِن مواطن الحرب, {كَثِيرَةٍ}, إما كان في يوم بدر, بعد جراحة أُحُد، في أُحُد في حمراء الأسد عندما فر الكفار بعد ذلك، وكان هذا نصر كذلك بعد الهزيمة الأولى في أُحُد, في الخندق الله -تبارك وتعالى- تولى بنفسه -سبحانه وتعالى- هزيمة الكفار, {........وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا}[الأحزاب:25], في خيبر النصر العظيم الذي تحقق للمسلمين، والغنيمة الكبرى التي تحققت لهم قبل هذا في بني النضير، في بني قينقاع قتالهم لبني النضير, قتالهم لبني قينقاع، فتح مكة النصر الأعظم لنبيه -صلوات الله وسلامه عليه-, {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ}, أي نصركم كذلك لكن مع ما كان منكم مِن هزيمة، وفرار إلا أنَّ الله -تبارك وتعالى- نصركم بعد ذلك, {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ}, أي اذكروا يوم حُنَيْن, {إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ}, حتى اعلموا أنَّ النصر مِن عند الله -تبارك وتعالى- ,حتى هذه الواقعة حُنَيْن قد تحقق فيها هذه الواقعة النصر في نهاية المطاف، ولكن بفضل الله -تبارك وتعالى- وحده، وبتثبيته لأهل الإيمان علمًا أنهم في الأول كانت ظنوا أنَّ كثرتهم لن يُهْزَمُوا هذا اليوم مِن العدد الكبير الذي كانوا عليه, {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ}, وقد كان في شوال مِن السنة الثامنة مِن هجرة رسول الله -صلوات الله والسلام عليه- النبي فتح مكة في رمضان مِن السنة الثامنة، دخل مكة فاتحًا منتصرًا، وتم له فتح مكة, أم القرى، عاصمة هذه الجزيرة، والنصر عليها نصر على الجزيرة كلها؛ فكان الفتح الأعظم، علمت هوازِن بهذا النصر، واشتد عليها وغارت قبيلة كبيرة, شرسة، قوية، وقالوا هم، وثقيف إنَّ محمدًا الآن في نشوة النصر؛ فلنبادره بالقتال، ونأخذه على غِرَّة، عَلِمَ النبي -صلى الله عليه وسلم- بأمر جمع هوازن، وهوازن اجتمعوا على الأمير المُقَدَّم فيهم في ذلك الوقت مالك بن عوف النصري، وأشار إليهم بأنْ يخرجوا إذا أرادوا أنْ ينتصروا على محمد أنْ يخرجوا له، وأنْ يخرجوا بنسائهم وأموالهم؛ فاجتمعوا له بجمع عظيم، وأخرجوا معهم كل أموالهم مِن الأنعام مِن الإبل ومِن الغنم، ومِن الذهب والفضة، وكذلك خرجوا بنسائهم وأطفالهم، وكان هذا مما ظنوا به لَمَّا قيل لهم اخرجوا بهذا، قال لهم شاعرهم أيضًا دُرَيْد بن الصُّمَة : اخرجوا بهذا حتى لا تفروا، وظنوا أنَّ بقاء نساؤهم معهم وأطفالهم يحميهم مِن أنْ يَفِرُّوا خوفًا على نسائهم، وعلى أموالهم، لما عَلِم النبي -صلى الله عليه وسلم- أي بأنهم يجمعون له، وأنهم يقصدونه؛ فالنبي -صلى الله عليه وسلم- هو قَصَدَهُم -صلوات الله وسلامه عليه-, وخرج المؤمنون كانوا عشرة ألاف الذين دخلوا مكة فاتحين مع النبي -صلى الله عليه وسلم- مِن المهاجرون والأنصار، وخرج منع النبي -صلى الله عليه وسلم- مِن مكة ألفان كذلك؛ فأصبحوا اثنا عشر ألفًا، وقال بعض المسلمين لما خرجوا بهذا العدد الكبير نحو هوازِن لن نُغْلَبَ اليوم مِن قِلَّةٍ, أي ما يأتينا الأمر مِن القلة الآن عندنا العدد الكافي، ما يغلبنا العدو مِن قِلَّةٍ فينا، كَمَنَت هوازن لما علمت بمقدم النبي، أخذوا مواقع لهم في الجبال، وكَمَنُوا لجيش المسلمين؛ ثم لما جاءت أوائل الجيش كانوا قوم رُمَاة؛ فنضحوهم بالنبل مِن كل مكان، وكان هذا في غَبَشِ الصبح، ولم يتبين الضوء بعد؛ فنكصت الخيل على أعقابها، وتدافع الناس في مضيق بين الجبلين، ولا يعرف المؤخرة لما عادت المقدمة على هذا النحو، وبدأ الفرار مِن كل اتجاه حتى قال بعض مُسْلِمَة الفتح الذين خرجوا مع النبى -صلوات الله والسلام عليه- قالوا : والله لا تُرُدُّ هزيمتهم إلا البحر, فروا المسلمون، وما سيظلون في الفرار إلى أنْ يصلوا إلى البحر، وقال بعضهم : اليوم بطل سِحْرُ محمد، سِحْرُ النبي الذى كان يسحر به الناس بطل، وكان مِن المسلمين، كما قال الله تبارك وتعالى هنا : {فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا}, الكثرة, {وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ}, الواسعة, {........بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ}[التوبة:25], {وَلَّيْتُمْ}, أي جَرَيْتم مِن الخلف, {مُدْبِرِينَ}, معطين ظهوركم للنبي -صلى الله عليه وسلم- ومَن ثبت معه، وأعطيتم ظهوركم للعدو وهربتم, النبي -صلى الله عليه وسلم- لما رأى رجعتا المقاتلين على هذا النحو تَرَجَّلَ عن بغلته -صلوات الله والسلام عليه- وأمر أبا سفيان بن الحارث بن عبد المطلب بن عم النبي -صلوات الله والسلام عليه- قال له: نادي، وقل يا أصحاب الشجرة، وكان جهوري الصوت؛ فنادى يا أصحاب الثمرة, يا أهل سورة البقرة؛ فكانوا يسمعون الصوت، فانعطفوا سريعًا على الصوت، قائلين لبيك لبيك، وسمعوا النداء، وقول النبي -صلى الله عليه وسلم- هنا نداؤه يا أهل الثمرة، الثمرة؛ الشجرة التي بايع النبي -صلى الله عليه وسلم- تحتها أهل بيعة الرضوان، وهذه البيعة التي كانت في السنة السادسة مِن هجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- لما جاء النبي مكة، جاءها معتمرًا -صلى الله عليه وسلم- ومنعه الكفار مِن أنْ يدخل مكة؛ ثم بعد مدة صار السفراء بينهم، وتم الصلح المعروف بصلح الحديبية، قبل هذا عَلِمَ النبي مِن سفرائه أنه لما أرسل عثمان بن عفان بسفارته إلى قريش، وأنهم جاء يقول لهم : نحن لم نأتِ مكة نريد قتالًا إنما جئنا مُعَظِّمِينَ لهذا البيت، و ها نحن قد سُقنا الهدى نريد أنْ نعتمر، ونخرج؛ فقالوا : أبدًا والله لا يدخلها محمد علينا عنوة أبدًا، ما يدخل مكة أبدًا، بالقوة لا يدخل علينا، وظلوا على هذا النحو؛ ثم أُشِيعَ أنَّ عثمان بن عفان قد قتل؛ فلما أشيع بأنه قد قتل كل الكفار حبسوه لم يريدوا أنْ يردُّوه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- قالوا : اجلس عندنا، وحبسوه عندهم، ومنعوه مِن العودة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ليخبر النبي بالخبر؛ فلما أشيع بأنَّ عثمان قد قتل النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: لا نمضي حتى نناجز القوم لا يمكن أنْ نبرح مكاننا هنا حتى نناجز القوم نحاربهم، وأراد النبي -صلى الله عليه وسلم- أنْ يستوثق مِن أصحابه وأنْ يبايعهم على الموت هذا الآن يا إما نصر يا إما شهادة؛ فقال بايعوني، قالوا: على ما نبايعك يا رسول الله، قال: بايعوني على الموت، وألا تفروا، وكانوا ألف وأربعمائة؛ فكلهم بايعه على الموت: قالوا: نبايعك على الموت وألا نفر، نُقَاتِل يا إما ننتصر يا إما نموت؛ فكانت هذه البيعة التي قال الله -تبارك وتعالى- فيها, {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ........}[الفتح:18], {الشَّجَرَةِ}, هذه الثمرة, {........فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا}[الفتح:18], ثم إنه بعد ذلك ظهر أنَّ عثمان لم يُقْتَل، ورجع للمسلمين؛ ثم بعد ذلك ساروا وصار الصلح، وربنا -سبحانه وتعالى- أَبْلَى المؤمنين الذين بايعوا النبى في هذه الغزوة بلاءً حسنًا جدًا بأنْ أظهر ما في قلوبهم، وأنهم يريدون يريدون الله، ورسوله، وأنهم مستعدون للموت فى سبيل الله؛ فالنبى -صلى الله وسلم- نادى هؤلاء لما فرَّ مَن فرَّ مِن مُسْلِمَةِ الفتح، وتفرق الناس على هذا النحو، وفرُّوا عن النبي -صلوات الله والسلام عليه- النبى أولًا ركض بغلته نحو الكفار، وهو يقول: (أنا النبى لا كذب, أنا ابن عبد المطلب)، وذلك ردًا على من قال من مسلمة الفتح فى هذا اليوم، اليوم بطل سِحْرُ محمد، والله لا ترد هزيمتهم إلا البحر؛ فالنبي يقول: أنا النبي لا كذب، مكث النبي معه نحو مائة مِن أصحابه منحازًا بعيدًا عن زحمة القوم في الخروج، الهروب مِن المعركة، وقال لأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، قال له : نادي أصحاب الثمرة؛ فنادى بصوته الجهورى (يا أصحاب الثمرة يا أهل سورة البقرة), فانعطفوا نحوه، وجاء مكان يسمعون صوته يقولون: لبيك، إذا طاوع المؤمن الذي على ناقته إنْ طاوعته، وسارت سار بها، إنْ لم تطاوعه مِن زحمة الناس ترك الناقة، قفز مِن ناقته، ومضى نحو الصوت، وترك الناقة التي تكون في زحمة هروب الناس لا تستطيع أنْ تذهب؛ فيذهب بِنَفْسِهِ حتى اجتمع جَمْع مع النبي -صلوات الله والسلام عليه-, ثم استقبل النبي بهم الكفار،وكان النصر بعد ذلك أنزل الله -تبارك وتعالى- نصره على المؤمنين؛ فالله -تبارك وتعالى- يقول للمؤمنين : {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ}, قبل نزول هذه الآيات, {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا}, الكثرة التي ظننتموها ما لم تغلبوا مِن قلة ما غلت شيء،  الكثرة عامت، وولت الأدبار؛ فلم تغني عنكم شيئًا، الغناء الفائدة، والنفع ما نفعتكم شيئًا في الانتصار على العدو، والله يصور حالهم عند الفرار, {وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ}, وذلك حال الفَارّ الذي يظن أنَّ الأعداء سيأخذون مِن كل مكان، أنه إذا ذهب هذا الإتجاه سَيُحَصِّل عدو أمامه، وإنْ ذهب إلى هذه سيجد عدوه؛ فتصبح الأرض الواسعة تصبح ضيقة عنده، وذلك أنه فار، ويخاف مِن كل أنْ يخرج له عدوه مِن أى شِعْب مِن هذه الشِّعَب, {وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ}, الأرض الواسعة, الرَّحبة أصبحت ضيقة في أعينكم, {ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ}, {ثُمَّ وَلَّيْتُمْ}, أي خرجتم مِن المعركة, {مُدْبِرِينَ}, قال -جلَّ وعَلا- : {ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ}[التوبة:26].

 ولنا عودة -إنْ شاء الله- إلى هذه الآية الحلقة القادمة -إنْ شاء الله-، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم مِن كل ذنب، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد.