الجمعة 21 جمادى الأولى 1446 . 22 نوفمبر 2024

الحلقة (233) - سورة التوبة 25-30

الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على عبد، ورسوله الأمين, سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه، ومَن اهتدى بهداه، وعَمِلَ بسنته إلى يوم الدين.

وبعد؛ فيقول الله -تبارك وتعالى- : {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ}[التوبة:25], {ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ}[التوبة:26], {ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[التوبة:27], هذه الآيات مِن سورة التوبة جاءت في سياق حث الرب -تبارك وتعالى- وحضه عباده المؤمنين على القتال في سبيل الله، والآيات هنا تبين أنَّ الله -تبارك وتعالى- قد كان مع المؤمنين، وقد نصرهم في مواطن كثيرة، ويوم حُنَيْنٍ كذلك نصرهم على ما كان منهم في أول هذه المعركة مِن النظر إلى أنهم لن يُغْلَبُوا اليوم من قلة، وقد فصلنا أحداث هذه الغزوة، غزوة حُنَيْن في الحلقة الماضية، وخلاصة الأمر أن النبي -صلوات الله والسلام عليه- بعد أنْ فتح مكة، دخل مكة فاتحًا جمعت هوازِن له، هم وثَقِيف أهل الطائف، وأرادوا في أزعمهم أنْ يأخذوا النبي على غرة في نشوة النصر؛ فلما علم النبي بشأنهم ذهب إليهم -صلوات الله والسلام عليه- في شوال من هذه السنة، السنة الثامنة؛ فإنْ مكة قد فُتِحَت في رمضان مِن السنة الثامنة مِن هجرة النبي -صلوات الله والسلام عليه-, ثم لما وصل المسلمون إلى أرض حُنَيْنٍ استقبلتهم هوازن برماة، وكان هذا في وقت الغَلَس ورشقوا المسلمين، وخيل المسلمين المتقدمة بالنبل؛ فنكصت الخيل التي في المُقَدِّمَة إلى الخلف، وتدافع المسلمون في مضيق بين جبلين، ولم يدرِ مَن في أواخر الناس ما الأمر؛ فَفَرُّوا في كل اتجاه، وقال مُسْلِمَةُ الفتح الذين قد كانوا قد خرج منهم ألفان مع جيش المسلمين ليكون المسلمون في هذه الغزوة اثنا عشر ألفًا، وقد قال بعض الناس عندما خرجوا مِن مكة في هذا العدد الكبير : (لن نُغْلَبَ اليوم مِن قِلَّة), فقال بعض هؤلاء المسلمين، مسلمة الفتح، قالوا : (والله لا يَرُدُّ هزيمتهم إلَّا البحر), وبعضهم قال : (اليوم بطل سِحْرُ محمد), مِن هؤلاء الذين آمنوا نفاقًا، وثبَّتَ الله -تبارك وتعالى- رسوله -صلى الله عليه وسلم- وكان معه العباس بن بعد المطلب، هذا عمه، عم النبي -صلى الله عليه وسلم- وكذلك كان معه ابن عمه الحارث بن عبد المطلب، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- للعباس : (نادي، قل يا أصحاب الشجرة يا أهل سورة البقرة), فانعطفوا على النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول العباس: (انعطفوا عليه كما تنعطف الإبل على صغارها، أو البقر على صغارها), فلما اجتمعوا مع النبي -صلى الله وسلم- اجتمع له مجموعة استقبل النبي بهم القوم، والنبي يقول : (أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب), إلى أنْ هزم الله -تبارك وتعالى- المشركين يقول العباس -رضى الله تعالى- عنه، يقول: نظرت فإذا الجيش الذي استقبل النبي -صلى الله وسلم- به العدو إذا اشتد القتال؛ فقال -صلوات الله عليه وسلم- مقالته المشهورة التي أصبحت مثل، قال: (الآن حين حمي الوطيس),، والوطيس هو وصل القدر, شَبَّهَ النبي -صلى الله عليه وسلم- غليان المعركة، وكذا بغليان القدر؛ فقال: (الآن حين حمى الوطيس), ثم أخذ النبي كفًا مِن حَصَى؛ فضرب به وجوه القوم، وقال : انْهَزَمُوا ورب الكعبة، أو انْهَزِمُوا ورب الكعبة؛ فيقول العباس : فو الله ما إنْ ألقى النبي -صلى الله عليه وسلم- ما بيده مِن حصى في وجوه القوم حتى رأيت أنَّ حدَّهم كليلا, بدأ يضعف قتالهم؛ ثم هزمهم الله -تبارك وتعالى- وارتحلوا في كل شِعْب ووادي؛ ثم غنم المسلمون غنائم، أكبر غنائم غنمها في حياة المسلمون في حياة النبي -صلوت الله والسلام عليه-.

