الجمعة 21 جمادى الأولى 1446 . 22 نوفمبر 2024

الحلقة (250) - سورة التوبة 125-129

الحمد لله رب العالمين، وأُصلي وأُسلم على عبدالله ورسوله الأمين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعَمِلَ بسنته إلى يوم الدين.

وبعد, فيقول الله -تبارك وتعالى-: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ}[التوبة:124], {وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ}[التوبة:125], {أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ}[التوبة:126], هذه الآيات مِن خِتَام سورة التوبة يُخْبِرُ الله -تبارك وتعالى- فيها أنَّه مِن شأن هؤلاء المنافقين أنه إذا أُنزلت سورة مِن سور القرآن مثل هذه السورة التى فضحهم الله -تبارك وتعالى- فيها وبيَّن حقيقتهم, قال -جل وعلا-: {فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا}: هذا القول مِن المنافقين على وجه الاستهزاء أي مَن زاد إيمانًا بهذا الأمر, وأخبر -سبحانه وتعالى- قال: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانً}, كل سورة تنزل مِن الله -تبارك وتعالى- يزداد بها المؤمن إيمانًا, وذلك أنه يُصَدِّق أنها مِن الله فهذا إيمان, أنه يعمل بمقتضاها والعمل إيمان, أنه يقوم نحو هذه الآيات مِن المشاعر وأعمال القلب أمورعظيمة كمحبة الله -تبارك وتعالى- والرغبة فيما عنده واحتساب الأجر والثواب في العمل الذي يحث الله -تبارك وتعالى- عليه, تصديق ما أخبر الله به مِن العقوبة فيخاف ما بشَّر به من الثواب فيرجوا, فالخوف والرجاء والإنابة والخشية مِن الله -تبارك وتعالى- كل هذه الأمور تكون مصاحبة للتنزيل الإلهي لسور القرآن على قلب المؤمن وهذه هي معنى الإيمان, يزداد إيمانًا عمل بالقلب, وعمل بالجوارح, وتصديق لِمَا نزل مِن الله -تبارك وتعالى-, وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ: وذلك أنَّ دائما الله -تبارك وتعالى- يحمل البُشرَى لعباده المؤمنين, ما دام أنت على الإيمان فأنت لك البُشرى كلها, الله يبشر عباده المؤمنين؛ لأن الله هو ولي الذين أمنوا فإذا نزل لهم أمر وتكليف فيه بُشرى وقيامهم بهذا الأمر ثواب المنزلة عند الله -تبارك وتعالى-, إذا أخبرهم الله -تبارك وتعالى- بأمر فصَدَّقوه, إذا بشَّرهم بأمر استقبلوه, إذا خَوَّفهم مِن أمر خافوا منه, فالمؤمن دائمًا في بشرى الرب -تبارك وتعالى-, يا أيها المؤمن أنت في معية الرب وفي ولاية الرب فما يأمرك ما يُصَبِّرُك ما ينتظرك عنده في الدنيا والأخرة هو الخير, فهم يستبشرون بكل كلام الرب -سبحانه وتعالى- لهم مهما كان وبتكليفه لهم مهما كان هذا التكليف؛ لأن حتى لو أنَّ فيه شدة فهو خيرٌ للعبد المؤمن, وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ كل ما يُنَزِّلُهُ الله -تبارك وتعالى- مِن كتابٍ, {وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ}: وهم المنافقون, مَرَضٌ: الشك الريب الذي في قلوبهم, {فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ}: وذلك أنهم كل قرآن ينزل يُكَذِّبُونَه يستهزئون به يَرُدُّونه فيزداد شَكُّهُم تزداد هِيبَتُهم تزداد نجاسة القلب التي فيهم؛ نجاسة الشك والشرك الذي في قلوبهم, {فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ}: حُرِموا الهداية فماتوا على الكفر عياذًا بالله هذه عقوبة لهم مِن الله.

ثم الله -تبارك وتعالى- أنذَرَهم وحذَّرَهم فقال: {أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ}[التوبة:126]: أَوَلا يَرَوْنَ: رؤية بصرية, ورؤية عِلمية, أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ: يُخْتَبَرُون في كل عامٍ مرةً أو مرتين, يختبرهم الله -تبارك وتعالى- الفتنة هُنا اختبار بهذه الأحداث التي يُجْريها الله -تبارك وتعالى- على المؤمنين, غزوة بدر كانت فتنة, غزوة أُحد كانت فتنة, الخندق ايضًا, هذه غزوات التهديد الذي يأتيهم دائمًا مِن الخارج قد كانو ينامون في السلاح, ويقومون في السلاح, ويتَخوَّفون مِن هذا العدو, وكان في كل مرة يظنون أنَّ هذه نهاية الدين, ففي بدر ظنوا خلاص أنه ما دام جاءت قريش لقتال المؤمنين كان بعض الناس يظن أن هذه هي نهاية أهل الأيمان, فربنا -سبحانه وتعالى- جعل بدر نصر رغم أنَّ كل الأسباب الظاهرة إنما كانت مع قريش وأنها هي التي ستنتصرهم, فنصر الله -تبارك وتعالى- عبده ورسوله محمد, أُحد لما جاءت وكان النفاق على أشُدِّه فإن عبدالله بن أُبي الذي ترأس المنافقين في كل وقت حياة النبى –صلى الله عليه وسلم-, بدأً مِن بعد بدر عندما على الإسلام إلى تبوك السنة التاسعة, فحياة النبي في المدينة بقي عبدالله بن أُبي رأسًا في النفاق يُعارض النبي بكل سبيل وله سِجِّلٌ حافل في حرب النبي -صلوات الله عليه وسلم- وفي التأليب عليه, ما إعلاله للإسلام, أُحد ظنوا أنَّ هذه أُحد جاء الكفار ثلاثة ألاف المسلمين لا يستطيعوا أن يجابهوا هذا العدد, ممكن أن يكون ثمَّا استئصال رجع عبدالله بن أُبي بثلث الجيش وبقي المسلمون, ثم إنَّ الله -تبارك وتعالى- في النهاية مع الكثرة والجِراح التي حصلت للمسلمين إلَّا أن الله قوَّاهم وأيَّدهم ونصرهم, ولم ينل العدو منهم ما شاء مِن النيل فلم يُقْتَل النبي, ولم يُقْتَل أبو بكر ولا عمر, وهذا الذي كان يطمع فيه الكفار ولذلك رَوَىْ أنهم بالرغم أنهم قتلوا من المسلمين سبعين فإنهم لم ينالوا منهم النَّيل الذي يريدون, وخرج المسلمون منتصرين مِن هذه الغزوة, غزوة الخندق كذلك كانت أمر أظهر للجميع بأن الإسلام انتهى وأنه لم يبقى إلَّا خطوة واحدة وينتهي المسلمون, فإن قد تَجَّمع كل الأحزاب حول النبي؛ ليستئصلوا الإسلام, قريش بحدِها وحديدها ونسبها وأحبيشها ملتحقون بهم, تميم جاءت وغطفان, اليهود نكسوا عهدهم مع النبي -صلوات الله والسلام عليه- حُصِر المسلمون نحو سبعمائة كانوا مع النبي -صلوات الله والسلام عليه- وأهاليهم تركوهم في بعض الحصون, وبعض الدُّور نسبيًا فيها نوع من التمكين في المدينة وهم محصورون في هذا الخندق, وليس بين العدو وبين أن يستئصلهم إلَّا أن يَعبُر هذا الخندق فيستئصِلهم عن بكرة أبيهم, ولكن الله  -تبارك وتعالى- تَوَلَّىْ بنفسه الدفاع عن رسوله, وهزم الأحزاب وحده وكفى المؤمنين القتال.

وهكذا كان كل سنة يأتيهم فتنة أو فتنتين في العام الواحد, كانوا ينبغي أن بعد هذا الاختبار وحصول النتائج العظيمة مِن تمكين الله لرسوله وللإسلام وحصول هذه أن يرعوي هؤلاء المنافقون, وأن يعودوا وأن يعلموا أن دين الله حق, وأنَّ الله ناصر رسوله ومُعِزٌّ دينه, وأنَّ الأمر له في النهاية, فيكون هذا برهان لهم, {أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ}, وكذلك مِن فقنتهم أنه يظهر كفرهم, ففي الخندق ظهر الكفر على لسانهم قالوا: {........ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا}[الأحزاب:12], قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ {يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا........}[الأحزاب:13], وبعد في أُحد قال عبد الله بن أُبي لا أدري على ما نقتل أنفسنا لو نعلم قتال لاتبعناكم, ثم كان الأمر على خِلاف ما قالوا, ما دام فُتِنوا هذا وظهر كذبهم المرة تلوا المرة وظهر أن صدق النبي -صلى الله عليه وسلم- وأنَّ طريقه هو الحق, وأن هذا كتاب الله وقرآنه وأنَّ هذا دينه وأنه لابد أن ينتصر, ألم يكن لهم هذا رادعًا وزاجرًا ودافعًا لأن يدخلوا الإيمان حقًا وصدقًا؟! {أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ}: عن كفرهم وشركهم, {وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ}, {وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ}: بهذا الأمر بأن يفضحهم الله -تبارك وتعالى- ويخرج سرهم المرة تلوا المرة, كان ينبغي بعد ذلك أن يُقلِعوا عن هذا الإفك الذي هم فيه والكذب والشك الذي هم فيه ويرجعوا إلى الرب -تبارك وتعالى-.

ثم صَوَّر الله -تبارك وتعالى- خِستَه وذلتهم وطريقة حياتهم مع أهل الإيمان فقال: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انصَرَفُوا}, قال -جل وعلا- {صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ}[التوبة:127] وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَة من سور القرآن نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ أي المنافقين يعرف بعضهم بعض وهم حول النبي -صلوات الله والسلام عليه- مجموعة كبيرة حول النبي, كما قال الله -تبارك وتعالى- {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ}[التوبة:101], فهؤلاء قد يكونون في المسجد ومع النبي -صلوات الله والسلام عليه- ويعرف بعضهم بعض؛ لأنهم بينهم اجتماعات سرية ولقاءات خارج المسجد مع بعضهم البعض, {........وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ}[البقرة:14], فهم عندما يكونون مع النبي وتنزل سورة تأمر بشيء وكذا ويخافون أن يتنزَّل في هذه السورة ما يفضحهم نظر بعضهم إلى بعض هل يراكم مِن أحد؛ هل أحد يرانا هنا والآن مُنتَبه لنا ومُنتَبه لنظرات بعضنا إلى بعض, ثم ينصرفون لِوَاذًا يخرج هذا مِن هُنا وهذا من هنا حتى لا يكون قد نزل قرآن على النبى -صلوات الله والسلام عليه- فيه فضيحةٌ لهم, أو في تكليف مِن التكاليف لهم للجميع فيحضر التكليف هذا فيهربوا مِن المكان عندما ينزلُ قرآنٌ مِن  الرب -تبارك وتعالى- على رسوله, {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ}: أي هل أحد يرانا الآن حتى نهرب, قال -جل وعلا-: {ثُمَّ انصَرَفُوا}، انصرفوا: خرجوا مِن المكان, قال -جل وعلا-:{صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ}: عقوبة, عاقبهم الله -تبارك وتعالى- بأن صرف قلوبهم عن الحق, أصبحت قلوبهم ما تتوجه إلى الحق وإنما هي مصروفةٌ عنه ذاهبة إلى ما هي فيه مِن الشك والشرك والنفاق عياذًا بالله, هذه عقوبةٌ شديدة مِن الرب -تبارك وتعالى-, قال -جل وعلا-: {بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ}, بأنهم: لأنهم, الباء باء السبب هُنا أي بسبب أنهم هكذا, بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ: قوم جماعة لا يفقهون ما فيه فقه, الفقه الفهم أي أن يفهموا حقيقة هذا الدين, وأن هذا الدين خيرًا  كله مَن وجده وجد كل شيء, مَن فقده فقد كل شيء, وخاصًا هؤلاء الذين عاصروا هذا النبي أنت ترى النبي أنت مع رسول الله إيمانك به شرفٌ عظيم, وفضلٌا لا يمكن أن يتأتى مثله بأي عمل, الصحبة أشرف الأعمال فأنت تصاحب النبي وأنت معه القرآن يتنزل, وعندما تقوم وتجاهد مع النبي -صلوات الله والسلام عليه- أنت في الخير كله, أنت مع الرب -تبارك وتعالى-، أنت في الإيمان كل ثانية, كل دقيقةٍ مِن دقائق عمرك فضل وإحسان وبِر وعلو درجة وثواب, فأنت في الخير دائما وأنت خارج الإيمان في الشر كله خسرت نفسك, خسرت أهلك, خسرت كل شيء, الخسار كل الخسار مع الكفر, وبالتالى ينتظرك العذاب الذي لا مثله السجن الأبدى السجن النارى أرضه سمائه جدرانه, ثم إذا كنت مِن أهل النفاق فانت في الدرك الأسفل منه؛ في أسفل درجات النار, {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا}[النساء:145], منافق تُظهر أنك مؤمن ولست بمؤمن فأنت تُحْشر مع الكفار ولكن تحت الكفار, فينتظرك هذا, لا فقه لك؟ أي ألا تفهم أنك مع هذا النفاق والكفر الذي أنت فيه هذا مصيرك؟! فالله قال: {صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ}: لم يفقهون الدين لم يفهموه, ولذلك ساروا فيما ساروا فيه مِن هذا الإلتواء, وإظهار الإسلام, وإبطان الكفر مع ما في هذا مِن الشر كله عياذًا بالله.

ثم قال -جل وعلا- للمؤمنين: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}[التوبة:128]: هذا خطابٌ للجميع؛ ليعرفوا مَنزِلة هذا النبي وهو في وسطهم -صلوات الله والسلام عليه-, لَقَدْ جَاءَكُمْ: أي أيها الناس, خطاب للناس جميعًا وكذلك فيه خصوصية للعرب بالذات, لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُم: مِن أنفسكم عربي مثلكم تعرفون نسبه, فا بالتالى لا يمكن أن يخْفىْ حاله لكل ذي عقل وذي بصيرة, قد عَلِمُوه صادقًا أمينًا لا يمكن أن يكذب على الله -تبارك وتعالى- وهو قد ترك الكذب على الناس ما عمره كذب على الناس, ثم حاله الإنسان المبارك الكامل؛ كامل الخلق, والذي لا يمكن أن يكون فيه صفة الكذابين بتاتًا, كذاب أفاق مجرم, الكذب يجر كل الشرور, فإتهام النبي بالكذب معناه لابد أن يكون فيه شرور وهذا نبي كله خير, لا يأمر إلَّا بخير, لا ينهى إلَّا عن ضُر, كل مَن حوله في بِر وفي عطف وفي إحسان ظاهر, كل ما تَمَسُّه يده مبارك, يبارك الماء المُر يصبح عذبًا بتفلته -صلوات الله والسلام عليه-, الحجر يضع يده فيه فينبثق الماء منه, يضع يده في طعام قليل يدعوا فيُبارك فيملأ الجيش كله أوعيته منه, ليس بهذا بسحر إنما هذا أمر حقيقي بركةٌ حقيقية فهو مُبارك, أمَّة كانت مُشَتتة ضائعة أمة العرب مُتقاتلة مُتخاصمة فيها كل الشرور كل الآفات, فإذا به يجمع كل جِراحها ويُزِيل البغضاء والشحناء التي كانت بينها والحروب وهذه العداوات, ويجعلها أمَّة واحدة مُتَحَابَّة, الأخ يفدي أخاه بنفسه, وبماله, ما  هذا التَحَوُّل في هذه الأُمَّة؟! التى كانت كالوحوش الضارية يقتل بعضها بعض فتصبح أُمَّة مُتَحَابَّة متأخية على الإيمان, ناس كانوا في ضلال والهاوية على شفا النار, ضلال في كل شيء, معتقداتهم أعمالهم اجتماعاتهم, فَيُقِيمُهُم على النظافة والطهر أولًا على الإيمان بالله -تبارك وتعالى-, {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ}: تعلمونه؛ تعلمون أنه رسول الله -تبارك وتعالى- وهذا الرسول اختاره الله -تبارك وتعالى- منهم وأرسله إليكم, ثم قال من صفاته: {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ}, -صلوات الله والسلام عليه-, عَزِيزٌ عَلَيْهِ: ثقيلٌ عليه, شاقٌ عليه, يَعِزُّ عليه هذا الأمر؛ لأن العِزَّة هي الغلبة, أي يغلبه ويُتعِبه ويثقله مَا عَنِتُّمْ, مَا عَنِتُّمْ: ما يُتعِبُكم, أي أمر يُتعِبُكم هذا يَشُقُّ عليه غاية المَشَقَّة يغلبها العِزَّة: هي الغَلَبة, عَزِيزٌ عَلَيْهِ: ثقيلٌ عليه جدًا مَا عَنِتُّمْ, فانظروا محَبَّتَهُ العظيمة لكم, وشفقته بكم, حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ: الحِرص الضَّن, فلانٌ حريصٌ بالمال أي ضَنِينٌ به لا يسمح بخروجه هكذا, حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بمعنى أنه يَضِّن بكم لا يريد أن يذهب منكم شيء, يموت واحد مثلًا يُجْرَح يتألم يُصِيبه مكروه, لا, فهو حريصٌ على المؤمنين كل الحِرص يُحِب لهم الخير, لا يُحِب أن ينالهم شيءٌ مِن السوء حريصٌ عليكم, {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}: بالمؤمنين أهل الإيمان, حصر الله -تبارك وتعالى- هذا وذلك أن رأفته ورحمته في أهل الإيمان, وأمَّا بالنسبة لأهل الكفار فهو شديدٌ صلصل على هذا النبي القَتَّال هذا بالنسبة للكفار, لكن بالنسبة لأهل الإيمان رءوف, الرأفة: غاية الشفقة والرحمة, رَحِيمٌ: -صلوات الله والسلام عليه-, فهذا النبي الذي هذه صفاته, والمعنى الإخبار, ويراد ما هو وراء الإخبار كيف ينأى عاقل بنفسه عن هذا النبي؟! كيف لا يلتزمه ويكون معه ويَفِرُ إليه؟! هذا النبي هو جنَّتُه هو طريقه إلى الجنة, هو كذلك مُخَلِّصُه مِن النار, مِن كل شيء, جاء بالخلاص يُخَلِّصُنا مِن كل الشرور مِن كل الآفات من كل ما كنا فيه, ثم يَسلُك بنا سبيل السماء والرفعة في الدنيا سبيل المجد, ثم سبيل الجنة, كيف يُتْرَك هذا؟! ثم هو بهذا الخُلق العظيم مِن العناية بكم أن يُثْقله ما يشقُّ عليكم من الرأفةِ الشديدة والرحمة بكم، كيف يُتْرَك هذا؟!  كيف يُتْرَك مثل هذا القائد الذي هو رسول الله؟! اختاره الله منكم ما آتى لكم بواحد مِن قبيلة ثانية من أمَّة ثانية أعجمى وأرسله لكم أي اذكروا هذا, بل هذا منكم أيها العرب يأتيكم رسول منكم الله يختاره منكم ويرسله هو بهذه الأخلاق العالية الفاضلة نحوكم, حِرصه عليكم حَدَبهُ لكم رأفته بكم رحمته بكم, كيف تتركون؟!  كيف يُتْرَك مثل هذا النبي؟! هذا مِن أعظم التعيير للمنافقين؛ الذين كفروا بهذا, وخاصةً مِن العرب بالذَّات, أي يُعِايرهم الله -تبارك وتعالى- بهذا كيف يُتْرَك؟! وكيف تتخلون عن هذا النبي الذي هذا حاله؟! {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}[التوبة:128].

ثم سَل الله -تبارك وتعالى- نبيه وأزارهُ بعد أن مدحه هذا المدح العظيم, ووصفه بهذه الصفات العظيمة التي هو لائقٌ بها -صلوات الله والسلام عليه-, قال: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ}[التوبة:129], فَإِنْ تَوَلَّوْا؛ تَوَلَّوْا: أعرضوا وتركوك ولم يستجيبوا لأمرك, تَوَلَّىْ عنك هؤلاء الذين أُرسلت إليهم, فقل حسبي الله, قل: أمرٌ مِن الله -تبارك وتعالى- لرسوله أن يقول حسبي الله, الحسب الكافي أي يكفيني الله -تبارك وتعالى- كل ما أهمَّنِى, فالله هو مؤيدي وهو ناصري وكل ما يَهُمُّني مِن أمر سواءً مِمَّا  كَلَّفه الله -تبارك وتعالى- به, مِن إبلاغ هذا الدين والقيام به, كذلك مِن عداوة مَن يُعَاديه ولو عداه كل أمم الأرض وأرادوا النيل منه فإنهم الله يَكُّفُهم ولا ينالوا منه إلَّا ما شاء الله -تبارك وتعالى- مِن أن يُصِيبه أذى أو نحو ذلك, مما كتبه الله -تبارك وتعالى- على الأنبياء ليُعْلِيَ درجتهم, وليرفع شأنهم -صلوات الله والسلام عليهم أجمعين-, حَسْبِيَ اللَّهُ: كافيني كلما أهمَّني, فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ ، الله خالق السماوات والأرض -سبجانه وتعالى-, رب العالمين -سبحانه وتعالى-, لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ: لا معبود بحق إلَّا هو, الإله هو المعبود, وكل ما يُعْبَد فهو إله, لكن ليس كل ما يُعْبَد إله على الحقيقة, فإنَّ الإله على الحقيقة واحد, وكل ما سِوى هذا الواحد باطل, آلهًةٌ باطلة, وقد عبدوا الناس كل شيء لم يتركوا شيء إلَّا وعبدوه واتخذوه إلهًا لهم, فقد عُبِدَت الشمس, والقمر, والنجوم, والكواكب, والرياح, والمطر, والأنهار, والبحار, والحيوانات مِن صقور, ومِن كِباش, ومِن قرود, ومِن فِئران, ومِن الحيَّة, والثعبان, والتنين, ما عُبِدَت الأججار, والأصنام, عُبِدَت الصور المُتَخَيَّلة التي لا حقيقة لها, تخيل الناس أمور ما هي موجودة في الذهن هكذا يتخيلونها, ثم يجعلون لها مثالً وتمثالًا ينحتوه مِن أنفسهم ليس له شيء في الواقع ثم يعبدونه كما مثلًا فعل المصريين هذا الذي يُسَمُّونهُ أبو الهول, رأس إنسان, وجسده أسد, ومَن للناس في هذا؛ للمشركين في هذا تهاويل في باب العبادة تهاويلٌ شديدة كثيرة, أو ما عُبِد مما نُسِب إلى الله -تبارك وتعالى- مِن عباد الله -تبارك وتعالى- كالملائكة الذين ظن فيهم الكفار مُشرِكُ العرب أنهم بنات الله فعبدوهم قُربة في زعمهم إلى الله -تبارك وتعالى-, قالوا: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى, أو ما انتحله النصارى في عيسى -عليه السلام- أنه بن الله وقالوا إنه موجود قبل أن توجد السماوات والأرض كان عيسى موجودًا مع أبيه, وأنهم انبثق منهم وقنومٌ أخر وهو روح القدس, وهل انبثق مِن الرب الأب وحده, أو من الإبن وحده, أو من الأب والإبن معه, وانبثق أي خرج هذه الشعبة الثالثة عندهم مِن إلاله تعالى الله {........عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا}[الإسراء:43].

الله أكبر وأعظم وأجَّل مِن ذلك -سبحانه وتعالى-, الشاهد أنهم اتخذوا هذه آلهة, النصارى قالوا: الأب والإبن وروح القدس إلهٌ واحد نعبده, والحال أنَّ كل هذه التي عُبِدَت مِن دون الله باطلة, ما في شيء منها يستحق الأُلوهية أو يستحق العبادة؛ لأن الإله على الحقيقة مَن يملك ضرك, نفعك, مَن خلقك, مَن سَوَّاك, هذا الذي تعبده, مَن الذي يستحق أن تسجد له, وتَذِّل له, وتطلب منه وتخاف منه؟ الرب الإله الذي يملك كل هذا, وهذا واحد هو الله -سبحانه وتعالى-, وأما ما سوىْ الله لا يملك شيءً مِن هذا, ما في شيء مِن كل هذا الذي عُبِد يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًا فضلًا عن أن يملكه لغيره, فإذًا تعودت توكل على هذا, الله -تبارك وتعالى- يقول لنبيه: توكل على الله {فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ}: سلمت أموري كلها لله الواحد الذي له الملك كله؛ يملك كل شيء, ويخضع له كل شيء, { وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ}: وصف الله - تبارك وتعالى- بأنه رب صاحب مالك العرش: سقف هذه المخلوقات, كل هذه المخلوقات تحت عرش الله –عز وجل-, الأرض, السماء الأولى, الثانية, الثالثة, الرابعة, سبع سموات خلقها الله -تبارك وتعالى-, ثم الكرسي, ثم العرش إنما هو سقف كل هذه المخلوقات والله فوق العرش, فهذا الرب الظاهر الذي هو فوق عباده -سبحانه وتعالى- جميعًا, وهو رب هذا العرش العظيم الذي كل هذه السماوات والأرض كلها تحته وحلقة في فلاء, فهذا هو الذي يستحق أن يُعبَدَ وحده -سبحانه وتعالى- إذًا وَكِّل أمرك سَلِّم أمرك لهذا الإله -سبحانه وتعالى-, {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ}.

بهذا تنتهي هذه السورة العظيمة سورة التوبة التي عِشنا فيها هذه الأيام, نسأل الله -تبارك وتعالى- أن يجعلنا مِن المؤمنين بكتابه الذين يزدادون به إيمانًا, وأن يجعل هذا القرآن نورًا لنا في الدنيا, حُجَّةً لنا في الآخرة, وأُصلى وأُسلم على نبي الرحمة سيدنا ونبينا محمد -صلوات الله والسلام عليه-.