الجمعة 21 جمادى الأولى 1446 . 22 نوفمبر 2024

الحلقة (245) - سورة التوبة 103-109

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله الأمين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بِهَدْيِهْ, وعَمِلَ بِسُنَّتِهِ إلى يوم الدين.

وبعد, يقول الله -تبارك وتعالى-: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[التوبة:102], {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}[التوبة:103], {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}[التوبة:104], {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}[التوبة:105], وَآخَرُونَ: هذا قِسْم مِن الأقسام التى يُفَصِّلُ الله -تبارك وتعالى- أحوالها هُنا في هذه السورة؛ سورة براءة التى فَصَّلَ الله -تبارك وتعالى- فيها أحوال المنافقين, ثم بَيَّنَ كذلك حقيقة أهل الإيمان الذين استجابوا للنبي, وقاموا بما أوجب الله -تبارك وتعالى- عليهم مِن نَصْرِ الدين وخرجوا في هذه الغزوة الشديدة غزوة تبوك, وكذلك درجات أهل الإسلام في هذا الأمر وموقِفَهُم مِن الدين, فكان مِن هؤلاء مجموعة مِن المؤمنين اعترفوا بذنوبهم عندما تَخَلَّفُوا عن النبي -صلوات الله والسلام عليه- أعَلِمُوا في حقيقة أنفسهم أنهم قد قَصَّروا, وقد ارتكبوا ما يُوجِب الاِعتذار والتوبة, فاعترفوا بذنوبهم أمام الرب -تبارك وتعالى- اعترفوا للنبي -صلوات الله والسلام عليه- بأنهم تأخروا عن نُصْرَتِهِ دون أن يكون لهم عذر ومبرر شرعي في أن يتاخروا عنه, قال -جل وعلا-: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا}, فَعَمَلُهم الصالح مِن إيمانهم بالله -تبارك وتعالى-, وطاعتهم للنبي -صلى الله عليه وسلم-, وقيامهم بما أوجب الله عليهم بهذا العمل السيء مِن تَكَاسُل والتَّخَلَّف عن الغزو, قال -جل وعلا-: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}, ثم وجَّهَ الله -تبارك وتعالى- هؤلاء إلى باب مِن أبواب التوبة.

قال -جل وعلا-: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}[التوبة:103], خُذْ: أمرٌ مِن الله -تبارك وتعالى- لرسوله, مِنْ أَمْوَالِهِمْ: أموال المسلمين سواءً كان الذين صَحَبُوا النبي -صلوات الله عليه وسلم- هذا أمرٌ عام طبعًا هذا للنبي, ولِمَن بعد النبي -صلوات الله وسلامه عليه-, {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً}, هذه الزكاة سَمَّاها الله -تبارك وتعالى- صدقة؛ لِأنها مِن التَّصْدِيق ومِن الصدق, {صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا}: تُطَّهِّر نفوسهم مِن الشُّح ومِن البُخل, وتُعْطِيهِم معنى الإيمان بالله -تبارك وتعالى-, واحتساب الأجر والمثوبة عند الله -تبارك وتعالى-, وكذلك يغفر الله -تبارك وتعالى- بها ذنوبهم, تُطَهِرَهُم بها مِن السَيِّئات والمعاصي, وَتُزَكِّيهِمْ: تُطَيِّب نفوسهم, وأخلاقهم؛ لأنه إذا الإنسان بَذَلَ هذا المال مُرِيدًا وجه الله -تبارك وتعالى- نَمَت نفسه بالصدق والإيمان والتَّطَلُّع لِمَا عند الله -تبارك وتعالى-, {وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا}, فأخبر الله -تبارك وتعالى- هذه منافع وفوائد الزكاة والصدقة, {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا}, {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ}: أي ادعوا لهم, صلاة النبي على أصحابه, وعلى المؤمنين إنما هي دعائه لهم -صلوات الله والسلام عليه-, {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ}: صلاة النبي سكن لهم, أولًا: سكن لهم عند أنفسهم عندما يعلمون بأن النبي قَبِلَ صداقتهم منهم, ودعا لهم, سكنت نفوسهم أنهم من أهل الدين ما دام أن الله -تبارك وتعالى- عَطَّفَ رسوله -صلى الله عليه وسلم- عليهم, ودعا لهم فإنهم تَطْمَئِن نفوسهم أنهم ليسوا من أهل النفاق وليسوا خارجون عن الهداية, كما الشأن في المنافقين الذين قال الله -تبارك وتعالى- للنبي: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ........}[التوبة:80], وقوله: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ........}[التوبة:84], وقوله: {يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ........}[التوبة:94] فهذا يختلف, فالذي لم يقل الله النبي عذره منه والذي أعرض عنه غير هذا الذي يأخذ النبي صدقته فيقبلها ثم يدعوا له, فهذا تَسْكُن نفسه؛ تَسْكُن نفسه ويطمئن أنه ما زال في أهل الإيمان وإن كان وقع منه هذا التَّخَلُّف عن النبي -صلوات الله والسلام عليه- إلاَّ أن الله أقال عسرته, وعَطَّفَ النبي عليه وهذا النبي يدعو له ودعاء النبي مقبولٌ عند الله -تبارك وتعالى-, {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ}, هذا واحد, وسكن لهم كذلك عند الله؛ فإن الله -تبارك وتعالى- يقبل دعاء النبي -صلوات الله والسلام عليه- وبالتالى يُنزِل الله -تبارك وتعالى- السَّكِينة على هؤلاء, والرحمة بدعاء النبي لهم -صلوات الله والسلام عليه-, اللهم صلى وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد, {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}: هذا فيه بِشَارة لهؤلاء بأن الله سامعٌ لدعائهم عليمٌ بهم -سبحانه وتعالى- ,ومِن أجْل ذلك شرع ما شرع مِن هذا الأمر رحمةً بهم -سبحانه وتعالى-, فهذا تطمينٌ لهؤلاء, وبيان أنَّ الله سامع لكل خلقه -سبحانه وتعالى- عليمٌ بهم, وكان تشريع الرب -سبحانه وتعالى- بأن يقبل النبي صدقتهم, وأن يدعوا لهم فهذا أمرٌ عظيم, إذا عَلِمَهُم الله وأرشدهم إلى هذا الأمر, إذًا هذا مِن دلائل رحمته وعنايته بهم وقبوله لتوبتهم -سبحانه وتعالى-.

ثم قال -جل وعلا-: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ}: أي قد عَلِمُوا هذا, في هذا سؤال للتقرير, أَلَمْ يَعْلَمُوا: هؤلا, {أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ}, هو قال أن الله هو, فأعاد الضمير بعد الاسم الظاهر لتأكيد هذا الأمر, هو الذي يقبل التوبة عن عباده وذلك أنه لا يقبل التوبة إلاَّ هو فإنه لا يغفر الذنوب غيره فإن كل ذنب هو معصية الإله -سبحانه وتعالى-, لا يُزِيل هذا الذنب ويقبل هذه العسرة إلا الرب -جل وعلا- إن قَبِلَ هذا انزاح الذنب, وتجاوز العبد هذا الإثم, وإذا ما قبله الله -تبارك وتعالى- بقيَ الذنب مُرتهنًا بصاحبه, أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ -سبحانه وتعالى- يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ, فالتوبة هي: الرجوع إلى الله -تبارك وتعالى-, فالله لا يغفر الذنوب إلَّا هو -سبحانه وتعالى-, {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ}, فالصدقة عندما تُعطَىْ في مَصْرَف مِن مصارفِها الله يتقبلها بمينه -سبحانه وتعالى- أولا, كما جاء في الحديث: « إن الله يتقبل الصدقة أحدكم بيمينه ويُرَبِّيها له كما يُرَبِي أحدكم فَدْوَه» : أي أن الله يُنَمِّيها يُثَمِرها له حتى تكون التمرة الواحدة أنفقها الآن لكنها عندما يأتي يوم القيامة تكون مثل الجبال؛ ليس أجرها فأجرها أكبر من هذا, وإنما عددها وحَصرُها هي نفسها؛ لأ ن الله نَمَّاها له, فأصبح تَصَدَّق بتمرة لكن مع التنمية كأنه تَصَدَّق بجبل مِن التمر, ثم يُحَاسِبُه الله على هذا المُثَمَّر؛ على هذا الجبل مِن التمر في النهاية ويعطيه أجره -سبحانه وتعالى-, {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ}, يأخذهها –سبحانه وتعالى-: بمعنى أنه هو الذي يَتَقَبَّلُها ويأخذه كما جاء في الحديث بأن الله -تبارك وتعالى- يأخذ صدقة أحدكم بيمينه ويُنَمِّيها له, وذلك أن المُعْطِي إنما يُعْطِي لله -تبارك وتعالى- أي المُنْفِق والمُتَصَدِّق لِمَن؟ وما تنفقونا إلاَّ ابتغاء وجه الله فهو يُعْطِي لله, فإن أعطىْ فقير أو مسكين, أو أحد مِن أهله, أو ابن سبيل, أو ما كان مِن هذه المصارف فإنما أعطى لله -تبارك وتعالى-؛ لأن هذه الصدقة التي يأخذها الله ويُنَمِّيها لصاحبها ما يكون له فلا ينفع في الصدقة إلاَّ ما كان لله -عز وجل-, {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}: -سبحانه وتعالى- تَوَّاب كثير التوبة, والتوبة مِن العبد الرجوع إلى الله -تبارك وتعالى-, ومن الرب قَبُول رجوع العبد إليه -سبحانه وتعالى-, فالعبد يُسَمَّى توَّاب, إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ من العباد, وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ, والله -سبحانه وتعالى- هو التَّوَّابِ على عباده: بمعنى أنه الذي يقبل توبتهم -سبحانه وتعالى-, ويُقِيل عسرتهم, {وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}: بعباده مِن رحمته هو قَبُول أي إفاقة واستغفار ورجوع العائد إليه -سبحانه وتعالى-.

ثم قال –جل وعلا-{وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}[التوبة:105], {وَقُلِ اعْمَلُوا}: أمر من الله -تبارك وتعالى- لهؤلاء لكل عامل يعمل, {فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ}: هذا العمل الظاهر لاشك أنَّ عِلمُ الله -تبارك وتعالى- بأعمال خلقه هو سابق لوجودهم, ولكن هذه رؤية الله -تبارك وتعالى- للعمل أي أن يُظهِره -سبحانه وتعالى- حتى يكون ظاهرًا فيحاسبهم به, وكذلك يُرِى رسوله -صلى الله عليه وسلم- ويُطلعه؛ لأن الرسول شاهد, حتى يشهد الرسول -صلى عليه وسلم- على مَن معه, يشهد لمن صدَّقَه, وقام معه وجاهد معه, فيشهد لهم بالجنة, ويشهد كذلك على المُكَذِبِين المعاندين والمنافقين المخادعين, فهذه شهادة النبي على هؤلاء, {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا}[النساء:41], {يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا}[النساء:42], فالنبي شهيد على مَن معه, ثم المؤمنون شهداء بعضهم على بعض, أهل الإيمان كذلك يشهد بعضهم على بعض فمَن شَهِدوا له بالخير كان من أهل الخير, ومن شَهِدوا له عليه بالشر كان من أهل الشر كما قال النبي: « أنتم شهداء الله في أرضه», فالله يقول: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ}: المؤمنون كذلك يشاهدون ويحكمون بعمل بعضهم على بعض, {وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}: أي الفيصل في النهاية هو حكم الله -تبارك وتعالى- الذى ييكون في الآخرة, فهذا هو الذي سَيُنَبِّئُ كل أحد بعمله على الحقيقة, وذلك أنَّ الله -تبارك وتعالى- هو عالم الغيب والشهادة في هذا المَطَاف, فهذه الآية فيها حَث، وتحذير، حث لكل عامل أن يعمل وأنَّ الله -تبارك وتعالى- سَيُظهر عمل كل عامل يبقى ظاهر حتى يُشْهَد له بالخير, وُشْهَد عليه بالشر, ثم سينقلب العباد في نهاية المَطَاف إلى ربهم -سبحانه وتعالى- فيحاسبهم على أعمالهم, {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ}, لتتم هذه الشهادة لتتمها الله يرى عملك, الرسول يرى ليشهد, والمؤمنون يشهد بعضهم لبعض, وقد قال النبي: «أنتم شهداء الله في أرضه», وذلك لما رُفَعَت جنازة فشهد لها قال: «أثنىْ المسلمون عليها خيرا فقال النبي وجبت, ثم رُفِعَت جنازة ثانية فأسلم عليها شرًا فقال النبي وجبت, فقالوا يا رسول الله ما وجبت؟ فقال: رُفَعَت جنازة فشهدتم عليها خيرا فقلت وجبت أي لها الجنة أي لصاحبها, ورفعت جنازة فشهدتم عليها شرًا وأثنَيتُم عليها شرًا فقلت وجبت أي لها النار», أنتم شهداء الله في أرضه أنتم أيها المؤمنون شهداء الله في أرضه فإذا شَهِد المؤمنون بصلاح أحد, وبزكاته كان زكيًا عند الله -تبارك وتعالى-, وكذلك إذا شهدوا بهذا, وذلك أن الله لابد أن يُظهِر عمل كل عامل حتى تتم هذه شهادة أهل الإيمان كذلك بعضهم لبعض, {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}.

ثم قال-جل وعلا-: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّه}: مِن هؤلاء الذين حَوْلَ النبي -صلوات الله والسلام عليه-, {مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّه} الإرجاء التأخير أي أن الله -تبارك وتعالى- يُأخرهم لأمر مِن أمره -سبحانه وتعالى-, {إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}[التوبة:106], أخَّرَ الله -تبارك وتعالى- إظهار حكمه فيهم -سبحانه وتعالى-, وجعل الأمر إليه في نهاية المطاف, { وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّه}: حُكم الله -تبارك وتعالى- فيهم أحد الأوامر لأمر هو أحد الأوامر, {إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ}: أي أمرهم إلى الله -تبارك وتعالى-, {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}, وإما يتوب عليهم والله عليمٌ بأحوال عباده -سبحانه وتعالى- جميعًا حكيم يضع الأمور في نصابها, وهذا يجعل هذه الطائفة تعمل وتترقب وتعود إلى الدين والطريق, وتخاف أن يَسفُكها الله -تبارك وتعالى- مع طائفة أهل النفاق, إذًا هذه الطوائف السابقون الأولون منافقون الخُلَّص؛ الذين خلطوا عملًا صالحًا, وآخر سيئا, ثم توجيه الله -تبارك وتعالى- لهم بطريق التوبة وهؤلاء الذين أرجأ الله -تبارك وتعالى- حكمه ولم يُظهِره وبين أنه عليمٌ بأحوالهم -سبحانه وتعالى-.

ثم شرع الله -تبارك وتعالى- يُبَيِّن حال طائفة مراوغة منافقة, أرادت أن تَضُر أهل الإسلام بضرٍ عظيم, فقال -جل وعلا- {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}[التوبة:107], لا تَقُم فيه أبدا, {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا}, وهؤلاء كانوا اثنى عشر مِن المسلمين مع النبي -صلوات الله والسلام عليه-, {اتَّخَذُوا مَسْجِدًا}: بنوا مسجد لهم بالقرب مِن مسجد قُباء, وأخبر -سبحانه وتعالى- بِأنهم اتخذوا هذا المسجد ضِرار ومُضارة لِأهل الإسلام, وليس مسجدًا لأجل أن يُصَلَّىْ فيه وليكون مسجد للهدى وإنما للمُضَارة فقط, وتفريق الجماعة التي كانت تصلى قي مسجد قُباء, {ضِرَارًا وَكُفْرًا}: كفرًا بالله -تبارك وتعالى- فاتخذوه لا لِأجل الصلاة وإنما الصلاة سِتار وإنما أرادوا أن يتأمروا على المسلمين مِن داخله, {وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ}: إن صَلي هُنا وصلي هُنا فَيُفَرِقوا بين أهل الإسلام ويجمع إليهم مَن هو على شاكلتِهم مِن أهل النفاق, {وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ}, الإرصاد هو الترقُب واللحظ, وجمع الأخبار, قال -جل وعلا-: {لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ}, وقد كان هذا المسجد بدلالة أبو عامر الراهب الذي سَمَّاه النبي الفاسق, هذا رجل مِن الأنصار وكان قد تَنَصَّر في الجاهلية, وكان يُسَمَّى بأبي عامر الراهب, ولمَّا جاء للنبي -صلوات الله والسلام عليه- حَنَق بذلك ذهبت رِئاسته فخرج مِن المدينة وبدأ يُؤلِب على النبي -صلوات الله والسلام عليه-, وتأليبه شره كان في أُحد, وكان في الخندق, ثم بعد ذلك التحق بقيصر الروم هِرقل وأراد أن يأتى بجنود ليحارب النبي -صلوات الله والسلام عليه-, فلم يكتفي بالتأليب في العرب وإنما كذلك التحق بالروم مُألبًا على النبي -صلوات الله والسلام عليه-, وهو صاحب هذا الاقتراح؛ أن يبنوا مسجد في هذا المكان ويكون هذا المكان تَجَمُّع ووكر لهؤلاء المنافقين فيتلصَّصُوا الأخبار, ويعرفوا أخبار أهل الإسلام وينقلوها لِيَتِم له ما يريده وما ينويه بعد ذلك مِن حرب الله ورسوله, قال -جل وعلا-: {وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ}: إرصاد لهذا الفاسق, قال -جل وعلا-: {وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى}: سيحلف هؤلاء الذين بنوا هذا المسجد؛ مسجد الضِرار أنهم ما أرادوا بهذا البناء إلَّا الحُسنى وذلك أنهم أتوا النبي -صلوات الله والسلام عليه- وقالوا: يا رسول الله نبني هذا المسجد عندنا للضعيف والمريض, والذي لا يستطيع أن يذهب إلي مسجد قباء, وفي الليلة الشاتية والباردة فنصلى فيه حتى لِأن ذاك المسجد بعيدٌ علينا, فَيَحْلِفُنَّ إن أردنا ببناء هذا المسجد إلاَّ الحُسنَىْ, قال -جل وعلا-: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}: هذه شهادة الله -تبارك وتعالى- المُطَّلِع على أسرارهم يشهد إنهم لكاذبون في ما ادَّعوه مِن الأهداف والغايات التى مِن أجلها بنوا هذا المسجد.

ثم قال -جل وعلا-: {لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا}: أي للصلاة؛ وذلك أنهم بنوه قبل أن يخرج النبي إلى تبوك, ثم إنهم أتوا النبي ليُصَلي فيه وعندما يُصلي فيه النبي كأنه هذا إقرار له أنَّ النبي صلَّىْ فيه فيصبح أمر مشروعٌ ويكون هذا تمهيد لطريقهم, فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: نحن الآن على جناح سفر وإذا عُدنا إن شاء الله مِن الغزوة وعدهم النبي أن يأتي ويُصَلِّي فيه, فقال الله -تبارك وتعالى- لرسوله لمَّا عاد أطْلَع الله تبارك وتعالى- رسوله وهو عائد مِن الغزوة عن حقيقة ما أراده هؤلاء ببناء هذا المسجد فقال لرسوله: {لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا}: قيام للصلاة, ثم قال -جل وعلا-: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ}, ثم بَيَّنَ الله -تبارك وتعالى- بِأن المسجد الذى هو أحق أن يقوم النبي للصلاة فيه قال-: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْم} مسجد أُسِّسَ على َتقْوَىْ الله؛ ليكون مسجدًا لله -سبحانه وتعالى-, وهو مسجده؛ مسجد النبي -صلوات الله والسلام عليه- فإن الله أسَّسُهُ على من قام به من بنوه متقين لله -تبارك وتعالى- يريدون وجه الله -تبارك وتعالى-, فالنبي بناه على تَقْوَىْ لله, وقام الصحابة بنوه على تَقْوَىْ لله, والأنصار تبرعوا بأرضه لله -تبارك وتعالى-, فإنه قد جاء في السيرة أن النبي لمَّا بَرَكَت ناقته في هذا الفناء؛ بيت أبي أيوب الأنصاري -رضى الله تعالى عنه-, وعَلِم النبي أنَّ هذا هو المكان ومُسْتَقر الذي سُمِحَ له أن يستقر فيه جاء النبي إلى هذا البستان أو الحائط الذي فيه مسجده الآن وقال للانصار:  « ثامنوني بحائطكم هذا» أي اعطوني ثمن له حتى يدفعه النبي -صلى الله عليه وسلم- لِيَني مسجده, فقالوا والله يارسول الله لا نطلب ثمنه إلاَّ مِن الله فقالوا ثمن هذا البستان ما نطلبه إلاَّ مِن الله -سبحانه وتعالى-, فأوققوه لله من أول هذا اليوم, والنبي -صلى الله عليه وسلم- جاء الي هذه الأرض كبستان خَرِب ليس عامرًا فَسَّوى الخرب الذي فيه, وقطع النخل الذي فيه ضُرِبَ اللبِن, ثم كان كذلك فيه قبرين لبعض المشركين نُبِشَت هذه القبور, وسُويت بالأرض وسوى النبي هذا وأقام مسجده -صلى الله عليه وسلم-, فقال -جل وعلا-:  {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ}: هذا هوالمسجد الذي يَحَق أن تقوم فيه, {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ}[التوبة:108], فيه: في هذا المسجد الذين هم أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-, {رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} الطهارة كاملة: طهارة النفوس, وطهارة الأبدان كذلك, {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ}: وهذا بالطبع كذلك تعريض بأولَئِك الأنجاس الذين بنوا هذا المسجد مِن فِسق والكفر والإرصاد للكفار, فهؤلاء لا يريدون أن يتطهروا بهذا المسجد الذي بنوه, وإنما بنوه فِسقًا وفجورًا, {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ}.

ثم قال -جل وعلا-: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}[التوبة:109]: هُنا وضع الله -تبارك وتعالى- مقارنة بين هؤلاء أصحاب النبي الذين بنوا مسجدهم لله -سبحانه وتعالى- على تقوى مِن الله, وبين هؤلاء الذين بنوا هذا مسجد الضِرار, {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ}: مخافة مِن الله -سبحانه وتعالى- خوف منه وبناء المسجد للصلاة, ولتقوى الله -عز وجل- ورضوان, اتقوا الله -تبارك وتعالى- ورضي الله تبارك وتعالى عنهم- لهذا إخلاص نياتهم وعملهم, خير, أي هل هذا خير؟ معنى أخير, {أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَار}: صَوَّر الله -تبارك وتعالى- مسجد الضرار هذا كمن بنى بناء على شفا الجُرُف؛ الجُرُف: وهو المكان الذى يبقى عاليًا بعد نَحر السَّيل للأرض إذا جاء السيل وخاصة في العُدوى فنَحَر الأرض فإنه يبقى طرف التراب قائمًا وطرف التراب القائم هذا بسرعة يَهِيب فلو أن جاء باني وبنى بناء على طرف هذا الجُرف على طرف ما جَرَفَهُ السيل فإنه سريعًا لو جاء السيل ونحرَ التربة مِن جديد فإنه لابد أن يسقط هذا البناء, فشَبَّه الله -تبارك وتعالى- بنائهم هذا الذي بنوه هو مسجد الضرار كمن يَبني على طرف الجُرف, ثم الجُرف هذا ليس تحته ماء بل تحته نار, فانهار, وعندما انهار؛ انهار به في نار جهنم عياذًا بالله, {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْر} هؤلاء هم مسجد النبي {أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ}, هار: معناها أنه سريع ناعم, التربة ناعمة سريعة الإنهيار, {هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ}: وقع وسقط سريعًا بهم في نار جهنم  {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}: وَاللَّهُ -سبحانه وتعالى- لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ, فلو أنَّ هذا عندهم بصيرة وعندهم فهم فلا يبني الإنسان هذا البناء, فهؤلاء الذين صنعوا هذا يظنون أن هذا فيه خير لهم لكنه فيه شر لهم, الله ما هداهم ولا وفقهم فتعبوا وبنوا وفعلوا, وفي النهاية كان مآلهم  إلى النار عياذًا بالله, {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}, {لا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}[التوبة:110].

 نُكمِل إن شاء الله هذا في الحلقة الآتية, أقول قَولي هذا وأستَغْفِرُ الله لي ولكم من كل ذنب -وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد-.