 يذكر الله -تبارك وتعالى- عباده المؤمنين بنصره لهم قال : {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ}, ونصرهم في بدر، نصرهم في أُحُد بعد الهزيمة، نصرهم الله -تبارك وتعالى- وثبت المؤمنين، نصرهم في الخندق وحده -سبحانه وتعالى-, نصرهم في الفتح، في فتح مكة, ثم قال -جلَّ وعَلا- : {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ}, أي نصركم كذلك، لكن اذكروا, {إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا}, أي أنَّ النصر الذي تحقق بعد ذلك إنما كان بفعل الله -تبارك وتعالى-, {........وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ}[التوبة:25], وهذا تصويرٌ مِن الله -تبارك وتعالى- لحال الذين فروا في كل اتجاه، وأصبحوا يخافون مِن أنَّ يأتيهم العدو مِن كل مكان، وضاقت عليهم الأرض أين المهرب؟ يجد إنه لا مهرب له، يخاف أنْ يؤخذ يذهب إلى هذا الاتجاه؛ فيؤخذ منه، ويذهب إلى هذا الاتجاه؛ فيؤخذ منه, {وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ}, أي مع رحبها وسعتها إلا أنها تضيق، وهكذا حال الفار؛ فإنه عندما يفر، ويجد كأنَّ الطلب يطلبه في كل اتجاه يَفِرُّ إليه, {........وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ}[التوبة:25], معطين ظهوركم للنبي -صلى الله عليه وسلم-, ومعطين ظهوركم للمعركة, {ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ}, هنا يبين الله -تبارك وتعالى- أنَّ النصر مِن عنده، وأنَّ التثبيت مِن عنده، قال : {ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ}, السكينة وهي السكون والهدوء والطمأنينة والثبات، وهذا حال المؤمن الواثق مِن الله -تبارك وتعالى- الواثق مِن نصر الله -تبارك وتعالى- في وقت الرعب، وقت الناس في رعب وفي هلع وفي خوف شديد, هو ساكن مطمئن, {ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ}, وسمى هذه السكينة، أضافها لنفسه أنه هو الذي أنزلها -سبحانه وتعالى- وجعلها في قلوب أهل الإيمان, {ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ}, بدأ به -صلى الله عليه وسلم-, ثَبَّتَهُ, {وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ}, ثم قال : {وَأَنزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا}, الملائكة سماهم الله -تبارك وتعالى- بأنهم جنود، قال : {لَمْ تَرَوْهَا}, وذلك أنَّ الملائكة لا يُرَوا، لا يراهم أهل الإيمان, وإنما المَلَك فقط يراه النبي والرسول، قال -جلَّ وعلا- : {وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا}, وعذَّب الله الذين كفروا بالقتل، مَن قُتِلَ منهم، وكذلك بغنيمة أموالهم، ونسائهم، والجراحة التي فيهم، وفرارهم في كل اتجاه، وهذا الألم النفسي الذي يصيب دائمًا المهزوم, {وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا}, أي هذا العذاب في الدنيا {وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ},الله -تبارك وتعالى- نسب كل هذا لنفسه -سبحانه وتعالى- وبين أن هذا الجزاء منه -سبحانه وتعالى- إنما هو للكافر، وذلك لأنهم كفروا بالله -تبارك وتعالى- عاندوا رسوله، أرادوا أنْ يحاربوا الله، ورسوله؛ فكان أن عذبهم الله -تبارك وتعالى- هذا العذاب.

 قال -جلَّ وعلَا- : {ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[التوبة:27], {ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ}, مِن هؤلاء، الذين كفروا، وعاندوا وحاربوا الرسول -صلى الله عليه وسلم- ليس هذا نهاية المطاف بالنسبة إليهم؛ فإنَّ الله -تبارك وتعالى- قد يجتبي ويُخْرِجُ طائفة منهم من هذا الكفر إلى الإيمان, {ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ}, ومعنى يتوب عليه يقبل توبته إذا رجع إلى الله -تبارك وتعالى- قبل الله -تبارك وتعالى- توبته, {عَلَى مَنْ يَشَاءُ}, الله -تبارك وتعالى- أنْ يهديه، وأنْ يوفقه لهذه التوبة, {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}, -سبحانه وتعالى- أي أنَّ قبول الله -تبارك وتعالى- لتوبة التائب علمًا أنه كفر، وحارب الله وحارب رسوله لكن أنَّ الله -تبارك وتعالى- لأنه يتصف بأنه الغفور -سبحانه وتعالى- والرحيم بعباده؛ فإنه يقبل توبة هذا التائب الذي كان في يوم مِن الأيام مِن المجرمين, العتاة الذين يحاربون الله، ويحاربون رسوله.

 ثم وجَّهَ الله -تبارك وتعالى- بعد ذلك نداءً جديدًا الى أهل الإيمان؛ فقال : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}[التوبة:28], {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}, نداء مِن الرب الإله -سبحانه وتعالى- إلى عباده المؤمنين واصفًا إياهم بهذا الوصف الذي هو أكمل وأعلى الأوصاف, {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}, تكريم لهم في الدعاء والنداء, ثم كذلك تهييج لهم على الفعل، أي يا أيها المؤمن أنت مؤمن إذن فافعل، وكذلك فيه معنى الإلزام, يا مؤمن افعل كذا فإنَّ هذا مِن مقتضى إيمانك, {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}, قال -جلَّ وعَلا- : {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ}, حُكْم مِن الله -تبارك وتعالى- وإخبار, {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ}, بالحصر, {نَجَسٌ}, النجس هو الدنَّسَ والقذر، ونجاسة المشرك هي نجاسة اعتقاد وقلب، وليست النجاسة نجاسة حِس، وجسد إلا أنْ يتلبس بهذه النجاسة، ويكون مِن أثر شركه مثلًا ألا يغتسل مِن جنابة، أنْ يبقى بهذه, لكن نجاسة المشرك نجاسة قلب، ونجاسة خُلُق؛ فإنَّ المشرك الذي خلقه الله، وهو الذي بناه، وهو الذي يرزقه، هو الذي أحياه، هو الذي يميته، وهو الذي بيده -سبحانه وتعالى- شأنه كله, ثم هو يعاند هذا الرَّب، يكفر به ويجحد آياته ويعاديه ويذهب؛ فيضع العبادة، وهى حق الله -تبارك وتعالى- في شيء غير الله -تبارك وتعالى- إما في شيء مِن هذه الأشياء الخسيسة كالأصنام وغيرها، وإما في شيء شريف لكنه لا يستحق العبادة، كالملائكة وعيسى -عليه السلام-، والأنبياء والصالحون, لكنهم لا يستحقون العبادة؛ لأنَّ هذا ليس حقهم، العبادة حق الله -تبارك وتعالى- فهو نجس بهذا، الشرك نجاسة؛ لأنه جحود لله وكفر به، ومساواة لله -سبحانه وتعالى- بِخَلْقِهِ جعلوا هذا المخلوق كالخالق وضعوا في مصف الخالق، وإعطاؤه حق الرَّب -جلَّ وعَلا- فالمشرك نَجِس؛ فالله -سبحانه وتعالى- وصفهم، وحَكَمَ عليهم بهذا الحكم، وهم كذلك لا شك هذا حكم الله -تبارك وتعالى- ثم رتب على هذا قال : {فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا}, {فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ}, نَهْى مِن الله -تبارك وتعالى- أنْ يمكِّن المشركون مِن قربان المسجد الحرام الذي طهره الله -تبارك وتعالى- وقدَّسه؛ فإنَّ الله خَلَقَ مكة، وقدَّسَهَا، المسجد الحرام مكة، وسُمِّىَ المسجد لأنه هو مكان مسجده -سبحانه وتعالى- وحرام؛ لأنَّ الله -تبارك وتعالى- حرَّم فيه بعض ما يبيحه -سبحانه وتعالى- في غيره مِن أنْ يختلى خلاؤه، يعضد شجره، يُنَفَّر صيده، يُعْتَدَي فيه على مَن التجأ إليه، واحتمى به؛ فهو مسجد آمن حرام؛ فهذا المسجد الحرام الذي فيه بيت الله -تبارك وتعالى- هذا أطهر البقاع؛ فكيف يُمَكَّن أنجس الخَلْق، وشر البرية بأنْ يأتوا إلى أطهر البقاع, {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا}, وكان هذا في السنة التاسعة، ومِن أجل هذا؛ فإنَّ النبي -صلوات الله والسلام عليه- أَرْسَلَ أبوبكر الصديق -رضى الله تعالى- عنه، وعلى بن أبي طالب على رأس وفد الحج في السنة التاسعة، وأمرهم أنْ ينادوا في الحج، ويرسلوا منادين في مكة كلها ألا يحج بعد العام مُشرك، هذا آخر سنة يحج المشركون، وأنْ لا يطوف بالبيت عريان، قال :  {فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا}, ثم قال -جلَّ وعَلا- : {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ}, هنا يجيبهم الله -تبارك وتعالى- على ما قد يتخوفون عليه مِن منع المشركين مِن الإتيان إلى المسجد، وقريش تجارتها وحياتها على هؤلاء الوفود التي تأتيهم، وفود العرب التي تأتيهم مِن كل مكان في موسم الحج يبيعون لهم؛ فهم تجار يجلبون لهم البضائع، ويبيعون لهم، ويكسبون مِن مجيئهم إلى هذا المكان؛ فإنَّ مكة بلد غير ذي زرع، وكذلك غير ذي ضرع فهي ليست أرض مخصبة للزراعة، ولا كذلك أرض مُعْشِبَة للرعي، وإنما هي أرض جرداء، ورزق أهلها فيها إنما هو على هؤلاء الذين يتوافدون عليها مِن كل مكان؛ فيبيعهم مَن بجوار هذا الحَرَم؛ فقال -جلَّ وعَلا- : {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً}, العيلة الفقر؛ لأنَّ الفقير عالة على غيره يعيش عالة على غيره بمعنى أنه يعتمد على غيره في حياته, {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً}, فقر, {فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ}, وهذا لا شك وعدٌ مِن الله -تبارك وتعالى- وهو متحقق, {فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ}, بطريقٍ آخر غير طريق الكسب مِن المشركين, {........إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}[التوبة:28], {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ}, -سبحانه وتعالى- {حَكِيمٌ}, كل هذه الأحكام إنما هي مبناها على عِلْم الله -تبارك وتعالى-, وعلى حكمته -سبحانه وتعالى-, ولا شك أنَّ الله -تبارك وتعالى- قد حقق هذا في العرب المسلمين؛ فإنهم بعد العيلة، وبعد الفقر أغناهم الله -تبارك وتعالى- بما فتح عليهم مِن خزائن هذه الأرض، ومِن الفتوح العظيمة؛ فأصبحوا ملوك هذه الدنيا، واغتنوا فيها غنىً عظيم جدًا، هذا أحدهم مثل الزُّبير بن العوام -رضى الله تعالى عنه- قد خرج مِن مكة مهاجرًا لا يكاد يكون عنده شيء، ولكنه يوم مات ورث أبناؤه منه أكثر مِن أربعين مليون دينار مِن الذهب الخالص مِن مجموع ما كان له مِن الأراضي، والدُّور والأملاك، وهذا واحد، وعبدالرحمن بن عوف -رضى الله تعالى عنه-، وجميع بعد ذلك هؤلاء الذين كانوا في هذه الحالة مِن الفقر أغناهم الله -تبارك وتعالى- الغنى العظيم جدًا؛ فقول الله -تبارك وتعالى- : {........ فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}[التوبة:28], وعدٌ منه -سبحانه وتعالى- وقد تحقق لهؤلاء المخاطبين عند نزول هذا القرآن.

 ثم قال -جلَّ وعَلا- : {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}[التوبة:29], الآن فاصل جديد هذا السياسة الشرعية، الإلهية هنا مع الكفار العرب انتهت هنا عند هذه الآية؛ ثم وجَّهَ الله -تبارك وتعالى- المؤمنين إلى عدو آخر جديد يجب عليهم أنْ يقوموا، وأنْ يحاربوه في الله -عزَّ وجلَّ- فقال : {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}[التوبة:29], {قَاتِلُوا}, أمرٌ بالقتال, {الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ}, لا يؤمنون بالله, {وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ}, يوم القيامة, {وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ}, فهم لا يلتزمون تشريع الله -تبارك وتعالى- المُنْزَل على عبده ورسوله محمد -صلوات الله عليه وسلم-, { وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ}, وهو الدين الإسلام الذي بَعَثَ الله به عبده ورسوله محمد -صلى الله عليه وسلم- إلى الناس كافة، قال -جلَّ وعَلا- : {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ}, فهؤلاء الذين أوتوا الكتاب، وهم اليهود والنصارى، وسمَّاهم الله -تبارك وتعالى- بالذين أوتوا أي أعطوا, {الْكِتَابَ}, المنزل مِن الله -تبارك وتعالى- فالتوراة مُنْزَلَة على موسى، نورًا وهداية مِن الله -تبارك وتعالى-, وشرعة شرعها الله -تبارك وتعالى- لليهود بنى إسرائيل, ثم بعد ذلك أرسل الله -تبارك وتعالى- فيهم في آخر الرسل عيسى بن مريم عليه السلام آخر نبي مِن بني إسرائيل إلى بنى إسرائيل، على شرعة التوراة، وأنزل الله -تبارك وتعالى- عليه الإنجيل؛ فهذا كتاب مِن الله -تبارك وتعالى- منزل عليه؛ فقال -جلَّ وعَلا- هؤلاء الآن أصبحوا هؤلاء أهل الكتاب اليهود والنصارى فيهم هذه الصفات : {لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ}, ثم قال -جلَّ وعَلا- : {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ}, ثم جعل الله تبارك وتعالى الغاية التي ينبغي أنْ يقاتلوا حتى يبلغها أهل الإسلام، وحتى تُبْلَغ، قال : {........حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}[التوبة:29], أي قاتلوهم إلى هذا الحد، الجِزْيَة هي هذه الضريبة الرأسية التي تؤخذ على كل رأس منهم ضريبة سنوية تؤخذ منهم، وسميت جِزْيَة لأنها جزاء بقاؤهم في ذمة المسلمين، وفي عهد المسلمين, {عَنْ يَدٍ}, أي يقدمها كل منهم بيده، ولا يُرْسِل بها غيره حتى لا يكون هذا منه تكبرًا واستعلاءً، بل يجب أنْ يقدمها بيده هو مهما كان, {عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}, وهو صاغر في تقديم هذه الفدية؛ فدية عن نَفْسِهِ، جزاء عن نَفْسِهِ لبقائه في أرض الإسلام، وتحت عهد وذِمة المسلمين، الله -تبارك وتعالى- أمر عباده المؤمنين بهذا، بقتال هؤلاء واصفًا إياهم أنهم استحقوا هذا بأنهم بهذا الأمر, بكفرهم بالله -تبارك وتعالى- وعدم إيمانهم باليوم الآخر، وعدم التزامهم شريعة الرب -تبارك وتعالى- وأنهم لا يدينون دين الحق، الدين الذي أرسل الله به محمد -صلوات الله والسلام عليه-.

 ثم ذكر الله -تبارك وتعالى- كذلك مِن مقالاتهم الشنيعة التي يستحقوا بها هذا القتال؛ فقال -جل َّوعلَا- : {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ}[التوبة:30], {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}[التوبة:31], هذه المقالات الشنيعة، الكافرة التي قالها اليهود، والنصارى في الله الرب -سبحانه وتعالى- قال: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ}, مقالة قالتها بألسنتها، نسبتها إلى الله -تبارك وتعالى- وعزير هو أحد أنبيائهم، وقالوا أنه ابن الله، وذلك أنه بعد أنْ غُزُوا ودُمِّرَت دولتهم، وضاعت كتبهم، جاء هذا النبي، وكتب التوراة مِن حِفْظِهِ، ومِن ذاكرته كتب لهم التوراة مستحضرًا ما كان منها فسمُّوه لذلك أنه ابن الله نسبة بنوة إلى الرب -تبارك وتعالى- وهذا شتم لله -تبارك وتعالى- وعيب له، ونسبة الولد إليه -تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا-, {وَقَالَتِ النَّصَارَى}, كذلك, {الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ}, المسيح هو عيسى بن مريم -عليه السلام-، وقالت فيه النصارى أنه ابن الله، قالوا أنه ابن الله ما هو بنوة تَرَحُّم وتَعَطُّف مِن الرَّب -تبارك وتعالى- على عبده، ولكن جعلوها بنوة نسب لله؛ فجعلوه إله مِن إله، كما يقولوا في أمانتهم النصرانية إنه ابن الله حقًا، وأنه نَزَلَ مِن عند الرَّب -تبارك وتعالى- وتَخَلَّقَ، وتَأَنَّسَ، تَخَلَّقَ في بطن مريم العذراء، وتَأَنَّسَ أي أصبح إنسانًا، وأنه مكث؛ ثم دعا إلى الله؛ ثم صُلِبَ وقُتِل ومات ثلاثة أيام؛ ثم قام مِن الأموات، وصعد إلى يمين الرب؛ ثم يأتي بعد ذلك ليدين الجميع الأحياء والأموات؛ فعندهم أنَّ عيسى إنما هو إله مِن إله صفات الرب هي صفات الابن -تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا-، ويقولون بأنَّ الإله إنما هو الأب والابن والروح القُدُس إله واحد أنها إله واحد، ذاتٌ واحدة، وإنْ أصبحت ثلاثة كما قالوا بالأقانيم؛ فقالوا أنه ابن الله بنوة حقيقية إلهٌ مِن إلهٍ خالق، رازق كل صفات الرب في صفات عيسى -تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا-, {وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ}, قيل سُمُّوا نصارى مِن الناصرة التي هي أول مدينة أنشأ عيسى بن مريم دعوته وسكنها، وقيل أنها مِن النصرة عندما قال : {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ}, فإنْ كانت مِن النصرة يكون سُمِّيَ هذا الدين بشريعة منه، النصرة جزء مِن الدين كما سميت اليهود بيهود؛ لأنهم اليهود العودة إلى الله -تبارك وتعالى- التوبة أي التائبون, {وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ}, -تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا- قال -جلَّ وعلَا- : {ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ}, {ذَلِكَ}, القول الذي يقولونه، يقولونه {بِأَفْوَاهِهِمْ}, أي بدون أنْ يعقلوه ويفكروا فيه، ويخرج مِن قلوبهم، وإنما هكذا ألقوه مِن أفواههم إلقاءً دون أنْ يُدْرِكُوا ويتفطنوا ويعقلوا ما في هذا مِن القِحَّة والإثم والفجور الشديد؛ فإنَّ هذا شتم للرب -تبارك وتعالى- فإنَّ الله هو الإله الواحد، الأحد، الفرد، الصمد الذي لم يلد، ولم يولد كيف يتخذ عبد مِن عبيده ابنًا له -سبحانه وتعالى-! -تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا- كما قال -تبارك وتعالى- : {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ........}[المائدة:75], فالذي يحتاج إلى أكل الطعام هذا؛ ثم يكون مِن هذا أكله للطعام ضرورة هذا الأكل مِن البول والغائط، كيف يكون مثل هذا إلهًا! -تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا- قال الله : {ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ}, أي أنَّ هذه المقالة سمعوها في أقوال بعض المشركين مِن تعدد الآلهة، وأنَّ الإله عندهم أسرة كما هو عند الرومان في أساطيرهم، وعند الإغريق في أساطيرهم, أسرة هي تحكم العالم أسرة الآلهة؛ فسمعوا هذه المقالات مِن هذه الشعوب الوثنية الجاهلة، ونقلوا هذا إلى دينهم النصرانية، قال : {يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ}, ثم قال -جلَّ وعَلا- : {........قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ}[التوبة:30], {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ}, حُكْم مِن الله -تبارك وتعالى- عليهم بأنَّ الله يقاتلهم، وهذا هو صنيع الرب -تبارك وتعالى- فيهم في الدنيا وفي الآخرة, هذا دعاء وحُكْم مِن الرب -تبارك وتعالى- عليهم, ثم قال -جلَّ وعَلا- : {أَنَّى يُؤْفَكُونَ}, كيف؟ {يُؤْفَكُونَ}, أي يقلبون على رؤوسهم؛ لأنَّ هذا الإنسان الذي يفهم هذا الفهم المعكوس كأنه مقلوب على رأسه، كيف يُقْلَب على رأسه؟ وكيف ينسب إلى الله -تبارك وتعالى- هذا الأمر؟ فينسب بشر يأكل ويشرب ويخاف ويجهل، ثم هم قد نسبوا إلى هذا البشر كل أنواع النقائص مِن الخوف، ومِن الجبن في الإنجيل كما يقول : أبتي اصرف هذا الكأس يوم كان يلاحقه الرومان واليهود ليقتلونه، وأنه بكى عند هذا الأمر، وأنه ضُرِبَ وأُهِينَ وصفق على قفاه، وبُصِقَ في وجهه؛ فنسبوا إليه كل الإهانات، كيف يقال بأنَّ مثل هذا إله حق هو خالق هذه السماوات والأرض، قال -جلَّ وعَلا-  {........قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ}[التوبة:30].

نكمل -إنْ شاء الله- في الحلقة الآتية، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم مِن كل ذنب، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد.