لحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله الأمين, سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومَن اهتدى بهداه، وعَمِلَ بسنته إلى يوم الدين.
يقول الله -تبارك وتعالى-: {انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}[التوبة:41], {لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}[التوبة:42], {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ}[التوبة:43], الآيات مِن سورة براءة، التوبة، والسياق هنا هو في حَثِّ الله -تبارك وتعالى- عباده المؤمنين على الجهاد في سبيل الله؛ فيقول -جلَّ وعَلا- : {انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا}, النَّفْر هو الخروج للغزو والجهاد، والنفير هو الجيش الذي يُسْتَنْفَر أي يُدْعَى ليخرج في سبيل الله, {خِفَافًا}, الخفيف, الإنسان الذي يكون خفيف في الغزو هو الصحيح، السليم، الذي عنده المال، الفراغ فهو ليس هناك شيء يُثْقِلُهُ عن الخروج، وأما {ثِقَالًا}, جمع ثقيل، والثقيل المريض؛ فإنه إذا كان مريضًا يكون ثقيل، وحركته ضعيفة، أو فقير ليس عنده ما يحمله، وليس عنده ما يلقيه عند أهله، أو عليه مشاغل كثيرة؛ فتثقله وتقعده أولاد، أسرة, أحوال مِن الأعمال التي لم تكتمل, بناء لم يكتمل، عمل؛ فيكون مُثْقَل بالمشاغل يستنهض الله -تبارك وتعالى- همم المؤمنين أنْ يخرجوا للقتال في سبيله على كل أحوالهم, {انفِرُوا خِفَافًا}, حال كونكم خفافًا، مستعدين، أصحاء، أقوياء ذووا فراغ, {وَثِقَالًا}, حتى لو كان أحدكم يُثقِلُهُ ما يُثْقِلُهُ مِن هذه الأمور فانفروا فيها، ولا شك أنَّ هذا الأمر إنما هو للندب أنْ ينفر الإنسان للغزو وهو ثقيل؛ فإنَّ الله -تبارك وتعالى- قد عَذَرَ مَن له أمر يُتْعِبُهُ، ويُثْقِلُهُ، كما قال -تبارك وتعالى- : {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ........}[النور:61], فَعَذَرَ الله -تبارك وتعالى- في القتال الأعمى ألَّا يخرج، المريض، الأعرج، ومع دعوة الله -تبارك وتعالى- للجهاد على هذا النحو خرج مع المسلمين عميان معهم، وكان بعضهم يخرج ويقول أخدم، أعمل أي شيء؛ فكان بعضهم يشتغل بعض الأعمال بيده، وخرج بعضهم، وهو أعرج، وخرج بعضهم، وهو مريض؛ فالآية إنما هي حَثٌّ مِن الله -تبارك وتعالى- لأهل الإيمان أنْ يخرجوا للغزو على كل أحوالهم, {انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}, أمرٌ منه -سبحانه وتعالى- بالجهاد, بَذْلِ الجهد بالمال والنَّفْس, قدَّم المال لأنه الأعم, والنَّفس لأنه الأخص, يمكن أنْ يقاتل الإنسان بماله، ولا يكون قادرًا على أنْ يقاتل بِنَفْسِهِ بكل أمر مستطاع, {وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}, {سَبِيلِ اللَّهِ}, الجهاد سبيل الله، القتال سبيل الله -تبارك وتعالى- وسُمِّىَ سبيله؛ لأنه هو الطريق المُوصِّلُ إلى مرضاته -سبحانه وتعالى-, والطريق الموصل إلى رفعة الإسلام، وقوة المسلمين، وقد شرع لهذه الغايات الشريفة، العظيمة منها الدفع عن المسلمين، طلب الكفار لنشر الإسلام, {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ........}[الأنفال:39], أنْ يكون خضوع الجميع للرب الإله -سبحانه وتعالى-؛ فهو الذي أخرج هذه الأُّمَّة لتُقَاتِلَ في سبيل الله، لتكون كلمة الله هي العليا على الأرض كلها، قال -جلَّ وعَلا- : {........ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}[التوبة:41], {ذَلِكُمْ}, المشار إليه هنا أمر الله -تبارك وتعالى- لأهل الإيمان بأنْ ينفروا في سبيله, {خِفَافًا وَثِقَالًا}, قال : {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ}, أخير، وهذا فِعْلُ التفضيل خير وشر العرب تقول خير وشر أي يُفَضِّلُونَ هذا خير مِن هذا، وهذا شر مِن هذا، ولا يقولون أخير وأشر, {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ}, أخير لكم، وأفضل لكم مِن القعود عن سبيل الله، أو الضن والشح عن إنفاق المال في سبيل الله, {إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}, كنتم مِن أهل العِلْم ما يحثكم الله -تبارك وتعالى- عليه فهو خير لكم أنْ تبذلوا أموالكم وأنفسكم في سبيل الله، وأنْ تخرجوا للجهاد على كل أحوالكم.
ثم شَرَعَ الله -تبارك وتعالى- يُبَيِّن أحوال أهل النفاق والمتكاسلين عن الغزو؛ فقال -جلَّ وعَلا- : {لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}[التوبة:42], قلنا إنَّ هذه السورة قد نزلت في شأن غزوة تبوك، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- قد ندب المسلمين إلى أنْ يخرجوا لقتال الروم، وذلك بعد أنْ عَلِمَ أنَّ الروم تَجْمَعُ له للقتال، وتَجْمَعُ له مِن الروم، وتَجْمَعُ له مِن العرب الموالين لهم؛ فندب النبي -صلى الله عليه وسلم- المسلمين إلى أنْ يخرجوا لملاقاتهم، غزوة بعيدة في بلاد الشام, حدود الروم وسلطانهم كان إلى بلاد الشام، ومنطقة الأردن, وشمال الجزيرة كان فيها العرب الموالين لهم مِن الغساسنة، وكانوا قد تَنَصَّرُوا مابين المدينة، وذلك المكان نحو سبعمائة كيلو متر عن البداية، ولما نَدَبَ النبي -صلى الله عليه وسلم- الخروج للقتال كان الوقت حارًا شديدًا؛ فعند ذلك المنافقون وضعاف الإيمان, المنافقين أظهروا نفاقهم، وضعاف الإيمان ظَهَرَ منهم التخاذل؛ فقال -جلَّ وعَلا- في هؤلاء : {لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاتَّبَعُوكَ}, {لَوْ كَانَ عَرَضًا}, أي مِن أعراض الدنيا، غنيمة قريبة ممكن أنْ يذهبوا إليها خمسين كيلو مرحلة، مرحلتين؛ ثم يُقَاتِلُونَ ويغنمون ويَرْجِعُونَ عند ذلك كانوا نشطوا للخروج, {وَسَفَرًا قَاصِدًا}, القاصد أي المعتدل, أما هذا سفر طويل مشقة طويلة، بعيدة؛ فالقصد هو الاعتدال أي سفر قاصد مرحلتين، ثلاث مراحل, أما أنْ يضربوا هذا السفر الطويل، وإلى بلاد الشام، وإلى هذا العدو العظيم، الكبير العدد؛ فهذا أمر مهول؛ فلذلك هذا أقعدهم، قال -جلَّ وعَلا- : {لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاتَّبَعُوكَ}, أي خرجوا معك، اتبعوك في خروجك للقتال, {وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ}, {الشُّقَّةُ}, هذا الأمر الشاق البعيد، والسفر الطويل، وفي هذا الحر الشديد، قال -جلَّ وعَلا- {وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ}, يُخْبِرُ الله -تبارك وتعالى- عبده ورسوله محمد بما سيقول هؤلاء الذين تخلفوا عن الخروج معه، وعن نصرته -صلى الله عليه وسلم- بالذي سيقولونه عندما يرجع النبي -صلى الله عليه وسلم-, {وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا}, أي نخرج, يقول : يُقْسِمُ أحدهم بالله أنه لو استطعنا يا رسول الله أنْ نخرج لخرجنا معكم، قال -جلَّ وعَلا- : {يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ}, لأنَّ هذا كذب، والله -سبحانه وتعالى- مُطَّلِعٌ على حقيقة أمرهم، قال : {يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ}, أي بالاعتذار الكاذب للنبي -صلوات الله والسلام عليه-, ويظنون أنَّ هذا نافعهم؛ ثم إنْ رأيت أيضًا بالقعود عن نصرة النبي الحق -صلوات الله والسلام عليه-, قال -جلَّ وعَلا- : {........وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}[التوبة:42], يهلكون أنفسهم بِحَلِفِهِم الكاذب, {........وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}[التوبة:42], لأنَّ هذا أمرٌ لا يخفى على الرَّب الإله -سبحانه وتعالى- فإنْ كانوا يظنون إنَّ هذا ممكن أنْ يخفى على النبي -صلى الله عليه وسلم- والمؤمنين؛ فإنه لا يخفى على الله -تبارك وتعالى-, {........وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}[التوبة:42].
