الحمد لله ربِّ العالمين، وأُصَلِّى وأُسَلِّم على عبدالله ورسوله الأمين, سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه، ومَن اهتدى بهديه، وعَمِلَ بسنته إلى يوم الدين.
يقول -تبارك وتعالى- : {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ}[التوبة:58], {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ}[التوبة:59], {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}[التوبة:60], {وَمِنْهُمْ}, هذا قِسْمٌ آخر مِن هؤلاء المنافقين الذين عَدَّدَت هذه السورة، سورة براءة أنواعهم، وفصَّلَ الله -تبارك وتعالى- في أخبارهم، وصفاتهم، وبيان أحوالهم تفصيلًا عظيمًا حتى أصبحت هذه السورة سَمَّاهَا الصحابة بالفاضحة؛ وذلك أنها فضحت المنافقين، وبيَّنت مخازيهم ونشرتها, {مِنْهُمْ}, مِن هؤلاء المنافقين, {مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ}, { يَلْمِزُكَ}, اللَّمْزُ هو العيب بطريق الإشارة، أو بطريق الكلام المختصر، واللَّمْزُ هنا يلمزون النبي -صلوات الله والسلام عليه-, {فِي الصَّدَقَاتِ}, في توزيعه -صلى الله عليه وسلم- وإعطاءه للصدقات؛ فيتهمون النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه يحابي بعض الناس ويمنع عن بعضهم أنه لا يَقْسِمُ بينهم بالسوية، والعدل -صلوات الله والسلام عليه-, {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا}, إنْ أعطاهم النبي -صلى الله عليه وسلم- مِن هذه الصدقات {رَضُوا}, أي عن فِعْلِ النبي -صلى الله عليه وسلم- ولم يسخطوا، قالوا هذه قسمة عادلة ما دام أنه قد وصلهم مِن هذه الصدقات, {فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا}, مِن هذه الصدقات, {........ رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ}[التوبة:58], إنْ لم يعطهم النبي -صلى الله عليه وسلم- مِن هذه الصدقات, {إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ}, عن النبي، والسَّخَط هو الكراهة، والاشمئزاز، وهذا أمرٌ عظيمٌ جدًا أنْ يسخطوا فعل النبي -صلوات الله عليه وسلم- وأنْ يلمزوه -صلوات الله عليه وسلم- في الصدقات، وهو الذي استأمنه الله -تبارك وتعالى- على وحيه، وعلى أنْ يهدي الناس إلى طريقه؛ فكيف يُطْعَن في ذمة النبي، وفي عقله، وفي عدله -صلوات الله والسلام عليه-, فهذه كبيرةٌ أخرى مِن كبائر هؤلاء القوم الذين أَعْمَى الله -تبارك وتعالى- بصيرتهم عن رؤية الحق؛ فهم منافقون، قال -جلَّ وعَلا- : {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ}[التوبة:59], أي أنهم لو فعلوا هذا لكان خيرًا لهم, {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ}, رضوا بالذي يؤتيهم الله -تبارك وتعالى- به, {وَرَسُولُهُ}, وقال : {آتَاهُمُ اللَّهُ}, وذلك أنه ما مِن أمر إلا هو بقضائه -سبحانه وتعالى- فما مِن خير يأتيهم إلا هو بقضائه -جلَّ وعَلا-, {وَرَسُولُهُ}, والرسول مُعْطِي -صلوات الله والسلام عليه-, وقد أقامه الله -تبارك وتعالى- قَاسِم، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- : (إنما أنا قاسم، والله يعطي), فالعطاء مِن الله -تبارك وتعالى- هو الذي يعطيه، وهو الذي يكتبه -سبحانه وتعالى- والنبي قَاسِم -صلى الله عليه وسلم-, يَقْسِمُ بين المؤمنين -صلوات الله والسلام عليه-, {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ}, {حَسْبُنَا}, كافينا يجعلون أنَّ الرب -تبارك وتعالى- هو الذي يتولى أمرهم، وهو يكفيهم -سبحانه وتعالى- فهو كافيًا عبده -سبحانه وتعالى- فكل ما أهم العبد هو عند الله -تبارك وتعالى-, ويكفيه إذا توجه العبد إلى ربه -سبحانه وتعالى- فإنه كافيه كل ما أهمه, {وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ}, فتعلقت قلوبهم بأنَّ الله -تبارك وتعالى- هو يكفيهم فلا يتطلعون إلى غير الرب -تبارك وتعالى-, {حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ}, أي إنْ لم يأخذ في هذه المرة؛ فإنَّ الله -تبارك وتعالى- يتطلع إلى فضل الله -تبارك وتعالى- في المرات القادمة, {سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ}, {سَيُؤْتِينَا}, إنْ لم يكن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد أعطانا في هذه المرة؛ فيعطينا في المرة القادمة، وأنَّ الله -تبارك وتعالى- هو الذي يكتب الرزق، ويكتب الأمر، ويُرْشِدُ رسوله -صلوات الله والسلام عليه- ويهيئ الأمر؛ فهذا سبب ينالنا الخير مِن جهة النبي -صلى الله عليه وسلم-, مِن عطاء النبي -صلوات الله والسلام عليه- {إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ}[التوبة:59], لا إلى غيره, {إِنَّا}, أي أنْ يقولوا هذا, {إِلَى اللَّهِ}, لا إلى غيره, {رَاغِبُونَ}, فرغبتنا كلنا فيما عند الله -تبارك وتعالى-, أما أنْ يكون قلوبهم فقط متطلعة ومتعلقة بما يعطيهم النبي -صلى الله عليه وسلم- بهذا الذي يعطيهم النبي؛ فإنْ أعطاهم النبي منِ هذا رضوا عنه، وإنْ لم يعطهم سخطوا عليه، ونسوا الرب -تبارك وتعالى- بأنه هو الذي يُقَسِّمُ الأرزاق، ويُقَدِّرُ المقادير، وأنَّ أمر العباد كلها بيده -سبحانه وتعالى- وأنه إنْ شاء أنْ يُعَطِّفَ، ويُوجِّه قلب رسوله إليهم كان، وأن ْيصرف عطاء النبي عنهم صَرَفَهُ؛ فالأمر كله بيده -سبحانه وتعالى-؛ فالله -تبارك وتعالى- يوجههم أنْ تكون قلوبهم في كل رغبتها موجهةٌ إلى الله -تبارك وتعالى-, {........إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ}[التوبة:59], وكذلك أنْ يكون الله -تبارك وتعالى- هو حسبهم, {وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ}, ثم يتطلعوا إلى الخير, {........سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ}[التوبة:59], لا إلى غيره، رغبتنا كلها، والرغبة هي إرادة ومحبة الخير أنْ يأتي في المستقبل إلى الله -سبحانه وتعالى-.
ثم أَخْبَرَ -سبحانه وتعالى- بأنَّ هؤلاء الذين يريدون أنْ يأخذوا مِن الصدقات، وهم أغنياء لا تحل لهم؛ فالصدقات التي هي الزكاة المفروضة، قال -جلَّ وعَلا- : {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}[التوبة:60], {إِنَّمَا}, بالحصر, {الصَّدَقَاتُ}, هنا تنصرف هنا إلى الزكاة التي فرضها الله -تبارك وتعالى- إلى هذه المصارف الثمانية، ويخرج منها بقية أنواع الصدقات التي هي غير المفروضة؛ فإنَّ هذه الصدقة غير المفروضة لا حرج على إعطائها في هذه المصارف، وفي غيرها كذلك, أي وفي غير هذه المصارف كذلك لا بأس، ولكن هذه إنما هي الزكاة التي فرضها الله -تبارك وتعالى- أمر الله بأنْ توجه إلى هذه المصارف الثمانية, {لِلْفُقَرَاءِ}, والفقير هو الذي لا دخل له مِن الرزق يكفي حاجاته الضرورية، والحَاجِيَّة كذلك حاجات الإنسان، أو ما يحتاجه الإنسان أشياء ضرورات، ضرورة إنْ لم يحصل عليه؛ حصل له تلف في الحياة كالطعام الذي يقيم الأَوَد لا بد منه، واللباس الذى يستر العورة، والمأوى الذى يُؤْوِى الإنسان فلا يكون في العَرَاءِ, هذه أمور ضرورية، ضرورات إذا ما حصل عليها الإنسان حصل له تلف، ممكن تحصل تلف حياته؛ ثم في أمور حَاجِيَّة يحتاجها الإنسان، ولكن ليست ضرورات فقدها إنما يشق على الإنسان، وإنْ كان لا يحصل له تلفٌ بذلك، كبعض أنواع المرافق مثلًا في البيت، المَرْكَب إذا كان لا بد منه, في حاجة إليه، الخادم هذه أمور قد تكون مِن الحاجات, ثم هناك أمور بعد ذلك مِن التحسينات والتتميمات، وهذه أمور كالتوسع في أنواع الطعام، في الشراب، في اللباس أمور زائدة عن حَدِّ الحاجة؛ فالفقير مَن يفتقد الضرورات والحاجات هذا فقير, قيل سُمِّىَ فقير مِن الإنسان إذا كُسِرَ فَقَارُ ظهره؛ فإنه يقعد؛ فكأنه شُبِّهَ المحتاج هذا إلى الضرورة كأنه مكسور الظهر ما يقدر أنْ يقوم؛ فإنَّ المال قوام للإنسان, {وَالْمَسَاكِينِ}, جمع مسكين، والمسكين هو كالفقير في الحاجة، ولكنه متعفف، ويُظِهَرُ العفاف، ولا يُفْطَنُ إليه في الغالب لتعففه عن الناس؛ فهذا مسكين، وهذا قد يكون حاله أشد مِن حال الفقير، كما قال النبي -صلى الله وسلم- : «ليس المسكين الذي تَرُدُّهُ لتمرة والتمرتان، واللقمة واللقمتان، ولكنه الذي لا يجد غنىً يغنيه، ولا يُفْطَنُ له؛ فَيُتَصَدَّقُ عليه»، وقد يُسَمَّى المسكين بِمَن هو أحسن حالًا مِن الفقير في المال, هو ظاهر عند الناس بأنه مستور كما في قول الله -تبارك وتعالى- : {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ........}[الكهف:79], فهم يملكون سفينة، وسُمُّوا مساكين، وذلك أنَّ نقلهم وعملهم في هذه السفينة يظهر أمام الناس أنَّ هذا قد يكون مِن الغنى والثراء، ولكن عملهم لا يكفي حاجاتهم وضروراتهم, {وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا}, العاملين على هذه الزكاة جِبَايةً لها، حفظًا لهذا المال، كتابةً؛ فكل ما مِن شأنه الذين يقومون على الزكاة كتابة وحفظًا وجمعًا وتوزيعًا؛ فهؤلاء يأخذون رواتبهم، ويأخذون مِن مال الزكاة, {وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ}, الذى يراد أنْ تُؤَلَّفَ قلوبهم، والتأليف هو الجمع والحض, تؤلف قلوبهم أي على الإسلام هؤلاء قد يكونون النبي أرسل هذه لبعض رؤساء القبائل، وبعض الناس المطاعين مِمَن يرجى إسلامهم، وقربهم إلى الإسلام، أو هم أسلموا، ولكنهم ضعفاء الإيمان؛ فيراد تثبيت إيمانهم بما يُعْطَوا مِن هذا المال، كما قال -صلى الله عليه وسلم- : «إني لأعطي الرجل وغيره أحب إلىَّ منه مخافة أنْ يُكِبَّهُ الله في النار», أنْ يُكِبَّهُ الله في النار هذا الذي يُعْطِيِه, النبي -صلى الله عليه وسلم- يعطيه؛ لأنه ضعيف الإيمان، فيعطيه ليكون هذا تثبيتًا له، وإلا مِثْلَ هذا لو لم يعطَ لفرَّ وترك الدين؛ فالذي يُؤَلَّف قلبه للإسلام ليكون عزًا، أو نصرًا للإسلام بأنْ يُعْطَى يميل قلبه إلى الدين، ويثبت، وخاصة إذا كان رجل مطاعًا في قومه, كرؤساء العشائر والقبائل، والناس الذين لهم شأن في أقوامهم, {وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ}, {الرِّقَابِ}, جمع رَقَبَة، والرقبة هي العبد سُمِّىَ رقبة لأنْ كأن رقبته موثقة في الرِّق, أو مِن باب إطلاق الجزء وإرادة الكل, كما يقال رأس ورقبة؛ فالرأس ممكن تقال على رؤوس العبيد أي عندي مائة رأس مِن العبيد، عندي مائة رأس مِن الإبل؛ فالرقبة المقصود فيها العبيد سواءً كانوا ذكورًا، أو إناثًا، والعبد يُعْطَى لِيُعْتَق يُشْتَرَى مثلًا مِن سيده بالمال؛ ثم يُعْتَق في سبيل الله, {وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ}, الغارم هو المَدِينُ الذي لا يجد سدادا للدين، وهؤلاء صنفان إما يستدين لإصلاح ذات البَيْن، يستدين لغيره للخير، وإما يستدين لِنَفْسِهِ فالذي يستدين للغير وهو لإصلاح ذات البَيْن كما كان الشأن عند العرب أنه إذا مثلًا هناك قبيلتان متحاربتان، ويكون بينهم خصومة، ودماء يأتي بعض الناس بالصلح يصلحوا بينهما؛ ثم يقول لهذه القبيلة أنا أتحمل كل قتلاكم، أُوَادِي جميع قتلاكم، ويتحمل قتلى الآخرين؛ فربما خرج القتلى بينهم عشرة، عشرين، ثلاثين وكل قتيل مائة مِن الإبل ؛ فيكون عليه حَمَالَة كبيرة، يتحمل حَمَالَة كبيرة، يتحمل ألوف مِن الإبل على ظهره؛ فهذا يصير غارم المال الذي عنده لا يكفي لهذه الحمالة التي تحملها؛ فهذا يُعْطَى مِن الزكاة؛ لأنَّ هذه التي تحملها إنما يتحملها للغير، وتحملها في أمر حَسَن، وهو في إصلاح ذات البَيْن؛ فَمَن تحمل حمالة على هذا النحو، ولا وفاء مِن ماله لهذه الحمالة فَيُعْطَى حتى يؤدى ما عليه، وكذلك الغارم لنفسه كأن يكون رجل انتكست تجارته، حصلت له مصيبة؛ وعليه ديون للآخرين، وعجز عن أنْ يسدد هذه الديون؛ فهذا يُعْطَى مِن مال الزكاة حتى يسدد دَيْنَهُ, ثم قال -جلَّ وعَلا- : {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ}, الجهاد في سبيل الله، إذا أُطْلِقَ سبيل الله؛ فالمراد به الجهاد خاصة سواءً كان يُعْطَى في السلاح، أو للمقاتلين، أو في الظَّهْر أي مال الخيل والركاب؛ فهذا في سبيل الله؛ فيكون هناك جزء، هذا جزء أحد هذه المصارف الثمانية تُعْطَى للجهاد في سبيل الله, {وَاِبْنِ السَّبِيلِ}, وهو المسافر، المنقطع عن بلده, بلاده بعيدة، وقد ذهبت نفقته, انقطعت أي زالت منه النفقة إما ضاعت، وإما هلكت وصُرِفَت، وأصبح منقطع لا هو في بلده، وإنْ كان له مال في بلده، ولا هو عنده غِنى، وهو في سفره؛ فهذا ابن السبيل سُمِّىَ ابن السبيل لأنه كأنه ليس ساكن، وليس مقيمًا، وإنما سائر في الطريق، فهو ابن السبيل, {فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ}, قال -جلَّ وعَلا- : {فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ}, حال كونها لا فريضة مِن الله فرضها الله -تبارك وتعالى- والفرض هو الإيجاب والإثبات، وقوله : {مِنَ اللَّهِ}, -سبحانه وتعالى- على عِظَمِ هذا الأمر، وأنَّ الله -تبارك وتعالى- هو الذي أوجبه وألزمه وفرضه, {........وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}[التوبة:60], {عَلِيمٌ}, بكل الأمور -سبحانه وتعالى-,{حَكِيمٌ}, يضع كل أمر في نصابه, هذه الآية بيان لمصارف الزكاة الثمانية، وكذلك هي في سياق الرد على هؤلاء المنافقين، ومنهم أغنياء ولكنهم ذوي نفوس ضعيفة، مريضة يطمعون دائمًا في أنْ يعطيهم النبي -صلى الله عليه وسلم- مِن المال، وهم ليسوا مِمَن يُعْطَى المال؛ فأخبرهم الله -تبارك وتعالى- أنَّ مال الزكاة لا يُصْرَف إلا في هذه الجهة.
ثم صنف آخر مِن أصناف هؤلاء المنافقين، قال -جلَّ وعَلا- : {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[التوبة:61], {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ}, الأذى، ويؤذون مَن؟ يؤذون النبي -صلوات الله والسلام عليه-, الأذى هو حصول شيء مِن الضرر الذي إذا وقع الإنسان يؤلمه ويحزنه ويُثْقِلُهُ, {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ}, هو أي النبي -صلى الله عليه وسلم-, {أُذُنٌ}, أي أنه سَمَّاع، أو كونه, {هُوَ أُذُنٌ}, حصر صفة النبي بهذه الأمر، والجملة كذا, {هُوَ أُذُنٌ}, أي أنه ليس هذا النبي أنه فقط سَمَّاع، ومعنى سَمَّاع أنه مهما قيل له؛ فهو يستمع له ويُصَدِّقُهُ، وبالتالي نحن مهما صنعنا مِن إساءة؛ ثم جئنا إليه، واعتذرنا منه؛ فإنه سيصدقنا؛ فإنه يسمع لنا، أو كذلك هو سمَّاع إذا نُقِلَ له ما يُنْقَل مِن أي أحد؛ فإنه يُصَدِّقُهُ ويسمع له، وهذا أولًا طعن في عقل النبي -صلوات الله والسلام عليه- شرَّفه الله -تبارك وتعالى- وأعلاه، وأنه يسمع ولا يميز الكلام الذي يعُطْىَ له؛ فليس صاحب عقلٍ راجح يَعْرِفُ مراد المتكلم مِن كلامه، قال -جلَّ وعَلا- : {قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ}, النبي, {........أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[التوبة:61], النبي {أُذُنُ خَيْرٍ}, نعم يسمع النبي -صلى الله وسلم- ولكن أذن خير لأهل الإيمان؛ فإنَّ كل ما يطرق سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- يميزه، ويفعل الخير -صلوات الله وسلامه عليه- فإنْ سَمِعَ مِن مؤمن اعتذارًا، دَعَا له بالخير؛ فيكون هذا خير استمع له النبي -صلى الله عليه وسلم- وكان خيرًا له، إذا أَدْلَى إلى النبي بأي خبر؛ فإنَّ هذا يكون رَدّ النبي -صلى الله عليه وسلم- خير على هذا سمع، نقل له في غيره بشيء؛ فهو يتثبت، يَعْلَم هذا الأمر -صلوات الله والسلام عليه- يدعوا لصاحبه، ودعاؤه كذلك على الغير هذا إنما هو خير للمؤمنين, {قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ}, يؤمن النبي بالله -تبارك وتعالى- فيصدق أخباره، ويؤمن بها -صلوات الله والسلام عليه-, {وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ}, يُصَدِّقُ المؤمنين؛ فالمؤمن الذي يَعْلَمُ النبي إيمانه وصدقه يًصَدِّقُهُ، ولا يكذب المؤمن؛ لأنَّ رَدّ خبر الصادق ليس فضلًا، بل هذا تكذيب, {وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ}, لأهل الإيمان، وأهل الصِّدق {وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ}, والرسول رحمة, {لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ}, -صلوات الله عليه وسلم- رحمة بكل معاني الرحمة، وجوده ودلالته ودعاؤه للمؤمنين، وكونه في وسطهم مُعَلِّمًا ومُؤَدِّبًا وداعيًا ومُرْشِدًا -صلوات الله والسلام عليه- فهو رحمة, {لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ}, مَن آمن به؛ فهو رحمة له -صلوات الله والسلام عليه-, {........وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[التوبة:61], هذا تهديدٌ ووعيدٌ مِن الله -تبارك وتعالى- بأنَّ كل مَن آذى رسول الله, {........وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[التوبة:61], أعد الله -تبارك وتعالى-, {لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}, وهذا العذاب المؤلم عذاب النار عياذًا بالله, {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ}[التوبة:62], {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ}, على عادتهما هؤلاء المنافقين كل ما هم أكبر ملجأ يلجؤون إليه أيمانهم الكاذبة؛ فيحلفون للمؤمنين يحلفون لهم, {بِاللَّهِ},ليرضوهم، ليرضى عنهم المؤمنون أنهم ما قالوا هذا، وقالوا هذا، وأنهم مؤمنون بالله وبرسوله، {لِيُرْضُوكُمْ}, ليرضوا أهل الإيمان، قال -جلَّ وعَلا- : {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ}, إنْ كانوا يريدون رضا أحد ينفع هذا الرضا؛ فرضا الله, و رضا رسوله؛ فهذا أعظم النفع, {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ}, أنْ يسعوا في رضا الله، وأنْ يرضى الله عنهم، وأنْ يرضى عنهم رسوله هذا أولى مِن أنْ يسعوا إلى أنْ يرضى عنهم عموم المؤمنين؛ فإنَّ عموم المؤمنين مهما كانوا لا رضاهم كرضا الله ورسوله، ولا سخطهم كذلك كسخط الله ورسوله؛ فكان يجب لو كانوا ذوى فطنة، وذوى عقل أنْ يتوجهوا أولًا إلى أنْ يرضوا الله -تبارك وتعالى- ويرضوا رسوله، قال : {........وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ}[التوبة:62] ولن يرضى الله -تبارك وتعالى- عنهم، ورسوله إلا بالإذعان له وطاعته، وطاعة رسوله، وكَفّ الأذى, بل تقديس النبي -صلى الله عليه وسلم- وتوقيره وتعزيره هذا الواجب، ومحبته فوق كل أحد؛ فهذا الواجب، واجب المؤمن نحو النبي -صلوات الله والسلام عليه-, {........وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ}[التوبة:62].
ثم قال -جلَّ وعَلا- : {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ}[التوبة:63], {أَلَمْ يَعْلَمُوا}, أي قد علموا, هذا سؤال للتقرير, {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}, {يُحَادِدِ اللَّهَ}, أي يحاربه يكون في حَدّ، والرسول في حَدّ، أو يرفع حَدّ سيفه ليحارب الله ورسوله؛ فهذا يحادد الله، ورسوله يقوم بحده، بحديدته؛ ليحارب الله -تبارك وتعالى- ورسوله سواءً كان هذا الحرب بالسيف، أو باللسان, {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا........}[التوبة:63] فإنَّ الله -تبارك وتعالى- جعل {لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا}, مكثًا لا انقطاع له, {........ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ}[التوبة:63], هذا أعظم الخزي، وذَكَرَ الله -تبارك وتعالى- الخزي هنا بالنسبة لهؤلاء المنافقين؛ وذلك أنهم سيعاملون بنقيض قصدهم؛ فإنهم أرادوا بكل هذا تغليف أنفسهم بهذه الأيمان الكاذبة والحَلِف، وكذا أنَّ يرضى عنهم المؤمنين، ويُظْهِرُوا أمام أهل الإيمان بأنهم مؤمنون، وأنهم مع النبي، وأنهم، وأنهم مِن أهل الإسلام؛ ثم يوم القيامة تنكشف حقيقتهم، ويُعْرَفُ أنَّ هؤلاء كانوا كاذبين، وأنَّ النار هي مثواهم؛ فيكون هذا الخزي العظيم, يخزون خزيًا عظيمًا، وذلك بأنْ تظهر حقيقتهم أمام الجميع، ويمقتهم الكل، وينظر إليهم الجميع بعين الاحتقار هؤلاء الذين كانوا معنا، وكانوا يقولون بأنَّ نحن مؤمنون، وكانوا يحلفون الأيمان الكاذبة انظروا كيف كان مصيرهم في نهاية , {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ}, هذا تهديدٌ مِن الله ووعيد, {خَالِدًا فِيهَا}, باقيًا فيها بقاءً لا انقطاع فيه, {ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ}.
نسأل الله -تبارك وتعالى- بأسمائه الحسنى ألا يجعلنا كذلك، أستغفر الله لي ولكم مِن كل ذنب، والحمد لله ربَّ العالمين.