إنَّ الحمد لله, نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله مِن شرور أنفسنا، ومِن سيئات أعمالنا, مَن يهده الله فلا مضل له، ومَن يضلله فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله.
وبعد؛ فيقول الله -تبارك وتعالى- : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}[التوبة:34], {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ}[التوبة:35], جاءت هذه الآيات سورة براءة في سياق حث الله -تبارك وتعالى- عباده المؤمنون على الجهاد في سبيل الله، والإنفاق في سبيل الله؛ ففي معرض الجهاد أمر الله -تبارك وتعالى- عباده المؤمنين أنْ يقاتلوا أهل الكتاب، وبيَّن الله -تبارك وتعالى- كفرهم وعنادهم ومخازيهم مِن أجلها يجب أنْ يُقَاتَلُوا؛ فقال : {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}[التوبة:29], {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ}[التوبة:30], ثم قال -جلَّ وعَلا- : {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}[الصف:8], {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}[الصف:9], ثم مِن جملة ذلك كذلك أنَّ أحبارهم ورهبانهم, علماؤهم وعُبَّادهم يصدون عن سبيل الله، ويأكلون أموال الناس بالباطل، هذا الآيات الأولى بينت فساد معتقداتهم، وشتمهم لله -تبارك وتعالى- بادعاء الولد له -سبحانه وتعالى-, ثم فساد أخلاقهم، وأنهم يأكلون أموال الناس بالباطل يأخذون هذه الأموال مِن الناس فبدلًا أنْ يعلموهم الدين، ويرشدوهم إلى الحق يفعلون بضد ذلك, يُحَرِّمُونَ ما أحل الله، ويحلون ما حرم الله اتباعًا لأهوائهم، ويعطونهم مِن التشريع والكلام ما يناسب أهواء الناس, ثم إنهم بعد ذلك يأخذون هذا المال ويدخرونه، وهم ليسوا في حاجة إلى هذا الادخار؛ فإنهم رهبان تركوا شئون هذه الدنيا، وتبتلوا إلى الله -تبارك وتعالى- لكن هذا ظاهر يبدونه والحقيقة غير ذلك، قال -جلَّ وعَلا- : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}, خطاب مِن الله -تبارك وتعالى- لعباده المؤمنين، وجاء هذا الخطاب، دائمًا الله يُصَدِّرُ الأوامر والنواهي, ينادي عباده المؤمنين بمسمى الإيمان هذا تشريف لهم، وتهييج لهم على العمل، وكذلك إلزام بأنك يا أيها المؤمن افعل هذا؛ لأنَّ هذا مِن مقتضى إيمانك، ومِن لوازم إيمانك, {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ}, {الأَحْبَارِ}, علماء اليهود، {وَالرُّهْبَانِ}, عُبَّادِ النصارى, غالبًا ما يطلق هذا الحَبْر على عَالِم اليهود، والراهب على عَالِم النصارى, {لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}, يصدون عن سبيل الله في دينهم، وكذلك لما بُعِثَ النبي كان عملهم هو الصد كذلك عن سبيل الله الذي جاء به النبي محمد -صلوات الله عليه وسلم-, ثم أعطى الله حُكْم عام، قال : {........وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}[التوبة:34], {الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ}, مِن جملة المعادن التي ذخرها الله -تبارك وتعالى- في هذه الأرض لها خاصية جعلها الله -تبارك وتعالى- فيها، وأنها هي موازين للقيم؛ فضُرِبَت منها النقود، الدنانير، ومُسَمَّى الجنيهات عند غير المسلمين مِن الذهب، والدراهم، وما هو دونها مِن القيم الصغيرة بالفضة, ثم الفلوس مِن معادن أخرى؛ فالذهب والفضة هو النقد هو موازين لهذه القيم، وادخارها أي ادخار المال، أو أساس النقود، أساس الأموال، ما تُقَدَّر به كل الأموال، قال : {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ}, كلمة, {وَلا يُنفِقُونَهَا}, ما قال : ولا ينفقونهما يدل على أنهما كأنهما جنس واحد، كأن هذه جنس واحد لأنَّ كلها نقود, {فِي سَبِيلِ اللَّهِ}, قال -جلَّ وعَلا- : {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}, وهذه الآية ظاهرها يحرم الادخار مطلقًا، والكنز لأنَّ الكنز ادخار، وهو جمع المال واكتنازه، وإبقاؤه؛ فقول الله : {وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ}, أي ظاهر الآية هو إخراجها كلها في سبيل الله، وعدم إبقاء شيء منها إلا للحاجة, لكن بين النبي -صلى الله عليه وسلم- بأنَّ ما أُدِّيَت زكاته؛ فليس بكنز لا يكون هنا مُكْتَنِز، وقد فرض الله -تبارك وتعالى- على المسلمين الجزء الذي يخرجونه مِن الذهب والفضة، وهو ربع العشر بحساب واحد إلى أربعين, اثنين ونصف في المائة، والنبي يقول -صلوات الله والسلام عليه- (ما أُدِّيَ زكاته فليس بكنز), فما أُدِّيَ زكاته مِن المال المدخر، أو مِن النقود المدخرة، أو مِن هذه المعادن بالذات الذهب والفضة المدخرة؛ فإنه ليس بكنز لقول النبي «ي الرقة ربع العشر» الرقة هي الذهب ربع العشر؛ فهنا الله -تبارك وتعالى- أعطى حُكْم عام، وإن كانت سياق الآية في اليهود، والنصارى الذين يكنزون هذه الأموال، ولا ينفقونها في سبيل الله لكن الله أعطى -سبحانه وتعالى- حكمًا عامًا ليدخل فيه كل أحد، قال : {........وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}[التوبة:34], أي الذين هذا مِن أسماء الموصول الذى يشمل هؤلاء يشمل هذا، وهذا، وقد جاءت الأحاديث النبوية ببيان أنَّ المسلم الذى يكنز ماله، ولا يخرج زكاته؛ فإنه يُعَذَّب بماله كله، ولا يُعَذَّب فقط بالزكاة التي كان يجب أنْ يخرجها كما في الحديث : «ما مِن صاحب ذهب وفضة لا يؤدى زكاتهما إلا صُفِّحَت له يوم القيامة صفائح, كل الكنز ثم يُحْمَى عليها في نار جهنم, ثم يُكْوَى بها جبينه وجنباه وظهره في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة, ثم يُرَى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار», أي أنَّ هذا الكنز يأتي ويُحْمَى؛ فَتُصَفَّح صفائح أي هذه السبائك الغليظة, تُصَفَّح صفائح؛ وذلك لتتسع مساحتها فيكون العذاب بها أكثر، تُحْمَى في نار جهنم؛ ثم يُؤْتىَ بها، وهذا في الموقف، وليس عذابًا في النار, في نار جهنم بعد, طيلة يوم الحشر وهو خمسين ألف سنة؛ فيقول النبي: «فَيُكْوَى بها جبينه وجنباه وظهره في يوم كان مقدراه خمسين ألف سنة, ثم يُرَى سبيله», أي بعد ذلك, «إما إلى الجنة، وإما إلى النار»، وكذلك قال -صلى الله عليه وسلم- : «ما مِن صاحب كنز لا يؤدي زكاته إلا مُثِّلَ له كنزه يوم القيامة شجاعًا أقرع» والشجاع الثعبان المتحرك المُهَاجِم, يوجد ثعبان إذا رأى الإنسان هرب منه، ويوجد ثعبان إذا رأى الإنسان هجم عليه؛ فهذا شجاع، أقرع رأسه مِن كثرة السُّم الذي فيه؛ فيتبعه تمثل له هذا الثعبان في الموقف ويتبعه، يركض وراء هذا صاحبه وهو الذي لم يؤدِ الزكاة, ثم يهرب منه فيتبعه، أين ما يهرب منه فيتبعه يقوله، لا، لا أتركك حتى تأتي تعالى, خذ مالك، كنزك عندي يخاطبه الثعبان؛ ثم لا يجد هذا المُعَذَّب عياذاً بالله سبيلًا إلا أنْ يقف ليتخلص منه، ويفتح له فمه؛ فيرى كنزه كما هو أي يرى دنانيره ودراهمه وأمواله التي كان يكتنزها مثل ما هي في جوف الثعبان, ثم يأتي كأنه يريد أنْ يستخلصها ليأخذها؛ فإذا وضع يده لَقَمَهُ التقمه، وأخذ بلهزمتيه أي بشدقيه، ويقول له: أنا مالك، أنا كنزك؛ فالنبي يُحَذِّرُ -صلوات الله والسلام عليه- مِن كل صاحب كنز ذهب، وفضة لا يؤدى زكاتهما، الذهب والفضة وما يقوم مقام هذا؛ فهذا كنز لا يؤدي زكاته إلا مُثِّلَ له يوم القيامة، أي تحول هذا إلى مثال هذا, شجاع أقرع يأخذ بلهزمتيه أي يأخذ بشدقي صاحبه، ويقول له : أنا مالك، أنا كنزك، يقول الله -تبارك وتعالى- مبيِّن هنا العذاب، قال : {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ}[التوبة:35], والحديث جاء تفسير لهذه الآية مطابق لها, {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ}, على الذهب والفضة, { فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا}, أي هذا الكنز, هذا الذهب الذي تُعَذَّب به الآن، والفضة التي تُعَذَّب بها, {مَا كَنَزْتُمْ لِأَنفُسِكُمْ}, في الدنيا وأنت {مَا كَنَزْتُمْ لِأَنفُسِكُمْ}, يقال له هذا الكلام استهزاء به أي استهزاء به، وسخرية منه أنه أي جمع هذا المال لينفعه في الدنيا، ومستقبل الأيام وليفعل، وليفعل؛ فانظر ماذا كانت نتيجة ذلك أنك لم تؤدِ زكاة هذا المال؛ فكانت هذه النتيجة, {فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ}, ذوقوا عذاب، العذاب بهذا الكنز الذي كنزتموه في الدنيا.
وانتهى هذا الفاصل مِن هذه السورة, ثم بيَّن الله -تبارك وتعالى- حكم آخر، وهو لما أمر الله -تبارك وتعالى- عباده بالقتال، وأنْ يقاتلوا أهل الكتاب على هذا النحو بيَّن أنَّ هناك شهور مِن أشهر السَّنَة لا يجوز تعديها فى القتال، قال -جلَّ وعَلا- : {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ}[التوبة:36], {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا}, بيَّن الله -تبارك وتعالى- الذي خَلَقَ هذه السماوات والأرض, خَلَقَ هذه الأرض, وضع القمر في مكانه وجعله في هذا المدار للحساب, {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ}[الرحمن:5], أي حساب في دورانهما، في أفلاكهما, لا يَتَعَجَّل ولا يتأخر، ولا جزء صغير جدًا مِن الثانية؛ فهذا أمرٌ دقيقٌ فعله الله -تبارك وتعالى- لنا على هذا النحو لنعرف السنين، والحساب؛ فالله -تبارك وتعالى- جعل السَّنَة هذه التقسيمات رحمة بعباده وتعليم لهم، وضبط لتواريخهم، ولأعمالهم وأحوالهم؛ فقال -جلَّ وعَلا- : {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا}, {عِنْدَ اللَّهِ}, في كتابه فيما شَرَعَ لكم، وكذلك في نظامه الكوني الذي وضعه لكم, {اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ}, أي يوم خَلَقَ الله -تبارك وتعالى- السماوات والأرض, نَظَّمَ أمورها على هذا النحو أنَّ أَمْر البشر هنا أنْ يكون هناك في فترة زمنية تُسَمَّى سَنَة هذه السَّنة ينقسم إلى اثنا عشر شهر, هذا الشهر هو عبارة عن دورة للقمر حول الأرض في هذه الدورة إذا أكمل هذه الدورة بدأ هلالًا وانتهى مَحَاقًا, ثم عندما يبدأ الهلال الثاني يكون هذا شهرٌ كاملٌ, {اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا}, يكون سَنَة, اليوم إنما هو مِن فجر اليوم إلى نهاية فجر اليوم بيومه وليلته، هذا تنظيم إلهى رباني، خَلَقَ الله -تبارك وتعالى- لنا الأرض على هذا النحو؛ فقول الله : {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ}, ثم قال -جلَّ وعَلا- : {مِنْهَا}, أي مِن هذه الأشهر, وهذه الأشهر أشهر قمرية, {أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ}, أربع شهور مِن هذه السَّنَة, {حُرُمٌ}, حرَّم الله -تبارك وتعالى- فيها على المسلمين القتال أنْ يَشْرَعُوهُ، أنْ يبدؤوه لكن إذا هُوجِمُوا فيه هذه قضية أخرى، كما سيأتي : {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ........}[البقرة:194], أما هذه في بدء القتال لا يجوز للمسلمين أنْ يبدؤوا القتال فيها, {مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ}, هذه الأربعة الحُرُم هي شهر رجب الذي يأتي ترتيبه السابع بالنسبة للأشهر، وثلاث أشهر بعد ذلك متواليات، وهي ذو القعدة، وذو الحجة، ومحرم هذه ثلاثة متواليات، وشهر منفرد وهو شهر رجب, {مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ}, قال -جلَّ وعَلا- : {ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ}, {ذَلِكَ}, المشار إليه السَّنَة اثنا عشر شهر هناك أربع شهور حرم، قال -جلَّ وعَلا- : {ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ}, القويم, المستقيم, {فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ}, نَهْىٌ مِن الله -تبارك وتعالى- أنْ يظلم المؤمنون أنفسهم فيه أي بالقتال لا تقاتلوا في هذه الأشهر الأربعة التي حرَّم الله -تبارك وتعالى- عليكم فيها القتال, ثم قال -جلَّ وعَلا- : {........وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ}[التوبة:36], {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً}, أمرٌ مِن الله -تبارك وتعالى- للمؤمنين بأنْ يقاتلوا المشركين, {كَافَّةً}, أي المشركين كلهم؛ وذلك أنَّ كل مَن ليس بمسلم فهو محارب للإسلام بالضرورة، وموالي لِمَن هو خارج دائرة الإسلام، مَن على شاكلته؛ فاليهود يوالون النصارى، والنصارى واليهود يوالون المشركين، والمجوس يوالونهم، وإنْ كانوا هم متفرقين فى أنفسهم، ومتتغايرين في الاعتقاد وفي المناهج إلا أنهم يجتمعون على أُمة الإسلام؛ فلذلك أخبر الله -تبارك وتعالى- بأنَّ هؤلاء بعضهم أولياء بعض, هم يوالوا بعضهم بعض إذن اتَّخِذُوهُم كلهم أعداء، وحَارِبُوهُم جميعًا, {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً}, أي جميعًا، كلهم, {كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً}, كما أنهم جميعًا هم يقاتلونكم؛ إذن أنتم يجب عليكم أنْ تقاتلوهم كذلك جميعًا, {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ}, هذا بشرى مِن الله -تبارك وتعالى- وتتضمن كذلك أمر، بُشْرَى؛ اعلموا أيها المؤمنين أنَّ الله -تبارك وتعالى- {مَعَ الْمُتَّقِينَ}, الخائفين لله -تبارك وتعالى- فالخائفين لله القائمين بأمر الله، الله معهم، ما قال لهم اعلموا أنَّ الله معكم مطلقًا؛ لأنه قد يأتي وقت أنهم، هؤلاء المؤمنين يتهاونوا في أمر الإيمان يفسقوا، يفجروا فلا يكون الله -تبارك وتعالى- معهم؛ فجعل الله -تبارك وتعالى- مَعِيَّتَهُ التي هي مَعِيِّة تأييد ونصر بكونهم متقين، قال : {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ}, إذن لا تخافوا؛ فهي بشرى أولًا هي ألا تخافوا لو اجتمع عليكم كل مَن بأقطار هذه الأرض مِن المشركين، وأنكم قد يقول قائل كيف نحارب كل هؤلاء الكفار؟ فالله قال له : {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ}, ثم أمر كذلك كونوا مع المتقين، كونوا بصفة التقوى حتى يكون الله -تبارك وتعالى- معكم, هل هذه الأشهر الحُرُم باقية على التحريم؛ وبالتالي فهذه الآية مُحْكَمة غير منسوخة؟ أم أنَّ هذه الآية منسوخة، وأنَّ الأشهر هذه يجوز للمسلمين أنْ يقاتلوا فيها, أنْ يبدؤوا القتال فيها في أي وقت؟ بعض أهل العلم يرى أنَّ هذه الآية مُحْكَمَة، وأنها لم تُنْسَخ، وأنَّ هذه الصيغة التي نزلت بها الآية صيغة تدل على الثبات والاستمرار، وأنَّ هذا أمر في كتاب الله, في تشريعه، وأنه يوم خَلَقَ السماوات والأرض جعل هذا؛ فهذه الصيغة التي نزلت بها الآية : {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ........}[التوبة:36], يدل على أنَّ هذا تشريعٌ دائمٌ، وليس مؤقت بوقت؛ فهو ليس أمر فقط مِن الله -تبارك وتعالى- بألا تقاتلوا في هذه الأشهر الفلانية، هذا احتمال أنْ يأتي ويقول : قاتلوا في هذه الأشهر الفلانية أنا نهيتكم عن هذا في وقت مثلًا كان العرب يعظمون هذه الأشهر، وبالتالي يلتزمون فيها، لكن الآن أبحت لكم أنْ تُقَاتِلُوا في كل الأوقات أما أنْ تكون الصيغة على هذا النحو كأن هذا نظام ثابت ثبات الشمس، وثبات القمر، وثبات الخلَقْ؛ فهذا يدل على أنَّ هذا تشريعٌ ثابتٌ، دائمٌ، صيغة نزول الآية على هذا النحو, {فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ}, هذا هو الدين القويم, {فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ}, نَهيٌ مِن الله -تبارك وتعالى- لعباده المؤمنين أنْ يظلموا أنفسهم بالقتال فيه، بعض أهل العلم يرى أنَّ هذه الآية منسوخة، وليست محكمة، والذى نسخها هو فعل النبي -صلوات الله والسلام عليه- فإن النبي شنَّ الغارة، وحارب -صلى الله عليه وسلم- في ذي القعدة، والجواب أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- إنما كلام الرأي الأول، أو القول الأول أنَّ حرب النبي في ذي القعدة إنما كان دفاعًا؛ فإذا هاجم الكفار المسلمين في هذه الأشهر الحُرُم، ولم يراعوا حرمتها؛ فإنه يجب على المسلمين أنْ يدافعوا عن أنفسهم، كما قال -تبارك وتعالى- : {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ}[البقرة:194], فإذا هم اعتدوا في الشهر الحرام فلا بأس بل يجب أنْ نرد عدوانهم، وإنْ كان في الشهر الحرام؛ لأنَّ هذا عدوان يجب أنْ يُرَدّ، ولا يكون المسلمين في الشهر الحرام قد كَبَّلُوا أيديهم عن القتال، ويقاتلهم الناس، ولا يَرُدُّونَ عن أنفسهم؛ فالصحيح -إنْ شاء الله- أنَّ هذه الأشهر الحُرُم باقية التحريم، وما التزم هذا التحريم أهل الكفر والعناد, أما إذا لم يلتزموا هذا، وهاجموا المسلمين، واستعدوا لحربهم في هذه الأشهر الحرم؛ فإنَّ المسلمين عليهم أنْ يُقَاتِلُوا.
ثم قال -جلَّ وعَلا- : {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}[التوبة:37], {إِنَّمَا النَّسِيءُ}, النسيء هو التأخير, نسأ بمعنى أَخَّر، وبمعنى قول النبي -صلوات الله عليه وسلم- : «مَن أحب أنْ يٌنْسَأَ له في أثره فليصل رحمه، ويُبَارَك له في رزقه فليصل رحمه, فينسأ له في أثره قال: يُزاد في عمره» فالنسيء الزيادة والتأخير النسئ عند العرب فسره يعنى أهل العلم بتفسيرين كانت تصنعه العرب، وهي أنَّ العرب أولًا كان أحيانًا كانت تُحَرِّم القتال في الأشهر الحرم، وهي الثلاثة التي مجتمعة ذو القعدة، ذو الحجة، المحرم ورجب, كثير مِن العرب كان لا يصبر على أنْ يمكث ثلاث أشهر بدون قتال، وكان القتال مصدر عندهم مِن مصادر الرزق يهاجم ليختطف وينهب، مَن عزَّ بزَّ، بزَّ استلب, يعنون مَن غلب استلب؛ فكانوا يُسْقِطُونَ شهر مِن الأشهر الحرم، ويؤخروه لما بعده، مثلًا إذا احتاجوا في شهر رجب أنْ يحاربوا؛ فيقوموا يؤخروا شهر رجب للذى يليه شعبان، ويجعلوا هذا الشهر الذي أخروه فيه شهر مُتَقَدِّم، هذه صورة مِن الصور تأخير شهر إلى ما بعده، وجعل هذا الشهر تتمة للشهور السابقة، وأحيانًا كانت العرب تُسْقِط شهر مِن كل ثلاث سنوات قمرية تُسْقِط شهر؛ فتجعله ساقطًا، وبالتالي حتى تجعل دورة الشهور القمرية مع دورة الفصول؛ فيبقى رمضان مثلًا رمضان هو شهر الحر مِن الرمضاء، ويبقى جمادى وجمادى هو شهور البرد، وربيع وربيع هو شهور فصل الربيع؛ فيسقطون شهر، وتبقى الدورة على هذا النحو، أسقطوا شهر تغيرت؛ فإذا أُسْقِط شهر لم يصبح له مسمى، وأسقط مِن السنة؛ ثم كان المحرم هذا شهر آخر إذن المحرم جاء محل الشهر الذي بعده جاء في محل صَفَر، وهكذا تتبدل الشهور مِن شهر إلى شهر؛ فعند ذلك إذا حاربوا مثلًا قد يُحَارِبُوا في جمادى في ظنهم أنَّ هذا شهر حلال، والحال أنه شهر رجب الذي يجب ألا يحاربوا فيه.
أدركنا الوقت لنا عودة -إنْ شاء الله- لهذه الآية في الحلقة الآتية -إنْ شاء الله-, أستغفر الله لي ولكم مِن كل ذنب، وصلى الله على عبده ورسوله محمد.