الجمعة 21 جمادى الأولى 1446 . 22 نوفمبر 2024

الحلقة (236) - سورة التوبة 37-40

الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله الأمين, سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومَن اهتدى بهداه، وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد؛ فيقول الله -تبارك وتعالى- : {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}[التوبة:37], كنا قد انتهينا في الحلقة الماضية إلى هذه الآية، وذكرنا أنَّ النسيء معناه في اللغة التأخير، وأنَّ هذا الفعل كانت تفعله العرب؛ فيتبدل معها الشهور، وهي أنها إذا احتاجت إلى الغزو لأنه كان أحيانًا يطول عندهم الغزو، وهو مصدر كثير منهم للرزق؛ فيغزوا لينتهب ويعيش مِن وراء هذه النهبة والسلب؛ فكانوا يتواطئوا على تأخير الشهر الذي لا يحل فيه القتال إلى شهرٍ آخرٍ، وهذا الشهر هذا يُقَاتِلُوا فيه، وينقلوا التحريم إلى الشهر الذي وراؤه؛ فيتم أربع شهور مِن السنة يحافظوا في زعمهم على بقاء الأربع شهور لكنه يدفع هذا مِن شهر إلى آخر، وبالتالي إذا حاربوا في شهر جعلوهم جمادى لكنه عند الله -تبارك وتعالى- في تنظيم هذه الأشهر هو رجب، ورجب شهر لا يحل فيه القتال، قال -جلَّ وعَلا- : {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ}, فهم مع كفرهم بالله -تبارك وتعالى- ومع نسبتهم الولد إلى الله، كما نسبوا الملائكة، وقالوا أنَّ الملائكة بنات الله، وعبدوا غير الله -تبارك وتعالى- بصنوف العبادات هذا كُفْر، ألوان كُفْر، وكذَّبوا بيوم القيامة، وبالبعث والنشور، فِعْلهم هذا كذلك مِن مخالفة أمر الله -تبارك وتعالى- بتبديل الشهور، وتسمية شهر بغير اسمه عند الله -تبارك وتعالى-؛ وبالتالي استحلال القتال في شهر كان لا يجوز القتال فيه؛ فهذا زيادة في الكفر، قال -جلَّ وعَلا- : {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا}, والذي يضلهم هو الشيطان هو الذي يَشْرَعُ لهم، ويعطيهم هذه التشريعات التي يفسقون بها، ويخرجون بها عن أمر الله -تبارك وتعالى- وطاعته, {يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا}, قال -جلَّ وعَلا- : {يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا}, يحلوا هذا التأخير عام, {وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا}, قال : {عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ}, ليواطئوا فيجيء المواطئة يقع أمر في محل أمر آخر؛ فيقع شهر رجب في غير محله، وهذا في غير محله فيواطئوا {عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ}, {فيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ}, في أنْ يقاتلوا في هذه الأشهر؛ فيقاتلوا فيها بسبب عبثهم في هذه الأشهر، وتأخير شهر مِن محله إلى محل آخر، قال -جلَّ وعَلا- : {زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ}, {زُيِّنَ لَهُمْ}, جُمِّلَ، حُسِّنَ في أعينهم هذا العمل السيء، هذا العمل فيه مخالفة لأمر الله، وتبديل للشهور، وهذا أصبح مُزَيَن لهم في نظرهم، وفي قلوبهم, {زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ}, قال -جلَّ وعَلا- : {........وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}[التوبة:37], أي أنَّ هذا عقوبة لهم مِن الله -تبارك وتعالى- أنْ أضلهم على معرفة الحق لأنهم كفار؛ لأنَّ الكافر المعاند لله -تبارك وتعالى- يضله الله -تبارك وتعالى- ويطمس بصيرته, {........وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}[التوبة:37].

 ثم شرع الله -تبارك وتعالى- في فاصل جديد يحث عباده المؤمنين على القتال، ويأمرهم به، ويُحَرِّمُهُم عليه -سبحانه وتعالى- فقال -جلَّ وعَلا- : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ}[التوبة:38], {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}, نداءٌ مِن الرَّب الإله -سبحانه وتعالى- لعباده المؤمنين, يناديهم الله واصفًا إياهم بهذا الوصف العظيم : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}, أشرف وأعلى الأسماء الإيمان, {مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ}, أي ماذا دهاكم؟ لما تفعلون هذا؟ ما الذي يحملكم أنْ تصنعوا هذا الصنيع؟ وهذا فيه نوع مِن الوعظ، والزجر كما ترى مُقَصِّرًا قصر في أمر تقول له : ما لك قصرت في الأمر، لما لم تفعل هذا؟ {مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ}, النفر هو الخروج في سبيل الله أي القيام والاستعداد، والعمل للخروج في سبيل الله، والنفير هو الجيش النافر، الخارج للقتال، كل مَن خرج إلى القتال هذا النفير، كما قال أبو سفيان لغيره : (لا في العير، ولا في النفير), العير هي القافلة السائرة هذه ما يجب أنْ تقاتل، والنفير هو الجيش المستنفر، والذي قيل له : قم لتحارب, {مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ}, هنا, {قِيلَ}, بالبناء لما لم يُسمَّ فاعله, الآمر الله -تبارك وتعالى- ومَن يأمر بأمر الله -تبارك وتعالى- كرسوله -صلوات الله عليه وسلم- أو الأمير رسول الله إذا قال لك: قم إلى القتال؛ فقال الله -تبارك وتعالى- : {قِيلَ}, ما قال قال الله حتى يكون هذا لكل مَن استنفركم للقتال، كما قال النبي: « إذا اسْتُنْفِرتُم فانفروا» إذا اسْتُنْفِرِتُم بالبناء للمجهول، استنفركم مَن, أي أمير يستنفركم للقتال؛ فانفروا، وكان مِن معتقد أهل السُّنة هو الجهاد مع كل بَرٍ وفاجر ليس بالضرورة أنْ يكون المستنفر للقتال أنْ يكون مِن أهل العدل والصلاح الدائم؛ فلو كان فاجرًا، واستنفر المؤمنين للقتال يقاتلوا في قتال مشروع فيجب عليهم أنْ يقوموا, {مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ}, هذا ليس للأكل للمغنم للغزو، للفخر في سبيل الله أنْ يكون الذي استنفركم للقتال إنما هو في سبيل الله، وهذا يشمل كل أنواع القتال المشروع، كل أنواع القتال الذي شرعه الله -تبارك وتعالى- سواءً دفاع عن النفس، أو طلب للعدو في أرضه لدعوته إلى الإسلام، وإدخاله فيه، كالآيات السابقة : {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}[التوبة:29], فهذا قتال طلب، فسواءً كان قتال دفع للمسلمين عن أنفسهم، أو قتال طلب، أو قتال استنقاذ للمسلمين, {وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا}[النساء:75], فهذا كذلك قتال في سبيل الله فأي قتال اسْتُنْفِرتُم له للقتال في سبيل الله، الله يقول : {مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ}, أصل, {اثَّاقَلْتُمْ}, تثاقلتم حُذِفتَ التاء الأولى ثم أدغمت الثاء في التاء فقال : {اثَّاقَلْتُمْ}, تثاقلتم، {اثَّاقَلْتُمْ}, وأوتي بالهمزة حتى يسهل النطق بها؛ لأنَّه لا يمكن البدء في النطق بالساكن, {اثَّاقَلْتُمْ}, تثاقلتم والتثاقل هو أنْ يكون الإنسان ثقيل، ويجعل نفسه ثقيل بمعنى أنه يتعاجز ويتكاسل ويرتمي إلى الأرض، ويحب القرار فيها، ويكره النفرة في سبيل الله, {مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ}, {أَ}, الهمزة الاستفهام وهذا السؤال, {أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ}, للإنكار, للتوبيخ أي هل رضيت أنْ تفوز بالدنيا فقط, واستغنيت عن الآخرة؟ وهذا لا شك أنه عند أي ذي عقل صفقةٌ خاسرة كل الخسران, {أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا}, وهي حياة قليلة وصغيرة ودنيئة، ولا تقاس بالآخرة، هل رضيت يا أيها المؤمن الذي تَعْلَم ما عند الله -تبارك وتعالى- مِن الفوز والنعيم، والجنات رضيت بأنْ تعيش هذه الحياة الدنيئة، وتستغني عن الحياة الحقيقية والجنة والرضوان, {أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ}, ثم قال -جلَّ وعَلا- : {........فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ}[التوبة:38], ما {مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}, وسَمَّى الله-تبارك وتعالى- الحياة الدنيا متاع؛ وذلك أنها فترةٌ قليلةٌ يستمتع بها الإنسان، والاستمتاع هو إرضاء شهوة، وسد حاجة؛ فيستمتع بها؛ فهي متاعٌ ومتاعٌ قليل, {فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ}, إذا قيست بالآخرة, {إِلَّا قَلِيلٌ}, زمنًا وحجمًا وموضوعًا, لا مقارنة بين المتاع الذي يكون في الدنيا، وبين النعيم المقيم الذي جعله الله -تبارك وتعالى- لأهل الإيمان في الآخرة؛ فجاءت هذه الآية الأولى أولًا بالحض، وبيان أنَّ هذا الذي يفعل هذا خاسر، أنَّ هذا خسران الذي يترك الجهاد، ويريد فقط البقاء في الدنيا، ويقعد عن الجنات والنعيم، والرضوان والآخرة.

 ثم جاء بعد ذلك تهديد، قال -جلَّ وعَلا- : {إِلَّا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[التوبة:39], {إِلَّا تَنفِرُوا}, أي إنْ لم تنفروا، وهذا تهديد إنْ لم تفعلوا هذا, شرطية, {يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}, إذن أنت أمام أمر إلهى لا بد أنْ تقوم بهذا الأمر، وهو أمرٌ مفروض، وأمر حتم، جَزْم، وإذا لم تقم به؛ فانتظر العذاب, {إِلَّا تَنفِرُوا}, أي في سبيل الله, {يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}, وهذا وعيدٌ مِن الله -تبارك وتعالى- بالعذاب الأليم في الآخرة عذاب أليم أي مؤلم، ولا ألم ولا عذاب مثل عذاب الآخرة عياذاً بالله, ثم قال -جلَّ وعَلا- : {وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ}, يستبدل، وهو أنْ يتخلى الله -تبارك وتعالى- عنكم، ويقيم أقوام آخرين، قوم آخرين يقوموا مقامكم في القيام بأمر الله -تبارك وتعالى- والجهاد في سبيله, {وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئًا}, أي لن تضروا الله -تبارك وتعالى- شيئًا فقعودكم عن نصرة دين الله -تبارك وتعالى- الضرر واقع عليكم أنتم، ولا يقع على الله -تبارك وتعالى- ضرر؛ فإنَّ الله -تبارك وتعالى- قادر ٌعلى أنْ ينصر دينه بِمَن يشاء مِن عباده -سبحانه وتعالى- والأمر كله ملكه، الكون ملكه -سبحانه وتعالى-, وهو المتصرف في عباده بما يشاء -سبحانه وتعالى- فقعودك لا يضر الله -تبارك وتعالى-, {........وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[التوبة:39], {وَاللَّهُ}, -سبحانه وتعالى-, {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}, مِن ذلك أنْ يستبدل أقوام يقوموا بنصرة دينه، ويتخلى الله -تبارك وتعالى- عنكم.

 ثم قال -جلَّ وعَلا- : {إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}[التوبة:40], {إِلَّا تَنصُرُوهُ}, إنْ لم تنصروه أي النبي -صلوات الله وسلامه عليه- الذي يدعوكم إلى الجهاد والقتال, {فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ}, فإنَّ الله -تبارك وتعالى- وحده قد نصر نبيه -صلى الله عليه وسلم-, واذكروا هذا, {إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ}, اذكروا, {إِذْ أَخْرَجَهُ}, أخرج الكفار نبي الله -تبارك وتعالى-, {ثَانِيَ اثْنَيْنِ}, ليس إلا معه رجل آخر فقط هو وأبوبكر الصديق -رضى الله تعالى عنه-, {ثَانِيَ اثْنَيْنِ}, أي اثنين النبي واحد منهم -صلوات الله والسلام عليه-, {إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ}, النبي وصاحبه أبوبكر الصديق -رضى الله تعالى عنه-, {فِي الْغَارِ}, والغار هو الشق يكون في الجبل، وهذا الغار الذي كان فيه النبي -صلى الله عليه وسلم- هو غار ثور، والذي لجأ إليه النبي -صلوات الله وسلم- عندما أراد الهجرة حتى يسكن الطلب، وقصة ذلك معروفة في السيرة خلاصتها أنه لما اشتد أذى الكفار على المسلمين في مكة؛ فإنَّ النبى أَذِنَ لهم أنْ يهاجروا، ولما جاء الأنصار؛ فأسلموا بالنبي -صلى الله عليه وسلم- في أول بيعة وهي البيعة الأولى, أسلم عدد قليل مِن الأنصار؛ ثم لما ذهبوا، ودعوا إلى الإسلام فَشَى الإسلام في الأنصار؛ ثم طلب الأنصار مِن النبي -صلوات الله عليه وسلم- أنْ يُرْسِلَ لهم مِن يعلمهم الدين؛ فأرسل النبي -صلى الله عليه وسلم- لهم مصعب بن عمير، وطاف مصعب بن عمير في بيوت ودور الأنصار؛ فانتشر الإسلام وكثر، وفي السنة التي بعدها أتى النبي نحو بضع وثمانين مِن رجال الأنصار بايعوا النبي -صلى الله عليه وسلم- على الإسلام أعلنوا إسلامهم, ثم النبى -صلى الله وسلم- عرض عليهم النصرة إنْ أتاهم، وهاجر إليهم أنْ يقفوا معه، وأنْ يؤيدوه؛ فقبلوا هذا، وبايعوه وهى بيعة العقبة الثانية، وكانت بيعة على النصرة، وأنهم قالوا يا رسول الله نقف معك، نقاتل معك ونحميك مما نحمي منه أنفسنا وذرارينا, ما لنا؟ فقال : الجنة لكم الجنة بهذا هذه البيعة وهى البيعة الثانية بيعة العقبة الثانية لما فَشَي الإسلام في الأنصار النبي وجه المؤمنين مِن مكة، وهم تحت التعذيب والأذى أنْ يهاجروا إلى المدينة؛ فهاجر إلى المدينة أعداد مِن المسلمين، خشيت قريش وعظم الأمر عندها، وبدأت تفكر في أمرٍ آخر، وهو أنها كيف تستأصل الإسلام قبل أنْ يفشوا في العرب ويتمكن، وقالوا : إنَّ المسلمين أصبحوا الأن في المدينة في مَنَعَة فاجتمعوا في دار الندوة، وهي كانت دار لعبد الله بن جدعان كانت قريبة مِن الكعبة هي منتداهم الذي يجتمعون فيه، اجتماع مغلق بينهم، وحضر فى هذا الاجتماع إبليس جاءهم فى صورة رجل نَجْدِي، قال لهم: رأيتكم قد اجتمعتم لتتشاوروا في أمر هذا الرجل لن تعدموا مِنِّي رأيًا؛ ثم قال بعضهم: نُثْبِتُ النبي، نحبس النبي في مكة فلا نجعل أحدًا يأتيه، ولا هو يأتي أحدًا، قال : ليس هذا برأي؛ ثم قالوا : نخرجه مِن عندنا مِن مكة، وليذهب حيثما شاء، وتخلوا أرضنا منه؛ فقال : هذا ليس برأي يذهب ويلتف حوله العرب؛ ثم يأتيكم فيغزوكم، وقال أبو جهل، قال : أرى أنْ نأتي مِن قبائل العرب بشاب جلد، قوي نعطيه سيفًا سلطًا فيضربوا النبي ضربة رجل واحد، وعند ذلك لا يستطيع بنو عبد مناف أنْ يطالبوا بدمه؛ فقال: هذا هو الرأي؛ فقرَّ قرارهم على قتل النبي -صلوات الله عليه وسلم- بهذه الصورة التي يتفرق فيها دمه في القبائل، ولا يستطيع بنو عبد مناف أنْ يُقَاتِلُوا ويقفوا أمام قريش، ومَن اشترك في قتل النبي مِن العرب، عند ذلك أمر الله -تبارك وتعالى- نبيه بالهجرة، أَذِنَ الله لنبيه بالهجرة, ذهب النبي لأبي بكر كان في وقت الظهيرة, ما كان النبي يأتيه في هذا الوقت، وقال له : أُذِنَ لي في الهجرة؛ فقال : الصحبة يا رسول الله, أي أصحبك؟ قال: نعم، قال له: أنا اشتريت ناقتين؛ فخذ إحداهما؛ فقال له النبي : بالثمن، وهي ناقته القصواء التي اشْتُهِرَت مِن نياق النبى -صلوات الله وسلامه عليه-, ثم إنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- خرج في الليلة التي كانوا قد دبَّروا فيها مقتله -صلوات الله عليه وسلم- وهم على بابه -صلى الله عليه وسلم- أمر على بن أبى طالب أنْ ينام في مضجعه؛ ليتوهم الكفار عندما كانوا ينظرون مِن صير الباب أنَّ هذا هو محمد ما زال نائم؛ فقالوا : إذا قام وخرج مِن نومه ضربناه، خرج النبي -صلى الله عليه وسلم-, طمس الله -تبارك وتعالى- على أعينهم، وأخذ النبي بعض الحصى والتراب وضع على رأس كل واحد منهم، وهو خارج -صلوات الله والسلام عليه-, ثم جاءهم مَن يقول لهم رآهم في هذه الحال؛ فقال: خيبكم الله, أي خرج محمد، دخلوا فوجدوا على بن أبى طالب، قالوا له: أين محمد؟ فقال: لا علم لي به، كان النبي قد رتَّب -صلوات الله والسلام عليه- أمر هجرته مِن ذلك إنه يمكث في هذا الغار هو غار ثَوْر, غار بعيد مهجور في مكة ثلاثة أيام حتى يخف عنه الطلب أنه يعلم بمجرد أنْ يختفى النبي ستقوم قريش بكل منزعجة، وتبحث عنه في كل مكان حتى ثلاث أيام يكونوا قد هدؤا عند ذلك أي يرتحل هو، وأبو بكر -رضى الله تعالى عنه- إلى المدينة، أقول النبي رتب هذه الأمور كلها بالأسباب التي في مُكْنَتِهِ، في استطاعته -صلوات الله والسلام عليه-, المكوث هنا في هذه الغار، مَن يأتيهم بالطعام، مِن يأتيهم بالأخبار، كان عبد الرحمن بن أبى بكر يأتيهم بالطعام، أسماء بنت الصديق -رضى الله تعالى عنها-، الذي يأتى فَيُعَفِّى الآثار عامر بن فُهَيْرَة، الرسول استأجر رجلًا خِرِّيتًا مِن بني الديل، وهو رجل مشرك ليدلهم بعد ذلك على الطريق، ليخرج مِن طريق غير الطريق الآخر، رتَّبَ النبي -صلى الله عليه وسلم- الأسباب البشرية التي في قدرته -صلوات الله عليه وسلم- ليخرج سالمًا مِن بين أظهرهم، وقد كان, حماه الله -تبارك وتعالى-, وأيده الله -تبارك وتعالى-, الله نصر نبيه -صلوات الله والسلام عليه- إذ أخرجه مِن بين أظهر الكفار المتحفزين، المتوثبين, الحانقين عليه, الذين يريدون قتله بأي سبيل، وقد جعلوا لهذا مائة مِن الإبل لِمَن يأتيهم برأس النبي ورأس أبي بكر, يأتيهم به حيًا أو ميتًا؛ فهؤلاء المتغيظون الذين أعدوا عدتهم، واستنفروا رجالهم ونسائهم في هذا الأمر، الله -تبارك وتعالى- أخزاهم نصر نبيه، وهو أي وحده، وليس معه مِن أهل الأرض في هذا المقام إلا رجل واحد مِن هؤلاء المؤمنين جميعًا، هذا نصر وهو أنَّ ما أراده الكفار مِن النبي لم يتحقق، وما أراده الله -تبارك وتعالى- مِن نبيه أن يخرجه سالمًا مِن بين أظهرهم لما إدخر الله -تبارك وتعالى- له بعد ذلك مِن العز والتمكين والنصر بعد ذلك قد كان؛ فإرادة الله -تبارك وتعالى- هى التي نفذت، وما خطط له الكفار، وما أرادوه، وما استعدوا له، وما سعوا فيه لم يتحقق لهم مرادهم، ورجعوا بالخيبة والعار؛ فالله -تبارك وتعالى- يقول : {إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ}, هذا النصر, حقق الله -تبارك وتعالى- إرادته فيه ونجَّاه, {إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا}, وقال الله -تبارك وتعالى- : {إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا}, لأنَّ النبي خرج بإرادته، ولكن بإخراج هذا الكفار لأنه إنْ لم يخرج قُتِلَ، إنْ لم يخرج كان مطلوبًا دمه -صلوات الله والسلام عليه-, {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا}, دخل أبوبكر إلى الغار فَنَظَّفَهُ ورتَّبه، وسدَّ ما قد يكون فيه مِن بعض الحفر والغيران التي يدخل فيها ثعبان ونحو ذلك, ثم إنَّ أبوبكر وكان هو والنبي -صلى الله عليه وسلم- في الغار، وكثر الطلب، وبدأ الكفار ينبشون ويقلبون كل حجر مِن أحجار مكة يظنون أنْ يكون النبي مختبئًا تحته -صلوات الله وسلامه عليه-, ووصلوا إلى هذا الغار، ومنه رأى أبوبكر أرجلهم فوقه؛ فقال للنبي -صلى الله عليه وسلم- يا رسول الله لو أنَّ أحدهم نظر تحت قدميه لرآنا، لو ينظر تحت قدميه في هذا الغار يرانا؛ فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم- : (يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما), ماذا تظن باثنين لكن الله -تبارك وتعالى- معهما -سبحانه وتعالى-, فقال -جلَّ وعَلا- : {إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ}, أبوبكر الصديق -رضى الله تعالى عنه-, {لا تَحْزَنْ}, وكان حُزْن أبوبكر الصديق, خوفه أنْ يتمكن هؤلاء الكفار مِن النبي -صلى الله عليه وسلم- فينتهي الإسلام، وتنتهي الدعوة؛ فحزن قال له : {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا}, فهذه الله لا بد أنْ ينفذ أمره -سبحانه وتعالى- الله غالب على أمره, {إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا}, وقال له : (ما ظنك باثنين الله ثالثهما), إذا كان الله معنا لا يمكن أنْ تَنْفُذ إرادة إلا إرادته -سبحانه وتعالى-, قال -جلَّ وعَلا- : {فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ}, أنزل الله -تبارك وتعالى-, {سَكِينَتَهُ}, على رسوله والسكينة هي السكون، وهدوء القلب، واطمئنانه إلى وعد الله -تبارك وتعالى-, وعدم إضطرابه لأنَّ قلب الخائف مضطرب، والنبي -صلى الله عليه وسلم- رابط الجأش، ثابت القلب بهذه السكينة التي أنزلها الله -تبارك وتعالى- في قلبه, {وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا}, قواه, {بِجُنُودٍ}, مِن الملائكة, {لَمْ تَرَوْهَا}, أنتم أيها المؤمنون، قال -جلَّ وعَلا- : {وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى}, كلمة الذين كفروا السفلى، وهي سنقتله وسنفعل وسنفعل جعلها الله -تبارك وتعالى- السفلى, ثم قال -جلَّ وعَلا- : {وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا}, كلمة الله هنا المستأنفة هنا، مطلقًا ليس جعل كلمة الله، لا, {وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا}, مطلقًا، دائمًا كلمة الله أي إرادته وأمره لا بد أنْ تكون هي العليا ما يستطيع أحد أنْ يُنْفِذَ أمره، وكلمته على كلمة الله -تبارك وتعالى- حاش وكلا, {وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا}, أي دائمًا, {وَاللَّهُ عَزِيزٌ}, غالب لا يغلبه أحد, {حَكِيمٌ}, يضع الأمور في نصابها، ومِن حكمته -سبحانه وتعالى- أنْ رتَّب لرسوله هذا الأمر على هذا النحو, وينصره نصره الله -تبارك وتعالى- بهذه الأسباب البشرية التى يعنى جعلها فى مكنته، ونصر الله -تبارك وتعالى- الأسباب الأخرى التي هي فوق هذه الأسباب هذه عنده -سبحانه وتعالى- كان يُنْزِل جنود لم يرها، كان يُعْمِي أبصار الكفار، لكن في النظر يرى الناس أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- اتخذ الأسباب البشرية التي في مقدوره ومُكْنَتِهِ -صلوات الله والسلام عليه-, {وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى}, قال -جلَّ وعَلا- : {........ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}[التوبة:40], {عَزِيزٌ}, غالب لا يغلبه أحد, {حَكِيمٌ}, يضع الأمور كلها في نصابها, ثم قال الله بعد ذلك : {انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا}.

 نقف هنا -إنْ شاء الله-، ونكمل فى الحلقة الآتية -إنْ شاء الله-, أستغفر الله لي ولكم مِن كل ذنب، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد.