الجمعة 21 جمادى الأولى 1446 . 22 نوفمبر 2024

الحلقة (240) - سورة التوبة 63-69

  الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله الأمين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد, فيقول الله -تبارك وتعالى-: {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ}[التوبة:64], {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ}[التوبة:65], {لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ}[التوبة:66].

الآيات مِن سورة براءة (التوبة)، والسياق الذي نحن فيه مِن السورة، وفي بيان صفات وأعمال هؤلاء المنافقين، وتسمية أُناس بأعمالهم, وليس بأسمائهم في قول الله -تبارك وتعالى- ومنهم ، ومنهم ، ومنهم ، دون أن يذكرهم الله -تبارك وتعالى- بأسمائهم، حتى لا يكون هذا فضيحةً لهم بأعيانهم أبد الدهر، وقد يتوب الله -تبارك وتعالى- على بعضهم، ولكن الله -تبارك وتعالى- فضح في هذه السورة سرائرهم ، وأظهر مفتوناتهم، و سَمَّى مجموعاتهم بأعمالهم، وهذا لأمورٍ عظيمة، يحذرهم المؤمنون، ثم ليكونوا هذا مثالًا يُعرف به صفات المنافقين في كل عصورهم وأزمانهم، فإن هذا العمل هو نفسه يتكرر من المنافقين في كل وقت وحين، فقال -جل وعلا- هُنا: {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ}: كانوا يفعلون ما يفعلون مِن هذه الخبائث من كفرهم بالله -تبارك وتعالى-, وتغطيتهم أنفسهم بأن يشهدوا للنبي، ويحلفون بالإيمان المُغَلَّظة أنهم مسلمون، وأنهم ممن يشهدون أن لا إله إلَّا الله وأن محمد رسول الله، وأنهم معه, كانوا يطعنون في النبي -صلى الله عليه وسلم-, ويطعنون في أهل الإسلام، {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ}، كان هذا فعلهم في الصدقة, فعلهم في الجهاد، فعلهم في النفقة، يعملون ما كانوا يعملونه من أعمال الكفر الخفية، وما يضمرونه في قلوبهم، وكانوا دائما على خوف وترَقُّب، أن يُظهِر الله -تبارك وتعالى- مكنوناتهم هذه إلى الملأ وإلى العَلَم، وأن يفضحهم -سبحانه وتعالى- بأعمالهم, وكانوا في غاية الحذر من هذا, فوقع ما كانوا يحذرون، قال -جل وعلا-: {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ}: كانوا حَذرين من هذا، ويخافون يَفتَضِح أمرهم.

قال -جل وعلا-: {قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ قُلِ اسْتَهْزِئُوا}: أي أفعلوا ما كنتم تفعلون فيه مِن الاستهزاء بالله، وبرسوله، وبالمؤمنين، {اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ}: قد أخرج الله -تبارك وتعالى- الذي تحذرونه وهو فضيحتكم على الملأ وما كنتم تُكِنُونَهُ في صدوركم إلى العَلَم، {إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ}: الذي تحذرونه.

ثم قال -جل وعلا-: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ}[التوبة:65], {لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ}[التوبة:66]: وكان هذا الأمر في غزوة تبوك الذي وقع منهم أنهم قالوا في مجموعة منهم بعضهم لبعض، لم نرى مثل قُرَّاءِنا, أرغب بطونًا، وأجبن عند اللقاء، يستهزئون بِحُفَّاظ القرآن حول النبي -صلوات الله والسلام عليه-، ولاشك أنهم قد أدخلوا بهذا رسول الله -صلوات الله والسلام عليه- معهم في هذا الاستهزاء فى أنهم أرغبوا بطونًا: أي يأكلون كثيرًا, وأجبنُ عند اللقاء: أي إذا حُمَّىْ اللقاء مع العدو فإنهم يفِرُّون، ثم إنَّ الله -تبارك وتعالى- فضحَ مقالاتهم هذه وأخبر بها رسوله، وأنزل فيها هذا القرآن وأخبره بأنهم سيأتون ليعتذروا مِن هذه عندما تُكْشَف، وتُعلَم مقالاتهم، قال -جل وعلا-: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ}: أي عمَّ قالوه مِن الاستهزاء بالقُرَاءّ؛ بُحفَّاظ القرآن مع النبي -صلوات الله والسلام عليه-، {لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ}: بلام التأكيد، والنون المؤَكِدة، {إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ}: أي كُنَّا نُسَلِّى الطريق، وكانت هذه مزحة لا نريد بها الاستهزاء بقُرَّاءِنا, بالله ورسوله، وإنما هي تسلية وضحك نُسَلِّى بها الطريق في مسيرنا، {إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ}, ولم يكن قصدنا وإرادتنا الاستهزاء.

قال -جل وعلا-: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ}[التوبة:65]: أي أهذا هو موضوع للعب أن تستهزئوا بالله؟ وذلك أن هؤلاء قُرَّاء منسبون إلى الله -تبارك وتعالى-، واستهزائهم فيهم من أجل أنهم حفظة كتاب الله، واستهزائهم كذلك بالنبي -صلىوات الله عليه وسلم-, فهو مُحَفِّظُهُم وهو مُعَلِّمَهُم -صلى الله عليه وسلم-، ثم إن استهزاء بهؤلاء المؤمنون هم منسبون إلى الرب -سبحانه وتعالى-, ومنسبون إلى هذا النبي الكريم -صلوات الله عليه وسلم-، منسبون إلى هذا الدين, فيقع استهزائهم فيه على الله -تبارك وتعالى-, وعلى رسوله، قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ: القرآن؛ هؤلاء حُفَّاظ القرآن, وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ، {لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ}: أي لا تعتذروا فإن عذركم لن يُقْبَل، عذركم غير مقبول، ثم إن هذا إقرارهم أنهم أقرُّوا بأنهم بالفعل استهزئوا بالله وبرسوله, وأنَّ هذا كان منهم على مَحْمَل اللعب والضحك، وليس على مَحْمَل أنهم يقصدون التنقص حقيقةً مِن القُرَّاء, لا تَعْتَذِرُوا, قال -جل وعلا-: قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ: هذا الفعل كُفر، فهو في الاستهزاء بالله وبرسوله وبالمؤمنين مِن أجل إيمانهم إذا وقع حتى لو لم يواطئه القلب، وأن يكون المقصد هوالاستهزاء, وإنما إذا وقع الاستهزاء منهم على هذا النحو فإن هذا كفرٌ بعد إيمان، قال: {لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ}, {إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ}: فتح الله -تبارك وتعالى- باب العفو عن طائفة منهم ربما إنهم كانوا فقط ممن يستمعون أو لم يشاركوا في هذا، وإنما كانوا قد حضروا هذا ولكنهم مجرمون أنهم لم ينكروا هذا بقلوبهم ولم يرفضوا هذا، فإنا الساكت كذلك عن من يخوض في آيات الله -تبارك وتعالى- إذا جلس معه يكون مثله، كما قال -سبحانه وتعالى-: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}[الأنعام:68], ثم أنزل الله -تبارك وتعالى- بعد ذلك: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا}[النساء:140], فقال -جل وعلا-: {إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ}: أن قَبِل الله -تبارك وتعالى- توبتهم ورجعوا إلى الله -تبارك وتعالى-, نُعَذِّبْ طَائِفَةً: وهذا فيه تأكيد الله -تبارك وتعالى- أنه سَيُعَذِّب طائفة بأن يخذلهم -سبحانه وتعالى-, ويبقوا في ما كانوا فيه من هذا الاستهزاء، {بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ}: بسبب أنهم كانوا مجرمين، وارتكبوا هذا الجُرم الفظيع وهو الهُزء بكتاب الله -تبارك وتعالى-, بالله, وبآياته ورسوله، وبالمؤمنين، فهذا أكبر الإجرام؛ لذلك الله -تبارك وتعالى- أخبر بأنه سيُعَاقِب ويعذب طائفة مِن هؤلاء.

ثم أتى الله -تبارك وتعالى- بوصف جامع لازم لأهل النفاق، فقال: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}[التوبة:67]: هذه الآية جمعت صفات المنافقين، فأول أمر قال -جل وعلا-: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ}: المنافقون جمع منافق، والمنافقات: أي الذُكران والإناث، {بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ}: أي هؤلاء شكلٌ واحد، وكأنهم صفاتٌ متحدة، فهذا مثل هذا، كأنهم جنسٌ واحد رجالهم ونسائهم.

قد عَرَّفْنَا وعَرَفْنَا النفاق قبل ذلك بِأن النفاق: إظهار الأسلام وإبطان الكُفر، قِيل إنه مأخوذٌ في اللغة مِن نافِقاء اليربوع, وذلك أن اليربوع تجعل لها مجموعة مِن الجحور لببيتها، ثم تتخذه سربًا وجُحرًا لا تفتحه، وإنما تجعل عليه طبقة رقيقة من التراب فَتُخْفِيه، فإذا جاء مَن يصيدها والتمسها مِن هذه الغيران المفتوحة خرجت مِن ذلك المكان الذي لا ينتبه إليه، ففيها نوع مِن المراوغة، فهؤلاء استُعِير هذا الاسم وهو المراوغة لهؤلاء المنافقين؛ لأنهم مُرَاوِغُون يُظهرون حقيقة الإسلام ولكنهم يٌخْفون في باطنهم حقيقة الكُفر، وهذا المنافق الخالص الذي هو في الدرك الأسفل مِن النار، عياذًا بالله.

هُناك أعمال لهؤلاء المنافقين، أعمال ظاهرة، كالكذب، وإخلاف الوعد، والفُجر في الخصومة، وخيانة الأمانة، والتكاسل عن الصلاة، الإنفاق مع الكراهية، التأخر في الخروج للغزو، صفات يَتَّصِف بها هؤلاء، بعض هذه الصفات لو أن المؤمن أتَّصف بها فيكون فيه شعبة من شُعب هذا النفاق، كما قال النبي: «أربع مِن كُنَّ فيه كان منافقًا خالصًأ، ومَن كانت فيه شعبة منهن كانت فيه شعبة مِن النفاق حتى حتى يدعها» فيكون مؤمن لكن فيه خصلة مِن خصال النفاق أو أكثر من خصلة، لكن لا تجمتع هذه الأربع خصال إلَّا في منافق خالص، أن يكون خائنًا للأمانة، كاذبًا، مخلفًا للوعد، فاجرًا في خصومته, إذا اجتمع في مؤمن هذه الخصال الأربع، أو في شخص هذه الخصال الأربع، فإنه لا يكون إلَّا منافقًا خالصًا عياذًا بالله من ذلك.

فالله يقول: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ}: صفاتهم واحدة وكأنهم جنسٌ واحد، َ{يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ}: هذا حالهم, أمرهم بالمنكر, مخالفة أمر الله- تبارك وتعالى-, وأمر رسوله مع تظاهرهم بغير ذلك, الدَّس الخُبْث، التفريق بين المؤمنين، فأوامرهم دائمًا إنما تكون بالمنكر، وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ: ينهون عن الإخلاص لله -تبارك وتعالى- والسير في طريق الله؛ لأن هذا كافر في قلبه، فلا يصدر منه في قلبه إلَّا الكذب, إن ظهر شيء حقيقي من الخير فهو كذب، هذا تغليف، وإلَّا فإنه كل أوامره إنما تكون على مضادة أمر الله -تبارك وتعالى- وأمر رسوله.

{وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ}: قبض اليد أي عن الإنفاق، فلا ينفق في سبيل الله بنفسٍ طيبة، واحتساب للأجر والثواب عند الله, هذا شأن المؤمن الذي يتصدق يريد ثواب ذلك من الله -تبارك وتعالى-، أمَّا المنافق كافر القلب، فإنه إن أنفق فينفق كرهًا وإلَّا فيده مقبوضة عن الإنفاق في سبيل الله, قال -جل وعلا-: وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ.

 قال -جل وعلا-: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ}: فهذه حقيقتهم أنهم نسوا الله المُطَّلِع عليهم، نسوا الله -سبحانه وتعالى- خالق السماوات والأرض الذي هذا طريقه، وهذا شِرعَته، نسوا الله أنه مُجَازىٍ لهم -سبحانه وتعالى- على أعمالهم يوم القيامة، قال -جل وعلا-: {فَنَسِيَهُمْ}: نسيهم عقوبة لهم أنَّ الله -تبارك وتعالى- نسيهم من رحمته -سبحانه وتعالى- لم يرحمهم، لم يوفقهم، لم يهديهم، بل تركهم الله -تبارك وتعالى- في غيهم، وفي كفرهم، وعنادهم، ونسيهم هُنا، الله لا ينسى أحد -سبحانه وتعالى- أي لا يخرج عن علمه -سبحانه وتعالى- وإنما نسيهم بمعني أنه تركهم -سبحانه وتعالى- في غيهم، وفي فجورهم، وفي كفرهم، وهذا أعظم عقوبة أنَّ الرب -تبارك وتعالى- ينسى عبدًا مِن خلقه ينساه فيتركه في إجرامه، وفي فسقه، وفي فجوره لا يذكره الله -تبارك وتعالى- برحمته، ولا يوفقه إلى الطاعة، والعناية.

ثم قال -جل وعلا-: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}: فجعل الله -تبارك وتعالى- أهل النفاق هم أهل الفسق، {هُمُ الْفَاسِقُونَ}: الفسق: هو الخروج عن الطاعة، فأخبر -سبحانه وتعالى- هؤلاء هم الخارجون عن الطاعة، فهم الخارجون عن طاعته -سبحانه وتعالى-, وهذا بيان أنَّ أعمالهم الظاهرة كأنها لم تكن، فأعمالهم الظاهرة من فعل الخير، من صلاتهم من شهادتهم أنَّ لا إله إلَّا الله، وأنَّ محمد رسول الله، من مشاركتهم للمسلمين في ما هم فيه، كأنه لم يكن، فهم الفاسقون بحالهم ووضعهم, {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}: الخارجون عن طاعة الله -تبارك وتعالى- وطريقه.

ثم تَهَدَّدَهم الله -تبارك وتعالى- فقال: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ}[التوبة:68]: هذه آية شديدةٌ عظيمةٌ جدًا، هنا قال: {وَعَدَ اللَّهُ}, والوعد عند الله لا يُخْلَف -سبحانه وتعالى-، والوعد وإن كان دائمًا بالخير لكن هُنا جاء وعد بالشر، هذا وعد بالشر ليكون هذا استهزاء لهم، وبيان أنَّ هذا حق، {وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ}: فبدأ بالمنافقين قبل الكفار ذكورًا وإناثًا؛ ليُبيِّن أنَّ حتى الإناث ليسوا خارجين من هذا الوعيد بل هن موعودات كذلك مع الرجال, {وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ}: الكفار بجنسيهم, لكن جمعهم الله -تبارك وتعالى- وجعلهم في خلف هؤلاء؛ ليبين أنَّ هذا المبدوء به بالذِكر أعظم، نَارَ جَهَنَّمَ: هذه موعدة الله -تبارك وتعالى- لهم, وذكر النار وليس جهنم لأنها هي النار نفسها، نَارَ جَهَنَّمَ, هذه النار خَالِدِينَ فِيهَا: ماكثين فيها مكثًا لا ينقطع.

، ثم قال -جل وعلا-: {هِيَ حَسْبُهُمْ}: هذه تكفيهم، أي أن هذا الجزاء يكفيهم للآلم، والعذاب الذي ليس بعده عذاب، هِيَ حَسْبُهُمْ, ثم فهي كافيتهم، وهي كذلك جزائهم, أي هذا الجزاء كافي لهذا العمل الذي فيه، وهذا بالطبع أمرٌ عظيمٌ جدًا، هذا سجن النار عياذًا بالله الذي يظلون فيه خالدين فيه خلودًا لا ينقطع عياذًأ بالله، {هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ}: طردهم من رحمته وأبعدهم -سبحانه وتعالى-، لأن اللعن في لغة العرب: هو الطرد والإبعاد، العرب تقول نحن بنوا فلان لعنا فلان منا بمعني أنهم طردوه، وكانت القبيلة تطرد إبنها الذي تكثر جرائره، ومشاكله، فتلعنه، بمعنى أنها تفارقه ولا تحب أن يُنسب إليها، وبالتالى إذا جرا على نفسه جريمة فهو يتولاها مع من أجرم معه، بعكس القبيلة يتولى بعضها بعض، فإذا لعنوا أحدًا منهم بمعنى أنهم طردوه من جماعتهم، اللعن في كلام الله -تبارك وتعالى- وكلام رسوله هو: الطرد من الرحمة، كما قال الله لإبليس: {قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ}[ص:77], {وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ}[ص:78]: فأخرجه الله -تبارك وتعالى- من رحمته -سبحانه وتعالى- وجعل هذه اللعنة والغضب ملازمين له عياذًا بالله، وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ: بمعنى أنه أبعدهم -سبحانه وتعالى- من كل رحماته، {وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ}: لهم في هذه اللعنة، وفي هذه النار عذاب مقيم، أي لا يرتحل لا يفارقهم وإنما هو مقيم معهم عياذًا بالله.

ثم قال -جل وعلا-: {كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}[التوبة:69]: شبَّه الله -تبارك وتعالى- صنيع هؤلاء المنافقين وفعلهم بصنيع من سبقهم من الكفار، قال -جل وعلا-: كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ: أي مثل هؤلاء كمثل الذين من قبلكم, أنتم هذه الأمة التى بُعِثَ فيها النبي -صلوات الله والسلام عليه-، كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّة: كان هؤلاء الكفار الذين بُعِثَ فيهم الرسل قبل هذا أشد قوة من قوة هذه الأمم الذي بُعِثَ فيها النبي، كعاد القبيلة الشديدة خَلقًا، وصناعة، وبناءًا، {وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ}[الفجر:9]: شقوا الصخر بالواد، فبنوا بيوتهم صخور بيوت عظيمة فارهة، {وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ}[الفجر:10]: فهؤلاء بنوا، وشادوا، وعمَّروا وتركوا هذا ما يُسَمَّى بالحضارة, هذه الأبنية القوية، الشاهقة، والأعمال الهائلة، فهؤلاء يقول الله: كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلادًا، عندهم من الأموال، والأولاد أكثر مما عندكم أنتم، ما أعطاهم الله -تبارك وتعالى-.

 قال -جل وعلا-: {فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ}: استمتعوا على وجه التلذذ والشهوة بخلاقهم بنصيبهم الذي قُدِّرَ لهم، الخلاق: هو النصيب فهذا نصيبهم وحظهم من هذه الدنيا الذي أعطاه الله -تبارك وتعالى- لهم أخذوه فاستمتعوا به، استمتاعًا كاملًا، أي حققوا مرادهم، وشهواتهم، وعاشوا فيه لا لغيره، لكن استمتاع بهذه الدنيا دون نظر أن تكون هذه الدنيا قنطرة ومِعبرة إلى الأخرة، وأن يتخذوا ما أعطاهم الله -تبارك وتعالى- فيها وسيلة إلى جنته ومرضاته، وإنما هذا هو نصيبهم وهي حياتهم، فعاشوا فيها مستمتعين بما فيها وليس وراء ذلك شىء، فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ، قال -جل وعلا-: {فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ}: أي أنتم كذلك أيها المخاطبون من هؤلاء الكفار استمتعتم بخلاقكم مع قلته وأنه ليس كخلاق ونصيب وحظ مَن كان قبلكم، كذلك أنتم ركنتم إلى هذه الدنيا، واستمتعتم بها أكلًا، وشربًا، ولذة، وتشهيًا في هذه الدنيا، وليس عندكم وراء ذلك شىء، لا تنتظرون بعثًأ، ولا نشورًأ، ولا حسابًأ على أعمالكم، فكان عملكم في حياتكم للدنيا فقط هو عمل من كان قبلكم من أمم، معى ما  كان لتلك الأمم من الأموال، والأولاد، والغنى، والثراء الذي كانوا فيه، أعظم مما كان لكم.

 {فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا}: خضتم بالباطل في آيات الله -تبارك وتعالى- مثل ما خاض أولئك، أصل الخوض هو السير في الماء، ومن يسير في الماء لا يأمن أن يكون فيه حفرة، فيه شىء عمي فيقع فيه, فإنه لا يكون متبصرًا فيه، فسُمِّي لمن يدخل في أمر وهو لا يعرف البصيرة فيه كمن يخوض الماء، وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا: أي تكلمتم في آيات الله -تبارك وتعالى-، وفي الرسالات، وفي الدين، وجحدتم البعث والنشور، كما خاض السابقون في تكذيبهم للرسل، وقولهم على الله بلا علم، وتشريعهم ما شاءوا، وتركهم ما يشاءوا، كمن يخوضوا في مخاضة لا يدري ما أمامه، وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا, قال -جل وعلا-: {أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} أي الأمم السابقة الذين فعلوا ذلك حبطت أعمالهم، حبطت: هلكت، فما عاشوه، وما بنوه، وما أقاموا فيه, كل هذا لن يغني عنهم من عذاب الله -تبارك وتعالى- شيئا، أهلكهم الله -تبارك وتعالى- وذهبت دنياهم التى تعلقوا بها، وعاشوا من أجلها، وكان مصيرهم إلى النار عياذًا بالله.

 {حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ}: فكذلك في الآخرة لا تنفعهم هذه الأعمال التي عملوها حتى ما أرادوا به الآخرة ممن كان يريدون ما يعيشون به بعد الموت، لا يقبله الله -تبارك وتعالى-؛ لأنهم كانوا أهل كفرِ وشركِ، فلذلك لا يقبل الله -تبارك وتعالى- أعمالهم.

{أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}[التوبة:69]: وأولئك الذين هذه صفتهم ممن عاشوا للدنيا فقط، وكرهوا أمر الله -تبارك وتعالى- وخاضوا في آيات الله بغير علم، {هُمُ الْخَاسِرُونَ}: عن الحقيقة، الخسارة أن تفقد شيء مما لك، لكن أعظم الخسارة  خسارة الكافر يوم القيامة؛ وذلك أنه يخسر كل شيء حتى نفسه، فإنه لا يخسر فقط ماله، وأولاده، وحياته, لا, هو يخسر نفسه وذلك أنه يريدها النار ويبقى في هذه النار معذبًا، لا يموت موتًا يستريح فيه ولا يحيا حياة تنفعه, {أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}: الخسارة التي بعدها خسارة { {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ}[الزمر:15], نعوذ بالله من حالهم.

 نقف هنا, -وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد-.