الجمعة 21 جمادى الأولى 1446 . 22 نوفمبر 2024

الحلقة (234) - سورة التوبة 31-34

الحمد لله ربِّ العالمين، وأُصَلِّى وأُسَلِّم على عبد الله ورسوله الأمين, سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه، ومَن اهتدى بهداه، وعَمِلَ بسنته إلى يوم الدين.

يقول الله -تبارك وتعالى- : {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ}[التوبة:30], {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}[التوبة:31], {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}[التوبة:32], {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}[التوبة:33], هذه الآيات في معرض أمر الله -تبارك وتعالى- عباده المؤمنين بقتال اليهود والنصارى الذين سماههم الله -تبارك وتعالى- بالذين أوتوا الكتاب، وأخبر -سبحانه وتعالى- أنهم يستحقوا هذا، وأنَّ الغاية التي يجب أنْ يُقَاتَلُوا عليها إنما هي، قال : {........حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}[التوبة:29], وأنهم يستحقوا هذا أولًا لأنهم {لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ}, هذا الدين الذي أرسل الله به رسوله محمد -صلوات الله والسلام عليه- وكذلك لمقالتهم العظيمة في الرَّب -تبارك وتعالى- وهي شتم الرب وسَبِّهِ، ونسبة البشر أنهم أبناء له تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا، كما في الحديث : «شتمني ابن آدم ولا ينبغي له ذلك’ أما شتمه إياي فقوله إنَّ لي ولد, وأنا الواحد الأحد الذي لم ألد ولم أولد»  فالله -سبحانه وتعالى- هو الواحد الأحد ليس كمثله شيء، ليس له نِدّ ولا شبيه ولا شريك، وليس له جزء -سبحانه وتعالى-, {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ}[الزخرف:15], ولا ينبغي أنْ يكون له شبيه، ومصاحب -تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا-؛ لأنه لو كان له شبيه، أو شريك لفسدت الخَلْق هذا، الخَلْق كله يفسد، وذلك أنه لا بد أنْ صير إله، وإله, {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ}[الأنبياء:22], {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا}[الإسراء:42], لو كان فيه آلهة أخرى حقيقين ابن مثلًا هو إله مع إله؛ لا بد أنْ يكون هناك في نهاية الأمر تنازل هذا يخلق وهذا يخلق، وهذا يرزق وهذا يرزق, {إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا}[الإسراء:42], أي ليغالبونهم؛ فلا يمكن أنْ يكون لله -تبارك وتعالى-, الوجود هذا كله شاهد بأنه ليس له رب إلا رب واحد، وإله  إلا إله واحد -سبحانه وتعالى- فهم شتموا الرب؛ فاليهود قالوا : {عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ}, والنصارى قالوا : {لْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ}, قال -جلَّ وعَلا- : {ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ}, قول بدون عقل، بدون أنْ يعقلوه، وأنْ يتفكروا فيه، قول بالفم, ثم أنهم في هذا مُقَلِّدُونَ لناس مشركين, {يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ}, سمعوا أنَّ المشركين قبلهم الرومان القدامى، والإغريق كان عندهم في تصوراتهم الوثنية أنَّ الذين خَلَقُوا هذا الكون إنما هم أسرة رجل وزوجته وأولاده، وأنه يوجد صراع آلهة؛ فأخذوا هذه الأفكار الموجودة، والعقائد القديمة الموجودة عند الإغريق ، وعند الرومان ونقلوها إلى النصرانية، وقالوا كذلك الرب لا بد يكون له زوجة، ولا بد أنْ يكون له ولد، ولا بد أنْ يكون معه روح قدس وهكذا؛ فقالوا بهذا التعدد، قال -جلَّ وعَلا- : {........يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ}[التوبة:30], كيف يُقْلَبُونَ على وجوههم، ويعتقدون بأنَّ الله له ولد على هذا النحو، هذه عقيدة لا يمكن أنْ يأخذ بها ويدركها كل مَن له أدنى فكر، وأدنى عقل.

