الحمد
لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على عبد الله والرسول الأمين، وعلى آله وأصحابه، ومن
اهتدى بهديه، وعمل بسنته إلى يوم الدين.
يقول الله –تبارك وتعالى- {وَإِذْ
قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً
قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ
الْجَاهِلِينَ}[البقرة:67]، {قَالُوا ادْعُ لَنَا
رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا
فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ}[البقرة:68]،
هذه الآيات في سياق ما مَنَّ الله –تبارك وتعالى- به على بني إسرائيل، ثم كيف
كانوا يقابلون أنعامه وأفضاله وإحسانه بجحودٍ ونكرانٍ، ويقابلوا أمره بتلكؤٍ،
ويقابلوا رسولهم بسخرية واستهزاء، وإذ قال اذكروا {وَإِذْ
قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً}،
وقد بيّن –سبحانه وتعالى- السبب الذي دعا موسى لأن يأمرهم بأمر الله –تبارك
وتعالى- هذا، وهو أنه وقع قتيل بينهم، وبدأ كل فريق منهم يلقي بالمسئولية، أو بأن
القاتل من غيرهم، {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا
فَادَّارَأْتُمْ}، ادارإتم كلٌ يدرأ الشبهة والتهمة عن نفسه ويتهم بها
الأخرين، {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا}، فكان
السبب في أن أمرهم الله –تبارك وتعالى- أن يذبحوا بقرة، ليضرب هذا القتيل بقطعة
لحم منها، فيحيي الله –تبارك وتعالى- القتيل، ويخبر عمن قتله، لما قال موسى لقومه
إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة، قولنا في الحلقة الماضية بأن هذا أمر واضح، موسى
يقول لهم إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة، ليس أمر واجتهاد مني، وإنما هذا أمر الله
–تبارك وتعالى-، وكان المفروض عند ذلك لمؤمن أو لمؤمنين؛ يؤمنون بالله –تبارك
وتعالى- ورسوله أن يقولون سمعًا وطاعة، وأنهم لو أخذوا أي بقرة كانت، صغيرةً
كبيرةً، صفراء سوداء بيضاء فيها أكثر من لون من الألوان، فإنهم قد نفذوا الأمر
الإلهي.
لكن أول ما بدأوا به أن قالوا لرسولهم {أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا}، كيف يتأتى هذا! كيف يتأتى
لقوم مؤمنين أنهم يظنوا في رسولهم أنه يستهزئ، فيذكر عن الله –تبارك وتعالى- بأن
يأمر بكذا ولا يكون الله قد أمره بها، شكوا في الرسول يقولون أتهزأ بنا في هذا
الأمر، فيقول لهم رسولهم {قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ
أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ}، إن أكبر جهل أن يتكلم إنسان عن الله –تبارك
وتعالى- بغير علم، كيف يتأتى من رسول الله –تبارك وتعالى- أن يتكلم عن الله، فيقول
الله يأمر بكذا وينهى عن كذا، ولم يكن الله قد أمره أو نهاه، فهذا شيءٌ فظيع، {قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ}،
كان المفروض كذلك عندما تبينوا الأمر، وتأكدوه من أن هذا أمر الله أن يمتثلوا
ويقولوا سمعًا وطاعة، ولكن انظر ماذا كان منهم.
قال –جل وعلا- {قَالُوا ادْعُ
لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ}، ادعُ لنا ربك، أيضًا صيغة الطلب
صيغة إساءة أدب، {ادْعُ لَنَا رَبَّكَ}، ربك! هو
ربهم –سبحانه وتعالى- لو قالوا ماذا يريد ربنا -سبحانه وتعالى- من هذه البقرة؟ هل
يريد ربنا –تبارك وتعالى- أن نأتي ببقرة صغيرة أو كبيرة؟ لكن { ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ }، وهذا
كذلك تعنت، وفيه استهزاء بأمر الرب –تبارك وتعالى-، {يُبَيِّنْ
لَنَا مَا هِيَ}، ما هي هذه البقرة التي يريدها الله –تبارك وتعالى-؟ فقال
رسولهم موسى –عليه السلام- ، {يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ
لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ}،
إنه يقول إن الرب –سبحانه وتعالى- {يَقُولُ إِنَّهَا
بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ}، الفارض هي المسنة الكبيرة، {وَلا بِكْرٌ} أي لم تنجب بعد، وإنما بقرة إذن متوسطة العمر، {عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ}، العوان الذي هو بين هذا وهذا،
ليست صغيرة لم تنجب بعد، وليست مسنة وسطٌ بينها، بين ذلك بين الفارض والبكر، {فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ}، جاء البيان من الله –تبارك
وتعالى-، وكذلك تنزل الله –تبارك وتعالى- معهم في البيان ولم يقفل الباب عليهم،
وإنما شدد عليهم شيئًا في صورة الاختيار، وهو أن تكون متوسطة العمر، وكان قبل هذا
الأمر الأول قبل هذا أنه يصدق على أي بقرة، فلو أخذوها بكر ولو أخذوها فارض لصدق
عليهم أنهم قد نفذوا أمر الله –تبارك وتعالى-، المهم أنهم أمروا ببقرة بهذه الوصف
الجديد، وهي أنها لا فارض ولا بكر، ثم شدد عليهم رسولهم فقال فافعلوا ما تؤمرون، أي
نفذوا الأمر الذي يأمركم الله –تبارك وتعالى- به، لكن انظر ماذا يكون منهم بعد
ذلك؟
{قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ
يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا}، ما اللون الذي يريد الله –تبارك وتعالى-
أن تكون عليه البقرة هذه الموصوفة؟ الذي يريد الله أن يذبحها، وهذا كذلك تعنت،
والله –تبارك وتعالى- قبل هذا لك يشترط عليهم لونًا من الألوان، فلما شددوا على
أنفسهم على هذا النحو، فإن الله –تبارك وتعالى- شدد عليهم، قال إنه يقول؛ قال أي
موسى –عليه السلام- ، إنه؛ إن الرب الإله –سبحانه وتعالى- {يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا
تَسُرُّ النَّاظِرِينَ}، اللون الأصفر معروف، فاقع لونها أي صفرة فاقعة
زاهية، تسر الناظرين أي من ينظر إليها على هذا يسر من لونها الجميل، كان المفروض
كذلك يبادروا إلى تنفيذ الأمر الإلهي، وقد تنزّل معهم الرب –تبارك وتعالى- اختار
لهم لون من هذه الألوان، وهذا يمكن أن يصدق على أبقار كثيرة على هذه الصورة تحت
أيديهم.
لكنهم لم يبادروا كذلك إلى تنفيذ الأمر، قالوا أي بنو
إسرائيل لرسولهم {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ
لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ
لَمُهْتَدُونَ}[البقرة:70]، {ادْعُ لَنَا رَبَّكَ
يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ}، فقد وجدوا أن هذا الوصف؛ بقرة متوسطة العمر،
صفراء فاقع لونها تسر الناظرين، وجدوا أنه هذا الوصف ينطبق على أبقار كثيرة، وحبوا
أن يشددوا على أنفسهم كذلك فقالوا {إِنَّ الْبَقَرَ
تَشَابَهَ عَلَيْنَا}، وكأنهم يظنون أو يريدون أن تكون بقرة واحدة معينة هي
التي يريدها الرب –تبارك وتعالى-، وقالوا كلمة كانت هي طوق النجاة لهم، بها تجاوزوا
هذه المحنة وهي قولهم {وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ
لَمُهْتَدُونَ}، إنا إن شاء الله لما ردوا الأمر إلى مشيئة الله وأنه
سيهديهم، فإن الله –تبارك وتعالى- تجاوز عنهم، ولو لم يقولوا ذلك لما هدوا قط إلى
أن نفذوا الأمر الإلهي بعد تعنتهم المرة تلو المرة.
قال أي موسى –عليه السلام- إنه الرب الإله –سبحانه
وتعالى- يقول {إِنَّهَا
بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ}، أي هذه البقرة التي أُمروا أن
يذبحوها بقرة لا ذلول، البقرة الذلول التي ذلَّلت بالمحراث فعسفت وعلمت كيف تجر
المحراث، والبقر وأي حيوان قبل أن يمتهن في المهنة التي فيها بالجر أو بالركوب،
لابد من تمرين له وعسف له حتى يذلَّل، فهي ليست ذلول، تثير الأرض أي يوضع على
كتفها النير وتجر المحراث، فهي ليست ذلول، ولم تحمل نيرًا على رقبتها قط، {لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ}، وإثارة الأرض هي حرثها، {وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ}، كذلك لم تدر في ساقية، فإن
سقي الأرض بعد الحرث إنما يكون بالدوران في ساقية، فهي بقرة برية لم تعمل عند فلاح؛
فتحمل نيرًا على رقبتها لمحراث، وكذلك لم تحمل نير لتدور في ساقية، {مُسَلَّمَةٌ}، من كل عيب أي ليس فيها كسر في قرنها أو
في ظلفها أو جرح في بدنها، {لا شِيَةَ فِيهَا}،
الشية الوشي أي أنها صفراء دون أن يخالط هذه الصفرة لونٌ أخر، وشيء أخر من سواد أو
بياض كل شعرها وبدنها أصفر –هي صفراء-.
قالوا بعد هذا الوصف {الآنَ
جِئْتَ بِالْحَقِّ}، الآن جئت بالحق في هذا الوقت فقط، والحال لا شك أن
رسولهم قد جاء بالحق منذ أول الأمر، منذ أول ما أمرهم الله –تبارك وتعالى- بأن اذبحوا
بقرة، هو قد كان الحق، وفي كل مرحلة كذلك من مراحل التنزُّل معهم فيما طلبوا كان
حق، لكنهم لم يجعلوا في أول الأمر أنه لم يكن حقًا إلا الآن، {الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ}، وذلك أنهم وجدوا هذه
الأوصاف، ولا تنطبق إلى على بقرة واحدة من الأبقار التي بين أيديهم، ولما كان
الحال على هذا النحو، قد جاء في الأثر أن جبريل وجدوا هذه البقرة الوحيدة عند
غلامٍ يتيم لهم، وجاء له الملك وقال إذا جاء من يشتريها منك فلا تبعها إلا بملك
مسكها ذهبا، والمسك هو الجلد، أي يقول لهم لا أبيعها لكم إلا بأن تملأوا لي جلدها
ذهبًا ، شددوا على أنفسهم فشدد الله –تبارك وتعالى- عليهم، {قَالُوا الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ}، قال –جل وعلا- {فَذَبَحُوهَا}، ذبحوا هذه البقرة أُمروا بها، {وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ}، ما كادوا يفعلون هذا الذبح
الأمر الذي أُمروا به، إلا بعد هذه المراحل الطويلة من العنت لنبيهم –عليه
السلام-، والطلب الدائم من الله –تبارك وتعالى- والتضييق على أنفسهم حتى ضاق عليهم
الخناق على هذا النحو.
فهذه صورة كذلك تبين صور عنت بني إسرائيل، وأنهم عند أي
أمر إلهي ولا يستحق العنت يتعنتون ويشددون، فإن ذبح البقرة لا يحتاج إلى كل هذا
التضييق ولا التطويل في الأمر، وأنهم لو نفذوا الأمر من أوله لكان خيرًا لهم،
وكانوا مطيعين لله –تبارك وتعالى-، لكن هذا شأنهم كأن الله –تبارك وتعالى- يقول انظروا،
هذا شأنهم عند الأمر الإلهي التعنت والتشدد والتنطح.
ثم يأتي بعد ذلك السر أو السبب في أمر الله –تبارك
وتعالى- لهم، بأن يذبحوا بقرة، قال –جل وعلا- {وَإِذْ
قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا}، وإذ قتلتم نفسًا أي منكم،
فادارأتم فيها ادرأتم كلٌ يدرأ التهمة عن نفسه إلى غيره، قال –جل وعلا- {وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ}، الله –تبارك
وتعالى- أراد أن يخرج ما كانوا يكتمونه من شأن القاتل، {فَقُلْنَا
اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا}، فقلنا أمر الله –تبارك وتعالى- والقول قول الله –تبارك
وتعالى- وطبعًا هذا أمر إلى رسوله موسى، اضربوه؛ اضربوا القتيل ببعضها، بعضها؛
ببعض هذه البقرة، ولا ينبغي التوقف عند النظر والتفتيش حول هذا البعض ماهو؟ كما هو
الشأن في الذين يولعون بغرائب التفسير، هل هو لسان هذه البقرة أم قلبها؟ بل هو
قطعة لحم منها، اضربوه ببعضها كل هذا يصدق على أنه ببعضها وبأي صورة، ولو كان عضو
مخصوص وكان لنا في هذا البيان فائدة لبينه الله –تبارك وتعالى-، فقول الله {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا} بجزء من هذه البقرة،
طبعًا حيي القتيل وأخبر عمن قتله، وكانت هذه آية من آيات الله –تبارك وتعالى-
ليريهم الله –عز وجل- كيف يحي الموتى، ولينظروا بأعينهم هذه الآية المعجزة لتكون
للمؤمن زيادة في إيمانه، ولضعيف الإيمان تقوية لإيمانه، وللشاك المرتاب دليل صدق
على أن الله –تبارك وتعالى- يحي الموتى.
قال –جل وعلا- {فَقُلْنَا
اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ}، المقصود كهذا الإحياء وطبعًا ليس هناك ارتباط
بين ضرب ميت بقطعة من لحم بقرة وبين الحياة، هذا ليس ثم ارتباط بين هذا ولكن هي
قدرة الله –تبارك وتعالى-، {كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ
الْمَوْتَى}، أي أنه قادر –سبحانه وتعالى-، {وَيُرِيكُمْ
آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}، يريكم الله –تبارك وتعالى- آياته
معجزاته الباهرة، لعلكم تعقلون؛ لعل لكم عقول تعقلون بها عن الله –تبارك وتعالى-
وتفقهوه.
قال –جل وعلا- {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ}، بالرغم
من رؤيتهم هذه الآيات العظيمة، ومنها هذه الآية العظيمة التي كان ينبغي عندما رأوها
أن يسجدوا لله خوفًا وشكرًا؛ خوفًا منه –سبحانه وتعالى- وتعظيمًا؛ يعظموه –سبحانه
وتعالى- أنه هو الإله القادر الذي لا يعجزه شيء –سبحانه وتعالى-، لكنهم مع رؤيتهم
لهذه الآيات؛ مروا عليها وكأنها لم تكن، {ثُمَّ قَسَتْ
قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ}، وقسوة القلب شدته وعدم لينه لآيات الله –تبارك
وتعالى-، وعدم خوفه من الله –تبارك وتعالى-، هذا معنى القساوة، وطبعًا هذه القساوة
جاءت بالكفر، كما قال –تبارك وتعالى- {فَبِظُلْمٍ مِنَ
الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ
وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا}[النساء:160]، {وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ
أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا
أَلِيمًا}[النساء:161]، فحصول قسوة القلب إنما تكون بالإعراض عن آيات الله –تبارك
وتعالى-، وبرؤية هذه المعجزات وعدم الإذعان لأمر الله –تبارك وتعالى-، كما قال –جل
وعلا- {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ
وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً}، فبما نقضهم ميثاقهم لأنهم نقضوا ميثاق
الله –تبارك وتعالى- لعنهم الله –عز وجل- وجعل قوبهم قاسية.
{ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ
مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ}، في قسوتها، {أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} من الحجارة، ثم أخبر الله –تبارك
وتعالى- أن من الحجارة؛ حجارة تلين، قال {وَإِنَّ مِنَ
الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ}، الحجارة منه ما يفجر
الله –تبارك وتعالى- منه الأنهار، فانظر من الصخر ينفجر الماء، أما هم فقلوبهم هذه
الصخرية الحجرية لا ينفجر منها هدى، ولا يخرج منها هدى، {وَإِنَّ
مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ}، كأن هذا من الله
–تبارك وتعالى- بيان أن الحجر أفضل من قلوبهم، {وَإِنَّ
مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ}، إذا لم ينفجر منه
الماء فيتشقق ليسمح بخروج الماء، {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا
يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ}، الأحجار كذلك تخاف الله –تبارك وتعالى-
فتكون في العلو، في أعلى الجبل فتسقط من الجبل وتتهشم وتتكسر خوفًا من الله –تبارك
وتعالى-، ولا شك أن هذا عملًا لا إراديًا، بل هذا عمل إرادي، والجماد أخبر الله –تبارك
وتعالى- بأن له تسبيح وله إرادة، فهو يعلم خطاب الله –تبارك وتعالى- {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ
خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ...............}[الحشر:21]، {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي
السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ
وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ ......................}[الحج:18]،
وقال {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ
وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ}، وقال النبي «إني لأعلم حجرًا كان
يسلم علي وأنا بمكة»، وكان الصحابة يسمعون تسبيح الحصى في يد النبي –صلوات الله
وسلامه عليه-، {فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ
يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ}، فيريد فنسب له الرب –تبارك وتعالى- الإرادة، فالأحجار
قد يصل بها الخوف من الله –تبارك وتعالى- إلى أن تسقط من العلو خوفًا من الله –تبارك
وتعالى-، فكأن الله هنا يعرض بهذه القلوب القاسية، التي تشبه بالأحجار في صلابتها،
لكن الأحجار أفضل منها حيث ما يكون منها ذلك، منها ما يتفجر منه الأنهار، ومنها ما
يتشقق فيخرج منه الماء، ومنها ما يهبط من خشية الله.
ثم قال الله –تبارك وتعالى- {وَمَا اللَّهُ
بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}، نفى الله –تبارك وتعالى- أنه كان غافل عن
أعمالهم القبيحة التي يعملونها، هذا تذكير منه –سبحانه وتعالى- بمخازي هؤلاء
الآباء، وتمهيد؛ كل هذا تمهيد لبيان أن اليهود قابلوا دعوة الإسلام بما قابلوه،
ليس مستغربًا منهم، فإن هذا قد مضى في أسلافهم ما هو مثل هذا وشرٌ من هذا.
لذلك قال –تبارك وتعالى- بعد ذلك {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ
يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ
وَهُمْ يَعْلَمُونَ}[البقرة:75]، كانت تلك الآيات السابقة إنما هي تمهيد
لخطاب الله –تبارك وتعالى- لأهل الإيمان، بأن ما يرونه من هذه التصرفات؛ تصرفات
الكفر ومقابلة الإسلام بما قابلوه، أنه هذا من شأنهم ومن دأبهم في كل تاريخهم مع
أنبيائهم السابقين، ولذلك وجه الله –تبارك وتعالى- الخطاب للمؤمنين، فقال{أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ
مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ
وَهُمْ يَعْلَمُونَ}[البقرة:75]، وبيان هذا –إن شاء الله- في حلقة آتية.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، وصلى الله وسلم على عبد ورسوله محمد.