إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره, ونعوذ بالله مِن شرور أنفسنا وِمن سيئات أعمالنا, مَن يهديه الله فلا مضل له, ومَن يُضلِلَه فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له, وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله.
وبعد, يقول الله -تبارك وتعالى-: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}[التوبة:109], {لا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}[التوبة:110]: هنا يُبَيِّنُ الله -تبارك وتعالى- الفارق العظيم بين أهل الإيمان الذين قاموا بتأسيس مسجد النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ بنوه لله -تبارك وتعالى- مُخلِصِين فيه لله, النبي -صلى الله عليه وسلم-, والمؤمنون معه والأنصار الذين وهبوا وأوقفوا أرض هذا المسجد لله -تبارك وتعالى-, فهذه هي صورة الإيمان الصحيح, مُقَابل هذا سورة أهل مسجد الضرار الذين بنوا مسجد في ظاهره مسجد لكن في حقيقته مكان ووكر يتجمع فيه أهل الشر مِن المنافقين ليكونوا عينًا للكفار على المسلمين, فجعلوا مِن المسجد مُنْطَلَقًا لحرب الإسلام والمسلمين, فقال -جل وعلا-: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ}, فهذا النبي -صلى الله عليه وسلم-, والمؤمنون في تأسيسهم لمسجد النبي -صلى الله عليه وسلم- أُسَّسَ على تقوى مِن الله ورضوان أي أن الله -تبارك وتعالى- رَضِيَ عن فعلهم؛ لأنهم فعلوا هذا ابتغاء وجهه -سبحانه وتعالى-, ولإقامة الصلاة وللدين ولِأن يكون هذا هو مُنْطَلَق والمسل في الأسلام إنما هو المُنْطَلَق للجهاد, وللخير, ولِتَعَلُّم العِلْم, والمنافع العظيمة التى مِن أجلها تُبْنَىْ المساجد, فلذلك كان هذا مِن رضوان الله -تبارك وتعالى-, {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ } أي بُنيَان, {عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ }: شَبَّه الله -تبارك وتعالى- تأسيس مسجد الضِرَار بصورة بِمَن أسَّسَ بُنيَانًا له لكن على شفا الجُرُف, والشفا: الحافة, والجُرف: هو التراب الباقي بعد أن يَنْحَر السيل مَجراه فإذا وقف التراب الذي يقف في حافة السيل فإنه سريعًا ما ينهار إذا جاء السيل مرة ثانية فإنه يَنحَر هذا التراب ويقع, أو إذا حصر ريح أو هواء فإنه يسخُط فمن بنىْ فوق هذا على شفا الجُرُف فلاشك أنه لا يمكث بنائه, وهكذا شبه الله -تبارك وتعالى- بنائهم هذا المُتَهاوي بالبناء على شفا الجرف, ثم أخبر بأنه إذا انهار؛ انهار في نار جهنم مع صاحبه عياذًا بالله, {عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ}: مُتَهالك, {فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}؛ لأن الذي يفعل هذا الفعل لا عقل له ولا فِهم له ولا بصيرة له, أضل الله -تبارك وتعالى- بسبب ظلمهم وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ, فينفقون أموالهم ويتعبون ويشقون, ثم تكون العاقبة شر لهم عياذًا بالله, {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}.
ثم قال -جل وعلا-: {لا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ}: هذه عقوبة شديدة لهم مِن الله -تبارك وتعالى-, وأن هذا البنيان الذي بنوه سيظل رِيبة في قلوبهم, أي شك يأكل قلوبهم ويُمْرِضُها, وذلك لأنهم بنوه في ظاهره مسجد وهم يُريدون بهذا خداع أهل الإسلام, ولكن مِن داخلهم يعلمون أنه ربما يَنكَشِفُ أمرهم إذا كشف الله -تبارك وتعالى- أمرهم وظهرت نِيَّاتهم فإنهم سَيُفضَحُون بذلك فيظل هذا الأمر مُرتاب كالذي يفعل دائما فعل على غير صورته فإنه يظل مرتاب, {لا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ}, ثم قال -جل وعلا-: {إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ}: أي ندمًا وحسرة على ما فعلوه ويكون هذا باب لهم إلى التوبة, {إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}: عليمٌ بأحوال عباده -سبحانه وتعالى- حكيم يضع الأمور في نصابها ومِن هذا أنَّ الله -تبارك وتعالى- عاقبهم بهذه العقوبة؛ لفساد طَوِيَّاتهم وفساد نياتهم, بعد هذا بَيَّن الله -تبارك وتعالى- حال أهل الإيمان معه والصفقة الكُبرىْ التى عَقَدها الله -تبارك وتعالى- مع المُخلِصين؛ مع أهل الإيمان الحقيقي.
فقال -جل وعلا-: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}[التوبة:111]: بعد هذا السد الطويل لأحوال المنافقين, وخداعهم وتلاعبهم وسيرهم هذا المُتَعَرِج المُتَلَوِّن, ومحاولتهم المُستَمِيتة في إطفاء نور الله -تبارك وتعالى- وفي خِذلان المسلمين, هُنا يُبَيُّن الله -تبارك وتعالى- حال أهل الصدق فيُبَيِّن ربحهم العظيم, وأنهم قوم باعوا أنفسهم, وأموالهم لله وأن الله -تبارك وتعالى- اشتراها وكافأهم عن هذا أعظم الجائزة؛ الفوز العظيم, قال -جل وعلا-: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ}: اشتراها: أخذها, النفس: هو الذي أعطاهم إياها -سبحانه وتعالى-, ولكن الله -تبارك وتعالى- يشتريها منهم بأن عَرَضَ عليهم هذه الصفقة فباعوا أنفسهم لله -تبارك وتعالى-, وَأَمْوَالَهُمْ: أي بأن يبذلوها في سبيل الله؛ الجهاد في سبيل الله لإعلاء كلمته -سبحانه وتعالى-, فهم يجاهدون في سبيل الله ويُقَدِّمون أنفسهم يخاطرون بأنفسهم, ويُخاطرون بأموالهم؛ يدفعون أموالهم لله -تبارك وتعالى- مِن أجل إعلاء كلمته -جل وعلا-, قال -جل وعلا-: {بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ}: عنده -سبحانه وتعالى-, الجنة: بالألف واللام: المعروفة الموصوفة التى هي كرامته -سبحانه وتعالى- جزائه العظيم فضله الكبير, والتي قد جمع الله -تبارك وتعالى- كل أنواع الحبور والسرور مِن الخُلود الذي لا ينقطع, فحياةٌ دائمة مِلئُوهَا السرور والحبور الذي لا ينقطع, وجمع الله -تبارك وتعالى- لهم فيها كل ما يشتاهون مِن البيوت الأنيقة المُريحة, القصور العظيمة لَبِنَةٌ مِن دهب, لَبِنَةٌ مِن فضة, مِن كل فاكهة تخطربالبال ولا تخطر بالبال, {فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ}[الرحمن:52], مِن النساء الجميلات في أفضل سِنٍ تكون فيه النساء, كواعب أترابا مِن مجالس اللهو والمتعة, {وَكَأْسًا دِهَاقًا}[النبأ:34]: مِن إبعاد كل أنواع المُنَاغِصَات, {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا كِذَّابًا}[النبأ:35]: فلا مُنَغِّص, لا يمرضون, لا يبسقون, لا يتفلون, لا يمتخطون, رشاحهم المسك, لا يفنى شبابهم, لا تُبلى ثيابهم, لا يطلبون شيئا إلاَّ ويُوجِدهُ الله -تبارك وتعالى- لهم, لهم فيها ما يشتهون, ولهم فيها كذلك ما يدَّعُون, فما يَشْتَهونه مما عَهِدوه وألِفوه يوجد بمجرد اشتهائه, وكذلك ما يدَّعونه مما لم يألفوه, ولم يعهدوه بل مما يقترحوه, ويتخيلوه ويتمنوا لو يُوجَد فَيُوجد, ولهم فيها ما يدَّعون, ثم رضوانٌ مِن الله -تبارك وتعالى- رضوان دائم يرضى الله -تبارك وتعالى- فلا يسخَط عليهم أبدا, هذا أمرٌ عظيم فهذه الجنة بيت الرضوان؛ بيت رضوان الله -تبارك وتعالى-, وبستانه وقصره العظيم, وهديته الكُبرَىْ لإهل طاعته -سبجانه وتعالى-, نسأل الله -عز وجل- أن يجعلنا منهم, {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ}: هذا الأمر العظيم.
ثم قال-جل وعلا-: مُبَيِّن كيف قَدَّموا أنفسهم, وأموالهم قال: {يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ}, يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الله, وكتب الله -تبارك و تعالى- عليهم أنهم يَقتُلون: أي أعدائهم, وَيُقْتَلُونَ كذلك في سبيل الله, فَيَحصُل لهم ما جعل الله -تبارك وتعالى- لهم النصر والغلبة دائمًا بل يَغْلِبُون ويُغْلَبُون؛ يَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ, ثم قال -جل وعلا-: {وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ}: الوعد مِن الله -تبارك وتعالى- والله التزمه -سبحانه وتعالى- وأوجبه على نفسه لا يُوجِبُ أحدٌ على الله -تبارك وتعالى- شيء, لكن هذا هذه الصفقة العظيمة الجنة ليست ثمن للعمل ولكنها هدية ومِنحَة وفضل مِن الله -تبارك وتعالى- وإلاَّ فَعَمل المؤمن يأخذ أجره بما متعه الله -تبارك وتعالى- به في الدنيا وبل إنَّ كل العمل لا يُجزِئُ نعمة واحدة مِن نِعَم الله -تبارك وتعالى- على عبده في الدنيا، الجنة ليست ثمنًا للعمل وإنما هي هدية ومِنَّة وفضل مِن الله -تبارك وتعالى-, والله التزمه جعل هذا لازمًا عليه -سبحانه وتعالى-, قال: وَعْدًا عَلَيْهِ: أي عليه تنفيذه وأن تحقيقه -سبحانه وتعالى- حَقًّا, {وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا}: ثابتًا لابد أن يكون, كما قال -جل وعلا-: { أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لاقِيهِ........}[القصص:61], لابد أن يلقاه, فالوعد الحسن وهو الجنة لابد أن يلقاها كل عبدًا وافق شرط الله -تبارك وتعالى- في أن باع نفسه, وماله لله {وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا}, ثم قال -جل وعلا-: {فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ}: هذه الكتب السماوية التى أنزلها الله -تبارك وتعالى- على هؤلاء الرسل العِظَام, التوراة المُنزَلة على موسى, والإنجيل المُنزَل على عيسى -عليه السلام-, والقرآن المُنزَل على عبده ورسوله محمد -صلوات الله والسلام عليه-, فهؤلاء الرسل العِظَام الذين جعل الله -تبارك وتعالى- لهم قَبُول عظيم في الأرض, فموسى أتبعته أمة عظيمة مِن الناس, وعيسى -عليه السلام- أتبعته أمة عظيمة, ومحمد -صلوات الله والسلام عليه- سيد الرُّسُل وخاتمهم أتبعه أعظم مما اتبع جميع الأنبياء والمرسلين, فالكتب التي أُنزلت على هؤلاء الرسل سَجَّل الله -تبارك وتعالى- فيها العهد وبَيَّن أن هذا عهده –سبحانه وتعالى-, وهذه صفقته مع عباده المؤمنين, {وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ}: فهي مكتوبة في الكتب التى أنزلها الله -تبارك وتعالى- وكأن الله -تبارك وتعالى- يقول إنَّ هذا الصَّك أو هذه الوثيقة أو هذه الصفقة قد عقدها الله -تبارك وتعالى- وأنزلها في كُتُبه الشريفة العظيمة التى نزلت على هؤلاء الرسل العِظَام -عليهم الصلاة والسلام-.
ثم قال -جل وعلا- {وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ}: هذا السؤال يُرَادُ به التقرير, مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ: هل هُناك مِن غير الله يوفى بعهده كما يوفى الله بعهده؟ يستحيل لا يمكن أن يكون هذا إذا قال الله -تبارك وتعالى- ووعد وعدًا فلابد أن يُوفِيه -سبحانه وتعالى- وليس هُناك غير الله -تبارك وتعالى- مَن يُوفى بعهده كما يَفى الله -عز وجل- بعهده, فقال -جل وعلا-: مُثبِتًأ أن هذا الأمر سيكون, قال: {وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ}, والجواب: لا أحد يُوفى عهده كما يُوفِى الله تبارك وتعالى- عهده.
ثم قال -جل وعلا-:{فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ}: استبشروا أيها المؤمنين أي افرحوا, البِشَارة: هي الإخبار بما يَسُر؛ هذا خبرٌ عظيم بما يَسُر, هذه صفقة كُبرَىْ فيها الله طرف, وأنت أيها المؤمن الطرف الآخر, والله إذا كان هو طرف لابد أن يُوَفِّيك حقك والذي تأخذه أمر عظيم جدًأ أنت تُبذل شيء قليلًا, الموت هتموت؛ الموت الكُلِّ يموت, والمال كله ذاهب لا يقول العبد مالى مالى فهُنا أهل الدنيا يبذلون أموالهم في متع وشهوات كثيرٌ منها دنِيء حقير يتمتع الإنسان فيها وقت قليل, ثم يضمَحِل ويذهب, لكن أن يشتري المؤمن بماله الجنة تُصبِح هذا شيء عظيم جدًا, فمن اشترى بماله مِن أهل الدنيا اشترى بيت اشترىْ سيارة اشترى أمر مِن هذه الأمور تمتع فيها متعة قليلة البيت ماذا يتمتع فيه يُمكن بعض الناس يتمتعون في بيوتهم عدة أيام, سنة, سنتين, عشرة سنوات, ثم يُفارقه وينتهي الأمر, أما هذا لم يشترى مِن الله -تبارك وتعالى- لمدة محددة ولا قصرًا ولا بستانًا إنما اشترى الجنة دار الخلود بما ذخر الله -تبارك وتعالى- فيها, فالله يقول: {فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ}: هذا بيعتك رابحة اربح شيء بل لا توجد لا صفقة في الوجود كهذه الصفقة؛ أن يدفع الإنسان هذا الشيء القليل ماله القليل, عمره, ثم يأخذ الخلود, يدفع عمره القليل؛ لنفرض أن العمر الافتراضى للناس ستين سنة, وإنسان جاهد شابًا وهو ابن خمسٍ وعشرين ثم أُستُشهِد ما الذي فاته خمسة وثلاثين خمسة واربعين سنة لكن أخذ الخلود؛ أخذ بذلك الخلود في الجنة ومِن وقت أن يموت, {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}[آل عمران:169], {فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}[آل عمران:170], {يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ}[آل عمران:171], فهذا الذى استعاض بقية عمره مثلًا ونال هذه الشهادة لا شك أنه قد عُوِّضَ بهذه السنوات الباقية في العمر الافتراضى للبشر بخلود عند الرب -تبارك وتعالى-, الله يقول: {فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}: وذلك هذه الصفقة وأن يدفع الإنسان عمره أو, أن يدفع ماله؛ لينال الجنة, هذا الفوز العظيم هذا الذى دفع شيءً قليلًا, وأخذً ثمنًا عظيمًا لا يُوصَف, أخذ خلود, يعيش لا يكون مائة مليون سنة, ولا اثنين ولا ثلاثة ولا أربعة, بل خلوًدٌ فلا موت, وحياة لا تنقطع أبد الدهر, فهو إلى الأبدً أبد الأبد, وهو مُنَعَّم على هذا النحو بكل أنواع النعيم, ما تتخيل وما لا تتخيل, أعددت لعبادي الصالحين ما لا عينٌ رأت, ولا أذنٌ سمعت, ولا خطر على قلب بشر, هذا ما حَدَّثنا به -سبحانه وتعالى- مِن ما في الجنة, دُورها وقصورها, وأنهارها, وثمارها, ونسائها, وأدواتها, وفُرُشِها ومتعتها ومجالسها, كل هذا أعلمنا الله -تبارك وتعالى- به وفوق ذلك ما لم يُخبِر الله -تبارك وتعالى- بذلك أحدًا يجعله مِن المفاجأت العظيمة السَّارة لِأهل الجنة,{فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ}: أي أيها المؤمنون الذين باعوا أنفسهم, وأموالهم لله, {وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}.
ثم بَيَّن الله -تبارك وتعالى- صِفات هؤلاء المؤمنين فقال: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ}[التوبة:112]: عشر صفات لهؤلاء المؤمنين, أول صفةٍ مِن صفاتهم: أنهم هم التائبون, والتوبة: هي الرجوع إلى الله -تبارك وتعالى-, ومعنى أنه تائب: فاعل لهذه التوبة دائمًا فهو عبدٌا دائمًا في توبة إلى الله -تبارك وتعالى-؛ في رجوع إلى الله -عز وجل-, وذلك أنَّ مِن طبيعة الإنسان الخطأ كل ابن آدم خَطَّاء وخير الخطائين التوابين, وهذا النبي -صلوات الله والسلام عليه- أعظم العثبَّاد كان يقول ويدعونا دائمًا إلى التوبة الدائمة يقول: «يا عباد الله توبوا إلى الله فإني أتوب إلى الله في اليوم أكثر مِن مائة مرة» أي: أكثر مِن مائة مرة يستغفر الله -تبارك وتعالى-, وكان أحيانًا يُعَدُّ له في المجلس الواحد أكثر مِن سبعين استغفارًا, يجلس في المجلس ثم يسيمعه الصحابة يسمعون النبي يستغفر الله؛ ويستغفر ويستغفر فَيَعُدُّون استغفاره فيعدون أحيانًا سبعين مرة يخرج الاستغفار مِن فم النبي - صلوات الله والسلام عليه- استغفار الدائم, التوبة إنما هو عمل دائم يعود فيه العبد إلى الله -تبارك وتعالى- مِن كل ذنبٍ مِن كل معصية, الغفلة عن الله ساعة بل لحظة هذه ذنب مجرد الغفلة أن يجلس الإنسان مجلس, ثم يقوم منه لا يذكر الله -تبارك وتعالى- عمل ذنب عظيم كما قال -صلى الله عليه وسلم-: «ما جلس قومًا مجلسًا ثم قاموا منه لا يذكرون الله فيه إلاَّ قاموا عن مثل جِفة حِمار», طبعًا شيء مُنتِج جدًا لأن كيف يليق بالعبد الذي يقوم ويعيش ويتقلب في نعم الله -تبارك وتعالى- عليه السابقة كل لحظة بل هو وجوده وتنفسه وبقائه وطعامه وشرابه ولباسه وكل النِّعَم التى تَحتَفُ به مما يعلمها ولا يعلمها كلها مِن الله, {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ........}[النحل:53], كيف لا يكون قلبه دائما ذاكر الله -تبارك وتعالى- شاكر له في كل لحظة!, الإعراض عن الرب -تبارك وتعالى- معصية, ثم بعد ذلك تتدرج المعاصي لا يكون العصيان أمر الرب -تبارك وتعالى- التفريط في أوامره أي ارتكاب المخالفة أو ترك الأمر كل هذه معاصى, فالعبد يحتاج دائما إلي التوبة الدائمة, التَّائِبُونَ: هم في توبة دائمة ورجوع دائم إلى الله -تبارك وتعالى-.
الْعَابِدُونَ: الصفة الثانية لهم أنهم أهل عبادة؛ والعبادة معناها الذُّل والخضوع في لغة العرب, فهم ذليلون, وهي في الشرع: هذا اسم جامع لكل ما يحبه الله -تبارك وتعالى- ويرضاه مِن الخلق ويشملها طاعته -سبحانه وتعالى- في كل ما أمر, الانتهاء عن كل ما نهى عنه -سبحانه وتعالى-, القيام بشكره -جل وعلا-, الذُّل له والخضوع له محبته -سبحانه وتعالى-, كل ما أمر الله -عز وجل- هو داخلٌ في معاني العبادة, فهم عابدون؛ سواءً كانوا في شهور التَّقَرُّب صلاًةً وصياًمَ وزكاًةَ وحجً, أو التزامًا بحدود الرب -تبارك وتعالى- أو تنفيذًا لأوامره, أو انتهاءً عن مناهيه, فهم عابدون عبادًا تائبون عابدون.