 ثم قال -جلَّ وعَلا- : {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}[التوبة:31], {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ}, الأحبار جمع حَبْر، والحَبْر هو العالِم قيل أنه سُمِّيَ الحَبْر مِن الحِبْر، يقولون سُمِّىَ حَبْر مِن كثرة المداد أنه مِمَن يكتب بالمداد؛ فسُمِّىَ حَبْر لذلك, {وَرُهْبَانَهُمْ}, الراهب هو العابد، وسُمِّىَ راهب؛ لأنه خائف مِن الله -تبارك وتعالى- متقيه، ومِن خوفه هو في العبادة الدائمة، والأحبار اشْتُهِرَ به اليهود, والرهبان اشِتُهِرَ بهم النصارى, {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ}, أي علماؤهم وعبادهم, {أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ}, كذلك اتخذوه ربًا مِن دون الله, {أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ}, الرب بمعنى السيد، المطاع؛ فهم اتخذوهم أرباب؛ وذلك أنهم أعطوهم حق التشريع، وأعطوا أنفسهم وجوب الطاعة لهم بما يُشَرِّعُونَهُ، كما يذكر النصارى زورًا أنَّ الله -تبارك وتعالى- أنَّ الله الذي هو عيسى عندهم، قال لبطرس: (ابنى كنيستك على هذه الصخرة، وما تقيده في الأرض يقيده الله في السماء، وما تحله في الأرض يحله الله في السماء) إذن أصبح الرب -تبارك وتعالى- مَوَقِّعًا على ما يُوَقِّع عليه بطرس، ومِن هذا أخذت النصرانية إعطاء البابا الأكبر، وهو الحَبْر الأعظم عندهم، إعطاؤه حق التشريع؛ فهو الذي يُشَرِّع ما يشاء, يحل ما يشاء، يحرم ما يشاء، ومضى هذا في فيهم, اليهود كذلك أمة مُقَلِّدَة لأحبارها ورهبانها؛ فإنهم تبع لهؤلاء, {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ}[البقرة:78], فهم مُتَّبِعُونَ لهؤلاء؛ فهؤلاء {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ}, أي مُشَرِّعَينَ يُشَرِّعُونَ لهم في الحلال والحرام مما يوضح هذه الآية هذا الحديث، حديث عدي بن حاتم الطائي -رضى الله تعالى عنه- كان سيد طَيِّء وهي قبيلة عربية، ولكنها تنصرت في الجاهلية؛ ثم لما امتد الإسلام غزاهم المسلمون، وأخذوهم؛ ففر عدي، وجاءت أخته جومانة، وتوسلت له عند النبي -صلى الله عليه وسلم- وأخذت أمانًا له, ثم أرسلت لأخيها؛ فجاء للنبي -صلى الله عليه وسلم- ودخل وهو على هيئته قد علق في صدره صليب الذهب، ودخل على النبي -صلى الله عليه وسلم- إليه في مسجده لأنه قد أُخِذَ له الأمان، وسمع النبي يقرأ : {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ}, فقال: يا  رسول الله ما عبدوهم أي أننا ما عبدناهم؛ فقال له : (يا عدي ألم يُحِلُّوا لهم الحرام فيتبعوهم، ويُحَرِّمُوا عليهم الحلال فيتبعوهم)، قال : قلت بلى؛ قال: فتلك عبادتهم إياهم هذا قاله عدي بعد أنْ دخل في الإسلام، وسمع النبى يقرأ هذا، النبى دعاه، وقال له: يا عدي ما يفرك؟! أن يفرك أن يقال لا إله إلا الله لماذا تفر، لماذا تفر مِن هذا الدين، أيفرك أنْ يقال لا إله إلا الله؟! وهل مِن إله غير الله؟! أيفرك، أيفرك مَن ضمنها،؟ قال: أيفرك أننا فقراء؛ ثم قال له : لئن طالت بك حياة لترين كنوز كسرى، وقيصر تنفق في سبيل الله، يقول عدي: فقلت له يا رسول الله، كسرى بن هرمز؟! أي هذا الحي الموجود الآن؟! فقال: كسرى بن هرمز، يقول عدي: فكنت أنا مِمَن افتتح المدائن، وقد رأيت كيف أنَّ كنوز كِسْرَى أُنْفِقَت في سبيل الله، الشاهد أنَّ هذا الحديث، حديث عدى بن حاتم الطائي -رضى الله تعالى عنه- يُفَسِّر هنا ويبيِّن قول الله -تبارك وتعالى- : {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ}, ليس أربابًا بمعنى أنهم اعتقدوا أنهم يخلقون ويرزقون، وإنما أربابًا سادة يُشَرِّعُونَ لهم، ويطيعون تشريعهم؛ فيُحِلُّونَ لهم الحرام الموجود عندهم، ويتبعونه، ويُحَرِّمُونَ عليهم الحلال الموجود عندهم في الشريعة، ويتبعونهم في ذلك؛ لأنهم أعطوا هؤلاء حق التشريع، والمسيح بن مريم كذلك اتخذوه ربًا لهم مِن دون الله، وهنا اتخاذ المسيح رب مِن دون الله ليس في التشريع فقط، بل أعطوه كل صفات الرب -جلَّ وعَلا-؛ مِن الخَلْقِ والرزق، والإحياء والإماتة، وأنه هو الذي سيدين البشر، ويدينهم بمعنى أنه هو الذي سيحاسبهم -تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا-, {وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ}, يُنَسب المسيح إلى أمه -عليها السلام- مريم؛ وذلك أنَّ الله -تبارك وتعالى- خلقه منها أمه هي بدون أنْ يكون له أب إنما هو بأمر الله -تبارك وتعالى-, كن فيكون, إنما قال -جلَّ وعَلا- : {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ........}[المائدة:75], وأخبر -سبحانه وتعالى- أنَّ شأن المسيح هو كشأن آدم خَلَقَه تراب؛ ثم قال له : كن فيكون، قال -جلَّ وعَلا- : {........وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}[التوبة:31], {وَمَا أُمِرُوا}, أي أهل الكتاب, {إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا}, {مَا أُمِرُوا}, أمرهم الله -تبارك وتعالى- الأمر الذي نزله الله -تبارك وتعالى- عليهم في التوراة والإنجيل كان الأمر بعبادة الله وحده لا شريك له, {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا}, إله واحد فقط، الإله المعبود هو الله -سبحانه وتعالى-؛ لأنه لا إله معه -سبحانه وتعالى- ولم يشأ الله -تبارك وتعالى- أنْ يجعل معه إلهًا آخر أي معبود يُعْبَد مع الله -تبارك وتعالى- لا يرضى الله -تبارك وتعالى- أنْ يعبد معه غيره لا مَلَك مُقَرَّب، ولا نبي مُرْسَل، الله يقول على الملائكة : {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ}[الأنبياء:29], ويقول عن الأنبياء : {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ........}[آل عمران:79], لا يصير كيف يعطيه الله الكتاب والحكمة؛ ثم يقول للناس: تعالوا اعبدوني مع الله، أو تعالوا اعبدوني دون الله، وقال الأنبياء : {........وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ}[آل عمران:79], {وَلا يَأْمُرَكُمْ}, أي الله -تبارك وتعالى-, {........أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}[آل عمران:80], أي لا يوجد أمر مِن الله -تبارك وتعالى- يأمر فيه عباده أنْ يتخذ الملائكة، والنبيين أربابًا تعالى الله عن ذلك، بل الله -تبارك وتعالى- أمر الجميع أنْ يعبدوه وحده لا شريك له، أَمَرَ الملائكة، أَمَرَ الرسل، أَمَرَ كل المؤمنين ألا يعبدوا إلا الإله الواحد -سبحانه وتعالى- قال : {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ}, الإله الواحد الذي لا إله إلا هو هذا لا ينطبق إلا على الله -تبارك وتعالى-, مستحيل أنْ يكون في هذا الكون كله إله واحد لا يستحق العبادة إلا هو إلا الرب الإله -سبحانه وتعالى- رب العرش العظيم، خالق السماوات والأرض، باعث الرسل والأنبياء -سبحانه وتعالى-, {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ}, لا إله حقًا إلا هو ليس لا إله موجودًا، وإلا آلهة مزيفة، زائفة موجود هذه بعشرات الألوف؛ فإنَّ البشر ضلوا في هذا الباب، وعبدوا كل شيء, ما مِن شيء إلا وعُبِد بدءًا مِن قوم نوح الذين عبدوا هذا قال : {........لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا}[نوح:23], فهذه آلهتهم القديمة، وجاء مَن بعدهم مِن الأُمَم كلهم, {أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا}, هؤلاء عاد وثمود نَفْس الأمر، وقوم فرعون يعبدون الشمس، ويعبدون المَلِك، ويقول لهم فرعون : {يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي}, يوجد إله غيري تعبدونه، قال: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي}, إنَّ موسى يقول لهم يوجد إله في السماوات، قال : {فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى}, أَنْظُر أين إله موسى, {........وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ}[القصص:38],  {........وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ}[غافر:37] أما العرب المشركون؛ فقد كانت آلهتهم تملأ الأرض، الجزيرة فى كل مكان نصبوا فيه صنمًا يعبدونه، وكل قبيلة، وأحيانًا في كل بيت يجعل صاحب البيت صنمًا له داخل البيت، وأشرف الأماكن وهي الكعبة وضعوا أصنامهم فوق سطوحها؛ فقد كان على الكعبة ثلاث مائة وستين صنمًا عندما دخل النبى فاتحًا في يوم الفتح في السنة الثامنة مِن هجرته حَطَّمَ الأصنام التي كانت على ظهر الكعبة يضربها -صلى الله عليه وسلم- برمحه وتقع، ويقول : { وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا}[الإسراء:81], والأرض كلها منتشرة مِن الأصنام، مَن يشاهد الشعوب يجد ما مِن شعب إلا وله أصنامه سافر الإنسان إلى هذه الشعوب في آسيا يجد أنه ما مِن أحد يبني بيت إلا ويضع في ركنه صورة المعبد، وصورة الصنم بوذا, ثم يُقَدِّمُ له في كل يوم طعامه في الفطور والعشاء، ويُسْرِجُ بيته؛ فالبشر عبدوا كل شيء، فالله -تبارك وتعالى- يقول : {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ}, لا إله حقًا إلا هو, أما هذه الآلهة الباطلة التي ملأت الأرض مِن قبل نوح وإلى يومنا هذا؛ فإنه لا يمكن أنْ تُحْصَر، لا حصر لها, {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ}, قال -جلَّ وعَلا- : {سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}, سبحانه تنزيهًا له -جلَّ وعَلا-, {عَمَّا يُشْرِكُونَ}, عن هذا الذي يشركون به -سبحانه وتعالى-؛ أنْ يكون الرب -تبارك وتعالى- يُجْعَل له شركة مع هؤلاء, كيف يكون خَلْقه شركاء له في حقه؟ هذا أكبر ظلم, {........إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}[لقمان:13], فَيُجْعَل خَلْق الله -تبارك وتعالى-, ملك هذا خَلْقُ الله، رسول خَلْقُ الله، حجر، شجر، نهر، أى شيء هذا خَلْقَهُ كيف يقام، ويجعل له حق في العبادة كحق الرَّب الإله الذي هو خالق وحده، هو الرازق وحده، هو المدبر وحده -سبحانه وتعالى-, {سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}, سبحانه التسبيح والتنزيه والتقديس أي تنزيهًا له -سبحانه وتعالى-, وإبعادًا عن هذه الآلهة التي يجعلونها شركاء لله -تبارك وتعالى- تعالى الله عن ذلك.

 ثم بيَّن الله -تبارك وتعالى- أنَّ فعلهم هذا كفعل مَن ينفخ على الشمس، قال -جلَّ وعَلا- : {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}[التوبة:32], {يُرِيدُونَ}, هؤلاء اليهود والنصارى وهؤلاء المشركون, { أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ}, الإطفاء معروف, {نُورَ اللَّهِ} -تبارك وتعالى- ونور الله ساطع، {اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ}, هذا النور نور الإيمان به، ونور توحيده، ونور معرفته -سبحانه وتعالى-, ونور هذه الدلالات والآيات التي خلقها يريد الكفار أنْ يطفئوها بأفواههم, شَبَّهَ الله -تبارك وتعالى- فعلهم بهذه الأقوال الباطلة التي ينشروها هنا، وهنا بأفواههم يخرجونها هذه أقوال يخرجونها بأفواههم شَبَّهَ الله -تبارك وتعالى- فعلهم هذا، وأنه فِعْلُ هزيل, نعم فيه إلقاء يلقون مِن هذه الأكاذيب، ومِن هذه الأقوال التي يختلقونها في شركهم، وتعظيمه أمور كثيرة يلقونها بأفواههم لكن شَبَّهَ الله -تبارك وتعالى- فعلهم هذا بِمَن يريد أنْ ينفخ على نور الله -تبارك وتعالى- على الشمس مثلًا، وهي خَلْق الله -تبارك وتعالى- خَلْقٌ صغير، وهي مِن نوره، مِن نوره المخلوق -سبحانه وتعالى- كمن يريد أنْ يطفئها؛ فلو قام هؤلاء المهازيل جميعًا، وتوجهوا إلى الشمس ينفخون عليها ليطفئوها لما أطفئوها, {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ}, قال -جلَّ وعَلا- : {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ} يأبى الله يبقى الامتناع, {إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ}, إلا أنْ يتم التوحيد, الإيمان به وتوحيده، وعلوا كلمته -سبحانه وتعالى- على الأرض كلها, {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ}, يتمه يجعله تامًا في الأرض بهذه الأمة القائمة، المهتدية، التي تدعو إليه -سبحانه وتعالى-, {وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}, أي ولو كره الكافرون هذا إنَّ نور التوحيد والإيمان به يعم الأرض لكن الله سيفعله، قال : {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}[التوبة:33], {هُوَ}, بدأ الله -تبارك وتعالى- هنا هذه الجملة بالضمير العائد عليه -سبحانه وتعالى-, {هُوَ}, الله, {الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ}, ليست إرادة النبي محمد -صلى الله عليه وسلم-, ولا هي إرادة أحد، ولا إرادة العرب, {هُوَ}, الرب -تبارك وتعالى-, {الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ}, رسوله محمد -صلى الله عليه وسلم- وسماه {رَسُولَهُ}, لأنه هو الذي أوحى إليه، وأمره أنْ يقوم بهذه الرسالة مِن عنده إلى العالمين, {بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ}, {بِالْهُدَى}, الهداية، والهداية ضد الضلال، إرشاد إلى طريق الرب -تبارك وتعالى-, { وَدِينِ الْحَقِّ}, الدين الحق، دين الحق؛ الإسلام لأنه دين حق، وغيره دين باطل، قال -جلَّ وعلَا- : {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ}, {لِيُظْهِرَهُ}, ليجعله ظاهرًا غالبًا على كل الأديان, {وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}, أي ولو كره المشركون ذلك أنهم قاوموه بكل سبيل، وأبغضوا هذا الأمر، ولم يريدوا هذا سيفعل الله رغم أنوفهم, أي أنَّ الله فاعلٌ هذا، ومُتِمُّ نوره، وإنْ كره المشركون ذلك إلا أنَّ الله -تبارك وتعالى- سيفعله، وقد كان؛ فإنَّ الله تبارك وتعالى أيد محمدًا -صلوات الله والسلام عليه- فلم يمت إلا وهذه الجزيرة كلها التي كانت تموج بالكفر، والشرك كلها إذا بها دولة للتوحيد تعلوا عليها كلمة لا إله إلا الله مِن أقصاها إلى أقصاها, يؤذن المؤذن أشهد أن لا إله إلا الله شهادة توحيد مِن أقصاها إلى أقصاها؛ ثم لم يلبث وقت قليل، وإلا نشر الله -تبارك وتعالى- نوره بالتوحيد في أقاصي الأرض كلها، ودَكَّ الله -تبارك وتعالى- حصون كسرى، وحصون قيصر انتهت الكنيسة الشرقية، وقام شعار التوحيد، ونداء التوحيد في كل مكان في الأرض أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنَّ محمداً رسول الله, ثم بعد ذلك بيان مِن الله -تبارك وتعالى- الى يعنى ما عليه من هؤلاء الأحبار، والرهبان ليس مِن فساد الاعتقاد فقط، وإنما كذلك مِن فساد الخُلُق، وفساد العمل، قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}[التوبة:34], {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ}[التوبة:35], {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا},  نداء بعد نداء مِن الرب -تبارك وتعالى- الإله إلى أهل الإيمان يناديهم الله -تبارك وتعالى- باسم الإيمان تهييجًا لهم، وحضًا لهم، وإلزامًا لهم على الامتثال, {إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ}, علماء، وعُبَّاد اليهود والنصارى, {لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ}, أخذ أموال الناس سُمِّىَ الأخذ وإتلاف هذه الأموال، صرفها في منافعهم أكلًا؛ لأنَّ الأكل هو أعظم أوجه الصرف، ولذلك ينسب إليه أخذ للمال, {لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ}, الباطل الزُّور والبهتان والكذب، وكل طريق غير مشروع؛ فهؤلاء يأخذون أموال الناس بالباطل بصور كثيرة مِن الصور التي يأكلون بها أموال الناس، أولًا أنَّ هذه مثلاً الناس كانوا خصصوا لهم مثلاً هذه المخصصات مِن اليهود، والنصارى لعلمائهم، ورهبانهم ليقوموا لهم يوقفوهم على التعليم والعمل ودعوتهم؛ فيقوموا لهم بالهداية؛ فإذا بهم يأخذون هذه الأموال، ويعملون بضد ذلك يكتمون ما أنزله الله -تبارك وتعالى- ولا ينصحون إلى هؤلاء، لا يقومون بتعليمهم الوجهة الصحيحة خوفًا على مناصبهم، ومراكزهم, يعطون الناس ما يهونه مِن الأحكام، يحلون لهم الحرام، يحرمون عليهم الحلال تبعًا لأهواء الناس، ويأخذون أموال الناس ويُكَدِّسُونَها، كذلك كان كثير مِن الرهبان، راهب وهو منقطع للعبادة، ولا حاجة له إلى اكتناز المال؛ فإذا به كان ناس تعطيه مِن الأموال، والزكاوات، فيأخذها يدخرها لنفسه بدلًا مِن أنْ يعطيها للفقراء، والمساكين إذا به يدخرها لنفسه، كما جاء في حديث سلمان الفارسي -رضى الله تعالى عنه-، وطوافه على كثير مِن هؤلاء الرهبان الذين هم في آخر تاريخ النصرانية، وبعثة النبي محمد -صلوات الله عليه وسلم- وكيف أنَّ كثيرًا منهم كانوا مِن أفسد الناس يجمعون الأموال، ويدخرونها، حتى إنه وجد عند بكلام سلمان عند أحدهم عشرين، أخذوا منه عشرين جرة مِن الذهب، يعطونها للفقراء والمساكين، فيدخرها لنفسه؛ فلما مات وجدوا عنده عشرين جرة مِن الذهب كان قد اختزنها، واكتنزها، صور كثيرة لأكل أموال الناس بالباطل؛ فالله -تبارك وتعالى- يبيِّن فساد هؤلاء الذين تصدروا في دين النصرانية، ودين اليهودية، وقد يظهر عليهم مُسُوح، وسمات أهل الزُّهد والعلم والفقر، والالتجاء إلى الله والدعوة إليه، والحال أنهم في داخلها سوء خُلُق، ونجاسة كما جاء وصفهم في الإنجيل إنكم أنت الفارسيون أنتم كالقبور المُجَصِّصَة مِن خارجها، وداخلها خبيث، مُنْتِنٌ ومظلم؛ فهم على هذا النحو ظاهر قد يغري، ويغر الجاهل، وباطن خبيث, {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ........}[التوبة:34], يصدون يمنعون الناس عن سبيل الله -تبارك وتعالى- فهم الذين تصدوا لمنع أتباعهم، ومِن تحتهم عن أنْ يتبعوا دين محمد -صلوات الله والسلام عليه-, ثم قال -جلَّ وعَلا- : {........وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}[التوبة:34], حُكْم عام, الكنز هو الادخار, {الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ}, هي المعادن، المعدنين التي جعلها الله -تبارك وتعالى- مقياس للقيم في الأرض، وهي التي تُصْنَعُ منها النقود, {الذَّهَبَ}, الدنانير وَالْفِضَّةَ}, الدراهم, {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ}, قال -جلَّ وعَلا- : {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}.

 عودة -إنْ شاء الله- لهذه الآية في الحلقة الآتية -إنْ شاء الله-، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم مِن كل ذنب، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد.