الجمعة 21 جمادى الأولى 1446 . 22 نوفمبر 2024

الحلقة (242) - سورة التوبة 73-80

إِنَّ الحمد لله, نَحْمَدَهُ ونستعينه ونستغفره, ونعوذ بالله مِنْ شُرُورِ أنفسنا, ومِنْ سيئات أعمالنا, مَن يهده الله فلا مضل له, ومَن يضلله فلا هادي له, وأشهد أَنَّ لا إله إلَّا الله وحده لا شريك له, وأشهد أَنَّ محمدًا عبده ورسوله.

وبعد, فيقول الله -تبارك وتعالى-: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}[التوبة:73], {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ}[التوبة:74] يأمر الله -تبارك وتعالى- عبده ورسوله محمدًا -صلى الله عليه وسلم- أن يُجَاهِد الكفار, والمنافقين, ويجمع الله -تبارك وتعالى- له بين الكفار، والمنافقين في وجوب جِهَادِهم؛ وذلك أنهم شيٌء واحد في الكفر, ثم إِنَّ المنافقين يزدادون على الكفار بأنهم يكذبون, ويُظْهِرُونَ مِنْ الإسلام ما يُبْطِلُونَ مَعَهُ الكفر, فيكونون أشَدَّ بَلَاءً وأشَدَّ ضررًا, وعداوةً لأهل الإسلام, الآيات هُنا ما زِلنَا في سياق في سورِة التوبة, وبعد أن بَيَّنَ الله -تبارك وتعالى- فضائح المنافقين, هُنا وجَّهَ الله رسوله بقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} نِدَاءً للنبي -صلوات الله والسلام عليه-, ووَصْف الله رسوله بالنبي أنَّ هذا تأكيد أنَّ هذا الأمر الذي يأمره الله –تبارك وتعالى- بِما أنَّهُ نَبِيهُ المُنَبَّأ بهذا مِنْ الله -تبارك وتعالى-, {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ} والجِهَاد: هو بَذْل الجُهد لإعلاء كلمة الله -تبارك وتعالى-، وقِتَال المنافقين، والكفار من إعلاء كلمة الله، وهذا الجهد إما أن يكون جُهْد البدن فَيَدْخُل فيه القتال بكل أنواعِه, أو الجُهْد المالى بالإنفاق في سبيل الله, وكذلك الكلمة أي: جاهِد الكفار والمنافقين بكل أنواع الجهاد بالكلمة, والمال, وبالسيف.

{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ}, الغِلظَة: الشِدَّة, غِلظَة في القول, وكذلك الغِلظة في القتال, كما قال تبارك وتعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً........}[التوبة:123], فَجَمَعَ بين القتال، والغِلظة أو جعل الغِلظة في القتال, والغِلظة في القتال: هي الشدة والأخذ بالحَزْم وعدم الرِقة لهم بل يأخذهم ويُقَاتِلَهُم، ويَقتلهم بأمر الله -تبارك وتعالى- فيكون شديد وغليظ عليهم.

{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}, أي هذا حُكم الله -تبارك وتعالى- فيهم, وتسليط الله -تبارك وتعالى- لرسوله عليهم في الدنيا, وبيان السياسة التى يجب أن يتخذها معهم، وهي: الجهاد والغلظة معهم, وأنَّ الله -تبارك وتعالى- قد اتخذ لهم العقوبة في الآخِرَة, فيكون عقوبتهم في الدنيا على يدِ النبي والمؤمنين, وعقوبتهم كذلك في الأخرة وماواهم جهنم وبئس المصير أي هذه مُعَاملة الرب -تبارك وتعالى- لهم في الأخرة أن هذا هو مصيرهم, {مَأْوَاهُمْ}, المأوَىْ: هو ما يلجأُ إليه الإنسان للراحة والدَّعَىْ, فمأوى الإنسان ومأوى كل كائن ما يلجأُ إليه ليجد فيه راحته وأمنِه, فالله سَمَّىْ النار مأوىْ وهي الحقيقة ليست مأوى؛ ولكنها لأنها مُسْتَقَرَهُم وهي مكانهم وفيه عذابهم فهذا من باب الاستهزاء بهم فهذا مأوائهم هذا هو مَقَرَّهُم ومكانهم جهنم هذه النار المشتعلة عياذًا بالله, {وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}, بئْسَ مَصِيرًا يصير إليه الإنسان أن يكون هذه مأواه ودار سُكناه في نهاية المَطَاف عياذًا بالله, {وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}.

{يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا}, هُنا تِعْدادٌ مِن اللهِ -تبارك وتعالى- لجرائم هؤلاء الذين استحقوا هذه المعاملة من الرسول في الدنيا, وهذا العقوبة من الله -تبارك وتعالى- في الأخرة, {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ}, يحلفون بالله ما قالوا: ما قالوه وهم في كل مرة يفضح الله -تبارك وتعالى- أمرهم ويكشِفُ سِتْرَهُم، ويُظْهِر ما يقولونه في الخفاء وما يدبرونه يأتوا إلي النبي -صلى الله عليه وسلم-، ويعتذرون إليه، ويَحْلِفُون بالأيمان المُغَلَّظة أنهم ما فعلوا ذلك, الكلمات الشديدة في الكفر التي قالها عبدالله بن أُبَي في غزوة المُسْتَلَق لمَّا قال: لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ, فهذه كلمة بالغة مَبْلَغَهَا في الكفر, والوقاحة, أي يقول على نفسه أنه الأعز, وأنَّ رسول الله هو الأذل, وأنه سَيُخرِجَه مِنْ المدينة, وأنَّ هذه دَارُنا وسَنُخْرِجُ منها النبي الذي آتانا مهاجرا إليها وإنه سَيُخْرِجُوه, وقوله كذلك في مُهَاجرين ما أرانا وهؤلاء إلَّا كما قال القائل: سَمِّنْ كَلْبَكَ يَقْتُلَك ويقول سَمْنَّاهم وهم يُرِيدون أن يقتلونا الآن, ونحو هذا من كلمات الكفر وقولهم: لا تُنْفِقُوا على مِن عِنْد رسول الله حتى يَنْفَضُّوا, ولمَّا يُفْضَح كان يُفْضَح بهذا الأمر كان يأتي مُعْتَذِرًا إلى النبي -صلوات الله والسلام عليه-, ويَحْلِفُ بالله أنَّه ما قال هذا الأمر, {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا}.

يقول -جل وعلا-: {وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ}: أي قالوها بِلِسَانَهِم وأخرجوها مثل هذه الكلمات, {وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ}: بعد أن دَخَلُوه, وشَهِدُوا أنَّ لا إله إلاَّ الله, وأنَّ محمدًا رسول الله, كفروا بهذه الكلمات وبهذا الاعتقاد, {وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا} الهم: العزم, وقد هَمَّ المنافقون أن يقتلوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-, وذلك عندما رُجُوعهِ مِن غزوة تبوك -صلوات الله والسلام عليه-, تَآمرَ الجُحَاش وغيرهم من المنافقين أن يُحَرِرُوا رِبَاط جِلَال ناقة النبي -صلوات الله والسلام عليه- يُحَرِرُوه سِرًا, ثم إذا كانت الناقة على عقبة مِن عقبات الجَبَلْ هيَّجوها فيأتي شيء يَصْرُخ الناقة يَهِيْجهَا, فَحِينَئِذٍ تَنفِر الناقة فإذا نفرت سَقَطَ من فوقها النبي -صلوات الله والسلام عليه-, فَعِنْدَهُم أنه تُدَقْ عُنقَهُ ويموت, فَهَمُّوا بأن يصنعوا هذا للنبي -صلوات الله والسلام عليه-, {وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا}: بما لم يُنَوِلَهُم الله -تبارك وتعالى-  إياه.

ثم قال -جل وعلا-: {وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ}, هذا يُعَجِّبُ الله -تبارك وتعالى- مِنْ حالهم ويُسَخِّفُوا عقولهم, وبيان أنَّهُم جاحدون مجرمون حتى في شأن النبي وفي الشأن الدُنْيَوِي قد جاءهم بالخير والبركة والغنى, يقول: وَمَا نَقَمُوا أي مِن النبي, إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ, أي: تَنْقِمون, وتريدون أن تُعَاقِب النبي وتكفروا هذا الكفر وقد أغناكم الله -تبارك وتعالى- بمَجِيء هذا النبي -صلوات الله عليه وسلم- من فضله, فمَجِيء النبي وجِهَادَهُ, وغنيمة ما غَنِمُوه والعِزَّة التي أصبحوا فيها, هذه دخلت عليهم الأموال بعد أن كانوا أُناس فقراء لا يُغْبَى لهم أصبحوا من أهل العزة ومن السيادة, وأتتهم الأموال التي أفاء الله -تبارك وتعالى- بها وغَنِيمَهَا المسلمون, وكانوا يشاركون المسلمين فيها, قال -جل وعلا-: {وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ}, ثم قال -جل وعلا-: وهذا بيان لجحودهم, وأيضًا قِلَّة عقولهم.

قال-جل وعلا-: {فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ}: إن يتوبوا عن ما هم فيه مِن الكفر وعن هذه المقالات، وعن هذه النواية الخبيثة {يَكُ خَيْرًا لَهُمْ}: تكن التوبة خيرًا لهم, { وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ}: يُعْرِضُوا عن مقالة الحق وعن السير في طريق الرب -جل وعلا- يعذبهم الله عذابًا اليمًا في الدنيا, والأخرة, منها كِتابة من الله وتقدير بأن يعذبهم الله عذابًا أليمًا في الدنيا, والأخرة, العذاب الأليم قد يشمل: تسليط النبي عليهم, قِتَالَهُم, قتلهم, التنكيل بهم, وأما عقوبة الأخرة فهي عقوبة شديدة؛ عقوبة النار عياذًا بالله, {وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ}: لم يجعل الله لهم في الأرض كُلِهَا ليست جزيرة وحدها وَلِي يواليهم ويقف معهم, ولا نصير ينصرهم, وذلك أنَّ الله -تبارك وتعالى- سَيُعِزُّ رسوله وينصره, ويجعل كل الأمم مُنْقَادة له, فيكون العِزَّة كُلُهَا لله, ولرسوله, والمؤمنين, والذُّل والصَغَّار والخَسَار على أعداء النبي -صلوات الله والسلام عليه-, فهذه الآية ايضًا فيها بِشَارة للنبي ومَن مَعَهُ، وفيها خِزي لهؤلاء الذين اختاروا طريق معاندة النبي -صلوات الله والسلام عليه-, {فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ}[التوبة:74].

ثم ايضًا شرع الرب -تبارك وتعالى- يُبَيِّن صورة أُخرى مِن صور انحراف هؤلاء المنافقين, وفساد دينياتهم وطَوِيَّاتَهِم قال-جل وعلا-: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ}[التوبة:75]: بعض هؤلاء المنافقين, مَن عاهد الله: أعطى رَبَّه عهدًا والعهد هو الميثاق المؤكَد, {لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ}, أي: أبرَمَ عَهْدَهُ مع الله ودعاه بأنه إن آتاه الله -تبارك وتعالى- مِن فضله, مِن إحسانه, وبره وخيره في الدنيا أفاض عليه المال لَنَصَّدَّقَنَّ من هذا المال نُخْرِج في وجوه الخير من المال, {وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ}, أي: والله لَنَكُونَنَّ من الصالحين من عباد الله -تبارك وتعالى- الصالحين, وهذا الصَّلَاح يشمل: إِقامة الصلاة, إِيتاه الزكاة, الاستقامة على أمر الله, الجهاد في سبيل الله, كذلك صلاح النِيَّات.

قال -جل وعلا-: {فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ}[التوبة:76]: فَلَمَّا آتَاهُمْ الله مِنْ فَضْلِه وفَّىْ الرب -سبحانه وتعالى- وأعطاهم ما طلبوه, وما أمَلُوه, وما عاهدوا الله -تبارك وتعالى- عليه, قال -جل وعلا-: بَخِلُوا بِهِ: شح أي أنهم حجبوا ذلك ومَنَعُوه, وظنوا, واستكثروا أن يُعطُوا الصدقة التى ألزموها هُم لأنفسهم هُم الزموا أنفسهم بأن يخرجوها في سبيل الله بعد أن يُنِيْلَهُم الله -تبارك وتعالى- من فضله, قال-جل وعلا-: {بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ}: تولوا عن هذا الحق كُلِهِ, وتولوا عن عَهْدِهِم وأمرِهِم, وعن ربهم -سبحانه وتعالى-, وَهُمْ مُعْرِضُونَ, مُعْطُون عرضَهُم لِعَهْدِهِم ولربهم -سبحانه وتعالى-.