حَامِدُونَ: حمد, هذا عملٌا عظيمٌ مخصوص مِن العبادة هو داخلٌا في العبادة لكنه أُفرِد هُنا؛ لخصوصه, الحامدون, وحمد الله -تبارك وتعالى-: هو الثناء عليه بما هو أهله -سبحانه وتعالى- مِن الصفة مِن اتصافه بصفات الكمال, ثم مِن إنعامه وإفضاله –سبحانه وتعالى-, فإذا قلت الحمد لله رب العالمين, الرحمن الرحيم, كل هذا حمد وثناء على الله -تبارك وتعالى- الحمد لله كل المحامد ثابتةُ لله, التحيات لله, مباركات الزاكيات, الطيبات لله, هذا حمد الله -تبارك وتعالى- ذِكره الجميل الرحمن الرحيم مالك يوم الدين حمدًا ثناءٌ على الله -تبارك وتعالى- وتمجيدٌا له, الله أكبر, هذه بهذه الكلمات الطيبات كذلك حمده على إنعامه -سبحانه وتعالى- حمدُ الله -تبارك وتعالى- على إنعامه, إذ العبد المؤمن يشرب الشربة فيحمد الله -تبارك وتعالى- أن هيئ له ذلك, يأكل اللُّقمة فيحمد الله على ذلك, يلبس اللباس فيحمد الله -تبارك وتعالى- على ذلك, يركب المركب فيحمد الله على ذلك, {........سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ}[الزخرف:13], {وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ}[الزخرف:14], يرى الأمر مما يُعجِبُهُ فيَحمِد الله ويقول ما شاء الله -تبارك الله-, فهم حامدون صفة يتَّصِفُون بها؛ أصبحت صفة مِن صفاتهم فهم دائموا الثناء والحمد على الله -تبارك وتعالى- بما هو أهله -جل وعلا-.
السَّائِحُونَ: السياحة: هي التنقل في الأرض والسياحة؛ سياحة المؤمن للطاعة طبعًا السياحة بعضها إما أن تكون مشروعة مباحة, وإما أن تكون مستحبة, أو واجبة, وإما أن تكون مُحَرَّمة, فالسياحة هُنا إنما هي في الأمور الواجبة, أو المستحبة, فالخروج للحج والعمرة, وطلب العُلم, والجهاد في سبيل الله هذه أوامر إما واجبة, وإما مستحبة, فالحج مرة في العمر سياحة واجبة يحب على كل مؤمن أن يفعلها مرة في عمره, ثم إذا داوم الحج بعد ذلك أو حج أكثر من هذه حجة الإسلام وأعتمر اكثر فقد ساح في الأرض أنتقل فيها عبادة لله, كذلك في طلب العِلم, كذلك في الجهاد في سبيل الله كذلك للدعوة إلى الله -تبارك وتعالى-, فوصفهم الله -تبارك وتعالى- بأنهم سائحون؛ السائحون في جَنَبِات هذه الأرض في طاعة الله -تبارك وتعالى- ومرضاته جل وعلا-, أحياًنا تُطلَق السياحة على النزاهة, السائحون: أي النزيهون البعيدون عن الأثام والأغراض, وتُطلَق أحيانًا السياحة على الصوم فكأنه سياحة هو نزاهة عن الطعام والشراب والشهوة في هذا الوقت, لكن المعنى الأول هو المعنى إن شاء الله الصحيح في ما يُفَسَّر به هذه الآية؛, {السَّائِحُون الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ}.
لنا عودة إن شاء الله إلى هذه الآية لِنُكمِل صفات أهل الإيمان الذين ارتضاهم الله -تبارك وتعالى- وعَقِدَ معهم هذه الصفقة العظيمة, {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّة}, أسال الله -تبارك وتعالى- أن يَسلُكنا معهم, أستغفر الله لِي ولكم من كل ذنب, -وصلى الله وسلم- على عبده رسوله محمد-.