ثم قال -جلَّ وعَلا- لرسوله -صلى الله عليه وسلم- : {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ}[التوبة:43], قَدَّمَ الله -تبارك وتعالى- هنا العفو على العتاب للنبي -صلى الله عليه وسلم-, هذه آية مِن آيات العتاب يعاتب الله -تبارك وتعالى- فيها نبيه -صلوات الله والسلام عليه- على أمر اتخذه، وهو خلاف الأَوْلَى كان الأَوْلَى خلافه، وليس أمرًا معصية ولا مخالفة، ولكن خلاف الأَوْلَى، وذلك أنه لما جاؤه هؤلاء، وهو يستعد للغزو -صلوات الله وسلامه عليه- واستأذنوه، وقالوا له يا رسول الله لا نستطيع أنْ نخرج، وأبدوا مِن الأعذار ما أبدوا؛ فإنَّ النبي قبل عذرهم، وسَمَحَ لهم في البقاء؛ فهنا قال له الله -تبارك وتعالى- : {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ}, فَقَدَّمَ عفوه -سبحانه وتعالى- لرسوله -صلوات الله عليه وسلم- قبل العتاب، قبل أنْ يعاتبه لأنه لو عاتبه قبل أنْ يأتى العفو لكان هذا شاقًا عليه -صلوات الله والسلام عليه-, وهذا مِن تكريم الرب -تبارك وتعالى- وإنعامه ورحمته لرسوله -صلوات الله عليه وسلم-, القائم بالأمر الذي اجتهد فيه، وكان هذا الاجتهاد خلاف الأَوْلَى؛ فقال له الله : {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ}, ثم قال الله -عزَّ وجلَّ- : {........حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ}[التوبة:43], أي لو أخذتهم بالشدة، ولم تأذن لأحدٍ منهم، وقلت إنَّ الأمر جد، ولا آذن لكم، ولا بد أنْ تخرجوا عند ذلك يَتَبَيَّن لك, {الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ}, فإنَّ صاحب العذر الحقيقي سيبدي عذره الحقيقى، وسيظهر لك عذره الحقيقى؛ فتعذره، تعرف أنَّ عنده عذر؛ فتتركه، وكذلك المُدَّعِي الذي ليس عنده عذر؛ فإنه يَتَبَيَّن ويَظْهَرُ لك، وأنه عندما يتأخر بعد ذلك يتأخر ولم يأذن له النبي -صلى الله عليه وسلم-, فكان الأَوْلَى استئصالهم وعدم إعذارهم إلا بأنْ يُقَدِّمَ أحدهم عذرًا حقيقيًا؛ فيعرف النبي منه هذا العذر؛ فعند ذلك يأذن له كما أَذِنَ لبعض مَن تخلف لشأن حقيقي مِن الشئون في هذه الغزوة، قال له الله : {........حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ}[التوبة:43], أي لا تأذن إلا بأنْ يُقَدِّمَ الشخص الدليل الحقيقي أنه بالفعل هو معذور، ولا يستطيع أنْ يخرج معك للقتال.
ثم قال له الله -تبارك وتعالى- : {لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ}[التوبة:44], المؤمن الذى يؤمن بالله، واليوم الآخر لا يمكن أنْ يُقَدِّمَ عذرًا ليتأخر عن هذا، بل هذا هو منيته الجهاد في سبيل الله إنما هي منيته واشتياقه، وبالتالي إذا حضر الغزو حضرت حياته، وحضرت أمنيته، وحضرت طِلْبَتُهُ؛ فيخرج فرحًا، مسرورًا، ولا يعتذر أنْ يخرج ليقاتل في سبيل الله، قال -جلَّ وعَلا- : {لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ}[التوبة:44], هذا أمر ما يحتاج هنا أنْ يستأذن منه كيف يعلم إنَّ هذه غزوة، وخروج في سبيل الله المؤمن لا، المؤمن الذى يؤمن بالله واليوم الآخر يشتاق إلى هذا، ويفرح بهذا، ويتمنى هذا؛ لأنه يريد رضوان الله -تبارك وتعالى-, يريد الشهادة والفوز بهذا الأجر العظيم الذي جعله الله -تبارك وتعالى- في الجهاد؛ فقال -جلَّ وعَلا- : {لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ}, فالمؤمن بالله واليوم الآخر, يوم القيامة هذا يوم الجزاء، الذي سيعطى فيه العبد المؤمن جائزته, {........أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ}[التوبة:44], الله, {عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ}, يَعْلَمُ قلوبهم ويَعْلَمُ نفوسهم ونِيَّاتِهِم، وأنهم يحبون أنْ يجاهدوا في سبيل الله، ولذلك لا يمكن أنْ يُقَدِّمَ عذرًا ليبقى ولا يخرج في الجهاد.
ثم قال -جلَّ وعَلا- : {إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ}[التوبة:45], مَن الذي يستأذنك ليقعد، وهو صحيح معافى؟ {إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ}, لأنهم لا يؤمنون بالله، ولا يؤمنون باليوم الآخر, {وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ}, هم في ريب، الريب هو الشك, تشك قلوبهم، ونسب الشك إلى القلب؛ لأنَّ هذا ليس مجرد خاطرة، لا، هذا أمر قد تمكن في قلبه, {........وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ}[التوبة:45] ارتابت قلوبهم أنَّ هل هذا الإسلام سينتصر؟ هل يمكن أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- يخرج ليقاتل الروم، وينتصر عليهم؟ وهب أنه انتصر في قتاله مع العرب، العرب قومنا، ونحن نعرف طرائق حربهم، لكن مع الروم أكثر عددًا وقوة ودولة؛ فهذا أمر بعيد، ولذلك رأى كثيرٌ مِن المنافقين أنَّ خروج النبي لقتال الروم أمرٌ عظيم، وفيه شك، وأنهم إنْ خرجوا لن يعودوا, هي خَرْجَةٌ بلا عودة؛ فقال -جلَّ وعَلا- : {وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ}, في نصر الله -تبارك وتعالى- لرسوله, {فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ}, يظلون مع النبي، وأهل الإسلام، يعلنون المفاصلة والخروج؛ فهو مترددٌ بين هذا, المتردد هو الشاك الذي يذهب يُرَجِّحُ هذا مرة، و يُرَجِّحُ الأمر الآخر مرة ثانية.
ثم قال -جلَّ وعَلا- في فضح، وبيان هؤلاء المنافقين، المتخاذلين، الذين لم يخرجوا مع النبي-صلوات الله عليه وسلم- مع استنذاره لهم، وأمره -صلى الله عليه وسلم- أنْ يخرجوا إلى هذه الغزوة، وأنَّ هذا سفر طويل، وعدو يحتاج إلى استعداد، والنبي قال لهم هذا قبل شهر مِن الغزوة، وهذا خالف عادة النبي -صلى الله عليه وسلم- في الجهاد؛ فإنَّ النبي إذا كان أراد غزوة يُوَرِّي بغيرها؛ فيسأل مثلًا عن الطرق في مكان يكون هو بعيد عن الطريق الذي يريد أنْ يصل إليه حتى إذا كان هناك مِن العيون مَن يتصنت ويتسمع لا يعرف مقصد النبي -صلوات الله وسلم-, ثم يفاجئ جيشه بالوجهة التى هو خارجٌ لها إلا هذه الغزوة؛ فإنَّ النبي قد أخبر المسلمين بالعدو الذي يريد أنْ يخرج إليه، وعرفوا أنه ذاهب إلى الروم، وأنَّ هذا أمر في هذا المكان؛ فبيَّن لهم وجهته، ومقصده -صلوات الله واسلامه عليه-, فقال -جلَّ وعَلا- : {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً}, لو كانوا بالفعل هم يريدون أنْ يخرجوا معك كما ادعوا وحلفوا بالله أنهم كانوا يريدون الخروج، وكذا وكذا، ولكن أقعدتهم الأعذار, {لَوْأَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً}, مَن يريد بالفعل يَعُدّ عُدَّة لهذا الخروج, يحاول يتخلص مِن مشاغله, يبحث عن الظَّهْر الذي سيركبه, ينظر في الساقة الذي عنده أولاده ونساؤه يدبر هذا الأمر، يدبرون أمر في غيبته لا بد أنْ يبدأ بإعداد العدة للخروج، قال -جلَّ وعَلا- : {........وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ}[التوبة:46], {وَلَكِنْ}, أي{كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ}, الله -تبارك وتعالى- كره أنْ يخرجوا معك وبين -سبحانه وتعالى- لمَ كره الله -تبارك وتعالى- خروج هؤلاء مع النبي -صلوات الله وسلم- وأنَّ هذا لخير أراده الله -تبارك وتعالى- للمؤمنين, {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ}, والذي يكره الله -تبارك وتعالى- أنْ ينبعث، كيف ينبعث؟ لا يمكن فيخذل؛ فالمخذول مَن خذله الله -تبارك وتعالى- فالله كره لهم الخروج فلذلك، قال -جلَّ وعَلا- : {فَثَبَّطَهُمْ}, التثبيط الإحباط أي جعلهم محبطين، متكاسلين، الأمر شاق عليهم لا يستطيعون أنْ يقوموا به؛ فهذا مِن التثبيط، التثبيط هو حصول النَّفْس على ما يُقْعِدُهَا عن الأمر الذى تريد، وقد تعزم أنْ تقوم به, {وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ}, قيل بالبناء لما لم يُسمَّ فاعله, {اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ}, أمر كوني، قَدَرِي اقعدوا أيها المتخاذلون، الضعفاء الذين لا يريدون نصرة النبي -صلى الله عليه وسلم-, ولا الخروج معه, {مَعَ الْقَاعِدِينَ}, والقاعدين الذين يقعدون عن الغزو في العادة النساء، الأطفال، العجزة، المرضى، الزمنة هؤلاء هم أهل القعود؛ فاقعدوا, {مَعَ الْقَاعِدِينَ}, هذا تسفيهٌ لهم، وتحقيرٌ لشأنهم, {اقْعُدُوا}, أقعد مع النساء والأطفال والأولاد؛ فهذا ليس شَرَفًا، وعِزَّةً لك, {وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ}, أقعدوا أيها المستأذنون أنْ تخرجوا مع رسول الله, {مَعَ الْقَاعِدِينَ}.
ثم بيَّن الله -تبارك وتعالى- لِمَا كره الله -تبارك وتعالي- انبعاثهم، وخروجهم مع النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال : {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا}, لو خرج هؤلاء فيكم هؤلاء المنافقون، المترددون, {........مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ}[التوبة:47], {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا}, الخبال هو ضياع الرأي، والمشورة والعقل وحصول الفشل، وعدم تَبَيُّن الأمر؛ فيكون خروجهم سبب لأنْ يجعلوا الخبال يصيب المؤمنين، وذلك للشبهات التي سيلقونها، بل هو بحالهم إذا خرجوا بحالهم، وهم خائفون، وهم مرتعبون مِن العدو، وهم يَشُكُّونَ في نصر الله -تبارك وتعالى- وهم يستثقلون الحِمْل الذي تحملوه؛ فإنَّ مرآهم تشيع الكسل والخوف في الجيش بعكس أنْ يرى الإنسان الذين خرجوا للقتال متحمسون له، قائمون به، فرحون بذلك؛ فإنه لو كان فيه كسل لنشط ولكان مع الناشطين؛ فيزيدوكم خبال، قال -جلَّ وعَلا- : {وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ}, الإيضاع هذا نوع مِن أنواع ركض الإبل, أي أسرعوا ليس فقط يمشون بالفتنة، وإنما يركضون بها, {وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ}, يخرجون مِن هذا إلى هذا، ويخرجون مِن هذه الخيمة إلى تلك الخيمة، ومِن هذا إلى هذا، ومِن هذا يكلموه إلى ذلك، ويسرعون في أوساطكم بالفتنة، الفتنة هنا الشر إلقاء الشُّبَه، الشكوك، التشكيك، ضَرْب هذا بهذا, نشر القالة والغيبة, التشكيك في قيادة النبي -صلوات الله عليه وسلم- ؛ فيسيرون بهذا الفتنة وهو الشر، والكلام الذي يؤدي إلى الخلاف والطعن والتخذيل عن الغزو، وكلمة الفتنة تشمل هذه المعاني كلها مما ينشره المنافقون في جيش المسلمين، قال -جلَّ وعَلا- : {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ}, {وَفِيكُمْ}, أيها المؤمنون الصادقون, {سَمَّاعُونَ}, السَّمَّاع كثير السَمَاع, {لَهُمْ}, فإنه مِن أهل الإيمان مَن يعطيه سمعه، ويسمع له مرة ومرة ومرة، وهو يُلْقِي هذه الفتنة، وهذه الشُّبْهَة؛ فيكون بالتالي هذا ضرره عظيم على مَن يسمع مِن هؤلاء علمًا أنَّ هذا الذي يسمع إنما هو مِن أهل الخير، ومِن أهل الإيمان بالله -تبارك وتعالى- ومَن خرج قاصدًا أنْ يغزو في سبيل الله، لكنه قد يعطى أذنه لهؤلاء المرة تلو المرة؛ فيصيبه الخبال، وتصيبه الفتنة، وقد ينقلب؛ فإذن عدم خروج هؤلاء خيرٌ عظيمٌ لأهل الإسلام, {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ}, قال -جلَّ وعَلا- : {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ}, إخبار الله -تبارك وتعالى- لحقيقة هؤلاء، وأنهم لو خرجوا فعلوا هذا، وفعلوا هذا، وفعلوا هذا, هذا مِن عِلْمِهِ -سبحانه وتعالى-, {اللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ}, هؤلاء ظالمون، وذلك أنهم وضعوا الشيء في غير محله بدل مِن أنْ يناصروا الرسول، ويقفوا معه، ويقتلوا الشُّبَه والشكوك لا أنْ يحيوها، وأنْ ينشروها في المسلمين فقد فعلوا بضدها؛ فلهذا كره الله -تبارك وتعالى- خروج هذه الطائفة المنافقة مع رسوله، مع نبي الله -تبارك وتعالى- ومع المؤمنين في هذه الغزوة التي كانت تحتاج إلى صلابة وشدة، وقدرة للتحمل، وبَذْل وتضحية، وأنَّ هذا أمر قد يذهب المسلمون، وقد لا يعودوا لأنهم سيواجهوا عدوًا أكبر منهم، وأعظم منهم بكثير.
ثم قال -جلَّ وعَلا- : {لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ}[التوبة:48], {لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ}, في حروب النبي السابقة، وغزواته -صلوات الله والسلام عليه-, {ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ}, في المسلمين, {مِنْ قَبْلُ}, كما فعلوا في غزوة الخندق؛ فإنهم قد فعلوا شيئًا كبيرًا جدًا، وهو أنهم أظهروا نفاقهم، وقالوا : {يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ}, وقالوا : {........مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا}[الأحزاب:12], وسلقوا المسلمين بألسنةٍ حداد عند أي أَمْر؛ فهذا حصول التخذيل، إظهار ما في قلوبهم من هذا قد فعلوه مِن قبل, {لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ}[التوبة:48], {وَقَلَّبُوا لَكَ الأُمُورَ}, أي أنهم دائمًا يُظْهِرُونَ الجوانب السيئة، ويُخَوِّفُونَ أهل الإسلام، ويحذرونهم مِن هذا مرة، ومِن هذا مرة، ومِن هذا مرة وأنه يا نبي الله إنْ فعلت كذا لكان كذا, {حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ}, -تبارك وتعالى- في الجزيرة كلها, {وَهُمْ كَارِهُونَ}, وهم كارهون أنَّ يظهر الإسلام هذا الظهور، وقد فعلوا هذا، كما فعل عبد الله بن أُبي فى أحد؛ فإنه قال للنبى: ليش تخرج نحن نبقى هنا في المدينة، ونحارب ونقاتل، ولا نخرج لعدونا إنَّ أى عدو نخرج له؛ فإنه يهزمنا، وأي عدو نقاتله مِن داخل المدينة؛ فإننا ننتصر عليه؛ فهذه قد كان منهم هذا في غزوات النبي -صلى الله عليه وسلم-, {لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ}[التوبة:48].
نعود -إنْ شاء الله- إلى هذه الآية في حلقةٍ آتية إنْ شاء الله-, أستغفر الله لي ولكم مِن كل ذنب، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد.