الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبده ورسول الأمين،سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن إهتدى بهديه وعمل بسنته إلى يوم الدين.
وبعد, فيقول الله -تبارك وتعالى-: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}[التوبة:117], {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}[التوبة:118], الآيات مِن سورة التوبة وهذا في خِتام السورة, ويُعلِن الله -تبارك وتعالى- لعباده المؤمنين أنه قد تاب على النبي -صلى الله عليه وسلم-, والمهاجرين والأنصار, قال لقد: تأكيد, تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ ةِ, والتوبة هي قَبُول الله -تبارك وتعالى- لرجوع الراجعين إليه واستغفارهم وإنابتهم إلى الله -تبارك وتعالى-, وهذا بيان وإعلان مِن الله -تبارك وتعالى- قبول النبي -صلوات الله والسلام عليه-, والمهاجرين والأنصار جمعهم الله -تبارك وتعالى-, وعطف المهاجرين والأنصار على النبي -صلوات الله والسلام عليه- ولاشك أنه لم يُحصُل مِن النبي -صلى الله عليه وسلم- الذنب والتقصير الذي يكون منه الاستغفار والرجوع إلى الله -تبارك وتعالى- خاصة في هذه الغزوة, وإنما قام بما أوجبه الله -تبارك وتعالى- عليه, ثابت القلب مؤمنًا بالله -تبارك وتعالى- مُصًدِّقًا بوعده حاثٍ للمؤمنين -صلوات الله والسلام عليه-, وكان مِن المؤمنين أو من بعضهم ما كان كما قال -جل وعلا-: {مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ}, وهذا إنما جمع الله -تبارك وتعالى- للرسول -صلى الله عليه وسلم-, والمهاجرين, والأنصار في هذا؛ ليبين أنهم قد -رضي الله عنهم- وقد قبلهم -سبحانه وتعالى- وقد أقال عَسرَة مَن عَسَر مِنهم -سبحانه وتعالى-, وهذا كذلك مِن ضم النبي مع المهاجرين والأنصار تشريف للمهاجرين والأنصار وأنهم داخلون في رحمة الله -تبارك وتعالى- وفي قبوله لتوبتهم وإنابتهم -سبحانه وتعالى- مع ما قاموا به -سبحانه وتعالى- مِن حق الله -تبارك وتعالى- في الجهاد في سيبيله, {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ}, مهاجرون: الذين هاجروا لله ولرسوله مِن أوطانهم, والتحقوا بالمدينة دار هجرة النبي -صلوات الله والسلام عليه- ليكونوا مع النبي ويجاهدوا معه ويُقيموا معه الدين -صلوات الله والسلام عليه-, والأنصار: هم أهل المدينة مِن الأوس والخزرج ومَمن حولهم مِن الذين نصروا النبي -صلوات الله والسلام عليه- بايعوه على الإيمان أولًا, ثم على النُّصْرَة, ثم لمَّا جاءهم النبي -صلوات الله والسلام عليه- قاموا بنصره كما عاهدوا الله -تبارك وتعالى-, وعاهدوا رسوله في كل مواطنه مع الأحمر والأسود.
{لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ}: الذين اتبعوه أي المهاجرين والأنصار الذين اتبعوا النبي -صلى الله عليه وسلم-, فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ: أي عندما دعاهم لغزو الروم وكانت هذه الغزوة هي مِن أشد وأشق الغزوات التى غزاها النبي -صلوات الله والسلام عليه- فإنها كانت لعدوٍ كبير العدد مُتَمَكِن مُتَمَرِّس بالقتال, ثم كانت انتقالًا إلى أرضٍ بعيدة يخرج المسلمون مِن المدينة إلى أرض الشام, ثم كانت في وقت حَرٍ شديد فبعد المسافة والعدو الكبير المُخِيف وشدة الحر وقِلة النفقة التي تُغَطِى كل غزوة فإن النبي قد جاءه كثيرٌ من المسلمين يريدون الخروج معه ولم يجد لهم ظهرًا يَحْمِلَهُم عليه, اجتمعت كل هذه الأمور مع التخويف والإرجاف وأن حرب الروم ليست كحرب العرب كل هذا اجتمع فكان أمرًا شديدًا, وقول الله -تبارك وتعالى- سمَّاه سَاعَةِ الْعُسْرَةِ إما أن يكون هُنا تسميته بساعة الْعُسْرَة؛ لبيان أنَّ الْعُسْرَةِ جاءت مِن ساعة, وأنها قليلة أو عندما حانت ساعة العسرة ساعة الأمر الشديد العسير في ساعة الْعُسْرَةِ, مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ, كادا أن يزيغ, الزيغ: هو الخروج عن الجادَّة والحق مِن بعد أن كادت بعض القلوب تخرج عن التمسك بأمر الله -تبارك وتعالى- والقيام بحقه, فَرِيقٍ مِنْهُمْ: أي مِن بعد هذا الهول الشديد الذي كادَ يَزِيغُ بعض القلوب فإنهم ثبتوا وتمكنوا وقاموا مع النبي -صلوات الله والسلام عليه-, قال -جل وعلا- مُوكِدًا: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}: تاب عليهم مِن كل تقصير حدث مِن بعضهم أو تأخر أو تلكع في الغزو, كما وقع مِن بعض الصحابة مثل أبي خيثمة -رضى الله تعالى عنه- فإنه تأخر عن النبي يومًا, ثم لمَّا دخل بيته وكانت له زوجتان وأن وجد المكان قد هُيءِ لمجلسه في بستانه وقد بُرِّدَ له الماء فَتَلوَّم تولمًا عظيمًا جدًا وقال: رسول الله في الحرب «وأبو خيثمة بين زوجتيه وفي بستانه والله ما هذا بالإنصاف» أي ما أنصفنا النبي أن نُجْلِس نتخلف فحمل متاعه على ظهره وخرج يشتد في إثر النبي -صلوات الله والسلام عليه- ولم يلحق بالنبي إلاَّ في تبوك بعد قطع هذه المسافة الطويلة فقد كان هناك بعض الصحابة تأخروا عن النبي -صلوات الله وسلامه عليه- ولكنهم كما قال الله -تبارك وتعالى-: قاموا مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ أنهم قاموا بما أوجب الله -تبارك وتعالى- عليهم من القتال مع النبي, ثم تاب عليهم قال -جل وعلا-: {إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}: إنه الرب الإله -سبحانه وتعالى-, بِهِمْ: بهؤلاء المذكورين بنبيه وبالمهاجرين والأنصار رَءُوفٌ: عظيم الرأفة سبحانه وتعالى, والرأفة شِدَّة أي العناية والرحمة, رَحِيمٌ -سبحانه وتعالى- بهم ومِن أجل ذلك فإن الله -تبارك وتعالى- تاب عليهم وقَبِلَهُم -جلا وعلا-.
ثم قال -جل وعلا-: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}[التوبة:118], الثلاثة الذين خُلِّفُوا: كعب بن مالك -رضي الله تعالى عنه- الأنصارى وصاحبه, وهؤلاء الثلاثة كانوا الذين خُلِّفُوا ألقاهم النبي لم يحكم بحكمهم وذلك أنهم كانوا الثلاثة الوحيدين الذين صدقوا النبى -صلى الله عليه وسلم- عندما عاد من الغزوة أتوا النبي -صلى الله عليه وسلم- وصدقوه فقالوا يا رسول الله تأخرنا بغير عذر, كما قال كعب بن مالك -رضي الله تعالى عنه-: إني قد أوتيت جدلا ولو جلست عند ملكٍ مِن ملوك الأرض لو عطيتهم مِن الكلام مايخرج به راضيًا عنى, ولكنى عَلِمت أننى لو اعتذرت لك بشيء يوشك الله -تبارك وتعالى- أن يفضحنى به أو يُبَيِّنه, ثم قال له: والله يا رسول الله ما كنت في غزوة قط أيسر ولا أشد مما جاءت هذه الغزوة, قال له: ما ملكت راحلتين قطّْ ملكتهما في هذه الغزوة فأخبره بأنه قد كان في صحة وفي مال وعنده راحلته وعنده ظهره ولكنه تَخَلَّف عن الغزو أي كأنه تَخَلَّفٌ بغير عذر, وكذلك صاحب كعب بن مالك -رضي الله تعالى عنهما- الَّذَيْن تَخَلَّفا معه صدقا, كذلك هلال بن أمية العمرى ومُرارة بن الربيع أخبروا النبي أن كل الثلاثة أخبروا النبي أنهم قد تأخروا عنه بغير عذر, وهذا بعكس البضع والثمانين مِن المنافقين الذين كذبوا على النبي -صلوات الله والسلام عليه- وأنتحلوا من الأعذار ما انتحلوه, فالنبى -صلى الله عليه وسلم- قَبِلَ علانيتهم وكسائرهم مِن الله -تبارك وتعالى- وتركهم واستغفر لهم, أما كعب بن مالك وصاحباه فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- لمَّاأي صدقوه قال لهم: إذًا انتظروا حتى يحكم الله -تبارك وتعالى- فيكم, انتظروا حُكم الله -عز وجل-, ثم أمر النبي -صلوات الله والسلام عليه- ألاَّ يُكَلِمَهُم أحد هؤلاء الثلاثة, فكانوا إذا سَلَّموا على أحد المسلمين تركوا كلامهم لا يسلمون عليهم ولا يردون عليهم سلامهم, وهجروهم هُجرانًا كاملًا, فالله يقول قال -جل وعلا-: وَعَلَى الثَّلاثَةِ: أي أن الله -تبارك وتعالى- تاب كذلك على الثلاثة الذين خُلِّفُوا، خُلِّفُوا ليس خلفوا بمعنى أنه خَلَّفَهُ المسلمون وتركوهم وإنما خُلِّفُوا تركوا حتى يأذن الله -تبارك وتعالى- ويحكم الله -تبارك وتعالى- فيهم.
{حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ}: الأرض الواسعة الرحبة, ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ, كما قال: ابن مالك مُصَوِرًا حاله بعد خمسين ليلة مِن هجر النبي والمسلمين لكلامهم يقول: تَنَكَّرت لي الأرض فما هي بالأرض التي أعرفها بعد أن تَنَكَّر لهم الناس و هجروهم ولم يُكَلِمَهُم أحد فضاقت عليهم الأرض وضاقت عليهم أنفسهم, {حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ}: شعروا بالضيق والألم الشديد لهُجران المسلمين لهم, وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ, الظن هنا يقين, أى اعتقدوا أن لا ملجأ مِن الله إلاَّ إليه, مهما فَرُذوا واعتذروا وأظهروا خِلاف الواقع فإن فَرارهم مِن الله يدركه مَن ظن أنه يفر مِن الله -تبارك وتعالى- يُدركه لا أحد يستطيع الفر مِن الله, لكن إلَّا إليه إلَّا إلى الله -تبارك وتعالى- أي بالتوبة والرجوع والإنابة إليه -سبحانه وتعالى-, فالفرار ينبغي أن يكون إلى الله لا مِن الله -سبحانه وتعالى-, وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ: لا يستطيعون أن يلجأوا إلى شيء يحميهم مِن الرب -تبارك وتعالى- إلَّا بأن يعودوا إلى الله -تبارك وتعالى- فيستغفروه ويرجعوا إليه ويتوبوا إليه -سبحانه وتعالى-, {وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ}, كما قال الله -جل وعلا- دائمًا {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ........}[الذاريات:50], فروا: والفرار إنما إلى الله -سبحانه وتعالى-, فالله هو الذي يُتَّقَىْ وكذلك هو الرب -تبارك وتعالى- الذي منه الأمن والأمان, فَيُتَّقىْ ويُخاف لا لِتَفِرَّ منه وإنما لِتَفِر إليه فهو الذي يؤَمِنُك -سبحانه وتعالى- {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ}.
ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا, قال -جل وعلا-: إنَّ الله تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا؛ لِيَتُوبُوا ويرجعوا إلى الله -تبارك وتعالى- لمَّا كان هؤلاء هم الذين فعلوا ما يوجب التوبة فأخبر -سبحانه وتعالى- أنه طلب توبتهم غير قول الله -تبارك وتعالى-: عن النبي والمهاجرين والأنصار, {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَة}[التوبة:117], وهذه التوبة قَبُول ورفعة, والتوبة هنا: إنما هي توبة قَبُول, بأن يتوبوا وأن ويرجعوا إلى الله -تبارك وتعالى- لأنهم فعلوا ما يستحق ذلك هؤلاء الثلاثة, قال -جل وعلا-: ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا, وأما في الآية الأولى فقال الله -تبارك وتعالى-: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}: أي قَبِلَهُم ورضيهم -سبحانه وتعالى-, {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُو}: ليرجعوا إلى الله -تبارك وتعالى- ويُنِيبُوا إليه ويستغفروه -سبحانه وتعالى-, {إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}: التَّوَّابُ هذه صفة مبالغة منها التائب أي أنه كثير قبول توبة العباد -سبجانه وتعالى- الرحيم بعباده -جل وعلا-, هذه الآية لمَّا نزلت على النبي -صلوات الله والسلام عليه- نزلت ليلًا النبي صلى الفجر وبَشَّر المسلمين بقبول توبة الله -تبارك وتعالى- على كعب وهؤلاء الثلاثة وانطلق الُمُبَشِرون يُبَشِرُونَهم, فانطلق رجلٌا إلى فرسه يركبه, وانطلق رجلٌا على قدميه حتى أوفى على سلع وقال يا كعب أبن مالك أبشر, فكان الصوت أسرع مِن وصول الفرس, ثم جاء كعب لبس لباسًا جديدًا وأتى النبي -صلى الله عليه وسلم- والمسلمون يستقبلونه فوجًا فوجًا حتى جلس إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ويقول: «أتيت النبي وتبرق أسارير وجهِهِ كأن وجهَهُ قطعة قمر فقال لي أبشر بخير يومٍ مرَّ عليك منذ ولدتك أمك فقلتُ أي كعب يقول: فقلت يا رسول الله أمِنَّك أم مِن الله قال بل من الله» وتلى النبي -صلى الله عليه وسلم- هذه الآيات عليه وكان مِن شأن كعب -رضى الله تعالى عنه- « قال: يارسول الله أي أنه مِن حقي علي أي لقبول توبتي أن أخرج مِن مالي كله أجعله في سبيل الله فقال له النبي: أترك بعض مالك فإنه خيرًا لك», فكان هذا أمرًا عظيمًا أن الله -تبارك وتعالى- قَبِل توبة هؤلاء الثلاثة الذين تَخَلَّفوا بغير عذر ولكنهم صدقوا الله -تبارك وتعالى- صدقوا النبي لم يكذبوه فأقال الله -تبارك وتعالى- عسرتهم وتوبتهم.
عَقَّب الله على هذا في بيان أن الصدق مُنجي قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}[التوبة:119]: خِطابٌ عام لكل عباد الله -تبارك وتعالى- مع المؤمنين, {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}: يخاطبهم الله -تبارك وتعالى- بوصف الإيمان وهو أعلى هذه الأوصاف, اتَّقُوا اللَّهَ: خافوه؛ لأن التقوى إنما هي أخذ الحماية, وأخذ الحماية هُنا مِن غضب الرب وعقوبته -سبحانه وتعالى- ولا يكون هذا إلاَّ بطاعة أمره واجتناب نواهيه -سبحانه وتعالى- وفعل كل ذلك مِن أجل مرتضاته مِن أجل وجهه -جل وعلا-, {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ}: خافوه واجعلوا وقايةٍ بينكم وبين عقوبته -جل وعلا-, وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ: كونوا دائمًا مع الصادقين؛ مع أهل الصدق, فالذين جاهدوا في سبيل الله هؤلاء صدقوا ما عاهدوا الله -تبارك وتعالى- عليه, والذين تَخَلَّفوا بغير عذرٍ ثم اعترفوا بذنبهم وصدقوا فكانوا كذلك مع الصادقين أنجاهم الصدق مِن ما نزل بغيرهم مِمَّن كذبوا الله -تبارك وتعالى-, كذبوا الرسول, فأوقع الله -تبارك وتعالى- فيهم ما أوقع من العقوبة, {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}: أهل الإيمان، أهل الصدق بالله -تبارك وتعالى-.
ثم قال -جل وعلا-: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}[التوبة:120]: هُنا حث عظيم مِن الله -تبارك وتعالى- للمؤمنين بأن يكونوا مع النبي وأنَّ كل عَمَلٍ مِن أعمال الجهاد يقومون بها يكتبها الله -تبارك وتعالى- لهم, قال: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ}, ما كان: ما يَصِّح ولا يليق بأهل الإيمان مِن أهل المدينة الذين يعيشون مع النبي ومَن حولهم مِن الأعراب عندما يخرج النبي للقتال أن يجلسوا خلفه ويدعوه, لا, هذا أمرٌ فظيعٌ كبير كيف يُترك النبي لعدوه ويُسلم لعدوه و لا يقوم معه أهل الإيمان! ما كان لأهل المدينة وذلك أنهم يعيشون مع النبي ومهاجرين إليها وأنصار هي دارهم وهم النبي في وسطهم ومَن حولهم مِن الأعراب ممن يسمع خبرهم ويعيش في دائرتهم, الأعراب: سُكَّان العرب, سكان البادية التي هي حول المدينة أن يتخلفوا عن رسول الله يخرج النبي للجهاد وهم يجلسون في أماكنهم ما كان لهم هذا تَخَلَّفُوا يجلسوا خلف النبي -صلى الله عليه وسلم- وعن مَن عن رسول الله هذا الشخص الذي اختاره الله -تبارك وتعالى- ليكون رسولا فكيف يُتْرَك النبي ليخرج للقتال ويجلسوا هم خلفه! ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه؛ يرغبوا بأنفسهم في أن يحافظوا وأن يبقوا على أنفسهم أحياء, ولا يُعَرِّضوا أنفسهم للخطر, ويتركون النبي هو يتعرض للكفار ويتعرض للخطر فكأنهم يُقَدِّمون نفس النبي ليحموا بها أنفسهم, الأمر ينبغي أن يكون عكس ذلك بأنهم يتقدموا إلى الخطر ويواجهونه ليحموا به النبي -صلوات الله والسلام عليه- فهو رسول الله, وهو عِزَّهم وهو شرفهم وهو طريقهم إلى الرب -سبحانه وتعالى- فكيف يُقَدِموا النبي -صلوات الله والسلام عليه- ويُسلِمُوه لعدوهم ويجلسوا خلفهم حتى لا يصابوا هم بضرر ويُعَرِّضوا النبي للخطر هذا أمرٌ معكوس كيف يكون هذا؟!.
{لا يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ}, ذلك أي المُشَار إليه هُنا إنه ما كان لأهل المدينة ومَن حولهم أن يتَخَلَّفوا هذا التَخَلُّف عن الرسول, ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ: أي لأنهم لايصيهم ظمأ, خروج في القتال لابد أن يكون هناك ظمأ يقل الماء؛ الماء يحملونه فيَقِل الماء عليهم في السفر وقد وقع هذا مِرارًا وتكرارًا, عندما يهاجروا يخرجوا للجهاد يقل ماءهم يظمأوا ظمأ بدأ الله -تبارك وتعالى- وهو أشد ما يمكن أن يلقاه الإنسان في السفر, {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ ولا نَصَبٌ}: نصب: التعب, فإن السفر والقيام تعب {وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}, المخمصة: الجوع لا يصيبهم كذلك مخمصة، فإن السفر، والجهاد في سبيل الله عُرضة لأن يقل زاد الإنسان ويتعرض للجوع, {وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ}, يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ: عندما ينالونه بشيء يهزمونه يأسِرون منهم يقتلون منهم هذه كلها مواطن تغيظ الكفار, أو على الأقل يَمُرُّون في دياره ويعلنون إسلامهم ويطئون أرضهم, فإن هذه مواطئ ومواطن تغيظ الكفار, ومعنى تغيظهم: تحنقهم على أهل الإسلام, ولا يناولون مِن عدوٍ نيلا أي: نيل ينالونه مِن العدو سواء كان في ماله في دمه بالكلام نيل ينالونه مِن عدو للإسلام والمسلمين, إلَّا كَتِبَ لهم به عملٌ صالح أي شيء يُصِيبهم في هذا سواء كان يصيبهم في أنفسهم مِن ظمأ, أو نصب, أو مخمصة, أو يصيبوهم بالكفار إلَّا كتب الله -تبارك وتعالى- لهم بهذا عملٌا صالح, أي أنهم قد عَمِلوا عملًا صالحًا قدَّموا عمل يأجرهم الله -تبارك وتعالى- عليه, {إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}: فَيُخبرهم الله -سبحانه وتعالى- أنَّ كل هذه الأعمال وكل هذا الذي ينالهم إنما هي أعمالٌ صالحة وأن الله سيأجرهم بها ولا يُضيع أجرهم -سبحانه وتعالى-؛ لأن هذا من الإحسان فكونهم يتحملوا في السفر وفي الجهاد الجوع, التعب, الظمأ يؤدُّون نوع مِن الأذى والنيل مِن العدو بأي صورة مِن الصور لأن هذا فيه كسر لشوكة العدو إعلاء لكلمة الله -تبارك وتعالى- كل هذه أعمالٌ صالحة يؤجرهم الله -تبارك وتعالى- عليها.
وكذلك قال -جل وعلا-: {وَلا يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[التوبة:121], {وَلا يُنفِقُونَ نَفَقَةً}: نفقة الماء, اشتروا ظهر ليركبوه ناقة هذه, اشتروا طعام ليأخذوه دفعوا مالًا لأهلهم في أثناء غيبتهم, أي نفقة ينفقونها في الجهاد في سبيل الله نفقة إن كانت ولو بسهم, قال -جل وعلا-: صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً, وبدأ بالصغيرة؛ لأن المقصود هُنا هو العناية بها مِن الله -تبارك وتعالى- أنَّ الله يعتني بها ويُنَمِّيها, {وَلا يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وَادِيًا}, يَقْطَعُونَ وَادِيًا يقطعون: يجاوزون, الوادي: هو مجرى النهر مجرى السيل, والمقصود أنهم لا يقطعون مسافةً في الأرض ولا يقطعون واديًا إلَّا كُتِبَ لهم الله -تبارك وتعالى- هذا العمل حسنات أنه عمل صالح وأن الله -تبارك وتعالى- يكتبه لهم حسنات عنده, قال -جل وعلا-: {لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}: الله يفعل هذا مِن أجل أنه يريد أن يجزيهم -سبحانه وتعالى- أحسن ما كانوا يعملون, هذا العمل الحسن هذا العمل كله عملٌ حسن, والله -تبارك وتعالى- يأجُرَهم عليه -جل وعلا-, فهاتان الآياتان جمع الله -تبارك وتعالى- فيها كل العمل المُتَصَوَّر أن يكون مِن المؤمن في الجهاد وأخبر -سبحانه وتعالى- أنَّ كله مكتوبًا لأصحابه وما دام الأمر على هذا النحو فإنه لا يَحسُن بتاتا ولا يليق أن يَتَخَلَّفَ المؤمن الذي يعيش مع النبى -صلوات الله والسلام عليه- عن الجهاد في سبيل الله, {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ ولا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}, {وَلا يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ }[التوبة:121], وكُتِبَ بالبناء لِمَن لم يُسَمَّىْ فاعله وهو الذي يكتب هذا ويُدَوِنُهُ ويُحَاسِبهم عليه, والله -تبارك وتعالى- نسب هذا العمل إلى لمن يُسَمَّىْ فاعله وهُناك الحَفَظَةْ الذين يُدَوِنُون هذا, والرب -تبارك وتعالى- الذي يجزيهم على هذا, قال -جل وعلا-: {لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}.
والحمد لله رب العالمين.