الحمد لله رب العالمين، وأُصلِّي وأُسلم على عبد الله الرسول الأمين سيدنا ونبينا محمد, وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بِهُدَيْه وعَمِلَ بسنته إلى يوم الدين.
وبعد, فيقول الله -تبارك وتعالى-: {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ}[التوبة:81], {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}[التوبة:82] {فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِي عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ}[التوبة:83], {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ}[التوبة:84], هُنَا يَستَهزِئُ الله -تبارك وتعالى- بالمنافقين الذين فَرِحُوا بالشر والباطل, وكَرِهُوا الخير, قال -جل وعلا-: {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ}: هذه الجملة فيها إظهار قِلَّة عقول هؤلاء المنافقين, وعَيْبَهُم وسخافة عقولهم فإنهم فَرِحُوا بما هو فيه شرٌا لهم, وكَرِهوا ما فيه خيرٌ لهم, {فَرِحَ الْمُخَلَّفُون}, و الْمُخَلَّفُون: هُم الذين خُلِّفُوا أي تُرِكُوا ودائمًا الذين خُلِّفوا إما في عجزه لأنه امرأة لا يَصلُح ليخرج للجهاد صِبْيَة، والصغار فهو مُخَلِّف خَلَّفَهُم الجيش وتركهم, فهؤلاء المُخَلَّفون الذين تَخَلَّفوا، وقعدوا بأنفسهم عن نُصرَة النبي -صلوات الله والسلام عليه- قال -جل وعلا-: فَرِحُوا بهذا, {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللّهِ}، رسول الله الشرف، والعِزّْ، والخير، والبر، والنَصْر، والفلاح كلها معا، فهو رسول الله هو الذي اختاره الله لرسالته, وبالتالى كل مَوطِنٍ يكون فيه هو الخير، وهو البر، وهو الأجر، وهو الثواب، وهو الرِفْعَة، وهو الفضل, فهذا المُتَخَلِّف خَلْفَ النبي فَرِح بهذا, كيف تفرح عندما تكون خَلْفَ النبي؟! النبي يُجَاهِد في سبيل الله وأنت جالسٌ مع النساء، والأطفال، والمَخْذُولين لاحول ولا قوة إلَّا بالله!, {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ}، وطبعا فَرَحَهُم بهذا إنهم أمِنُوا مِن لقاء العدو, حافظوا على أنفسهم مِن القتل ابتعدوا عن مواطن الهلاك هذا في ظنهم, ومُخِلَتِهِم, فرحوا بهذا, {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ}, والله قال هُنا خِلاف ما قال خَلْفْ بل خِلَاف رسول الله؛ لأنهم مُخَالِفُون, فَهُلِعَ خلف لَيْكُون هذا خِلَافه مُخَالِفون للنبى -صلوات الله عليه وسلم-، وخلاف مَن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-, {وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}, وهؤلاء الذين كَرِهَوا أن يُجاهدوا بأموالهم، وأنفسهم في سبيل الله، والحال أنَّ الجهاد بالمال، والنفس في سبيل الله أعظم الشَّرَف, فهذا شرف الإسلام، وهذا ذِروَةُ سَنَام الإسلام الجهاد في سبيل الله, فهم كرهوا أعظم شرائع الدين، وكرهوا أن يُجَاهِدوا بأموالهم, وأنفسهم في سبيل الله, وقالوا: لا تَنْفِرُوا في الحر وهذا ايضًا مِن سَخَافة عقولهم, وانحطاطِ فَهمِهِم, وقالوا بعضهم لبعض مَن أرادوا تَخْذِيلَهُ عن الخروج, قالوا لا تَنفِروا في الحر, لا تَخرجوا في هذه الغزوة فإن هذه الغزوة في وقت حار وهذا الأمر كله في تبوك, قال -جل وعلا-: {قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ}, الحر الذي فررت منه؛ من الجهاد أوقعت نفسك في حًرٍ أشد منه لمَّا أنا أقول عشرات, ولا مئات المرات بل هذا حر جهنم, فالحر الذي فررت منه ألَّا تُقَاتل في الحر, ولم تَقُمْ بالتكليف الذي كَلَّفَكَ الله -تبارك وتعالى- إياه لأنه فيه هذه المشقة فقد أوصلت نفسك إلى أمر أكبر من هذا، وأعظم من هذا كثيرًا، وهو نار جهنم عياذًا بالله, قال: قل لهم نار جهنم التي تنتظركم أيها الكفار المنافقون أَشَدُّ حرَّا: أي من هذا الحر حر الطريق الذي فررت منه, لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ: لو كان عندهم فقه، وفَهم حقيقي ما فرَّا مِن حر الجهاد, وحر الشمس إلى حر النار عِياذًا بالله.
قال -جل وعلا-: {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا}, وذلك أنهم فَرِحُوا وضحكوا وأنهم في سلامة, والنبي ومن معه في الخوف, وفي الخطر, قال -جل وعلا-: {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا}: أن هذه الحياة الدنيا كلها أيامها قليلة, {وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا}: بعد ذلك في الأخرة سَيَبْكُوا بكاءً طويلا لا ينقطع, {وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}: أي أنَّ الله -تبارك وتعالى- رَتَّبَ لهم هذا البكاء الطويل بعد ذلك في جهنم جزاءً بِكَسْبِهِم الخبيث, و هذا الذي صنعوه كُلُّهُ إنما هو مِن هذا الكسب الخبيث.
ثم قال -جل وعلا-: {فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِي عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ}[التوبة:83], {فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ}: وهُنا جعل الله -تبارك وتعالى- الأمر كله إليه, رجَعَكَ بعد هذه الغزوة الشديدة إلى المدينة مرة ثانية, وجاءك هؤلاء المُتَخَلِفُون عنك, {فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ}, تأتي طائفة منهم كأنها تَتَلَوَّم, وتُرِيد مرة ثانية أن تُصَحِحَ هذا الخطأ فاستاذنوك للخروج؛ لِيُقَاتِلوا معك مرةً ثانية, {فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا}: فقل لن َخْرُجُوا معي أبدًا في أي غزوةٍ أخرج إليها، أوجهَاد أخرج إليه, {وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِي عَدُوًّا}: لن تُقَاتِلُوا بعد ذلك معي عدوًّا, {إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ}: لما رضيتم بالقعود أول مرة، وتَخَلَّفْتُم عن نُصْرَة النبي -صلوات الله والسلام عليه- فإنَّ الله –تبارك وتعالى- حَرَمَكُم هذا الشرف والمكانة والعِزَّة, والتمكين, وهذا الفضل العظيم حَرَمَكم الله -تبارك وتعالى- إيَّاه أبدا, {فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِي عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ}[التوبة:83] {فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ}, الخالف: المُخَالِف أي الذي خالف الحق, وجلس خِلَاف الحق, {فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ}.
ثم قال -جل وعلا-: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا}[التوبة:84], أعلمه الله -تبارك وتعالى- إيَّاهم, وظهروا ظهور واضح بِتَخَلُفِهِم عن القتال, ولا عُذْر لهم في هذا التخلف فَعُرِفوا, فقال له: هؤلاء المتخلفين الذين ظهروا هذا الظهور {لا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا}: فمنع النبي -صلوات الله والسلام عليه- مِن أن يُصَليَّ صلاة الجنازة على رجلٍ يموت منهم طِيلة حياة النبي -صلوات الله والسلام عليه-, {وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ}: فَنَهَىْ أن يُصلِّ على جنازته, وكذلك أنه لو دُفِن أن لا يذهب النبي ويَقُم على قبره ليدعوا له, أو يُصلِّ عليه قال له كذلك, {وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} أي: للصلاة عليه, وللدعاء له, قال -جل وعلا-: {إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ}: إنَّ هذا الذي ارتكبوه كفرٌا بالله ورسوله, {وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ}: خارِجُون عن طاعة الله -تبارك وتعالى- فلذلك لن يَقبَل الله -تبارك وتعالى- شفاعته فيهم لن يقبل دعاء النبي لهم -صلوات الله والسلام عليه-.
ثم قال-جل وعلا-: {وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ}[التوبة:85], إذا كان الله –تبارك وتعالى- قد أعطاهم من المال والولد شيءً كثيرًا فلا تَعْجَب بهذا, {ولا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا}, أي: إنما يُرِيد الله -تبارك وتعالى- بإعْطَائهم ما أعطاهم مِن المال, والولد, أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا: جمعًا لها وحِرصًا عليها وكلفًا بها، وخوفًا مِن ضَيَاعِها, وكذلك عقوقًا، وألمًا، ومرضًا مما يَعتَرِي الأولاد فَيُعَذَّب الأب في الدنيا مِن أجل أولاده, فقال له: هذا شقاء عليهم, أي: هذه في ظاهرها أنها نعمة لكن الله -تبارك وتعالى- يجعلها شقاءً عليهم, {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ}: زُهُوق الروح هو خروجها, أَنفُسُهُمْ: أرواحهم، وَهُمْ كَافِرُونَ: حال كونهم كافرين, أي أنهم يَظَلُّوا في هذا البلاء وفي وهذا الِانشغال بهذه الأموال مُشتَغِلِين بها, ومنشغلين بالأولاد عن العمل للآخرة حتى تزهق أنفسهم, وحتى يموتوا وهم على هذا الحال من الكفر عياذًا بالله.
ثم أمر آخر مِن شأن هؤلاء المنافقين قال -جل وعلا-: {وَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُوْلُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ}[التوبة:86], {وَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِه}: إذا أُنزِلَت سورةٌ مِن القرآن يأمرالله -تبارك وتعالى- فيها عباده المؤمنين أن يؤمنوا بالله، وأن يُجَاهِدوا مع رسوله, فهذا أمر الله -تبارك وتعالى- الإيمان به -سبحانه وتعالى-, وبرسوله والجهاد مع هذا النبي لابد مِن نُصْرَته؛ لأن هذا النبي أرسله الله -تبارك وتعالى- بهذا الدين وليُظْهِرَهُ على الدين كُلِه, فلابد أن يقوم معه المسلمون لِتُحَقَّق هذه الغاية بالجهاد في سبيل الله, {وَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُوْلُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ}, يأتي يعتذر, ويستأذِن ألاَّ يخرج في القتال والجهاد مَن؟ أُوْلُوا الطول, أُوْلُو: أصحاب الطَّوْلِ: مِن المال, ومن الراحة، ومِن الخَدَم, فهذا الذي هو المُتَفَرِّغ الذي عنده الفراغ، والقوة، والصحة، وعِندَه المال، وعنده مَن يقوم بشأن من يَترُكَهُم خلفه للجهاد, {اسْتَأْذَنَكَ أُوْلُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا للنبي: ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ}: اتركنا نكن مع القاعدين, وطبعًا هُم طلبوا أن يسمح لهم النبي وأن يعذرهم قالوا: لنا أعذارًا أن نكون مع المَعْذُورين الذين يقعدون عن الغيب.
قال -جل وعلا-: {رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ}[التوبة:87], رَضُوا, إنَّ هذا الأمر الذي يفعله ما يفعله وهو متأثم وإنه متألم لا؛ راضى, {رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ}, الخوالف: مَن يُخَلَّفُون في العادة عن الغزو والذي يُخَلَّف عن الغزو النساء، والأطفال، والضعفة, المرضى, الزمنة, الأعرج, الأعمى, هؤلاء الذين هم أهل الأعذار فهؤلاء الذين يُخَلَّفُون, فرضيَ هذا صاحب الطول من المال والغِنَى أن يكون مع هؤلاء الخوالف قال: {رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ}: مع النساء، والصبية، والمعذورين، ومعنى أنهم رضوا بهذا هذا التعبير بيان أنَّ انحطاط هِمة هؤلاء, وشأنهم كذلك وأنهم حبوا أن يكونوا من هذه الصورة مِن صور المَهَانة, رضوا بأن يكونوا مع الخوالف, قال -جل وعلا-: {وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ}, الطبع: ختم, بمعنى أنَّ الله -تبارك وتعالى- أقفل قلوبهم عن الهدى, ثم بعد ذلك طَبَعَ عليها بطابع الختم الذي حتى لا يُفْتَح ولا تدخلها هداية بعد ذلك، {وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ}, ما عنده فِقه إن كان يفقه هذا يفر مع النبي -صلوات الله والسلام عليه- يكون مُلَازِم لرسول الله يجاهد في سبيل الله هذا باب أعظم أبواب الدين, باب النُصرَة, باب العِز باب الشرف, باب التمكين, فكيف يربأ بنفسه أن يترك هذا الباب العظيم, والجهاد في سبيل الله, ويجلس مع النساء, ولا ينال هذا الشرف؟! فحتى لو لم يكن فيه الأجر الدنيوي لكان هذا القعود عن نصرة الحق نوع مِن عدم الشهامة, وعدم المروءة, {رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ}.
قال -جل وعلا-: {لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[التوبة:88], لكن حال النبي -صلى الله عليه وسلم- أنَّ حال النبي, {وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ}, هؤلاء هم الصنف الأخر الصنف الممتاز, النبي: الرسول -صلى الله عليه وسلم- رسول الله, {وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ}: مع النبي -صلوات الله والسلام عليه-, {جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ}, جاهد بالمال: بَذْلُه, وبالنفس: الخروج مع النبي للقتال بالسيف, قال -جل وعلا-: {وَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ}, أُوْلَئِكَ غير المنافقين, والإشارة لهم بالبعيد تعظيمًا لشأنهم, الْخَيْرَاتُ: بالألف واللام, كل خير, الأجر, مثوبة, الغنيمة, العِزّْ نصر تمكين مَن يُسْتَشْهَد فإن الخير كله, والرفعة في الدرجات في الجنة, كل هذا كل أنواع الخير الذي رتبه الله على الجهاد لهم, {وَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}: كذلك الإشارة للبعيد, هُم المفلحون: الذين فازوا, المُفلِح: هو الفائز بمطلوبه الأكبر و الفوز بالمطلوب الأكبر, لا مطلوب أكبر مِن أن ينال الإنسان جنة الله -تبارك تعالى- ورضوانه, وكذلك الفائز مَن نَجَىْ مِن المَخُوف الأعظم أعظم خوف, وأعظم خَوف: النار, فالذي زُحْزِحَ عن النار وأُدخل الجنة فهذا هو الفائز, {وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}: الذين فازوا بمطلوبهم الأكبر.
{أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}[التوبة:89]: هذا فلاح هؤلاء المؤمنين الذين جاهدوا مع النبي -صلوات الله والسلام عليه- أنَّ الله أعدَّ لهم جنات وأِعدَادُهَا هي تهيئتها، وخلاص, صُنِّعَت لهم هُيِئَّت وجُهِّزَت, وزخرت بكل ما هو من أبواب السرور والحبور، {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ}: بساتين، جَنَّاتٍ: جمع جنة والجنة هي البستان, {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ}: أنهار تسير من تحتها ومن تحت جارها, وقصورها, الأنهار مختلفة الأنواع, {خَالِدِينَ فِيهَا}: باقين فيها بقاءًا لا ينقطع, فهي ليست فسحة, كشتة ليوم أو يومين وتنتهي, لا, وإنما هُم ماكثون فيها مُكثًا لا انقطاع له, { خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}: ذَلِكَ هذه الخلود في هذه الجِنَان جِنَاْنْ الرب التى هيأها الله -تبارك وتعالى-, وأعدَّها -سبحانه وتعالى- لعباده المؤمنين هذا هو الفوز العظيم؛ أن يصل الإنسان إلي أعظم شيء غايةالمُنْتَهَى, غاية المُنَىْ والمُنْتَهَى, {ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}, ثم هذا حال أهل الإيمان, ثم بيان بعض هؤلاء الأعراب الذين تَخَلَّفُوا وكيف جاءوا يعتذرون للنبي.
قال -جل وعلا-: {وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[التوبة:90], {وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الأَعْرَابِ}, الأعراب: هم سُكَّان البادية مِن العرب مَن يسكن البادية مِن العرب يُسمَّى أعرابي وهؤلاء الْمُعَذِّرُونَ الذين يعتذرون جاءوا وفود إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- يعتذرون له إنهم لم يَتمَكنوا مِن الخروج معه, ويُعطون صنوف من الأعذار ليقبل النبي عذرهم -صلى الله عليه وسلم-, {وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ}: يؤذن لهم في القعود, قال -جل وعلا-: {وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ }, قَعَدَ: أي عن الأعتذار, كذلك وتَعَد الذين كَذَبُوا الله ورسوله, وكذلك قعد عن الخروج الذين كَذَبُوا الله ورسوله لم يَصْدُقوا مع الله -تبارك وتعالى- في أنهم آمنوا لأن الإيمان له ضريبة وهي ضريبة الطاعة، والسَّمع, والطاعة لله ولرسوله, وبالتالي مِن هذا السمع والطاعة الجهاد في سبيل الله, {وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ }, قال -جل وعلا-: {سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}, سَيُصِيبُ: في المستقبل وهذا حُكم الرب –تبارك وتعالى- سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}, أي: كفر قلب وإن كانوا قد أظهروا ما أظهروا بألسنتهم إلَّا أنَّ الله يعلم ما في قلوبهم, {سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.
ثم بَيَّن الله -سبحانه وتعالى- مَن المَعْذُرون من الذي يعذرهم الله -تبارك وتعالى- قال: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[التوبة:91], {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى}: ضعيف وهو قد يكون سليم الجسم لكنه ضعيف ما يستطيع أن يخرج للجهاد ويُقَاتِل، ويحمل سيف، ويُقَاتِل به, لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ: كالشيخ الفاني الكبير, أو الهزيل الضعيف، وَلا عَلَى الْمَرْضَى: مرض يُقعِدَهُم عن القتال, {وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ}, وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ ، ما عنده شيء، ما عنده مال يخرج به، ما عند ظَهر يركبه، لا ناقة يركبها، ولا حصان ليس عنده مال، ويأتى النبي طبعًا هذا سفر طويل النبي ذاهب إلى الشام, مِن المدينة ذاهب إلى الشام مسافة طويلة, والنبي كان مُسْتَقَرَّه في غزوة تبوك سبعمائة كيلو لابد من ظَهْر ولذلك جاء كثيرًا من الصحابة من هؤلاء الفقراء يقولون لرسول الله أحمِلنا ما عندنا شيء نركبه، وطبعًا الغزو لابد من حملة، لابد أن يكون للإنسان بَعِير أو اثنين بَعِير فيركب نصف الطريق ويمشى نصفه, فكان النبي يعتذر لهم أنه ليس عنده ظهر يَحْمِلَهُم عليه, فالله -تبارك وتعالى- عَذَرَ هؤلاء الفقراء قال: {وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ}, كذلك ما ينفقونه في الغزو, {إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ}: كان قلبه مخلصٍ لله ورسوله, كان قعوده بسبب الغِش لله ورسوله هو قادر, ولكنه لا يُرِيد خوفًا, ولا يُرِيد ان ينتصر الإسلام, يريد أن يهرب مِن معارك الإسلام؛ لأنه ما يرى أنها معركته, يرى أنَّ معركة النبي وأنَّ قتال النبي ليس قِتَاله يقاتل لماذا؟ يقول لك أنا غير مؤمن بالآخرة, ولا مؤمن بالثواب، ولا بالله عز وجل, فهو غاش قلبه كذاب فأما إذا كان الإنسان مُخلِص ناصح لله ورسوله أن يُحِب الله, ويحب رسوله، وإنما يُقعِدُهُ عن الجهاد ما ُيقعِدُه مِن هذه الأعذار قال: فقال هؤلاء الذين نصحوا إذا نصحوا لله ورسوله, وكانت قلوبهم خالصة على هذا النحو قال -جل وعلا-: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ}, هذا محسن؛ لأنه أدَّى ما عليه يُحِب الله, يُحِب رسوله, يحب دينه يُحِب أن ينتصر الإسلام, يُحِب أن يخرج إلى الجهاد لكن لاحيلة له لهذا الخروج فالله يقول: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ}, أي: المُأخَذة مِن سبيل ليؤاخذوا وليُعَاقبوا لأن هذا محسن {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ}, أي: ليؤاخذهم الله -تبارك وتعالى- أو يعاقبهم العقوبة في الدنيا, وفي الآخرة والله غفور رحيم الله -سبحانه وتعالى- مِن صفاته أنه غفور يستر ذنوب عبده التائب -سبحانه وتعالى- رحيمٌا بعباده -سبحانه وتعالى- لا يكلفهم ما لا طاقة لهم به.
{كذلك وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ}[التوبة:92], هذه صورة مِن صور هؤلاء الذين تَخَلَّفوا رغمًا عنهم مع محبتهم الشديدة، وشوقهم الشديد أن يخرجوا مع النبي -صلى الله عليه وسلم-, {وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ}: إذا ما جاءوك لِتَحْمِلَهُمْ فقد قالوا: يارسول الله أحمِلَنا ليس عندنا ظهر نركب في الغزو فاحمِلَنا معك فأتوا للنبي يطلبون هذا, فالنبي قال لهم: ليس عندي ظهر أُعْطِيه لكم قلت: يا محمد -صلى الله عليه وسلم- لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ: ما عندى, تَوَلَّوا: أي رجعوا عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ بكيوا؛ شوقًا إلى أن يُقَاتِلوا مع النبي -صلى الله عليه وسلم-، وحُزنًا أنهم ما عندهم الوسيلة، والمَقْدِرَة أن يصنعوا ذلك, فمن شِدَّة حُزْنِهِم وألَمِهِم فاضت دموعهم, {تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ}: أَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ معنى فياضنها: أي امتلَائُها بالدمع, و ليس تَصَنُّع بل إنما تفعل هذا {تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنً أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ}, أي: حزنانين لأنهم ما يجدوا مالًا يُنْفِقُوه في الغزو.
ثم قال-جل وعلا-: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ}[التوبة:93], {إِنَّمَا السَّبِيلُ} أي: المؤاخذة في الدنيا, والأخرة والعقوبة علي الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ, الذين لايخرجوا, ما يريدون الخروج في الجهاد والحال أنهم أغنياء عندهم المال، عنده الظهر، عنده القوة، عنده الصحة، عنده الفراغ، يستطيع يخرج, ومع ذلك يستأذن, قال -جل وعلا-: {رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ}, يَصِفُهُم الله، ويَسِمُهُم بهذا الأمر القبيح في نفسه أنه رضى لنفسه، وهو رجل قادر قوي، ويُعْلِن أنه مُعلِن إسلامه، ولكنه رضي لنفسه بأن يكون مع الخوالف, مع النساء، ومع الصبية، ومع المرضى، والمعذورين {رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ}, مرة ثانية جاءهم الطبع لأن هذا الذي لم يفقه هذا الفقه، ولم يفهم هذا الفِهِم حتى مُرُوءة الرجال حُرِمَهَا, {طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ}, لا يعلمون أنَّ ما هم فيه هو الشر, وأنَّ ما خَلَّفُوه، وتركوه هو الخير, فهذا من جَهْلِهِم فهم لا يعلمون ذلك, وهذا من أثار طبع الله -تبارك وتعالى- على قلوبهم, عياذًا بالله -تبارك وتعالى- من ذلك.
أستغفر الله لي ولكم من كل ذ نب, -وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد-, والحمد لله رب العالمين.