قال-جل وعلا-: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ}[التوبة:77]: هُنا يُخْبِرُ -سبحانه وتعالى-: بأنَّ الله عاقَبَهُم على هذا الإخلاف بعقوبة شديدة جدًا قال: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ}: أعقبهم بعد أن تَخَلُّوا عن عَهْدِهِم مع الله -تبارك وتعالى-, ونَقَضُوه هذا النقض, عند ذلك أعطاهم الله -تبارك وتعالى- جعل في قلوبهم النِفَاق، النِفَاق: الأعتقاد هُنا وهو الكفر, أدخل الله- تبارك وتعالى- هذا الكفر في قلوبهم أي شَدَّ قلوبهم على ذلك فعاقبهم نفاقًا في قلوبهم مستمر باقي, وهذا النفاق كُفْر وإظهار كذلك هو الكفر, وإظهار خلاف ما في القلب, وأخبر بأنَّ هذا النفاق في قلوبهم, وليس في السنتهم وأعمالهم فقط, بل انتقل النفاق إلى القلب ليُصبِح القلب كافرًا عياذًا بالله, ثم يظهر على الجوارح خلاف ما في هذا الاعتقاد, {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ}, وهذا عياذًا بالله عقوبة شديدة؛ لأنهم يَظَلُّون على الكفر حَكَمَ الله -تبارك وتعالى- بأن يبقوا على الكفر للمات إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ، و يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ: هو يوم القيامة عياذًا بالله, قال -جل وعلا-: {بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ}, أي: كانت هذه العقوبة لهم من الله -تبارك وتعالى-؛ لأنهم أخلفوا الله ما وعدوه فقد وعدوا الله -تبارك وتعالى- وأخذوا هذا على أنفسهم أن يُنْفِقُوا إن أعطاهم الله أخلفوا عهدهم مع الله -تبارك وتعالى-, {وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ}:  بسبب كذبهم؛ لأنهم كَذَبوا وكَذِبَهُم هُنا مع الله -تبارك وتعالى-, فلَّما فعلوا هذا, ونقضوا عهدهم مع الله عاقبهم الله -عز وجل- هذه العقوبة.

قال -جل وعلا-: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ}[التوبة:78] ألم يعلموا قد عَلِمُوا أنَّ الله -سبحانه وتعالى- يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ: ما يخفونه في قلوبهم, ونجواهم: كذلك حديثهم السرى الذي يتناجى به بعضهم بعض, فَسِرَّهُم: سر أنفسهم كل واحد ما وضعه في قلبه دون أن يطلع احدًا من الناس عليه, وكذلك ما يقوله في دائرته الخاصة جدًا أهل نجواه واحد, أو اثنين, أو ثلاثة ممن لا يطلعوا ممن يطلعه على سره {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ}, حديثهم السرى كذلك, {وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ}: أنَّ الله -سبحانه وتعالى- عَلَّام هذه اسم فاعل في صيغة مُبَالغة مِن العِلْم, الْغُيُوبِ: كُلُ الغيوب التي هي بالنسبة إلى المخلوق غيوب, وأما الخالق الرب لا إله إلَّا هو فلا غيب عنده لا غيب عليه، لا يغيب على الله -تبارك وتعالى- شيء, فالله -تبارك وتعالى- كل ما في السماوات, والأرض كل ما سوى الله معلوم لله تحت سمعه, وبصرِه في كل لحظةٍ ووقت لا يغيب عن الله -تبارك وتعالى- شيء, {........وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}[يونس:61] ,وأنَّ الله علَّام الغيوب.

صورة أخرى مِنْ صور نِفاق هؤلاء المنافقين قال -جل وعلا-: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[التوبة:79]: أي هؤلاء المنافقين الذين عاقبهم الله-تبارك وتعالى- بهذه العقوبات منهم كذلك هؤلاء الذين يَلْمِزُون الْمُطَّوِّعِينَ, الَّمز: هو العيب بِطَرِيق الإشارة, أو بطريق خفي من خَلْفْ الظهر, {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ}: أي يَعِيبُون, الْمُطَّوِّعِين: المتطوعين هم المتطوعون؛ والمتطوعون: أي الذين أتوا بأموالهم طواعيةً مِن عِند أنفسهم لله -تبارك وتعالى-, { الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ }, وفِي الصَّدَقَاتِ: كان بعض المهاجرين, والأنصار من أهل الإيمان أُناس فقراء, وعندما يدعو النبي -صلى الله عليه وسلم-, إلى باب من أبواب الصدقة كان يأتي بما عنده, فبعضهم كان يأتي بِمِلء الكف فقط ويأتي به ويقول يا رسول الله  هذا الذي عندى, فهؤلاء المنافقون الذين يجلسون هُنا وهُنَاك يُرَاقِبُون الوضع يقولون خذوا هذا إنَّ الله عن صدقة هذا لغني, فَيَلْمِز هذا المنافق يَلْمِزُ هذا المؤمن الذي تَطَوَّعَ بما عنده هذا قد يكون كل ما يوجد في بيته من طعام أتى به هذا كل الذي عنده, وهذا شيءٌ كبير بالنسبةِ إلى غيره؛ لأن هذا كل الذي يَمْلِكَهُ, فالله يقول-: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ}, هذا جُهْدُه, والجُهْد: هو أقصى الطاقة أي هذا أقصى ما عنده, أقصى ماعنده: هو هذا الجزء من الطعام الذي أتى به ملء كَف, قال -جل وعلا-: {فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ}: يستهزئون بهم, ويقول له اذهب, كُلْهَا هذه, اذهب بها لأهلك, أرجع بها, ماذا تفعل هذه, من هذا النحو يسخرون منهم, قال -جل وعلا-: {سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ}, هؤلاء هُم محِل السخرية, هذا المؤمن الذي فَعَل هذا؛ هذا هو الحكمة, وهو البِّر وهو الإحسان, فإنَّ هذا الذي أعطاه تَقَبَّلَهُ الله -تبارك وتعالى-, فالرب -جل وعلا- يقبل الصدقات, وهذا الذى أتى بالقليل الذي عنده قَبُولهُ عند الرب أعظم من غيره مِمَّن يكون شخص عنده الكثير وأتى بشيء كثير منه لكن ترك الكثير, فهذا الذي ليس عنده إلا القليل وأتى بكل القليل, وأتى بالشيء الذي هو فيه ضرورة, وخصاصة إليه هذا أكبر جُهدًا أي في نفس صاحبه, وبالتالى هو اكبر أجر عند الله -تبارك وتعالى- وبالتالي أعلى مَنْزِلَةْ, تَقَبَّل الله صَدَقَتَهُ, يُنَمِيْهَا له, يُعْطِيْه عليها الأمر العظيم جِدًا, هذا استغنى عن شيء قليل مِن هُنا ورَبِحَ شيئًا عظيم مِن عند الله -تبارك وتعالى-, فهذا الحكيم, والعليم الذي آتاه الله الحكمة, وأتاه الله العِلْم وهو الرابح, أمَّاْ هذا المُسْتَهزِئ الذي جَلَس ينظر إلى هؤلاء ويستهزئ فهذا هو الذي مَحَلّْ السخرية؛ لأنه باستهزائه كَفَرْ, وباستهزائه غَضِبَ الله -تبارك وتعالى- عليه, وتَحَمَّل مِنْ الأثام, والبلاء أمر عظيم جدًا نتيجته في الدنيا, وفي الأخرة, فأيهما الذي يُسْتَهْزئ منه: أي مَن هو مَحِل السخرية والاستهزاء؟ هذا المؤمن الذي تصدَّق بجهده وما عنده, أم هذا المنافق الذي جلس يضحك ويستهزئ مِن هؤلاء, قال -جل وعلا-: {سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ}, هذا هو مَحِل السخرية الحقيقية؛ لأن هذا هو الخاسر والخائب.

{وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}: أي عند ربهم -سبحانه وتعالى- {عَذَابٌ أَلِيمٌ}, ما في ألم أشد من ألم النار عياذًا بالله, فكيف إذا كانت هذه النار؛ نار الأخرة؟, وكيف إذا كان ايضًا مما يُحِيطُ بها كذلك مِن الآلام والعذاب ما هو كالنار, أو أشد مِن النار؟, لَدغُ حّيَّاتٍ كالبغال, ضَربٌ بمطارق الحديد على الرأس, غمٌّ يَسُدُّ القلب مِن كل مكان, قطع أمل نِهَائي في النجاة في أي صورة من صور الخروج من هذا المكان, يُقطَعُ أمَلُه ويُيئس يُقَال له أيئس من رحمة الله, لا شفاعة, ولا بيع, ولا خروج, ولا نصر, ولا فناء لهذه النار, أنت باقِ هُنا بقاءًا لا انقطاع له, نُسِيتَ, {فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا}, فهذا العذاب مؤلم بكل أنواع الألام عياذًا بالله, {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.

ثم قال الله -تبارك وتعالى-: لرسوله -صلى الله عليه وسلم- {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}[التوبة:80], كان النبي -صلوات الله والسلام عليه- يَسْتَغْفِر لكثير مِن هؤلاء المنافقين إذا جاءوه مُعْتَذِرِين, ويَحْلِفُون بالله بالأيمان المُغَلَّظَة أنهم ما قالوا هذا الذي قالوه ولا الذي اُتُهِموا به, ويَطْلُبُوا مِن النبي أن يستغفر لهم فيستغفر لهم النبي, وكان النبي يُصَلِّي عليهم كذلك -صلوات الله عليه وسلم- عندما يموتون, الله -تبارك وتعالى- قال له: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ}, ثم قال له: {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ}: أي اسْتغفارُكَ, وعدم استغفارك سَوَاء, حتى لو استغفرت لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم, ثم بَيَّنَ -سبحانه وتعالى- لِمَا لا يَقْبَلُ استغفار النبي فيهم فقال: هذا ذلك بأن الله -تبارك وتعالى- لا يَقْبَلُ استغفار النبي لهم؛ لأنهم كفروا بالله ورسوله، وبالتالي فهذا الذي كفر بالله ورسوله فإنه لا يُفِيدُهُ استغفار وذلك أنَّ الله -تبارك وتعالى- حَرَّمَ الجنة على الكافرين, { وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}: الله لا يهديهم إلى الحق؛ لأنهم على فِسقهِم قائمون على هذا الفسق, أمَّا لو كانوا رجعوا عن هذا الفسق فإن الله -تبارك وتعالى- يقبلُهم, ولكن ما داموا أنهم على هذا الفسق فالله -تباك وتعالى- لا يهديهم {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}[التوبة:80].

قِيل إنَّ هذه الآية كذلك نزلت في شأن عبدالله بن أُبي الذي عاند النبي -صلى الله عليه وسلم- تسع سنوات وهو في عِنَادِه وفي مؤامراته للنبي -صلوات الله والسلام عليه-, ثم إنه في النهاية لما جاء ليموت جاءه ابن ابنه عبدالله, عبدالله بن عبدالله أُبي وطلب من النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يُصَلى عليه فاستجاب النبي -صلى الله عليه وسلم-, وطلب عبدالله أُبي نفسه أن يُكَفَّن في بُردَة النبي فأعطاء النبي بُردَتَهُ, وقام النبي ليُصَلي عنده وقِيل إنَّ عمر -رضى الله تعالى عنه- كما جاء في الصحيحين قال له: كيف تُصَلِي عليهم وقد نهاك ربك؟ أي نهاك الله وقال: إن تَسْتَغْفِرْ لهم أو لا تَسْتَغْفِرْ لهم لن يغفر الله لهم, فقال النبي: لقد قال لي الله -تبارك وتعالى-: إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً وسأزِيدُ عن السبعين, وتأوَّل النبي -صلى الله عليه وسلم- والنبي أخذ على هذا بأنه إن مفهوم العدد إنه إن زاد عن السبعين فقد يغفر الله -تبارك وتعالى- لهم, قال: وسازيد عن السبعين, وصَلَّى عليه -صلوات الله والسلام عليه- إلى أن أنزل الله -تبارك وتعالى- قوله كما سيأتي: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ}[التوبة:84].

 سيأتي هذا في حلقة آتية إن شاء الله, و-صلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد-.