الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبده الرسول الأمين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومَنْ اهتدى بهديه, وعَمِلَ بسنته إلى يَوْمِ الدين.
وبعد, فيقول الله -تبارك وتعالى-: {كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}[التوبة:69], {أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}[التوبة:70], أخبر -سبحانه وتعالى-: بأن شأن المنافقين الذين جاءت هذه السورة في عامة أياتها؛ لفضيحتهم, وبيان أعمالهم أنَّ شأنهم شأن الكفار الذين سبقوهم: لهم السابقة, عاشوا لدنياهم فقط استمعتوا بها، ونسوا الله -تبارك وتعالى- فكانت هذه عقوبة الله قال: {كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ}, أي شأنكم أيها المنافقون, والكفار كالذين من قبلكم شأنكم كهؤلاء كانوا أشد منكم قوة، وأكثَرُ أموالًا, وأولادًا, فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ, استمتعوا بدنياهم, خلاقهم: هو نصيبهم من هذه الدنيا, ثم قال -جل وعلا-: { فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ}, نفس الأمر أنتم كذلك عشتم لهذه الدنيا فقط, وجعلتم هي أمالكم, وَتلَذَّذْتُم بها, وعشتموها وتركتم نسيتم الله -تبارك وتعالى- والدار الآخرة, وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا: في آيات الله, {أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ{.
ثم قال -جل وعلا-: {أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} أي قد جاءهم نبأ الذين من قبلهم، وكذلك حَمَلتْهُ الأخبار التى تناقلتها الأمم إلى أن وصلتهم, { أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ}, قوم نوح وقد قَصَّ الله -تبارك وتعالى- من قصصهم، وقصتهم موجودة في الكتب السابقة في التوراة، والعالم يتناقلوها فإنه قد كان حدثًا ضخمًا؛ هذا الطوفان العظيم الذي غَطَّىْ هذه الأرض كلها, وأهلك الله -تبارك وتعالى- فيه كل أهل الكفر من قوم نوح, ولم يُنجي الله -تبارك وتعالى- إلَّا أصحاب السفينة: نوح, والذين أمنوا معه, ثم دواب هذه الأرض الذي حَمَلَ نوح فيها من كل زوجين اثنين فقط حتى تعود الحياة من جديد, فنوح هو آدم الثاني, وقد أهلك الله -تبارك وتعالى- الباقي لم يبقي منهم أحد, ألم ينظروا فعل الرب، وصنيع الرب -سبحانه وتعالى- في الكافرين؟! فهذا فعله، وصنيعه -سبحانه وتعالى- في هؤلاء الكفار.
وعَادٍ: هذه القبيلة العربية القوية الشديدة التي كانت تسكن في الأحقاف في جنوب هذه الجزيرة، والتي كانت تفخر تقول: مَنْ أَشَدُّ مُنَّاْ قُوَّةً, الذين بنوا, وأفسدوا, وفعلوا, ثم إنَّ الله -تبارك وتعالى- أهلكهم, كما قَصَّ الله-تبارك وتعالى- إهلَاكَهُم، وكان إهلَاكَهُم بشيء لا يتوقعوه أن أتتهم ريح سَفَتْ عليهم حتى أهلكتهم, ريح عقيم, وأهلكهم الله -تبارك وتعالى-, وأخزاهم في أماكنهم وفي قصورهم، وفي دُوْرهِم, كما قال الله: }........ فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ{[الحاقة:7], {فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ}[الحاقة:8].
وثمودَ: قبيلة عربية قوية بَنَتْ، وعَمَرَتْ, وأقامت في هذه الأرض, ثم لَمَّاْ كَذَّبَتْ رُسُلَ الله كَذَّبُوْا رسولهم صالح, عقروا الناقة, عتوا عن أمر ربهم ماذا كان صَنِيْعُ الرب -تبارك وتعالى- بهم؟ أرسل لهم الملك الذي صاح فيهم صيحًة واحدة, كما قال -جل وعلا-: {إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً........ }[يس:29], }........فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ}[القمر:31]، حَرَّاْهُمْ الله -تبارك وتعالى-, جعل هذه السادة هم تتهرى كأنها الهشيم المُحْتَظِرْ، أي هذا العشب الذي تَحْتَظِرُهْ سَنَة فإنه يتهرى في أخر السنة؛ ليصبح خلاص شيء، فهذا صنيع الرب -تبارك وتعالى- بهم.
وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ: الذين أهلكهم الله -تبارك وتعالى- نُمْرُوْزْ وجماعة الذين تَكَبَّرُوا ماذا كانت نهايتهم؟ أنجى الله -تبارك وتعالى- عبده ورسوله إبراهيم عليه السلام, وكذلك أهلك هذه الأمم وبادوا كما باد اشياءهم, وقيل إنَّ نُمْرُوْزْ هذا أدَّعَىْ الألوهية وقال لإبراهيم: أنا أُحْىِ وأُمِيْت؛ لَمَّاْ قال له إبراهيم: ربي هو الذي يُحْىِ ويُمِيْت قال: أنا أُحْىِ وأُمِيْت, فهذا الذي أدَّعى حتى أنَّه يُحْىِ, ويُمِيْت, سَلَّط الله -تبارك وتعالى- عليه آلام في رأسهِ جُرْثُوْمَة صغيرة في رأسهِ, فكان لايَسْكُنْ إلَّا بأن يُضْرَبْ على رأسهِ, حتى أهلكة الله -تبارك وتعالى-.
وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ: الذين أرسَلَ الله -تبارك وتعالى- فيهم نبيه شعيب وكذلك طغوا، وتكبروا، وهَدَّدُوا رسولولهم بالإخراج، وفعلوا, ثم ماذا كان من شأنهم؟ كان من شأنِهِمْ أنَّ الله -تبارك وتعالى- أصابهم عذاب يوم الظُّلَّة قال -جل وعلا-: {........إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}[الشعراء:189], وجاءت الصيحة والرجفة فأنهت وجودهم.
والْمُؤْتَفِكَاتِ: المقلوبات, أفكان: بمعنى قَلَبَا، والْمُؤْتَفِكَاتِ: مدن العظيمة التي كانت في غَوْرْ الأردن أمة عظيمة أقامت, وفَلَحَتْ الأرض, وأقامت البُنْيَان، وعَمَّرَتْ, ولما أُرْسِلَ لهم لوط دعاهم إلى الله -تبارك وتعالى- وتركهم مَنْ يترك ما هم فيه, مِنْ هذه الفواحش الشنيعة التي أَعْظَمُهَاْ فاحشة إتيان الذكور، وقطع الطريق، وإتيان هذا الأمر الخبيث حتى في أنديتهم، وأسواقهم, فدعاهم إلى الله -تبارك وتعالى-, فأبوا, وهَدَّدُوْه, و {قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ}[الشعراء:167], فماذا كان من أمر الله -تبارك وتعالى- أن جاء؟ قال: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}[الذاريات:35], {فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ}[الذاريات:36], لوط وابْنَتَاه، وأهله فقط إلَّا امرأتة تُرِكَتْ مَعَ الغابرين, ثم أَرْسَلَ الله -تبارك وتعالى- الملك الذي رفع كل هذه المدن والقرى, ثم َأفَكَهَا على رءُوس أصحابها، فالله يقول: والمؤتفكات: القرى العظيمة، والمدن الكبيرة التي فكها الله -تبارك وتعالى- على رُءُوس أصحابها، وأنزل عليها هذا المطر الخبيث الذي هذه أثاره هنا اليوم موجودة, تَرُوْنَهَا بأعينكم, وإنَّكُم لَتَمُرُوْنَ عليهم مُصْبِحِيْنْ, وبالليل أفلا تعقلون بمطرها الخبيث, هذا البحر الميت الذي لا تعيش فيه حياة قَطْ قال -جل وعلا-: هذه الأمم أتتهم رسلهم بالبينات؛ الدلائل الواضحات على ما يدعون إليه مِنْ عبادة الله وحده لا شريك له, قال -جل وعلا-: {فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ}: لأن الله لا يظلم أحدًا -سبحانه وتعالى-, {وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَي}, فَنَبَأهُم أنَّ الله -تبارك وتعالى- أهلكهم واهلكهم ذنوبهم, ولم يهلكهم الله -تبارك وتعالى- ظالمًا لهم تعالى الله عن ذلك, وإنما أهلكهم بذنوبهم بكفرهم, وعنادهم وردّْهِمْ آيات الرسل, رسول يأتى من الله خلق السموات، والأرض يقول: أنا رسول الله, وأنا أُحِبُ لكم الخير وأتمناه لكم هذا طريق الرب، الرب يريد لكم أن تأتسرونه ثم يرفضون, ويتعالوا عليه, ويُهَدِّدُوه, فالله يقول: }أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالبَيِّنَاتِ}, إذًا ماذا ينتظرون؟ ينتظرون العقوبة مِن هذا الإله العظيم -سبحانه وتعالى-, قال جل وعلا-: {فَمَا كَانَ اللَّه لِيَظْلِمَهُمْ}: ما كان الله هؤلا, ولا الله -تبارك وتعالى- بِظَلَّامٍ للعبيد, {وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}: وهذا وَعظ كل هذا السِّيَاق، وعظ لهؤلاء المنافقين, وصَنِيعهِم مع رسول الله -صَلىَّ الله عليه وسلم-, كلهم يِتَّعِظُوْا ما رأيتم ما صنعه الله -تبارك وتعالى- فِيمن قبلكم من الأمم, فسيكون الصَنِيْع كذلك نفس الصنيع, والوعيد نفس الوعيد إذا بَقِيْتُم في كفركم وعنادكم وعنتم هذا الرسول الذي جاءكم بالبينات من ربكم محمد -صلوات الله والسلام عليه-, ثم يَعرِضُ الله -تبارك وتعالى- الصفحة المقابلة لهؤلاء المنافقون، وهذا فعلهم، وهذا صَنِيْعُ الرب -تبارك وتعالى- بهم, لابد هُنَا من بيان السورة المقابلة؛ سورة أهل الإيمان وذلك أن هذا القرآن مثاني, ثم إنه كذلك يأتي بهذه المقارنات لتسبين الطريق، وكذلك نفصل الأيات، وتستبين سبيل المجرمين يُعْرَف هذا السبيل المجرمين, وكذلك يعرف سبيل عِبَاد؛ عباد الرحمن الصالحين.
قال -جل وعلا-: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}: ذكورهم، وإناثهم، والمؤمن: هو الذي صَدَّق في قلبه بهذه الأخبار بهذا الغيب وآمن به وعِمل بمقتضى هذا التصديق, {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}, خبر وهو يتضمن كذلك معنى الأمر, {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}, أي كُلٌا منهم يوالي الأخر, كل مؤمن ومؤمنة كلٌا منهم يوالي الأخر, ومعنى يواليه: أنَّه يحبه, ينصره هو مؤتلفٌا معه؛ لأنَّه أخٌ له لأن هذه أُخُوِّة إيمان.
{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}[التوبة:71], فهذه صفات أهل الإيمان: أنَّهم أولًا: يوالي بعضهم بعضا هذه صفة عظيمة جدًا, وفيها أمر كذلك أنَّهُ يجب على كل مؤمن أن يوالي إخوانه المؤمنين, {يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ}, والمعروف: هو كل خير عَرَّفَ الله -تبارك وتعالى- عباده به والله -تبارك وتعالى- لا يأمر إلَّا بالخير, {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى}[النحل:90], فهذا دين الله -تبارك وتعالى- الإيمان بِضْعٌ وستون شعبة أعلاها قول لا إله إلَّا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق, والحياة شعبة من الإيمان, كل هذه مسائل خير، فإماطة الأذى الذي هو أنزل دون هذه الشُعَب كلها أرفع هذه الشَعَب قول لا إله إلَّا الله, وأدنى هذه الشُعَب إماطة الأذى عن الطريق هو خير, فإماطة الأذى عن طريق المسلمين خير خِصْلَة من خِصَال الخير, فالإيمان كله خِصَالُ خير هذا هو المعروف, {يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ}, وهذا المعروف عَرَّفَنَا الله -تبارك وتعالى- به في إنزاله, وكذلك عَرَّفَ الله -تبارك وتعالى- قلوب المؤمنين, وفطرهم على هذا الخير.
{يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَر}, المنكر: ما تُنْكِرُه وتُبْغِضُه قلوب أهل الإيمان, وما أنزل الله -تبارك وتعالى- علينا, أي: بيان نَكَرَتِه وأنَّ هذا أمر عظيم كقوله: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا}[الإسراء:32], فلم يقول إنَّه ذلك يُبَيِّن نكارت هذا الأمر, فهذه كل المعاصى والذنوب هذه منكرات, أولًا أنزل الله نكرتها وأنها أمر منكر أي مستبقح, وكذلك ما فَطَرَ الله -تبارك وتعالى- عليه قلوب أهل الإيمان مِن كُره هذه المعصية والمخالفة, {وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}[النحل:90], وهذا وصفٌا عظيٌم جدًا أنَّ أهل الإيمان كل أمرهم إنما هو في الخير, وكل نهيهم إنما هو في الشر, {يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَر}, هذه صفةٌ مُسْتَغْرِقَة لكلِ أحوالِهِم.
{وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ}, أعرَف المعروف, ومِنْ أعظم المعروف يُقِيمُونِ الصلاة؛ وذلك لأنَّ الصلاة عِبَادة الرب تعظيم الرب -تبارك وتعالى-, وأقيموا الصلاة لذكرى الرب -جل وعلا-, والله -سبحانه وتعالى- حَقُهُ على عبادة أن يعبدوه, وقد أختار لهم هذا أعظم ما وَضَعَ الله -تبارك وتعالى- لعباده في الأرض الصلاة أفضل ما وضِع للناس مِن عمل هو الصلاة؛ لأنها مِعْرَاج لهذا الروح خطاب للرب -تبارك وتعالى- تعظيم له, ويقيمونها: يؤدونها مستقيمة على وَجهِهَا الأكمل ولا تكون كذلك إلَّا بإستيفاء شروطها, وإقامة أركانها, وواجباتها, وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ, يؤتون: يعطون, والزكاة أي: الجزء الذي يُخْرَج مِنْ المال سُميَ مُنْفَق هذا سمي زكاة؛ لأنه يُزَكِّي النفس, و يُزَكِّي المال, والزكاة: هي الطُّهر والنظافة, أقول رائحةٌ زكية أي طاهرة نظيفة, وهذا إنسان زكي النفس, النفس الزكية: النفس الطيبة الطاهرة, فَيُؤْتُوْنَ الزكاة: يُخْرِجُون هذا المال الذي أمر الله -تبارك وتعالى- بإخراجه مِنْ أموالهم, فتطهر نفوسهم, وتطهر أموالهم, ويؤتون الزكاة, وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ, بعد هذا التخصيص جاء التعميم, يطيعون الله ورسوله في كل ما يأمرهم به, فالصلاة من طاعة الله, والزكاة من طاعة الله, ذُكِرَت هذه, وهذه خُصَّت بالذكرِ؛ لمنزلتهما العظيمة الصلاة, والزكاة, ثم جاء بالطاعة العامة وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ: في كل ما يأمرهم الله -تبارك وتعالى- به مِن عمل.
{ أُوْلَئِكَ}: إشارة للبعيد؛ لرفع شأنهم, وإعلاءِ منزلتهم, أُوْلَئِكَ: الموصفون بهذه الصفة الَّذين هم مِن المؤمنات الذين يفعلون هذه الأفعال العظيمة سيرحمهم الله إخبارٌ منه -سبحانه وتعالى- بأن الله سيرحمهم رحمته -سبحانه وتعالى-, سيرحمهم أي: الرحمة كلها في الدنيا، والأخرة, فرحمته بهم في الدنيا هدايتهم إرشادهم, توفيقهم, وتثبيتهم, تبصريهم لهذا الطريق كل هذا من رحمته -سبحانة وتعالى- ورحمته بهم في الأخرة إن جاءهم من هذه المهالك العظيمة، والمخاوف الكبيرة، والأهوال الفظيعة في يوم القيامة, ثم تسليمهم، وإسكانهم دار السلام؛ الجنة, نسال الله -تبارك وتعالى- أن نكون وإخواننا المؤمنين من أهلها.
فهؤلاء: { أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}, ختم الله هنا الآية هذه بقوله عَزِيزٌ حَكِيمٌ ما قال سيرحمهم الله إن الله غفور رحيم قال: إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ؛ ليبين قُدْرَة الرب على تحقيقٍ وعوده -سبحانه وتعالى-, فقال: عزيز غالب لا يَغْلِبَهُ أحد, فإذًا فالرب العزيز سيحقق موعوده -سبحانه وتعالى- في أهل طاعته, حكيم: يضع الأمور في نصابها؛ لأن الحكمة هي: العلم الكامل الذي يُمَكِّن صاحبه مِن أن يضع الأمور في نصابها, فالله يضع كل أمر في نصابهِ لايوجد أمر مُخْتَلٌ في عَمَل الرب -تبارك وتعالى-, بل إنَّ الرب هو الحكيم -سبحانه وتعالى- الذي يضع كل أمرٍ في نصابهِ.
ثم قال-جل وعلا-: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ}: هذا تفصيل لمعاني رحمة الله -تبارك وتعالى- لعباده المؤمنين إنَّ هذا وعد منه قال: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ}, وعد إخبار بهذا الأمر الجميل العظيم الذي التزم الله -تبارك وتعالى- به، وسيكون الله لا يخلف وعده -سبحانه وتعالى- قال: وعد الله هذا الذي هو سيرحمهم الله إن الله عزيزٌ حكيم, {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ}, جنات: بساتين, الجنات جمع جنة, والجنة: هي البستان سُميَت جنة؛ لأنه بستان إذا التفَّت أغصانه فإنَّ من يدخل اليه يَجُنُّه يَسْتُره, { تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَار}ُ: من تحت اشجارها، ومن تحت قصورها، ودُورِها, الأَنْهَار: الأنهار العظيمة العميقة مختلفة الأشكال، والأنواع فهي أنهاٌر من الماء الخالص الذي لايتغير، وأنهارٌ من اللبن الخالص الذي لا يتغير, الماء الصافي الذي لا يأسن بطول المُكث, العسل المُصَفَّى, الخمر الذي تسيروا أي: أنهارًا {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ........ }[محمد:15], مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ مِمَّا ذُكِرَ لهم، وعهدوه في هذه الدنيا مع أختلاف أشكاله وطُعُومِهِ، ومِمَّا لم يَعْهِدُوه مما يجعله الله -تبارك وتعالى- إتحافًا له هُنَاك ولا نظير له ولا مثيل له في هذه الأرض, {وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ}.
ثم قال -تبارك وتعالى-: بأنهم في هذا النعيم }خَالِدِينَ فِيهَا{: باقين فيها بقاءًا لا ينقطع, ومساكن طيبة مع هذا في البساتين ذوات الأنهار, مساكِن: جمع مسكن, طيبة: وصف عظيم, وهذه المساكن الطيبة مما لا يُدْرِكَهُ العقل, والخيال, فإنها كما وصَفَ النبي -صلى الله عليه وسلم- لَبْنَةٌ مِن فِضَّة, ولَبْنَةٌ من الذهب أو مساكن مِن الذهب الخالص بُنْيَت حِيطَانُهَا خِيَام من الخيمة الواحدة من لؤلؤة واحدة مُجَوَّفة طولها في السماء ستون مِيلًا هذا أرتفاع هذه للمؤمن فيها أهلون أهل هُنا، وأهل هناك لا يرى بعضهم بعضًا من هذه الخيمة, فهذه الخيمة فكيف القصر؟ فهذه مساكن طيبة كذلك غُرَف كما قال -تبارك وتعالى-: }غُرَفٌ مبنية مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ}, وقال: غُرَف يُرَى ظَاهِرُهَا من باطِنِهَا، وباطِنُها من ظاهرها شفافة, فهذا أمرٌ مساكن طيبة: طيبةٌ في بنائها, ثم طيبة لساكنها لا فيها ضَجَّة، ولا سَخَطْ، ولا ألم، ولا قدر، ولا أمر من هذه الأمور التي يَعُدُّوها في الدنيا مِنْ القاذورات فإن أهل الجنة لا يبصقون, ولا يَمْتَخِطُون ولا يبولون، ولا يَتَغَوَّطُون رَشْحُ مثلًا, بالتالي لا يوجد في هذا المسكن أي شيء من الدنس، أو القذارة, وثم هي لا تَسْمَعُ فيها لاغية ما فيها لغو, سَاكِنُوها دائمًا في حالة رضا, وسرور وحبور لا يأتبهم َكدَرٌ بأي وجه من الوجوه, فهم لا يمرضون, ولا يسخطون فَسُكَّانُهَا من النساء تقول الحوريات: نحن الراضيات فلا نسخط أبدا, نحن المُقِيمَات فلا نَظْعَنُوا أبدا فأهلها مُقِيمُون, لا يعرفون السفر عن مساكينهم، والظَّعن, وهم الراضون لا يوجد أي نوع من السَّخط, فهذه مساكن طيبة اجتمعت فيها كل معاني الطيبة, }في جَنَّاتِ عَدْن{, جَنَّات بستاين عدن إقامة جَنَّاتُ الإقامة الدائمة التي لا تَحَوّْلَ فيها.
ثم قال -تبارك وتعالى-: {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَر}, رضوان: صِفَة مُبَالغة اسم بلغ مِنْ الرِضَا رضوان مِنْ الله أكبر من كل هذا المَعِيْذ لأن إذا رضي الله -تبارك وتعالى- عنهم فإنهم يشعرون بنوع من السعادة والأمن والطمانية, هذا لا يَعْادِلَهُ استمتاع بأي متعة يَجِدُونَها سواًء كان هذا الاستمتاع حِسِى أو نفسى, فالشعور والاستمتاع بِرضَا الرب عنهم بأن الله -تبارك وتعالى- قد رضي عنهم فلا يَسْخَطُ عليهم بعده أبدًا هذا أكبر من كل شيء, أكبر من كل ما هم فيه, ولذلك جاء في الحديث أنَّ الله -تبارك وتعالى- يُكَلِمُ أهل الجنة بعد أن أدخلهم, وأعطاهم ما أعطاهم يقول: يا أهل الجنة هل تُرِيْدُون شيئًا أزيدكم؟ فيقولوا: يا رَبِّ وماذا نريد, قد بَيَّضْتَ وجوهنا, أدخلتنا الجنة أعطيتنا مالا عين رأت, ولا أذن سمعت, ولا خَطَرَ على قلب بشر, فيقول: لهم الله -تبارك وتعالى- أُحْلِلْ عليكم رضواني, فلا أسخَطُ عليكم بعده أبدًا، فإذا حَلَّ عليهم رضوان الله -تبارك وتعال- وعَلِمُوا أنَّه لا سخط أي عليهم بعد ذلك من الله -تبارك وتعالى- كان هذا أعظم ما يُعْطَى أهل الجنة وهم في ألجنة ورِضوَانٌ مِنْ الله اكبر.
قال -جل وعلا-: {ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}, ذلك نعيمُ أهل الجنة على هذا النحو وعد الله -تبارك وتعالى- لأهل طاعته هو الفوز العظيم هذا الفوز العظيم أي: لا فوز غير هذا, الفوز هو: أن يَناَلَ الإنسان غاية ما يتمنى ويشتهى فغاية ما يُمكِن أن يتمناة الإنسان ويتخيله, ويشتهيه هذا هو حصوله فما وصف الله -تبارك وتعالى- في الجنة غاية مالا يبلغة الخيال أي لا يبلغ خيال الإنسان إنَّه يعيش في بستان في كل ما يشاء مِنْ مطعوم, مِنْ ملبوس, مِنْ منقوع مِنْ متع, وأنَّه لا يَخْرُج من هذا وأنه لا يكبر لا يشيب ولا يهرم فيه, وأنه لا يكون هُناك ظَعن, ولا سَفَرْ, ولا قَذَرْ ولا دنس, وأنه باقٍ في المكان المُرِيح الطيب بقاءًا لا ينقطع فيه وأنَّ عنده أهله, وعنده خِلَانه, وأصدقائه وأنه في فَرَحٍ دائم, هذا أكبر تخيل؛ أكبر ما يُمْكِن أن يتخيله الإنسان في هذه الدنيا أن يعيش إجازة في مكان فسيح, في جزيرة ماءية في البحر, فيها ما يشتهيه من المطعوم, والملبوس, والزينة, والمتاع, والكناح, وأن يكون مُنْشَغِل ما عنده تليفون, ويبتعد عن الهموم كلها وجالس في هذا المكان وعنده كل مشتهياته, وقد يتمنى الإنسان أن يعيش في هذا شهر مِنْ عمره شهرين, وهذا غاية ما يتمناه أي شخص يعيش في هذه الدنيا, وقد يَعْمَل لهذا الأمر بكل سنين حياته يَدَّخِر مِنْ المال ما يتمنى أن يُحَقِق بهذا المُدَّخَر هذه الإجازة في جزيرةٍ ماءية تكون على هذا النحو, لكن أين هذا؟ من مَوعود الله -تبارك وتعالى- لعباده المؤمنين بجنة الخلد التي جَمَعَ الله -تبارك وتعالى- فيها لأهلها كل أنواع الَلّذائِذ والطيبات, فأبعد الله -تبارك وتعالى- عنها كل آفة فالله يقول: {ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}: حصول هذه الجنة, {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}[التوبة:72], نسأل الله -تبارك وتعالى- برحمته وإحسانه, أن يجعلنا عبادًا له, وإخواننا المؤمنين مِنْ هؤلاء, أسْتغفِرُ الله لِى ولكم من كل ذنب -وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد-.