الجمعة 21 جمادى الأولى 1446 . 22 نوفمبر 2024

الحلقة (238) - سورة التوبة 49-57

الحمد لله ربِّ العالمين، و أُصَلِّي وأُسَلِّم على عبد الله ورسوله الأمين, وعلى آله وأصحابه، ومَن اهتدى بهديه، وعَمِلَ بسنته إلى يوم الدين.

يقول الله -تبارك وتعالى- في سياق بيانه لحال المنافقين الذين استأذنوا النبي -صلى الله عليه وسلم- ألا يَخْرُجُوا معه في غزوة تبوك : {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ}[التوبة:47], {لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ}[التوبة:48], يُخْبِرُ -سبحانه وتعالى- عبده ورسوله محمد -صلوات الله والسلام عليه- أنَّ هؤلاء المستأذنين، المعتذرين، الذين قيل لهم اقعدوا مع القاعدين أنَّ الله -تبارك وتعالى- كره خروجهم في هذه الغزوة، وبَيَّنَ الله -تبارك وتعالى- لما كَرِهَ هذا؛ فقال : {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ}, أسرعوا خلالكم, {يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ}, يريدون أنْ يفتنوا بعضكم بعض، ويضربوا المسلمين بعضهم ببعض، قال -جلَّ وعَلا- : {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ}, فيكم مِن أهل الإيمان والخير مَن يسمع لهؤلاء المنافقين، وقد يتأثروا بكلامهم الخبيث في نشر الفتنة بين المؤمنين, {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ}.

 ثم قال -جلَّ وعَلا- مبينًا تاريخهم السابق : {لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ}[التوبة:48], {لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ}, في كل الأمور ضَرْبِ المسلمين مع بعضهم ببعض، وإظهار نفاقهم، كما حصل في أُحُد مِن رجوع عبدالله بن أُبَىّ بثلث الجيش، ومِن مقالته : ( كيف يا أيها الناس ما أدري على ما نقتل أنفسنا)؟ وقال بعضهم : {لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لاتَّبَعْنَاكُمْ}, وشمتوا بعد ذلك في ما أصاب المسلمين مِن الجراحة في أُحُد، وفي الخندق ظهر نفاقهم، وقالوا : {........مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا}[الأحزاب:12], وقالوا : {يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا}, كذلك والنبي منطلق إلى الحديبية، ومنطلق إلى الفتح ظَهَرَ نفاق هؤلاء، قال -جلَّ وعَلا- : {وَقَلَّبُوا لَكَ الأُمُورَ}, دائمًا كانوا كَمَن يشير على النبي -صلى الله عليه وسلم- فيشير بالشر، ويأتي يقول الأمر لو كان كذا، وكان كذا حتى يُخَذِّلَ المؤمنين عن القتال، والإنفاق في سبيل الله -تبارك وتعالى- قال -جلَّ وعَلا- : {حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ}, ظهر الحق, الإسلام في الجزيرة كلها، ودانت الجزيرة كلها بالإسلام، وظهر أمر الله, {........وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ},[التوبة:48], أنْ يظهر أمر الله -تبارك وتعالى-.

ثم قال -جلَّ وعَلا- : {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ}[التوبة:49], {وَمِنْهُمْ}, بدأ الرب -تبارك وتعالى- مِن هذه الآية يُبيِّن مقالات بعضهم كيف يقولون, هذا الوصف الأول كان وصف لهم بالعموم، وهنا وصف لبعضهم ماذا كان يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-, {مِنْهُمْ}, بعضهم, {مَنْ يَقُولُ}, أي للنبي -صلى الله عليه وسلم-, {ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي}, ائذن لي في القعود, {وَلا تَفْتِنِّي}, وهذا كما جاء في سبب هذا أنَّ رجلًا يُسَمَّى الجَد بن قيس، قال له النبي-صلى الله عليه وسلم- يا جَدّ هل لك في قتال بني الأصفر, أي يحثه النبي أنْ يخرج للقتال معه في هذه الغزوة، غزوة تبوك، وبنو الأصفر هم الروم؛ فقال يا رسول الله إنَّ نساء الروم جميلات، وأنا رجل أُفْتَن بالنساء، ولو خرجت ربما فُتِنْت، ووقعت في الفتنة أي في الزنا فائذن لي أخرج مِن هذا؛ فتظاهر هذا المفتون بأنَّ قعوده عن الغزوة أسلم له مِن أنْ يقع في فتنة الزنا؛ فقال -جل وعلا- : {........أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ}[التوبة:49], كَذَّاب أولًا, مُرَائِي يَدَّعِي أنه إنما قعوده إنما هو مِن أجل حتى لا يرتكب شرًا أعظم، والحال أنه قد ارتكب القعود عن الغزو هو الشر الأعظم، قال -جلَّ وعَلا- : {أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا}, سقطوا في الفتنة الحقيقية؛ فإنَّ قعود المؤمن أنْ يجاهد مع رسول الله، وقد اسْتُنْفِرَ للقتال، وقيل له أخرج؛ فيقول : لا أظل ويترك أنْ يقوم بما أمره الله -تبارك وتعالى- فهذه هي الفتنة الحقيقية، قال -جل َّوعَلا- : {أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا}, وقعوا في الفتنة, {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ}, سجن لا مجال للخروج منه؛ فهي محيطةٌ بهم مِن كل مكان عياذاً بالله.

 ثم بيَّن الله -تبارك وتعالى- حقيقة قلوب هؤلاء المنافقين؛ فقال : {إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوا وَهُمْ فَرِحُونَ}[التوبة:50], {إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ}, لو وصلت إليك أي حسنة, أصابتك حسنة، مِن النصر، مِن كسر عدو، مِن غنيمة، مِن أي خطوة متقدمة للمسلمين, يصيبهم أي خير, {تَسُؤْهُمْ}, فيحصل السوء عندهم؛ فتسوؤهم هذا، يحزنهم هذا ويؤلمهم أنْ ينتصر الإسلام، وأنْ يصيب المسلمين أي خير، كيف يكون هذا مؤمنًا؟ {........وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوا وَهُمْ فَرِحُونَ}[التوبة:50], وإنْ تصبك مصيبةٌ في الغزو بجراحة، أو هزيمة، أو كسرة للمؤمنين كما حصل للمؤمنين في أُحُد, {يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ}, يقولوا نحن عارفين الأمر، كنا نعرف هذا الأمر، وأنكم لا تستطيعون هذا الأمر، ونحن {قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا}, بمعنى أننا لم نخرج لهذه الغزوة، والقتال لأننا نعرف أنَّ هذه الغزوة لن تكون في صالحنا, {يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ}, {أَخَذْنَا أَمْرَنَا}, تدبرناه وعرفناه، عرفنا الأمر الذي ينبغي لنا أنْ نتخذه وهو تَخَلُّفِهِم عن القتال مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-, كيف يكون هذا مِن الحكمة، ومِن العقل؟ لكن عند هذا المنافق أنَّ هذا الذي حصل له مِن السلامة مِمَّا أصاب المسلمين في قتالهم هذا إنما هو خيرٌ له ونصرٌ له، وأنه قد وصل إلى ما وصل إليه مِن السلامة في هذا بعقله وتدبيره, {........ قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوا وَهُمْ فَرِحُونَ}[التوبة:50], {وَيَتَوَلَّوا وَهُمْ فَرِحُونَ}, {يَتَوَلَّوا},أي يتركوا النبي، ويتركوا المؤمنين, {وَهُمْ فَرِحُونَ}, أنه لم يصيبهم مِثَلَ ما أصاب المسلمين في هذا الأمر بهذه المصيبة التي أصابتهم، قال -جلَّ وعَلا- قل لهم : {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}[التوبة:51], {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا}, لن التي تنفي الفعل مستقبلًا، كل المستقبل, {لَنْ يُصِيبَنَا}, مِن أمر, {إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا}, إلا الذي كتبه الله, بمعنى أنه الذي سَجَّلَهُ، ولا بد أنْ يقع كتبه، فرضه، وقَدَّرَهُ لا بد أن يكون, ومَن الذي فعل هذا؟ الله -سبحانه وتعالى- فالله لا رادَّ لمشيئته، ولا رادَّ لأمره, {هُوَ مَوْلانَا}, أي الله الذي كتب هذا, {هُوَ مَوْلانَا}, ناصرنا، مَن بيننا وبينه ولاية نحن نواليه، نحبه، وهو يحبنا، وهو يتولانا -سبحانه وتعالى- بكل معاني ولا يته -جلَّ وعَلا-؛ مِن رحمته وإحسانه وعطفه وبِرِّهِ -سبحانه وتعالى- بعباده المؤمنين, {........هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}[التوبة:51], قال الله -عزَّ وجلَّ- : {وَعَلَى اللَّهِ}, لا على غيره -سبحانه وتعالى-, {فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}, التوكل يُسَلِّم أموره لله -سبحانه وتعالى-, يجعل أموره كلها له، ويَدَعُ نتائج الأسباب التي يبذلونها إليه -سبحانه وتعالى- فهو الذي يتولى كل أمورهم -جلَّ وعَلا-, {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ}, يُسَلِّم العبد أمره لله, {الْمُؤْمِنُونَ}, بالله -تبارك وتعالى- الإيمان هنا بمعانيه مِن القلب الذي مُصَدِّق والعامل بمقتضى هذا التصديق.

