الخميس 10 شوّال 1445 . 18 أبريل 2024

الحلقة (24) - سورة البقرة 61-67

تفسير الشيخ المسجل في تلفزيون دولة الكويت

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على عبد الله ورسوله الأمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، وعمل بسنته إلى يوم الدين.

يقول الله –تبارك وتعالى- {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}[البقرة:62]، بعد أن ضرب الله –تبارك وتعالى- مجموعة من الأمثال والصور لأنعامه –سبحانه وتعالى- على بني إسرائيل، وكيف قابلوا كل أنعام الله –تبارك وتعالى- بالإساءة، هنا يبين الله –تبارك وتعالى- سُنةً عامة من سنته في الحساب، وأنه لا نجاة عنده –سبحانه وتعالى- إلا بالإيمان والعمل الصالح، وهذا الحساب في كل الأمم.

 قال –جل وعلا- - {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا}، وصف الذين آمنوا إذا أطلق؛ يطلق على المؤمنون، المسلمون الذين آمنوا بمحمد –صلوات الله وسلامه عليه- هذا وصفهم الذي يطلق عليهم، هم المسلمون وهم المؤمنون، ودائمًا يخاطبهم الله –تبارك وتعالى- بقوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}، أصبح هذا وصف علم عليهم، كما أصبح وصف اليهود علم على اليهود من بني إسرائيل بعد موسى، ووصف النصارى أصبح مسمى لهم، وعلم عليهم، فإذا قيل الذين آمنوا؛ فهذا ينصرف على أتباع النبي محمد –صلوات الله وسلامه عليه-، {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا}، والذين هادوا هم اليهود، قيل سموا الذين هادوا؛ هاد يهود من باب رجع يرجع، لقولهم إنا هُدنا إليك، أي رجعنا وتبنا إليك، سموا يهود بهذا، وعلى كل حال هي تسمةٌ شريفة بعبادة من العبادات، لأنهم التوابون أو الراجعون إلى الله –تبارك وتعالى-.

{وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى}، النصارى هذا العَلم يطلق على أتباع عيسى –عليه السلام-، قيل سموا نصارى إما من النصرة، وذلك أنهم قالوا نحن أنصار الله، وأما من البلدة التي بدأ فيها عيسى دعوته وهي الناصرة، فينسبون إليها، فإن كانت من النصرة يكون بتسمة بعمل من أعمال الدين وهو النصرة، وأحيانًا يصبح عمل من أعمال الدين علم على المجموعة، كنقول الجهاد مثلًا المجاهدين، والقرَّاء وأهل الحديث، فهذه تسمية أهل هذه الديانات الثلاث السماوية، المؤمنون الذين آمنوا، أتباع النبي محمد –صلى الله عليه وسلم-، والذين هادوا اليهود، والنصارى أتباع عيسى ابن مريم –عليه السلام-.

ثم قال –جل وعلا-  {وَالصَّابِئِينَ}، الصابئون أمة من الأمم، قيل بأنهم القوم الذي بُعث فيهم إبراهيم –عليه السلام-، وأصل صبأ في لغة العرب بمعنى عاد، فالصبأة هم الذين عادوا عن دينهم، لكن الذين بقوا يتسمون بهذا الاسم الصابئون؛ هم من عبدة النجوم، ودينهم ملفَّق من مجموعة من الأديان، والذين بقوا إلى وقت النبي –صلوات الله وسلامه عليه- كانوا مشركين، يعبدون النجوم والكواكب، وقد لفَّقوا دينهم من بعض تعاليم اليهودية، ومن بعض تعاليم النصرانية، ومن تعاليم الفلسفة، فهي مجموعة والصحيح أنهم ليسوا أتباع دينٍ سماوي، ولا عندهم كتاب من الله –تبارك وتعالى-، ذُكروا كأمة من الأمم، هذه هي الأمم وهي الفرق الموجودة والنسب.

قال –تبارك وتعالى- إن كل هؤلاء {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ}، من آمن من كل هؤلاء بالله واليوم الآخر، وعمل صالحًا، {فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}، بمعنى كل هذه الأمم، وتكون هذه الأسماء كلها أولًا للتعريف، لا للحقيقة، أي أن الذين آمنوا ليس على الحقيقة؛ حقيقة الإيمان، ولكن الاسم الذي أطلق عليهم للتعريف، والذي هادوا ليس حقيقة أنهم هادوا، بمعنى أنهم هادوا إلى الله –تبارك وتعالى- وأصبحوا يهود، وكذلك النصارى ليس حقيقة النصرة، وإنما هذا كله للتعريف، كما نقول المسلمون، وفيهم من هو مسلم على الحقيقة، ومن ليس مسلمًا على الحقيقة، والصابئين كذلك أمة من أمم الشرك، كل هذه الأمم من آمن بالله؛ أي منهم، كل من آمن بالله –تبارك وتعالى- منهم واليوم الآخر، وعمل صالحًا، {فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}، فإن الله –تبارك وتعالى- يعامل جميع الأمم معاملةً واحدةً، وأن النجاة عنده إنما هي بالإيمان والعمل الصالح، فاشترط الله –تبارك وتعالى- لنجاة أي فردٍ من هذه الأمم، أن يؤمن بالله واليوم الآخر ويعمل صالحًا، من آمن بالله من كل هؤلاء واليوم الآخر وعمل صالحًا، يدخل في هذا اليهود الذين آمنوا بموسى، من كانوا على الدين الحق، من آمن بالله وكذلك آمن باليوم الآخر وعمل صالحًا، والذين آمنوا بعيسى، والذين دخلوا كذلك من هذه الأمم في الدين الحق، يوم كان دينًا حق، لكن اليهود مثلًا الذين بعد عيسى كفروا به؛ فهولاء كفار، لا يسمون ولا يطلق عليهم أنهم آمنوا بالله واليوم الآخر، وكذلك اليهود والنصارى بعد بعثة النبي محمد –صلوات الله وسلامه عليه- ليس فيهم من يجوز أن يطلق عليهم أنهم آمنوا بالله واليوم الآخر وعملوا صالحًا، فإن كفرهم بمحمدٍ –صلوات الله وسلامه عليه- وكفرهم بالله –تبارك وتعالى-، فاليهود عندما كفروا بعيسى؛ كفروا ولا ينفعهم إيمانهم بالأنبياء السابقين على عيسى، كإيمانهم بموسى وإيمانهم بإبراهيم وإيمانهم بما أخبر الله –تبارك وتعالى- قبل ذلك، فإن الكفر بنبي واحد؛ هو كفرٌ بالأنبياء جميعًا، وهو كفرٌ بالله –تبارك وتعالى-.

كل هذه الأمم؛ من آمن بالله على الحقيقة كما وصف الله –تبارك وتعالى- نفسه، كما أنزله في كتبه، واليوم الآخر؛ آمن باليوم الآخر، سمي يوم القيامة باليوم الآخر لأنه نهاية المطاف، هذا اليوم الذي يحاسب الله –تبارك وتعالى- فيه العباد على أعمالهم، ليس بعده يوم، وإنما الذي بعده هو الخلود في الجنة أو النار، وعمل صالحًا لا يكفي الإيمان هنا بمعنى إقرار القلب وشهادة اللسان، بل لابد أن يعمل صالحًا، أي بمقتضى هذا الإيمان، والعمل يشمل عمل القلب من مخافة الله –تبارك وتعالى- ورجائه ومحبته، وكذلك يشمل عمل الجوارح من صلاةٍ أو صيامٍ مما فرض الله –تبارك وتعالى-.

قال –جل وعلا- {فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ}، أي مهما كانوا، مهما كان ماضيه، فإن اليهودي إذا آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحًا، آمن بالله واليوم الآخر كمان أنزله الله –تبارك وتعالى- في كتابه على النبي الخاتم، وعمل صالحًا ولو كان هو في ماضيه يهودي، لا يضره ما صنع أولئك الآباء والأجداد، وكذلك النصراني لا يضره ما كان من انحراف آبائه وأجداده، مادام أنه دخل في الإيمان بالله واليوم الآخر، {فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ}، أجرهم؛ والأجر على الإيمان والطاعة، ربنا –سبحانه وتعالى- أخبر أنه أجر في الدنيا والآخر، أخبر –سبحانه وتعالى- أن كل مؤمن أنه لابد وأن يحيهُ حياةً طيبة، من آمن بالله واليوم الآخر، {............. فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[النحل:97]، وقال عن إبراهيم –عليه السلام- وهو خليل الرحمن، قال {.............. وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنِ الصَّالِحِينَ}[العنكبوت:27]، فالأجر في الدنيا الحياة الطيبة، بمفهوم الحياة الطيبة، قال –جل وعلا- {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ...............}[الأعراف:32]، ثم أجره في الآخرة الجنة، هذا أعظم منّة ورحمة من الله –تبارك وتعالى- على عباده المؤمنين، أن يسكنهم مستقر رحمته، والدار التي ادخرها الله –تبارك وتعالى- لأهل طاعته، {فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ}، وكون هذا الأجر عند ربهم، معناه لا يضيع، لأن هذا وعد من الله –تبارك وتعالى-، وإذا كان الله هو الذي يعد به –سبحانه وتعالى- فإنه لا يضيع، فأجرهم موجود عند ربهم –سبحانه وتعالى-.

{وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ}، فيما يستقبل من الزمان، {وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}، على ما خلَّفوه وتركوه، فهذا تأمينٌ تام لهم من الله –تبارك وتعالى- فيما يستقبلونه، وما يستدبرونه، هذه الآية جاءت في وسط هذا السياق، الذي يُذكِّر الله –تبارك وتعالى- بني إسرائيل بنعمته، وما كان منهم بعد هذه النعم، وكل ذلك ليحثهم الله –تبارك وتعالى- على الدخول في الإيمان، وعلى التصديق برسالة النبي الخاتم –صلوات الله وسلامه عليه-، جاءت لبيان قاعدة؛ وهي أن الله –تبارك وتعالى- إنما الحساب عنده إنما هو بالإيمان والعمل الصالح، وأنه يحاسب كل الأمم وفق هذه القاعدة،  {..................مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}[البقرة:62].

ثم يعود سياق الآيات بعد ذلك لتذكير بني إسرائيل بأنعام الله –تبارك وتعالى- وأفضاله، ثم مروقهم وخروجهم عن طاعة الرب –جل وعلا-، قال –جل وعلا- {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[البقرة:63]، {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ}[البقرة:64]، {وَإِذْ أَخَذْنَا}، أي اذكروا، {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ}، ميثاقكم العهد؛ الميثاق هو العهد المؤكد، {وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ}، عند أخذ الميثاق، والطور هو الجبل، ورفع الله –تبارك وتعالى- للطور وذلك أنهم لما رفضوا أن يقوموا بما كلفهم الله –تبارك وتعالى- به، أمر الله جبريل فنتق الجبل من مكانه، ووضعه فوق رءوسهم جميعًا، وقيل لهم إن لم تأخذوا وتعملوا بما أمرتهم به، أسقط الله –تبارك وتعالى- الجبل عليكم، فسجدوا؛ وكان كل منهم يسجد على عين، وينظر بالعين الأخرى إلى الجبل فوقه، {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ}، بهذه الصورة، ليأخذوا ويلتزموا بالعهد الذي يعادهم الله –تبارك وتعالى- به.

{خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ}، أي قيل لهم خذوا ما آتيناكم؛ ما أعطيناكم، من هذا العهد والميثاق بقوة، أي بحماسٍ ونشاطٍ وقوة في الأمر، وعدم تهاون فيه، بل اعملوا ما أمركم الله –تبارك وتعالى- عازمين نشطين في هذا الأمر، غير ضعفاء ولا متخاذلين، {وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}، اذكروا ما فيه ليظل هذا العهد على ذكرٍ دائم منكم لا تنسوه، ولا تلقوه خلف ظهوركم، {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}، أي أنه إنما وضع لكم عبادة لله –تبارك وتعالى- حتى تتقوه، تصلوا إلى التقوى، أي تجعلوا بينكم وبين عقوبة الله –تبارك وتعالى- وقاية.

لكن ما الذي حصل من بعد ذلك؟ قال –جل وعلا- {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ}، التولي هو الإعراض، كأن أعطيتم ظهوركم لهذا العهد الذي أُخذ عليكم بهذه الصورة، أي القوية الظاهرة القاهرة، ومع ذلك وضعتم خلفتم هذا العهد خلف ظهوركم، وكأنكم لم تعاهدوا الرب، ولم تروا قدرته عليكم في أن ينزل بكم عقوبته كيفما شاء، قال –جل وعلا- {فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ}، فلولا فضل الله –تبارك وتعالى- عليكم ورحمته، بالإمهال وبدعوتكم على ألسنة الرسل المرة تلو المرة، بأن تتوبوا وترجعوا إليه –سبحانه وتعالى-، {لَكُنتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ}، أي متم على الكفر، علىى كفركم وعنادكم، وبالتالي تكونوا من الخاسرين، والخسارة هي خسارة النفس وخسارة الأهل، خسارة كل شيء، من كان في النار خالدًا فهو قد خسر كل شيء،  قال {.................إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ}[الزمر:15].

ثم قال –جل وعلا- لهم {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ}[البقرة:65]، إن التولي عن أمر الله –تبارك وتعالى- فيه عقوبة شديدة، ويُذكِّرهم الله –تبارك وتعالى- بعقوبة شديدة مما عاقب به أسلافهم، وأنها عقوبة في منتهى الشدة، قال {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ}، أي يا بني إسرائيل، {الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ}، المجموعة التي اعتدوا منكم في السبت، وقد فصل الله –تبارك وتعالى- حقيقة عدوان هذه المجموعة، كما قال –جل وعلا- {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ .........}[الأعراف:163]، قرية كانت من قرى الأرض المقدسة التي سكنوها على شاطئ البحر، حاضرة البحر، {إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ}، يعدون في السبت يصيدون السمك في يوم السبت، وقد حرم عليهم العمل في هذا اليوم بطلبهم، بدء تحريم السبت إنما طلبوا يومًا يتفرغون فيه للعبادة، فكتب عليهم، واختاروا هم السبت، فكتب عليهم هذا اليوم، وشدد عليهم فيه ألا يعملوا شيئًا من أعمال الدنيا قط في هذا اليوم، وهؤلاء الذين كانوا في هذه القرية، وفي هذه المدينة، كانوا يصيدون السمك في هذا اليوم، ولكن يصيدونه بحيلة تحايلوا فيها، وقيل أنهم كانوا يحفرون حفائر في البحر، إلى أحواض خارجية، يدخل فيها السك، ثم يغلقونها في يوم السبت عندما يأتيهم الصيد، وينشلونها في يوم الأحد، أو يلقون شباكهم على السمك الذي يأتيهم شُرَّعًا، كما قال –تبارك وتعالى- {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا}، الحيتان تأتيهم يوم السبت شُرَّعًا، أي لا تفر منهم، {وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ}، أي ابتلاهم الله –تبارك وتعالى- بهذا الطمع بسبب فسقم، فأرسل أسماك البحر عليهم تأتيهم جماعات زُرافات ووحدات تنطح البر، ويوم لا يسبتون لا تأتيهم، {كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ}، فملا رأوا ذلك تحايلوا على هذا، بهذه الحفائر أو بشباك يلقونها على السمك في يوم السبت، ثم يجرون هذه الشباك في يوم الأحد.

فكان من عقوبة الله –تبارك وتعالى- لهم، أن مسخهم قردةً وخنازير، قال –تبارك وتعالى- {فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ}[الأعراف:166]، كونوا هذا للتسخير والتصيير أمر كوني قدري، عاقبهم الله –تبارك وتعالى- الذين استحلوا السمك على هذا النحو، بأن مسخهم قردة على هذا النحو، {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ}[المائدة:60]، فالله يذكرهم بها، يذكرهم عقوبته –سبحانه وتعالى- كيف عاقب هذه المجموعة منهم هذه العقوبة الشديدة، بسبب كفرهم بالله –تبارك وتعالى- وتحايلهم على الأمر الذي أمره الله –تبارك وتعالى-.

 {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ}[البقرة:65]، {فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ}[البقرة:66]، فجعلناها أي هذه القرية بالعقوبة التي أنزلها الله –تبارك وتعالى- في أهلها نكال؛ النكال العقوبة الشديدة، فالتنكيل هو المعاقبة عقوبة شديدة، تكون تحذير لمن تصبه هذه العقوبة، {فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا}، قيل ما بين يديها أي ما أمامها من القرى، وما خلفها كذلك، وكل المحيط، وقيل لما بين يديها من الزمان، وما خلفها من الزمان، أن هذه قد ذكَّر الله –تبارك وتعالى- بها قبل أن توجد، وذكَّر من الناس مثلنا الآن نذكر بها، بعد أن وجدت لتكون هذه رادع لما يأتي بعد ذلك من الزمان، {فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ}[البقرة:66]، موعظة أنها وعد زاجر، تعظ بمعنى أنها تجعل من يريد مخالفة الأمر، أن ينظر إلى هذه العقوبة فينزجر، ويبتعد عن المعصية، خوفًا أن يصيبه مثل ذلك، {فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ}[البقرة:66]، الخائفين من الله –تبارك وتعالى-.

ثم بعد ذلك شرع الله –تبارك وتعالى- يبين أيضًا صورة من صور العنت، أي تعنت بني إسرائيل، وتلكؤهم في تنفيذ الأمر الإلهي، قال –جل وعلا- {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً ................}[البقرة:67]، هذه قصة وواقعة كذلك من وقائع بني إسرائيل، تبين عنتهم، إذ قال موسى النبي –صلى الله عليه وسلم- لقومه؛ بني إسرائيل، {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً}، يأمركم الله –تبارك وتعالى- بأن تذبحوا بقرة، والسبب هو ما ذكره الله –تبارك وتعالى- في آخر هذه القصة، {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ}[البقرة:72]، {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا ...............}[البقرة:73]، أنه وقع بين سبطين من أسباط بني إسرائيل خصومة، وأنه قتل رجل منهم، فلما قتل رجلٌ منهم كتموا الأمر، ولم يعترف القاتل، والذين عرفوا القاتل كذلك كتموا الأمر، ولم يعرف من قاتله، وحاول موسى –عليه السلام- أن يخرج القاتل، فلما تمالئوا على كتمانه، وكلٌ صار يدرأ التهمة عن نفسه إلى الأخر، {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا}، ادارأتم بمعنى تدافعتم، كلٌ يدفع بالتهمة إلى الفريق الأخر، قال –جل وعلا- {وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ}، فكان من شأن أن طلب منهم موسى أن يذبحوا بقرة، وقال لهم {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً}، وهذا أمر إلهي، جاء على لسان هذا الرسول، {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ}، فالله هو الذي يأمر، و{أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً}، بقرة اسم نكرة، أي بقرة، لو أخذوا أي بقرة كانت صغيرة كبيرة بيضاء صفراء سوداء وذبحوها، يكون قد نفذوا الأمر الإلهي، كما أُمروا به.

لكن كان أول رد فعل {قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا}، كيف يكون هذا رد على رسول يقول لهم {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً}، لست أنا، كيف يتأتى أن يظنوا في رسولهم؛ رسول الله أن يكون مستهزءًا، هل يمكن أن يكون رسول يستهزئ بقومه فيخبرهم أن الله يأمرهم بأمر، والحال أن الله لم يأمرهم، هذا أمر بعيد، بل هذا تشكيك في النبي نفسه، وفي الرسول نفسه، ومن موسى –عليه السلام- الذي شاهدوا من آيات الله ومعجزاته، التي أجراها الله –تبارك وتعالى- على يديه، الأمر عظيم جدًا، كيف يتأتى أن يقولوا لرسولهم {أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا}! وهذا من عجيب بني إسرائيل، صلابتهم وقسوة قلوبهم على هذا النحو، كذلك قلة عقولهم، قال لهم نبيهم لما قالوا هذا، {قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ}، عياذًا بالله، ألتجئ إلى الله –تبارك وتعالى- أن أكون من الجاهلين، من أعظم الجهل أن يكون الإخبار عن الله –تبارك وتعالى- مادة للسخرية والاستهزاء، وكيف يتأتى لنبي أن يستهزئ بقومه! فيقول لهم إن الله يأمركم مثلًا أن تذبحوا بقرة، ولم يأمره الله –تبارك وتعالى- أو أن يفعل هذا على وجه الهزء والسخرية، {قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ}، فانتقلوا إلى مرحلة أخرى من العنت، لما عرفوا أن هذا أمر الله، وأن موسى النبي هو الذي يأمرهم بذلك، كان المفروض بعد ذلك، وإذ قال لهم هذا، أن يقولوا سمعًا وطاعة، ظننا أن الأمر فيه هزء أو مزحة، ولكن ما دام أن الأمر أمر الله –تبارك وتعالى- فإنا ذاهبون إلى تنفيذه، ولكن انظروا ماذا كان منهم، وهذا -إن شاء الله- نكمله في حلقة آتية -إن شاء الله-.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد.