الحمدلله رب العالمين, والصلاة والسلام على عبده و رسوله الأمين؛ سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه, وعَمِلَ بسنته إلى يوم الدين.
وبعد, فيقول الله -تبارك وتعالى-: {يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}[التوبة:94], {سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}[التوبة:95], الآيات مِن سورة التوبة, وما زال سياق الآيات في بيان فضائح هؤلاء المنافقين الذين تَخَلَّفُوا عن النبي -صلوات الله والسلام عليه- في غزوة تبوك؛ وهي الغزوة الشديدة العسيرة التى نزلت هذه السورة؛ سورة براءة بسببها, يقول -جل وعلا-: {يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ}, أي: هؤلاء المُخَلَّفُون والمُتَخَلِّفُون عن النبي -صلوات الله والسلام عليه-, {يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ}: أي بصنوف الأعذار بأنهم لم يكون هذا في مُكْنَتِهِم وفي استطاعتهم وأنهم شُهُدوا, فَيُقَدِّمون ما يظنون أنه يُرضِي النبى, ويُرضِي المؤمنين عنهم ويَعذُرونهم بأنَّ تَخَلُّفَهُم لم يكن عن نِفاق وعن كُفر وإنما كان فقط عوارض, والعوائق التي مَنَعَتْهُم مِن أن يخروجوا مع النبي -صلوات الله والسلام عليه-, {يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ}, قال -جل وعلا-: { قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ}: أي أنَّ اعتذاركم لنا لن يُجْدِي؛ لأنكم كاذبون, أخبرنا الله -تبارك وتعالى- بكذبكم {لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ}: لن نُصَدِّقَكُم في أعذاركم التى تُبدُونها, {قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُم}: النبأ هو الخبر العظيم, أي أخبرنا الله -تبارك وتعالى- بحقيقة ما في قلوبكم, وبالذي أقعدكم عن الخروج نُصرًةً للنبى -صلوات الله والسلام عليه-, {قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُم}: أخباركم السيئة, {وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ }, سَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ: ظاهره أي سَيُظْهِر الله -تبارك وتعالى- ما في قلوبكم فَيَظهَر هذا في الواقع, ويُطْلِع الله -تبارك وتعالى- رسوله كذلك على حقيقة أمركم: أي ما كان في القلب يُظْهِرُهُ الله -تبارك وتعالى- على الجوارح مِن هذا التَّخَلُّف عن نصرة النبى -صلوات الله والسلام عليه-, {وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُه ثُمَّ تُرَدُّونَ}: أي في يوم القيامة, {إِلَى إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ}: الرب الإله -سبحانه وتعالى-, عَالِمِ الْغَيْبِ: كل ما يَغُيب عن بعض الخلق فهو ليس بغائب عن الله -تبارك وتعالى-, والشهادة كل ما يَشْهَدُهُ مَن يَشْهَدُه, الله -تبارك وتعالى- لا غيب عنده -سبحانه وتعالى- كل هذا الوجود هو تحت سَمْع الله -تباك وتعالى- وبصره, الله معكم أينما كنتم, وإنما الغيب والشهادة إنما هو بالإضافة؛ بالإضافة إلى المخلوقثن, فالملائكة تعلم ما أعلمها الله -تبارك وتعالى-, ويغيب عنها أمور لا تَعْلَمُها, ونحن البشر نَعلَم ما عَلَّمَنَا الله -تبارك وتعالى- وما نُشَاهِدُه وما يَغِيب عن سمعنا, وعن بصرنا فإننا لا نَعْلَمَه, الرب -تبارك وتعالى- هو عالم الغيب والشهادة بالنسبة لكل البشر بالنسبة لكل مخلوقاته, فإن الله -تبارك وتعالى- على كل شيءٍ شهيد, فالله عالِم الغيب والشهادة؛ الغيب والشهادة: بالنسبة للإضافة؛ إضافةً إلى المخلوقين, وأما الله -تبارك وتعالى- لا يُضَاف له غيب؛ لأنه لا غيب عنده فإنه لا توجد ذرة تغيب عن الله -تبارك وتعالى-, {........وما يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}[سبأ:3], كل شيءٍ كتبه وكل شيءٍ يعلمه -سبحانه وتعالى-, {فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}: يوم القيامة يُنَبِّئُكُمْ الله -تبارك وتعالى- بحقيقة عَمَلِكُم, ويُنَبِّئُكُمْ بما في قلوبكم لأن هذا مِن العمل ماكَسَبْتُمُوه بالقلوب هذا هو مِن العمل, ثم يُظهِرالله -تبارك وتعالى- ما في القلب على الظاهر, ويُنَبِّئُكُمْ بكل أعمالكم -سبحانه وتعالى- يوم القيامة وإذا أنبأهم بِعَمَلِهِم السيء فهذا معناه أن يُعاقِبَهُم -سبحانه وتعالى-, فهذه الآية فيها تهديد ووعيد مِن الله -تبارك وتعالى- لهم بأن الله مُطَّلِع على غَيبِهِم وأنه سَيُحَاسِبَهُم على هذا -سبحانه وتعالى-.
ثم قال -جل وعلا-: {سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ}: هذا إخبار كذلك مستقبل, الله -تبارك وتعالى- يُخْبِر الممسلمين وهم في عودتهم مِن تبوك إلى المدينة بأنه سيكون مِن شأن هؤلاء المُخَلَّفُون أن يقولوا هذا, وهذا من دلائل نُبُوئَة النبي -صلوات الله والسلام عليه- لأن الأمر كذلك وقع كما أخبر الله -جل وعلا-, {سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ}: أي رجَعْتُم إليهم في المدينة, {لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ}: أي لِتُعْرِضُوا عنهم فلا تؤذوهم ولا تَسُبُّوهم, ولا تعتقدوا فيهم الشر, قال -جل وعلا-: {فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ}: أي فَأَعْرِضُوا هذا الذي بُغْيَتُهُم ومُنيَتُهُم في أن تُعْرِضُوا عنهم من اللوم فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ من اللوم, {إِنَّهُمْ رِجْسٌ}: وهُنَا يُبَيِنُّ الله -تبارك وتعالى- حقيقة أمرهم ويصفهم بهذا الوصف إِنَّهُمْ رِجْسٌ, والرجس: هو النجس فقال: {إِنَّهُمْ رِجْسٌ} فَتَوَلي الرجس: الإعراض عنه والبعد عنه, هذا لاشك هو المطلوب أن يبتعد الإنسان عن الرجس, رجسهم هذا إنما ليس رجسً حِسِيًا وإنما رجس معنوي, فالقلب الذي يَنْطَوَىْ على بُغْضِ الله, وبُغْضْ رسوله ولم يَقَم بما أوجبه الله -تبارك وتعالى- عليه هو كذلك, فهؤلاء المنافقون ُكفرُهم الباطن جعلهم على هذا النحو صَبَغَهُم بِصْبغَة النجس والرجس, كما قال -تبارك وتعالى في المشركين: {....إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا........}[التوبة:28], {فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}[التوبة:95]: المأوى: ما يُلجَأ إليه للراحة هو الدَّعى وسكون, وسَمَّىْ الله جهنم لهم مأوىْ؛ وذلك لأنها المُسْتَقَر النهائى الذي يَسْتَقِرُّون فيه وبالطبع لا راحة ولا سكون ولا دعىْ, {وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ}: هذه الدار التى أعدَّها الله لهؤلاء الكفار؛ {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}, فهي جعلها الله جزاء, والجزاء: هو مُقَابَلة العمل أي هذا هو المُقَابِل لعَمَلِهِم الذي عَمِلُوه بما كانوا يَكسِبُونه والكسب: هو الجرح أن هذا كسبهم هذا الذي فعلوه أي جزاء فعلهم هذا الذي وصلوا إليه في النهاية, ثم قال -جل وعلا-: {يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ}, هُنا حَلَفوا بالله و هذا دليل على كذبهم, كذلك يقول الله -عز وجل-: {يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ}, الأول كان حَلِف, وإعتذار للإعراض عن لَومِهِم والآن هذا حَلِف ليرضوا عنهم هُنا ليقبلوا أمر أخر ليقبلوه من جملة المؤمنين ويُعَامِلوهم معاملة إخوانهم في الدين, {يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ}, قال -جل وعلا-: {فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ}[التوبة:96], هذا تحذير شديد من الله -تبارك وتعالى- للمؤمنين أن يقبلوا إعتذارهم وأن يُصَدِّقوا حَلِفَهُم وأن يقبلوهم بعد ذلك في جُملة أهل الإيمان, {فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ}: هذا كلام للمؤمنين أي أيها المؤمنون فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ, والمؤمن يسير في رضوان الله -تبارك وتعالى-, ومَن يُبغِضُه الله ولا يرضىْ عنه الله فإن المؤمن لا يرضاهُ ولا يَقْبَلُه, {فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ}, وهُنا ما قال: لا يرضى عنهم وإنما وصفهم هُنا أي استعاض عن الضمير بوصفهم الذي أستحقوا به ذلك وهو الفسق؛ والفسق: هو الخروج عن طاعة الله, {فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ}.
ثم قال -جل وعلا-: {الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}[التوبة:97], كان مِن هؤلاء الذين تَخَلَّفوا عن النبي أعراب؛ الأعراب: هم أهل البادية والقِفَار مِن العرب كل مَن سَكن البادية ولم يسكن القرية والمدينة وإنما سكن البَّرْ والبوادى فهم الأعراب, قال -جل وعلا-: {الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا}: أي مِن أهل الحاضرة أي كَافِرَهم أشد كُفرًا من كُفَّار الحواضر والمدن وسبب ذلك؛ هو غِلظَتُهم وشدتهم وبُعدُهم عن لطافة الطبع, وكذلك بُعدُهم عن التَّعَلُّم والتعليم فإنها مِن الجَفَاء, {الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا}: أي مِن غيرهم مِن الكفار, {وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}, أجدر بهم: أي أحَقُّ بهم ألَّا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله؛ وذلك لتَنَقُّلِهِم وبُعدِهم عن الاستقرار وتَلَقِّي العِلم, {وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}: عليم بأحوال عبادة -سبحانه وتعالى- حكيم يضع الأمور في نصابها -سبحانه وتعالى-.
قال -جل وعلا-: {وَمِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}[التوبة:98]: أي بعضهم, {مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا}: ما يُنفِقُ في سبيل الله من زكاة وصدقة يجعله كأنه مغرم، والمغرم: هو الأمر أي الضريبة المفروضة اللازمة عليه لابد أن يؤدِيَها, فقد كانوا يفعلون هذا عن كُره وعن بغض وليس إيمانًا بالله -تبارك وتعالى- ورسوله, وإنما يعتبر إن هذه خسارة لازمة لاحيلة له في دفعها؛ لأن النبي يجمع الزكاة فهو يعتبر بأن هذا أمر خسارة ولابد أن يؤديه, {وَمِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ}, التَّربُّص: الانتظار بكم أيها المسلمون الدوائر, والدائرة: أي أن يدور الأمر ويتحول حال أهل الإسلام مِن العِز والتمكين, إلى الُّذل, وغَلَبَة الكفار عليهم, فينتظر أن تدور المؤمنين الدوائر وتتحول وتتغير أحوالهم بعد النصر, فيجتاحهم عدو يحصل لهم شيء حتى يُظْهِر كفره بالله -تبارك وتعالى-, {وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ}, قال -جل وعلا-: {عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْء}: أي دَائِرَةُ السَّوْء هذه التي ينتظرونها بالمسلمين هي التي ستكون عليهم عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْء سَتُدور الدائرة عليهم هم, ودَائِرَةُ السَّوْء: الهزيمة الوقيعة أن يفعل الله -تبارك وتعالى- بهم ينزل الله -تبارك وتعالى- بهم عقوبة, {وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}: تهديد ووعيد بأن الله -تبارك وتعالى- سامع لكل أقوالهم عليمٌ بأحوالهم -سبحانه وتعالى-.
ثم قال –جل وعلا-:{وَمِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[التوبة:99], ليس كل الأعراب على هذا القسم, وإنما من الأعراب قسم أخر قال: وَمِنَ الأَعْرَابِ سُكَّان البادية مِن العرب مَن يؤمن بالله, واليوم الآخِر, هذا إنسان دولة كُفَّار مُعاندين مُتَرَبِّصِين؛ لحصول السوء بالمسلمين, وأما هؤلاء ناس مؤمنون بالله ورسوله, والمؤمن بالله ورسوله لاشك أنه هو مع أهل الإيمان قلبه, ولسانه, وفِعْلُهُ, ويُحِبُّ أن ينتصر المسلمون, فهو بعكس أولئك, {وَمِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ}: يُؤْمِنُ بالله -سبحانه وتعالى-, ويُؤْمِنُ باليوم الآخر وإذا كان يُؤْمِنُ باليوم الآخر فإنه يفعل ما يُنَجِّيه عند الله -تبارك وتعالى-, وما يُنِيلُه الفوز في هذه الدار, {وَمِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ}, الذي يُنْفُقُه في سبيل الله زكاًةً أو صدقة يجعلها قُرُبَات أي أنَّه يتقرب بها إلى الله -سبحانه وتعالى-, فهذه حقيقة الصدقة المُتَقَبَّلة, {وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ}, واتِخَاذُها: إعتقادها, وجعلها بذل هذا المال يُريد به أن يتقرب به إلى الله وصلوات الرسول أي أن يؤدى الزكاء للنبي -صلوات الله والسلام عليه- فإذا أخذ النبي زكاته وصرفها في الوجوه التي أمر الله -عز وجل- دَعَىْ لصاحبها, وعندما يدعو النبي -صلى الله عليه وسلم- لرجل هذه صلوات الرسول أمرٌ عظيمٌ جدًا أي أن هؤلاء يأتون بزكاتهم وصدقاتهم للنبي مِن أجل أن ينالوا دعاء النبي -صلوات الله عليه وسلم-, فهي قُربًةٌ لهم عند الله يعتقد إنه قُرب لهم عند الله, وكذلك التماسًا لأن يدعوا لهم النبي -صلوات الله والسلام عليه-, {وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ}: دعوات النبي لهم, قال -جل وعلا-: {أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ}, ألا إنَّهَا: إنَّ هذه الصدقات قُربةٌ لهم, أو إنها على صلوات الرسول قُربَةٌ لهم, فصلوات الرسول قُربَة عظيمة لهم وذلك أنَّ دُعاء النبي مُسْتَجاب عند الله -تبارك وتعالى- ولذلك كان النبي كُلَّما آتاهُ أحد بصدقة كان يدعو له -صلوات الله والسلام عليه-, {أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ}: صدقاتهم ودعاء النبي -صلوات الله والسلام عليه- {سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ}: وهذا وَعْد مِن الرب إلاله -سبحانه وتعالى-, { سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ}, وإدخالهم في رحمته معناه: إنجائهم مِن النار وإدخالهم الجنة -سبحانه وتعالى- الرضوان, {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}: إِنَّ اللَّه مِن صِفاته -سبحانه وتعالى- غفور, الغَفْر: هوالستر أي يستر ذنوب عباده الصالحين التائبين رحيمٌ -سبحانه وتعالى- بعباده؛ فلذلك يقبل عَمَلهُم, ويَغْفِر سَيّْئاتهم ويدخلهم رحمته -سبحانه وتعالى-.
ثم قال -جل وعلا-: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}[التوبة:100], بعد أن فضح الله -تبارك تعالى- وبَيَّن ما عليه أهل النفاق هُنا بَيَّن الصورة المُقابلة وهم أهل الإيمان, فقال: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ}, بدأ الله -تبارك وتعالى- بهذه الطائِفة؛ لأنها أشرف طوائِف أهل الإسلام, السَّابِقُونَ: أي إلى الإسلام الذين سَبقوا إلى الإسلام قبل غيرهم, كالصديق أبوبكر -رضي الله تعالى عنه-، وعلي بن أبى طالب -رضى الله تعالى عنه-, وعثمان بن عفان، وبلال بن رباح, وسعد بن أبي وقَّاس, وعبد الله بن مسعود, وصُهَيب الرومي, هؤلاء المجموعة الطيبة مِن أهل الإيمان, عبد الرحمن بن عوف, الذين سبقوا الدخول في الدين, {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ}: الأَوَّلُون مِن المُهاجربن الذين هاجروا مع النبي -صلوات الله والسلام عليه-, والأَنصَار: هم أهل المدينة سُمُّوا بالأنصار وهم الأوس, والخزرج؛ لأنهم نَصَرُوا النبي -صلى الله عليه وسلم-, وكانت بيعتهم على نُصْرَة النبي, فإنهم في البيعة الأولى كانت عن الإسلام, ثم البيعة الثانية بالشورى؛ بيعة العقبة الثانية بايعوا النبي على أن ينصروه وأن يَقِفُوا بسيوفهم معه -صلوات الله والسلام عليه-, وأن يُقَاتِلوا معه الأحمر والأسود كل الناس يُقَاتلِونهم مع النبي -صلوات الله عليه وسلم- فلذلك سُمُّوا بالأنصار, {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ}: الذين اتبعوا المهاجرين والأنصار مِمَّن أسلم بعد ذلك واتبعهم قال بِإِحْسَان, بين أن السابقون الأولون جميعهم -رضي الله تبارك وتعالى عنهم-, الأنصار جميعهم, ثم قال: {وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ}, فأصبح القيد الاتباع بالإحسان ومعنى بإحسان: التزام كتاب الله, وسنة النبي والتَّرضِّي عن هؤلاء وما أمر الله -تبارك وتعالى- به اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ, قال -جل وعلا-: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} هذا إعلانٌ مِن الله -تبارك وتعالى-, وتشريفٌ وتعظيم لهؤلاء قال-: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ}: إخبارٌ منه -سبحانه وتعالى- بأن الله قد رضي عن هؤلاء, {والسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ} -رضي الله عنهم-, وقال -جل وعلا-: {وَرَضُوا عَنْهُ}: رضوا عن الله -تبارك وتعالى- وذلك أنَّ الله -جل وعلا- قد نصرهم أيَّدهم, عطاهم, هداهم, وفَّقّهُم, فهم راضون كل الرِّضَىْ بهذا الدين الذي دخلوا فيه أحبُّوه مِن كل قلوبهم, وقابلوا نِعمة الله العظيمة التى أنعم بها -سبحانه وتعالى- عليهم بأن رضوا عن الرب الإله -سبحانه وتعالى-, قال: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ}: بما أعطاهم الله -تبارك وتعالى-, وبما صَدَقَهُم وَعده -جل وعلا-, {وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ }, الإعداد: التهيئة, وتوفير الأمر الذي استَقرَّ, {وَأَعَدَّ لَهُمْ}: جَهَّزَها, جَنَّاتٍ: بساتين, {تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ}: تحت هذه الجنات تحت البساتين تحت القصور الأَنْهَارُ, {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا}: أي أن مُكْثَهُم وبقاءهم في هذه الجنة خُلُودٌ أبدي, والأبد: الذي هو الزمن المستقبل وهذا لا نهاية له, الله -تبارك وتعالى- جعل بقائهم في الجنة بقاء لا ينقطع ولا ينتهي عند حد مهما تطاولت الأزمان, والبقاء بهم عطاءً غير مَجْذُوذ, {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}, ذلك: إشارة إلى هذا الذي أعطاهم الله, وهذا المصير والمآل الذي آلوا إليه, {الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}: نَيل أعظم مطلوب لا مطلوب أعظم من عطاءُ الله -تبارك وتعالى-, وثوابه -جل وعلا- بتخليد عباده الصالحين وهؤلاء في جنة الخلد, {ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}.
ثم قال -جل وعلا-: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ}[التوبة:101]: هؤلاء الذين تَخَلَّفوا عن الغزو مِنهم أُناس ظاهرون, وكذلك المنافقون مِنهم أُناس مُخْتَفُون لم يفعلوا مِن الأعمال الظاهرة ما يدل على كُفرِهم ونفاقهم, فقال -جل وعلا-: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأَعْرَابِ}: حَوْلَ المدينة مِن الأعراب سُكَّان البادية, منافقون, منافق: كافر باعتقاده كافر بقلبه ولكنه مُظْهِر الإسلام, {وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ}: نَفْسِهَا, {مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ}, ومعنى مردوا عليه: بمعنى دَّربوا عليه أي أصبح عندهم دربا, ودِراية, وحِذق في التَّخَفِّي, وإظهار إسلامهم, وإبطان كفرهم بحيث أنه لا يكادوا يَشُكُّوا فيهم شك, {مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ}: أصبحوا مثل الشيء المُمَرَّد الناعم جدًا الذي لا تَمَسُّ منه شيءً يختلف عن حال المسلم فهو قد حَذَقَ, وتَفَنَّن بفنون التَخَفِّي بحيث أنه لا يكاد يَعْلَمَهُ أحد, {مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ}: وهذا الكلام للنبي -صلوات الله عليه وسلم- وهو من أصدق الناس بل أصدق الناس فراسةً ومَعرِفًةً بالناس, يقول الله -تبارك وتعالى-: لو لا تعلمهم نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ, الله -تبارك وتعالى- مُطَّلِع على خفايا القلوب والعليم بكل أحد وهو الذي يعلمهم -سبحانه وتعالى-, قال -جل وعلا-: {سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ}: إمَّا أن يكون هذه المرتين في الدنيا فيعذبهم الله -تبارك وتعالى- مرة بعد مرة, أو تكون مرتين أي ضِعفَين؛ نُضَاعِف لهم العذاب الدنيوي ضِعفَين, أو مرتين؛ مرة في الدنيا, ومرة في الآخرة, وهذا وعيد من الله -تبارك وتعالى- بأن يُضَاعِف لهم العذاب, هؤلاء المنافقين الذين بلغوا الغاية في إخفاء نفاقِهِم, {سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ}: ثم وزيادةٍ على ذلك يُرَدُّونَ في أخر الأمر ونهاية المَطَافْ يوم القيامة إلى عذابٍ عظيم؛ عذاب النار عياذًا بالله.
ثم قال -جل وعلا-: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ}: أي مِمَّن حول النبي -صلوت الله والسلام عليه-, {خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[التوبة:102], اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ: بأن صدقوا؛ فاعترفوا بخطأهم في التَّخَلِي عن نُصْرَة النبي -صلوات الله والسلام عليه-, وبالتالى هم خلطوا عملًا صالحًا مِن أعمال الدين بعمل سيء وهو التَخَلُّف عن نُصرَة النبي -صلوات الله والسلام عليه-, فجمعوا بين هذا وهذا؛ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا, وَآخَرَ سَيِّئًا, قال -جل وعلا-: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[التوبة:102]: وعسى للترجي وهي مِن الله حق؛ لأن الله -تبارك وتعالى- لا يرجو شيءً فوقه -سبحانه وتعالى- ما عساه عند الله -تبارك وتعالى- هو الذي لابد أن يتحقق, {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ}: ففيها بُشْرَىْ لهم, وإخبار منه -سبحانه وتعالى- أنه ما دام أقرُّوا بذنبهم, ولجأوا إلى الله -تبارك وتعالى- فإن الله سَيَعفوا عنهم -جل وعلا-, {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}: تأكيد هذا المعنى مِن صِفَة الرب -تبارك وتعالى- أنَّهُ غفور، غفور: صيغة مبالغة من الغَفْر؛ والغَفْر: هو الستر أي أنه يستر العيوب -سبحانه وتعالى-, رحيم بعباده يقبل توبتهم -سبحانه وتعالى-, ويُقِيلُ عَسَراتِهِم, {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
أستغفر الله لِي ولكم مِن كل ذنب, نَقِف هُنا إن شاء الله ونُكْمِل في الحلقة الآتية.