الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله الأمين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بِهُداه وعَمِل بسنته إلى يوم الدين.
وبعد, فيقول الله -تبارك وتعالى-: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}[التوبة:122], جاءت هذه الآية مِن سورة التوبة ضِمن الآيات الأخيرة التى ختم الله -تبارك وتعالى- بها هذه السورة, وقول الله -تبارك وتعالى-: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً}: بيان أنه لن يتمكن المؤمنون جميعًا أن يَنْفِروا جميعًا في كل الأوقات فإن هذا قد يكونوا أحيانًا متعذرًا, وقد يكونوا أحيانًا غير مطلوب حتى لا يخلوا مدنهم وأماكنهم, فليس في كل الأوقات يَنفِروا المؤمنون نفيرًا عامًّا إلَّا في الحالات التي الله أمر الله -تبارك وتعالى- بها أن يكون النفير عامًّا بأمر الإمام كما في قول الله -تبارك وتعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُوا جَمِيعًا}[النساء:71], وقد كان النَّفِير في غزوة تبوك والتى نزلت في هذه السورة نفيرًا عامًّا بأمر الرب الإله -سبحانه وتعالى-, وبأمر النبي القائد -صلوات الله والسلام عليه-, فإنه قد دعا المؤمنين جميعًا أن يَنْفِروا معه لِقتال الروم وأن يَهبُّوا جميغًا, ولم يأذن النبي -صلوات الله والسلام عليه- إلَّا لمن استاذنه فتركه, أو أهل الأعذار الذين تُرِكوا, أو من أناب النبي عنه في المدينة وهو علي بن أبي طالب -رضي الله تعالى عنه- الذي أمره النبي أن يبقى على أهل المدينة وقد بكى علي -رضي الله تعالى عنه-, وقال للنبي: أتُخَلِّفُوني في الصبيان, والنساء, فقال له النبي: « أَمَا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون بموسى», وذلك أنَّ موسى -عليه السلام- خَلَّفَ أخاه هارون على بني إسرائيل لمَّا ذهب موسى ليُخَاطب ربه -تبارك وتعالى-, فقال له النبي: «أم ترضى أن تكون مني بمنزله هارون وموسى», ولكن لا نبي بعدي أي أنه لا نبي بعد النبي -صلوات الله والسلام عليه-, فالشاهد مِن هذا أنه قد جاء أحيانًا نفيرًا عام كانت هذه الغزوة غزوة تبوك نفيرًا عامًّا أن ينفر المؤمنون جميعًا, فالأمر النفير العام في المسلمين متروك للإمام وتقديره المصلحة التي تترتب على ذلك, أو كذلك له أنَّ يخرج المسلمون إلى الغزوة ثُبَاتٍ أي جماعات الجماعات, فقول الله: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً}: صحيح إنه في كل الأوقات و في كل الأزمان وإنما ينفروا بعضهم ويبقى بعضهم, كافة: أي جميعًا.
قال -جل وعلا-: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ}, فَلَوْلا: فَهَلَّا, حَضٌّ مِن الله -تبارك وتعالى- أن ينفرَ مِن كل فرقةٍ مِن المؤمنين طائفة {لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}: فُسِر هُنا خروج الطائفة مِن كل قوم باختيار الإمام انتدابه أن إذا انتدب طائفةً معينة للخروج, أو أن يصطلح المؤمنون في ما بينهم أن يرسلوا مثلا بعضهم إلى الإمام ليلتَحِقوا بالغزو كأن يكون ناسٌ في البادية فيذهب بعضهم ويبقى بعضهم في أهاليهم ومصالحهم فحث -تبارك وتعالى- أن ينفرَ مِن كل طائفة منهم فرقة مِن كل طائفة, قال -جل وعلا-: {لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ}, هُنا قول الله -تبارك وتعالى- {لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ}: سلف من الصحابة وتابعين مِن المفسرين أقوال في هذا التعليل مَن الذين يتفقهون في الدين هل هم الخارجون, أم الماكثون والجالسون؟ فيها أقول عن أبن عباس –رضي الله تعالى عنهما- وعن بعض السلف أنه ليتفقهوا في الدين وهم الجالسون في الحضر فإنهم يجلسون إما مع النبي عندما لا يخرج مع كل سريةٍ غازية -صلوات الله والسلام عليه-, أو في الحواضر حيث العلم والتعليم فيتفقهوا في الدين ويُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ؛ أي ينذروا الخارجين في الغزو عندما يعودوا إليهم فيعلموهم ما تعلموا في أثناء قعودهم هذا قول, والقول الأخر أن الذين بيَّن الله -تبارك وتعالى- أنهم يتفقهوا في الدين إنما هي الطائفة الخارجة للغزو, فيكون قول الله -تبارك وتعالى-: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا}: فالطائفة التي نفرت إلى الجهاد هي التي تَتَفَقِّهُ في الدين, وأشكل هذا على بعضهم, كيف يكون النافرون للقتال هم الذين يتفقهون في الدين؟ عِلمًا أن هؤلاء يكونون في سفر, وفي جهاد, وفي انشغالٍا عن طلب العلم بما هم عليه مِن القتال والغزو, {لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}, والصحيج أنَّ التَّفَقُه في الدين ليس هو الفقه بالمعنى الاصطلاحي عند العلماء الذين سُمُّوا علماء الفقه بعد ذلك وهو: معرفة الأحكام العملية مِن أدلتها التفصيلية والأحكام العملية التي هي يخرج منها مسائل الاعتقاد, ومسائل الإيمان, فحصروا الفقه اصطلاحًا في معرفة الأحكام العملية بدًا بالصلاة, والصوم, والزكاة, والحج, والعبادات, ثم المعاملات, ثم الحدود وهكذا, هذه هي الأحكام العملية للدين, وأخرجوا من مُسَمَّىْ الفقه مسائل الإيمان, أمَّا الفقه عندما يأتي في كلام الله -تبارك وتعالى-, وفي كلام النبي -صلوات الله والسلام عليه- فإنه فَهم الدين مطلقًا فهم الدين كله بأصوله وفروعه, مسائل الإيمان, وكذلك مسائل العمد, كقول النبي -صلوات الله عليه وسلم- عن ابن عباس« اللَّهُمَّ فَقِّهُ في الدين وعَلِّمْهُ التأويل» ليس فَقِّهُ في الدين أي عَلِّمْهُ الأحكام العملية مِن الصلاة وغيرها فقط, وإنما فَقِّهُ في الدين كله, وكذلك قول الله -تبارك وتعالى-: لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ: الفقه, فالفقه هُنا ليس هو دراسة وفَهم الأحكام العملية, وإنما التًّفَقُه في الدين وفهمه والتعمق فيه الدين الحقيقي, ووجه أن يكون الطائفة الخارجة في سبيل الله هي المُتَفَقِّهَة في الدين وذلك أن الجهاد هو ذِروة سَنام الإسلام أعلى وأشرف باب وشعبة من شُعب الإيمان هذه واحدة, ومَن عرف الشعبة العالية لاشك أنه يعرف ما دونها ويتعلم ما دونها, ثم أنه مَن أتى بأشرف الأعمال هان عليه بعد ذلك ماهو أقل من هذا وأيسر من هذا, وذلك أن المجاهد إنما الخارج في سبيل الله هو يُعَرِّض نفسه, وماله للخطر, ويقدم روحه وماله في سبيل الله وهذا أشرف ما عنده, ويقابل مِن الأمور ما يَفْقَه به حقيقة الدين,؛ فإن حقيقة الدين قيامٌ بأمر الرب وتقوى له ورغبة في ما عنده, وبذلٌ للنفس والنفيس في سبيله -سبحانه وتعالى-, وتَغَيُّظٌ على الكفار وقِتالٌ لهم, ثم ما يندرج تحت هذا وهذه كلها من أعمال القلوب ثم ما يندرج تحت هذا مِن أعمال الجوارح وفي القيام أمر العظيم, فإن المجاهد في سبيل الله يسافر, يصلى, يصوم, يعاقد ويعاهد, يصالح, يتعامل مع الكفار بِشَتَىْ أنواع التعاملات التي بَيَّنها الله -تبارك وتعالى- مِن قِتَالهم, من أخذ غنيمتهم, أحكام السبي أحكام تحت أبواب الجهاد مِن العلم أمرٌا عظيمٌ جدًا, ثم كذلك كل العبادات الأخرى تندرج في الجهاد, فإن المجاهد إنما هو مُصَلٍّ صائم وقائم, كل هذه العبادات هي مندرجةٌ تحت مجاهد يمارسها المجاهد, وبالتالى لابد أن يَتَفَقَّه فيها وأن يتعلمها وهو ويمارسها على الحقيقة, فالمجاهد هو المُتَفَقِّه على الحقيقة, هو الذي يفقه الدين فقهًا حقيقيًا, وذلك أنه يدخل في بابٍ من أعظم أبواب الإسلام, باب يجعل القلب يعمل على أعلى درجات الإيمان, القلب المجاهد يخاف الله, يرجوه يطمع في جنته, يرى الجنة والنار رأي العين, فكان الشخص يقابل العدو يقول ليس بيني وبين الجنة أن يقتلني هؤلاء, والأخر يقول الجنة ورب الكعبة إني لأجد ريحها من دون أُحد, مشاعر المجاهد في سبيل الله في أنه ترك أهله وترك أولاده وعرَّض نفسه للخطر مع ما يصاحب هذا من تخذيل الشيطان وجهاده له وجهاد المؤمن له, لاشك أنه يدخل المجاهد في تجربة مِن تجارب الإيمان هذه يفقدها القاعد لا يدخل في هذه التجارب, فإنه في السِّلم يؤدى عبادات السِّلم, مِن الصلاة, مِن الصيام, مِن زكاة مِن حج, وقد لا يتعرض لشيءٍ مِن المخاطرة بنفسه وماله, فيغيب عنه فَقه حقيقة الدين وإنها بذلٌ وتضحية, {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ........}[التوبة:111], فإذا الذين يخرجون في الغزو هم الذين يَتَفَقَّهُون في الدين,{وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً}, لأن يتماوه أي يستطيع هذا وخاصةً عندما يكبر عدد المسلمين وتتسع رقعة الإسلام, وهذه الآية إنما هي لمستقبل الزمان, {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ}: يعرف حقيقة الدين بالجهاد, الجهاد هو الذي يوصِلهم إلى الفقه الفهم الحقيقي للدين.
{وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ}: لِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ يكونوا هم نُذر لقومهم, ينذروهم عن ماذا؟ الإنذار: هو الإخبار بما يخوف, ينذروهم أولًا: يحذروهم العدو الذي قاتلوه, يحذروهم مِن القعود عن نُصرة دين الله -تبارك وتعالى-, يحذروهم مِن الأثار وشره يمكن أن تحصل بقعودهم عن القتال في سبيل الله كما الآيات الكثيرة في حث الله --تبارك وتعالى- المؤمنين في القتال وأنَّ القعود تهلكة, {وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}[البقرة:195]: فترك الجهاد تهلكة, فيكون ذهاب المجاهدين ثم عودهم إلى قومهم يكون هذا حث لهم على الاستمرار في القتال في سبيل الله, وتحذيرًا لهم مِن أن يقعدوا عن الجهاد في سبيل الله.
كذلك يُنذرُ قومهم بالعقوبة الأخروية والنار, فإن هؤلاء المجاهدون قد بلغوا حقيقة الدين, هم الذين تشرَّبت نفوسهم وقامت في قلوبهم حقائق الدين, وعرفوا معنى الجنة, ومعنى النار, ومعنى رضوان الرب -تبارك وتعالى-, فهؤلاء يكونون أصدق لهجة في أنهم إذا خاطبوا وأنذروا قومهم بالجنة والنار فينذرون عن صدق وعن إيمان؛ لأنهم أصحاب التجربة أصحاب القيام بأمر الله -تبارك وتعالى-, وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ: مِن أعدائهم, من عقوبة الرب -تبارك وتعالى إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ: لعلهم يحذرون أعدائهم فيقومون بهذا, وكذلك لعلهم يحذرون أي لعل القوم يحذرون عقوبة الرب -تبارك وتعالى- والقعود, وبهذا المعنى تكون الآية هُنا إنما هي منسجمة مع السورة بل مع تنزيل القرآن كله الذي يحث الله -تبارك وتعالى- فيه المؤمنين على القعود, وأما على القول الأول في هذه الآية أنَّ الخارجين هم الذين يفقدون العلم ويفقدون الفقه في الدين, وبالتالى يحتاجون إلى القاعدين الذين مكثوا حتى يتعلموا منهم, فيكون كأن الآية إنما هي تثبيط عن الجهاد في سبيل الله, وأنَّ المجاهد يخرج فينقطع عن العلم, ويبقى القاعد هو الذي عنده العلم فهو الذي يُعَلِّمهُ وهو الذي يُحَذِّرَهُ بعد ذلك, فيكون هُنا الآية على خلاف نسق القرآن وعلى خلاف حث الله -تبارك وتعالى-, والسورة كلها إنما هي حثٌ على القتال في سبيل الله ولوم, ووصم بالعار للذين قعدوا وتخَلَّفوا عن القتال, لذلك الذين ذهبوا إلى القول الأول قالوا كثيرٌ منهم بأن هذه الآية ناسخة للأمر بالجهاد على الكافة, أن هذه تنسخ أن يخرج المسلمون وأن ينفروا كافة, والصحيح أنها آيات القتال على الكافة لم تُنسَخ بل هي باقية, {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُوا جَمِيعًا}[النساء:71], {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ........}[النساء:72] هي آيةٌ مُحْكمَة, وكذلك قول الله -تبارك وتعالى- {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً}, والدليل على هذا أن النبي -صلوات الله والسلام عليه- أنه قال: «لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية وإذا استُنفِرتم فانفروا», فهو جهاد وأنَّ الجهاد ماضي إلى يوم القيامة, وأنه مكتوبٌ على كل مسلم, {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ........ }[البقرة:216] فهو مكتوبٌ على الجميع, والقيام به حسب حاجة الإسلام إما أن يَنفر المسلمون كافةَ, وإمَّا أن ينفروا جماعاتٍ جماعات بحسب الحاجة, وكذلك الأمر في أن الذين يقاتلون هم أهل الفقه في الدين؛ هم الذين يتفقهون حقًا فى الدين لمِا ذكرنا مِن أنهم هم الذين يقومون بأعلى مراتب الإيمان, وبأشد وأقوى وأثقل تكاليف الدين, وهو بذل النفس والمال في سبيل الله, فهذا أعظم وأكبر تكليف يُكَلِّفُ الله -تبارك وتعالى- به عباده أن يخرج الإنسان لقتال أعدائه سواءً دفعًا أو طلبًا, فَيُقَدِّم روحه, ويُقَدِّم ماله فى سبيل الله.
بعد هذا قال -جل وعلا-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ}[التوبة:123]: وهذه الآية تلتقى هُنا في المعنى مع الآية التى قبلها, وبالتفسير الذي ذكرناه وهو أنَّ أهل القتال هم أهل الفقه في الدين وهم مقدمة المسلمين, يُنَادي الله -تبارك وتعالى- المؤمنين فيقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} نداءٌ منه -سبحانه وتعالى- إلى عباده المؤمنين يُسَمُّيهم الرب بأشرف الأسماء وهو الإيمان؛ فالإيمان أشرف الأسماء, وفي هذا حضٌّ لهم, وكذلك إلزامٌا لهم بأن يَمْتَثِلوا ما يأمرهم الله -تبارك وتعالى- به, {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ}: أمرٌ منه -سبحانه وتعالى بأن يقاتل المؤمنون, الَّذِينَ يَلُونَكُمْ: الذين هم الأقربين لكم مَن يليك هو العدو القريب, فكل طائفة مِن أهل الإيمان يجب أن تتولى عدوها القريب فتقاتل, وهذا لتكون دائرة بلاد الإسلام يكون كل حدودها حدود حرب مع غير المسلمين, {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ} هذه, ثم قال -جل وعلا-: {وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ}, وَلْيَجِدُوا: اللام هُنا لام الأمر, يجدوا فيكم: أيها المؤمنين غلظة أي شدة عليهم, كما وصف الله أصحاب النبي والنبي -صلى الله عليه وسلم- وصف النبي وأصحابه, قال: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ........}[الفتح:29], غِلْظَةً: شدة عليهم, شدة في القول, وشدة في القتال؛ لأنه هذا ميدان القتال وإذا كان وقت القتال فيه تخاذل, أو فيه رحمة, أو فيه عطف عليهم فإن المؤمن لا يُقاتل ويتخاذل ويجلس عن القتال, بل ليجب أن يجد فيك شدة وذلك إنه كافرٌ بالله -تبارك وتعالى-, هؤلاء كفار مُحَادُّون لله محاربون له الله يُبْغِضَهم, وبالتالى يُسَلِّط أهل الإيمان عليهم ليقاتلهم, قال: {قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ}: هذا إعلموا أنَّ الله مع الْمُتَّقِينَ بيانٌ منه -سبحانه وتعالى- وإخبار لعباده المؤمنين أولًا أنَّ الله مع المتقين, والمتقين خائفين منهم -سبحانه وتعالى- وهم أهل الإيمان, وبالتالى لا تخافوا أن يكون عدوكم محيط بكم أكبر منكم الله معكم -سبحانه وتعالى- وسينصركم لكن إذا كنتم بهذا الوصف وهو وصف التقوى {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} فهو ناصركم وهو مؤيدكم ما دام أنَّ الله -سبحانه وتعالى- معكم, هذه المعِيَّة معيَّة التأييب والنصر, ففي هذه الآية حث لأهل الإيمان أولًا بالقتال من يلونهم مِن الكفار, وبيان أن الله -تبارك وتعالى- ناصرهم ما دام أنهم أهل الإيمان, ثم بيان للمؤمنين أن يتمسكوا بتقوى الله -تبارك وتعالى-؛ لأنها سبب المولاة وبالتالى هي سبب النصر فإذا كانوا أولياء لله -تبارك وتعالى- فإن الله -جل وعلا- ناصرهم.
ثم قال -جل وعلا-: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا}, قال -جل وعلا: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ}[التوبة:124], {وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ}[التوبة:125]: هذه الآيات الختامية في المنافقين, يقول -جل وعلا-: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَة}: أي مِن الله -تبارك وتعالى- كهذه السورة العظيمة التي فيها هذا البيان والإضاح, أولًا: لحقيقة الإيمان للجهاد في سبيل الله -تبارك وتعالى-, للمُفَاصَلة بين الإيمان والكفر, لطوائف هؤلاء المنافقين بأصنافهم وأعمالهم والموقف الواجب على النبي والمؤمنين تجاههم, وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ: مِن القرآن, والسورة: هي هذه الآيات المجموعة, سُمِّيَت سورة؛ لأنه كأنها أمرٌ له سور محددة بهذه قطعة مِن القرآن على هذا النحو وقد سُوِّرَت على هذا النحو, أو سورة مِن القوة, فالقرآن كتابٌ محكمٌ قوي, {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ}: مِن هؤلاء المنافقين مَن يقول: أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا: استهزاء, يقولون هذا استهزاء, أيكم زادتهُ هذه السورة إِيمَانًا؛ لأن المنافقين يقولون هذا القول استهزاءً بالقرآن المُنزَل مِن الله –تبارك وتعالى-.
قال -جل وعلا-: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ}, {وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ}[التوبة:125]: هذا شأن القرآن, المؤمن يزداد به إيمانًا, وذلك أن القرآن ينزل بعلمٍ جديد, وعمل جديد, فالمؤمن إذا قَبِلَهُ فهذا تصديق صدَّق به, والتصديق بهذا الشيء ازدادَ إيمانًا وزاد تصديقًا لكلام الله -تبارك وتعالى-, يعمل به فيزداد إيمان في العمل, يؤمِن بأن هذا مِن عند الله -تبارك وتعالى- فيزداد بذلك إيمانًا, كذلك آيات تكون فيها تخويف السورة تنزل فيها ترهيب مِن الرب -تبارك وتعالى-, ترغيب في ما عنده, بيانٌ لعظمته بيانٌ لجلاله يؤمِن العبد المؤمن بهذا فيزداد إيمانًا بهذا, فكل قرآنٍ جديد إنما يزداد به المؤمن إيمانًا وذلك بتصديقه والعمل به وما يقوم في قلبه مِن الأعمال العظيمة تأثرًا وتَمَثُّلًا لهذا القرآن, {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ}: وهم يستبشرون ينتظرون البُشرة مِن الله -تبارك وتعالى- وذلك أنَّ الله دائما يُبَشِّرُ عباده المؤمنين, فأي أمر يُنزله الله -تبارك وتعالى- فإنما يُنزل معه -جل وعلا- ثمرته وثوابه وأثره عنده -سبحانه وتعالى-, فالمؤمن يستبشر إنه نزل هذا الأمر ورتَّب الله -تبارك وتعالى- عليه ما رتَّب مِن الحسنات ومِن الفضائل ومِن الأمور العظيمة عنده -سبحانه وتعالى-, فالمؤمن يستبشر بها, وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ: بفضل الله -تبارك وتعالى- وبنعمته في إيمانهم وعملهم بما أنزله الله -تبارك وتعالى- عليهم.
قال -جل وعلا-: {وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ}: الذي هو مرض النفاق الشك بالله -تبارك وتعالى-, قال -جل وعلا-: {فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِم}, وذلك أنهم نزل عليهم القرآن الجديد يزدادون به الشك فضحهم فيُبغِضُونهُ, فازداد شكً وازداد ريبًا وبالتالي هذه نجاسة فازدادت نجاسة قلبه على ما كانت عليه, {فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ}: وماتوا وهُم كافرون أي أبقاهم الله -تبارك وتعالى- لمَّا كَذَّبوا القرآن وردُّوه وشكوا فيه فإن الله -تبارك وتعالى- حرمهم الإيمان والهداية, فيظَلُّ على هذا النحو حتى يموتوا على فِسقهم وفجورهم, وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ: جاحدون بآيات الرب -تبارك وتعالى-, وذلك بهذا الشك فيه, فهذه عقوبة لهم مِن الله -تبارك وتعالى-.
نقف إن شاء الله عند هذا, أستغفر الله لي ولكم من كل ذنب, -وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد-.