 ثم قال -جلَّ وعَلا- : {قُلْ}, أي قل لهم, {هَلْ تَربَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ}, {هَلْ تَربَّصُونَ}, التربص الانتظار، والانتظار على ترقب، وتَشَوُّف أنْ يعرف النتيجة, {قُلْ هَلْ تَربَّصُونَ بِنَا}, ماذا تنتظرون مِن أحوالنا؟ {إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ}, فنحن بين أمرين لا ثالث لهما، وكلها حسن، {الْحُسْنَيَيْنِ}, هذا أمر حسن، وهذا أمر حسن لا فكاك لنا عن شيء إذا خرجنا للغزو في سبيل الله؛ فأحد أمرين ما لهم ثالث، إما نصر وغنيمة، وإما كسرة وهزيمة وشهادة, أليس كذلك؟ أي الذي يخرج ويقاتل في سبيل الله -عز َّوجلَّ- إما منتصر، وإما مهزوم، ولا ثالث؛ لذلك كلا الأمرين حَسَن بالنسبة إلينا خير, {قُلْ هَلْ تَربَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ}, أي يا ننتصر، وبالتالي هذا خير في الدنيا، شيء نفرح به، يُكْسَر العدو، الأجر والمثوبة حاصلة في خروجنا؛ فلنا الأجر والمثوبة والنصر, لنا الغنيمة، أو الأخرى وهي أنْ يكون هزيمة، جراحة، شهادة في سبيل الله، وهذا كذلك أمر هذا كله خير؛ لأنَّ الشهادة درجة عند الله -تبارك وتعالى- كل ما يصيب المؤمن مِن أي شيء، ولو شوكة؛ فإنَّ الله -تبارك وتعالى- يُكَفِّرُ بها عن خطاياه، حَصَلَ له الأجر العظيم في خروجه في سبيل الله؛ فإذا هو رابح على كل الأحوال؛ فالمؤمن رابحٌ على كل الأحوال, {قُلْ هَلْ تَربَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ }[التوبة:52], أما نحن ننتظر بكم أنتم أيها المنافقون المتخاذلون سُوْئَيْن, كل أمر لكم سيء إما {أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ}, لا بد يكون في الدنيا، أو في الآخرة,{أَوْ بِأَيْدِينَا}, عذاب مِن عنده بدون سبب مِنَّا كأن يصيبكم الله -تبارك وتعالى- بمرض, بفقر، ببلاء في هذه الدنيا، بصاعقة، بأمر مِن عنده -سبحانه وتعالى-  فيصيبكم به, {أَوْ بِأَيْدِينَا}, أنْ يُسَلِّطنَا الله -تبارك وتعالى- عليكم؛ فنقاتلكم، نقتلكم، يحصل لكم أذى عظيم، وبلاء عظيم بأيدينا، بأيدى المؤمنين، ويكون هذا من تسليط الله -تبارك وتعالى- لنا عليكم، قال : {وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ}, في الدنيا، وكذلك في الآخرة, {أَوْ بِأَيْدِينَا}, في الدنيا، وهذا فيه تهديد لهم، وهذا تهديد، غاية التهديد لهؤلاء، وأنَّ أمر المنافقين لن يَنْفَكَّ عن هذا, ثم قال -جلَّ وعَلا- : {فَتَرَبَّصُوا}, أي يا أيها المنافقون بنا؛ فإننا لن يكون لنا إلا الخير, {إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ}, لِمَا يحصل لكم، ولن يقع لكم إلا الشر.

 ثم قال -جلَّ وعَلا- : {قُلْ أَنفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ........}[التوبة:53], هنا الآيات السابقة  كانت في بيان قعودهم، وعدم تقديمهم أي عمل للجهاد في سبيل الله, الآية هنا الآن لأنهم حتى ما يفعلونه ليس مقبول, {قُلْ أَنفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا}, {أَنفِقُوا}, النفقة للجهاد, {طَوْعًا}, مِن عند أنفسكم, {أَوْ كَرْهًا},  كأن تؤخذ منكم رغمًا عنكم كما تؤخذ الزكاة؛ لأنَّ الزكاة تؤخذ مِن المال الجيمع سواءً رضي صاحب المال، أو لم يرضَ، قال -جلَّ وعَلا- : {لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ}, {لَنْ}, التي تنفي الفعل مستقبلًا كل هذا في حياتكم، ما سيقبلها الله، ومعنى قبول الله -تبارك وتعالى- أنْ يُثِيبَكُم عليها، وأنْ يأجركم عليها، وأنْ يكتبها في حسناتكم, {........لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ}[التوبة:53], هذا السبب, {إِنَّكُمْ}, أيها المنافقون, {كُنتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ},  {كُنتُمْ}, هذه التي تفيد الصفة والفعل والبقاء عليه، هكذا أنتم, { كُنتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ}, خارجين عن طاعة الله -تبارك وتعالى-؛ فإنهم خرجوا عن طاعة الله -تبارك وتعالى- بكفرهم ومروقهم وإظهارهم المخالفة لله ورسوله, {إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ}.

ثم قال -جلَّ وعَلا- : {وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلا يُنفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ}[التوبة:54], هنا بَيَّنَ الله -تبارك وتعالى- أنَّ الله لا يقبل عملهم هذا, إنفاقهم في سبيل الله؛ لأن قلوبهم كافرة، قال : {وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ}, ما مَنَعَ هؤلاء أنْ يقبل الله -تبارك وتعالى- منهم نفقاتهم, {إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ}, هذا قلبهم، هذا في قلوبهم الكفر بالله وبرسوله, {وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى}, {لا يَأْتُونَ}, فهم يُظْهِرُونَ الإسلام في ظاهر الأمر، وإذا أتوا إلى الصلاة يأتونها بكسل، وذلك أنه مثل المغصوب على الأمر، المجبور عليه؛ فيذهب إليه، ويرى أنَّ هذا أمر شاق، وهو ضد نيته، وضد إرادته؛ فهو إذا قام له يقوم بِكَسِلِهِ، والكسلان ضد النشيط، المُنْشَرِح الصدر الأمر, {وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى}, والصلاة هي أشرف الأعمال التي تقوم بين يدي الرب -تبارك وتعالى- وتناجي ربك وتخاطبه -جل وعلا-, وهو يَرُدّ عليك, {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[الفاتحة:2], فيقول الله -عزَّ وجلَّ- حَمَدَنِي عبدي, {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}[الفاتحة:3] يقول أَثْنَى علىَّ عبدي, {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}[الفاتحة:4], يقول مَجَّدَنِي عبدي؛ فهي خطاب مع الرِّب -تبارك وتعالى-  تقوم بين يدي ربك فهو في هذا الفعل الذي هو أشرف الأعمال يذهب إليه وهو كسلان, {........وَلا يُنفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ}[التوبة:54], {وَلا يُنفِقُونَ}, في سبيل الله, {إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ}, يَخْرُجُ المال منهم؛ فينفقونه لكن مع كراهيتهم الإنفاق؛ فلهذا الله تبارك وتعالى كيف يقبل نفقة مِمَن هذا حاله؟ هو كافرٌ به، كافرٌ برسوله، إذا وقف بين يديه يقف كسلان معناه أنه لا يحب هذه الصلاة، ولا يريدها, ثم إذا أنفق يُنْفِق بكل الكراهية؛ فإذن لا يقبله الله، الله يستغني عن هذه ولا يقبلها الله -تبارك وتعالى- وتبقى هذه نفقته كأن لم تكن, {وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلا يُنفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ}[التوبة:54].

 ثم قال الله لرسوله : {فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ}, {فَلا تُعْجِبْكَ }، العجب هنا بمعنى الاستحسان، وظهور هذا المال في النَّفْسِ إنه شيء جميل وحَسَن, {فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ}, ولو كانت كثيرة، وافرة، وأولاد حولهم، لا يعجبك، قال -جلَّ وعَلا- : {........إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ}[التوبة:55], {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ}, أي بإعطائه -سبحانه وتعالى- إياهم هذه الأموال الكثيرة، وهؤلاء الأولاد يعطيهم إياها, {لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}, جمعًا لها وحفظًا لها وحرصًا عليها وخوفًا مِن أنْ تضيع؛ فيبقى هذا دائماً قلبه منشغل يبقى في شُغْلِ قلب، وفي كَدِّ بدن، ونكد لو حصل ترجيح بين ما فيها مِن الكُلْفَةِ والمشقة في جمعها، والعناية بها، والحرص عليها، وجعلها همه, وبين ما يناله بعد ذلك مِن وراء ذلك لكان هذا أكثر، لكانت الكُلْفَة أكثر, ثم إنه أيضًا يصيبهم فيها بالآفات وغيرها؛ فتتقطع قلوبهم على ذلك؛ فيبقى مُعَذَّب بها, {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا}, بهذه الأموال، وكذلك العذاب بالأولاد أنْ يتعذب في العناية به وتربيته والإنفاق عليه, ثم لا يكون منه إلا العقوق والخروج عن طاعته، أو فقده؛ فيتحسر عليه؛ فتبقى المال والولد بالنسبة لهذا المنافق الكافر تبقى عذاب ومشقة، وليست إرفاق ونعمة وحسنة له في هذه الدنيا, {فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا}, يعذبهم بهذه الأموال والأولاد, {........ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ}[التوبة:55], {وَتَزْهَقَ}, تخرج خروج النَّفْسِ, الروح مِن البدن, {أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ}, أي يشغله الله -تبارك وتعالى- في هَمِّ ونَكَدِ هذه الدنيا، وإنشغاله بماله، وبأولاده حتى يأتيه الموت، وهو على كفره عياذًا بالله, لا يستفيق لا تأتيه إفاقة ورجعة؛ فيعود إلى الله -تبارك وتعالى- ويتوب قبل الموت، بل يظل في هذا العذاب الدنيوي عياذًا بالله بماله وولده حتى يموت على هذا النحو؛ فيكون هذا عقوبة شديدة لهم مِن الله -تبارك وتعالى-, { فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ}[التوبة:55].

 ثم فاصل جديد لبيان تسليط الضوء على هؤلاء المنافقين، قال -جلَّ وعَلا- : {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ}, قال -جلَّ وعَلا- : {........وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ}[التوبة:56], {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ}, شأن المنافق إنه دائمًا هو في شك، وفي خوف أنْ يُكْتَشَفَ أمره؛ فيقوم يُغَلِّفُ نَفْسَهُ دائمًا بالحلف، واليمين الكاذب، قال -جلَّ وعَلا- : {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً}, عناية له, يُغَلِّف نَفْسَهُ بهذه الأيمان حتى لا يَطَّلِعَ المؤمن على حقيقة ما في صدره, {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ}, يحلف بالله, يستشهد الله -تبارك وتعالى- على ذلك, {إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ}, قال -جلَّ وعَلا- : {وَمَا هُمْ مِنْكُمْ}, كذابين يكذبون في حلفهم بالله إنهم مِن المؤمنين، قال -جلَّ وعَلا- : {........وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ}[التوبة:56], هؤلاء ناس جبناء، خوافون, {قَوْمٌ يَفْرَقُونَ}, الفَرَق هو الخوف الشديد، وهنا {يَفْرَقُونَ}, الوصف هنا لهم بالفعل المضارع الذي يدل على الاستمرار, هذا فعلهم دائمًا خائفون أي أنهم خوافون دائمًا, {وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ}, يَفْرَقُونَ مِن ماذا؟ يَفْرَقُونَ مِن المؤمنين؛ فيحلفون الأيمان الكاذبة حتى لا يَطَّلِع عليهم المؤمنون يخافون مِن الكفار؛ فلا يخرجون للغزو مع المؤمنين؛ فهم خوف على أنفسهم، وعلى أموالهم هذا الخوف هو محركهم، وهو الساكن في قلوبهم, {وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ}, {لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ}[التوبة:57], هنا يصور الله -تبارك وتعالى- صورة خوف هؤلاء، وأنهم لو يجدون ملجأ يلجأون إليه في أى مكان في الأرض، ويَفِرُّوا مِن أهل الإسلام، ويتركوا النبي، ولا يكون مع المؤمنين دائمًا خائفين منهم أنْ يكشفوهم، وكذلك يُؤْمَرُونَ بالخروج ليقاتلوا الأعداء؛ فهم لا يريدون هذا وهذا خائفين مِن المؤمنين، خائفين مِن الكفار كذلك, {لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً}, يلجؤون إليه, {أَوْ مَغَارَاتٍ}, في الجبال، المغارة هي الكهوف الغائرة الداخلة في الجبل, {أَوْ مَغَارَاتٍ}, جمع مغارة، {أَوْ مُدَّخَلًا}, سَرْدَاب يدخلونه المدخل هو الشق الذي يكون في باطن الأرض, {لَوَلَّوْا إِلَيْهِ}, أي لأسرعوا إليه, للدخول إليه, {وَهُمْ يَجْمَحُونَ}, والجموح هو العدو لا يلوي على شيء، تقول : جمحت الفرس بمعنى أنها أسرعت في جريها، ولم تستجب لفارسها يَجُرُّهَا بلجامه؛ فإنما جموح, {وَهُمْ يَجْمَحُونَ}, أي وهم يسرعون إسراع الفرس الجَمُوح في نفرتها وهروبها، وهذا تصوير مِن الله -تبارك وتعالى- كيف تكون شدة خوفهم، وأنْ يبقوا مع أهل الإيمان, { وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ}[التوبة:56], {لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ}[التوبة:57], هاتين الآيتين تصور صورة هؤلاء المنافقين في خوفهم الشديد مِن بقائهم مع أهل الإسلام.

 ثم بيان لصفةٍ أخرى، ومجموعةٍ أخرى مِن هؤلاء المنافقين، يقول -جلَّ وعَلا- : {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ}[التوبة:58], {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ}[التوبة:59].

 أدركنا وقت هذه الحلقة، ونكمل -إنْ شاء الله- في الحلقة الآتية, أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم مِن كل ذنب، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد.