الجمعة 21 جمادى الأولى 1446 . 22 نوفمبر 2024

الحلقة (251) - سورة يونس 1-4

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله الأمين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه وعَمِل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد, فيقول الله -تبارك وتعالى-: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ}[يونس:1], {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ}[يونس:2], {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ}[يونس:3], {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ}[يونس:4].

هذا مطلع سورة يونس وسورة يونس كلها مكية مِن القرآن الذي نزل على النبي -صلوات الله والسلام عليه- قبل هجرته للمدينة المنورة, بدأ الله -تبارك وتعالى- هذه السورة كشأن سور كثيرة مِن آيات سور القرآن الكريم بالحروف المُقَطَّعة؛ الر, وقد مضى مِن معاني هذ الحروف أنها إمَّا أن تكون كأدوات التنبيه كنوع مِن الطرق أنه أسمع, أو أنها مِن أسماء السور, أو أنَّ الله -تبارك وتعالى- يُشِير بها إلى ما كُتِبَ به منه هذا القرآن, وأنها الحروف العربية التي يصوغ العرب منها كلامهم, وأن هذا القرآن نزل بهذه اللغة التي يتكلم بها العرب, وقد جعله الله -تبارك وتعالى- معجزة النبي -صلوات الله والسلام عليه-, {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ}[البقرة:23], أو هي مِن هذا الذي استأثر الله -تبارك وتعالى- بعلمه, حروفٌ مباركة تكلم بها الرب -تبارك وتعالى- ومما استاثر الله -تبارك وتعالى- بعلمه مِن علوم هذا القرآن الذي لا يُحيِطُ به عقول البشر.

{الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ}: إشارة تلك للبعيد إلى هذا القرآن الكريم وأنها آيات دلالات واضحات على أنَّ هذا الكلام كلام الرب الإله -سبحانه وتعالى-, الكتاب: هذا القرآن هو قرآنٌ أنه يُقرأ؛ أعظم ما قُرِأ في السماوات والأرض, أعظمُ كتابٍ قرأته الملائكة, وقرأهُ رسول الله, وقرأه المؤمنون, ويقرءونه إلى أن يشاء الله -تبارك وتعالى- إلى أن يُرفَع مِن هذه الأرض, وهو كتاب مكتوب كُتِب في السماء قبل أن ينزل, ثم أنزله الله -تبارك وتعالى- على عبده ورسوله, ثم كُتِب, ثم أصبح منتشرًا من أقطار الدنيا  كلها وهو الكتاب الذي يستحق أن يُسَمَّى وحده الكتاب, {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ}: النازل بالحكمة فهو متضمنٌ للحكمة, وواضعٌ لكل أمرٍ في محله, وذلك أنه كلام الله الحكيم -سبحانه وتعالى-, {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ}: إشادة من الرب -تبارك وتعالى- بهذا القرآن وبهذا الكتاب الذي أنزله على عبده ورسوله محمد -صلوات الله والسلام عليه- لعل المخاطبين أن ينتبهوا أنَّ هذا هو الكتاب الحقيقي وهو الكتاب الحكيم, هذا كلام الرب -تبارك وتعالى- أي هَلُمُّوا هذا كلام الرب هذا كتاب الرب الكتاب الحكيم, {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ}.

ثم قال -جل وعلا-: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ}: هذا أمرٌ يُتَعَجَّب منه, لقد تَعَجَّب الكفار مِن أن يتخذ الله -تبارك وتعالى- مِن عباده رسول سُنِّي, وجدوا أن هذا أمرٌ عجيب لا يُصَدَّق ولا يُهضَم, وكيف يتجرأ النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يَدَّعي أن الله -تبارك وتعالى- اختاره من بينهم واختاره رسولًا بشرًا يُنْزِل عليه كلامه, ويرسله للناس؟! والحال أن هذا أمرٌ ليس بعجب فما العجب في هذا؟ بل هذا هذا مُقْتَضَىْ حكمة الرب -تبارك وتعالى- أنَّ الله الذي خلق هذا الخلق, خلق هؤلاء البشر وجعلهم خِلاف على هذا النحو أن يختار منهم رجلًا اختياره -سبحانه وتعالى- وأن يُنزِل عليه وحيه, وأن يرسله إلى الناس يُعَرِّفَهُم بربهم, يُعَرِّفَهُم الصلاة إليه ليجعلهم يعبدوا هذا الرب الإله -سبحانه وتعالى- ويعرف الطريق إليه, ما العجب في هذا؟ {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا} يتعجبون مِن هذا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ, وأن يكون رجل فيأنسوا به, ما يكون مٍن عالمٍ أخر غير عالمهم فيستوحشوه ويستعظموه ولا يعرفوا ما هو ويبقى أمر لغز بالنبسبة إليهم, أم يكون رجل منهم يعرفون مولده ونشأته وأخلاقه وصفته فهو معلوم, ثم بعد ذلك يأنسوا به ثم يكون هو مُقَدِّمهم الأوامر التي تنزل مِن الله -تبارك وتعالى- يكون هو في المقدمة المُنَفِّذ لها هو القائم بها, فما العجب في هذا؟ بل هذا مُقْتَضَىْ الحكمة, {أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ}: خوف الناس عقوبة الرب -تبارك وتعالى-, وذلك أن الرب -تبارك وتعالى- هو خالق الخلق؛ هو خالق الناس, وأنَّ بِمُقْتَضَىْ هذا الخلق والرزق والإعانة يجب عليهم أن يعرفوا ربهم, أن يشكروه أن يعبدوه وحده لا شريك له -جل وعلا-, فهو إلاههم وربهم وخالقهم ليس لهم رب غيره ولا إله غيره, فهو يدلهم هذا الذي اختاره الله -تبارك وتعالى- يدلهم على صراط الرب وعلى طريق الرب.

 {أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ}: خَوِّفهُم عقوبة الرب -تبارك وتعالى- وذلك أنه يترتب على عدم طاعة الرب -تبارك وتعالى- العقوبة, فإن الله -تبارك وتعالى- إنما يأمر ليُطاع ومعصيته معصية, فمن عصاه قد تَعَرَّض لعقوبته -جل وعلا- {أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ}, ثم {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِم}: بَشِّرِ الذين آمنوا بما أُرسلت به بأنك قد اختارك الله أرسلك الله أن هذا طريقه صدَّقوا بالمُنَزَل على هذا العبد الذي اختاره الله -تبارك وتعالى- على هذا الرجل الذي اختاره الله -تبارك وتعالى- من بينهم أي على الرسول, {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِم}: أنهم بإيمانهم وعملهم الصالح قد قدموا مقدمة عند الله -تبارك وتعالى- مقدمة صادقة, فقد صدقوا الله -تبارك وتعالى- وصدَّقوا الخير فأصبح لهم هُنا كأمر حقيقي قَدَّموه للرب -تبارك وتعالى- سيجزيهم الله -تبارك وتعالى- عليه وسيُثِيبهم عليه -سبحانه وتعالى-, فهذه تقديمة صِدق, وكذلك أنَّ لهم قِدَم صَدق عند ربهم: أن أقدامهم التي صاروا فيها في طريق الخير هذه سيسلكهم الله -تبارك وتعالى- بها إلى جنته ورضوانه -سبحانه وتعالى-, {أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِم}: وفلان له قدم صِدق بمعنى: أنه له سابقة قد سبقت منه عمل يدل على صدقه وأمانته وبره وإيفائه بما التزم به, {أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِم}, وقوله أن يكون عند ربهم أنه لا يضيع ما دام أنه عند ربهم -سبحانه وتعالى- فإنه لا يضيع؛ لأن الله -تبارك وتعالى- لا يضيع الخير ولا يُضَيِّع على عبده ما فعله قائما بأمره -سبحانه وتعالى- لا يمكن أن يضيع الله هذا عند ربهم, وكونه عنده -سبحانه وتعالى- فانظر المثوبة والأجر العظيم إلى أنه الذي سيثيب الرب -سبحانه وتعالى-, عِنْدَ رَبِّهِ

{قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ}: تعجَّبوا مِن هذا الأمر, وزاد بعد ذلك فقال الكافرون أي الجاحدون لهذا الصدق النازل هذه الآيات المُنَزّلة مِن الله -تبارك وتعالى-, هذا الرسول بَيِّن النذارة بَيِّن الصدق كل هذا جحدوه وهم كافرون, وجعلوا مقالتهم وحكمهم عليه قالوا إنَّ هذا لساحرٌ مُبِينٌ: إنَّ بالتأكيد, هذا: بالإشارة للقريب لهذا الرسول الذي لمسوه وعرفوه ونظروه وسمعوا هذا فهو قريب ما خذاك لا هذا الذي يرونه وقد عَلِمُوا شأنه كل العلم, لَسَاحِرٌ: بلام التأكيد كذلك, ساحرٌ مبين: بَيِّن السِحر, وكونه ساحر أنه تهموه بالسحر؛ لأنه أتى بكلام سحرهم, ويرون أن الذين فُتِنُوا به وأن الذين أمنوا به إنما فُتِنُوا به وفُتِنُوا بكلامه وسحرهم, فجعلوا كلام الرب -تبارك وتعالى- النازل على رسوله سحر يُغَيِّرُ عقلية الإنسان ويُغَيِّر سلوكه كما قال الوليد بن المُغِيرة قال: أرى أن تقول  في مجال هذا الرسول إنه جاء بسحر يُفَرِّق به بين الرجل وأبيه, وبين الأخ وأخيه, وبين المرأة وزوجها, كما قال -تبارك وتعالى-{إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ}[المدثر:18], {فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ}[المدثر:19], {ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ}[المدثر:20], {ثُمَّ نَظَرَ}[المدثر:21], {ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ}[المدثر:22], {ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ}[المدثر:23], {فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ}[المدثر:24] إن هذا: القرآن, إلَّا سحر يؤثر, كلام يَسْحَر, وهو كلام مأثور من كلام البشر, {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ}[المدثر:25]: فجعل إن هذا أقوال بشر وليس هو قولًا وليس هو نازلٌ حال كونه قولًا مِن الله -تبارك وتعالى-, فقالوا إن هذا: أي للرسول, لساحر: جاء بهذا السحر سحرنا بكلامه, مُبِين: بَيِّن السحر, وهذا من الكذب من أعظم الكذب الذي افتروه, وللأسف صدقوا أنفسهم, هم الذين افتروا هذا وعَلِموا حقيقة النبي ولكنهم لمَّا أفتروا هذا الكذب طمس الله على وسائلهم فكذبوا أنفسهم فيما قالوله, {قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ}.

ثم إن الله -تبارك وتعالى- الذي أنزل هذا القرآن هدىً ونور شرع -سبحانه وتعالى- يُعَرِّف عباده بنفسه بذاته العلِيَّة -سبحانه وتعالى-, فقال: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ}[يونس:3]: إخبارٌ منه -سبحانه وتعالى-, إِنَّ رَبَّكُمُ: أي أيها المخاطبون بهذا القرآن الكريم, إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ: هذا عَلَم على ذات الرب -تبارك وتعالى-, كل الأمم والشعوب تعرف خالق السماوات والأرض بهذا الاسم الذي لم يتسنَّى به غيره, فلم يُطلَق هذا الاسم على أحدٍ سِواه, فهو الإله الحق -سبحانه وتعالى- الذي تعرفه كل الأمم وكل الشعوب وكل الناس عندما يُقال الله فإنه ينصرف الذهن إلى خالق هذه السماوات والأرض -سبحانه وتعالى-, {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ}: أي أعرفوه هذه صفته, فهو الذي خلق السماوات كل ما علانا والأرض التي تحتنا, فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ: مِن أيامه -جل وعلا-, والخلق: إخراج من العدم، وخلق تقدير وتصويت, فهو الذي أخرجها من العدم -سبحانه وتعالى- لم تكن شيءً, فمادة هذه السماوات والأرض الله هو الذي خلقها, {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ}[الأنبياء:30]: فهذا كُتلة هذه السماوات والأرض الله خلقها وهو خالقها, وهو الذي أخرجها مِن العدم -سبحانه وتعالى-, وهو الذي نشرها ورسمها ووضعها في كل جُرمٍ مِن أجرامها ووضعها في مكانه -سبحانه وتعالى-, {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ}: مِن أيامه -جل وعلا-, {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ}: الاستواء معلوم في اللغة: استوى على وهو العلو والارتفاع, عَلَى الْعَرْشِ: هو عرش الله -تبارك وتعالى- هو سقف مخلوقاته, وهذا العرش لا يَقُدر قدره إلَّا الله, فهذه المخلوقات سماوات طبقات, والكرسى, ثم عرش الله -تبارك وتعالى- والله -تبارك وتعالى- فوق عرشه -جل وعلا-, كون الله -تبارك وتعالى- فوق عرشه إذًا هذا الخلق كله هو ربه وفوقه والقاهر فوق عباده, هو المهيمن على الخلق كله -سبحانه وتعالى-, فإن كل هذه السماوات والأرض في عرش الله -تبارك وتعالى- كخردلة أو كحلقة في فلاح, إذًا هذا الرب -سبحانه وتعالى- الذي هذه صفته إذًا ينبغي للمخلوق أن يتضائل كل الضئالة, وأن يتواضع كل التواضع, أين هو مِن الرب العظيم الجليل -سبجانه وتعالى-؟ بل هذه المخلوقات العظيمة كلها إنما هي شيءٌ صغيرٌ عند الرب -تبارك وتعالى- من السماوات السبع والأراضين في كف الرحمن إلَّا كخردلٍة في يدي أحدكم.

قال -جل وعلا-: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}[الزمر:67] فاستِوَائهُ على العرش حقيقى استواءً حقيقيًا يليق بجلاله -سبحانه وتعالى-, فهو العلي على كل مخلوقاته -جل وعلا- يُدِبر الأمر, التدبير بمعنى النظر والتقدير والحكم, كل هذا معنى التدبير, وأصل التدبير: هو النظر في دبر الأمور في عواقبها, وسُمِى كل تفكير وكل عمل للمستقبل, لتخطيط, رسم, سياسة, وضع إيقاط, كل هذا يُسَمَّى تدبير هذا بالنسبة للمخلوق، فالمخلوق اذا أراد أن يُفَكِر في أمر مستقبلي ماذا سيصنع فيه وما هي أثاره وما هي نتائجه نُسَمِّى هذه عملية تدبير الأمر, دبَّر أمره: بمعنى أنه حزمه وفكَّر فيه ووضعه ورسمه وأعدَّ له عُدَّته وأخذ أُهبته, وخَطَّ له خُطَّته فكل تفكير ونظر فيما يُسْتَقْبَل مِن الأعمال هذا تدبير, بالنسبة للرب هو العليم بكل مخلوقاته -سبحانه وتعالى-, وهو -سبحانه وتعالى- الذي قضى وقدَّر كل ما يقع في هذا الكون, فما يقع في هذا الكون من شأنٍ مِن الشئون إلَّا وهو بأمره -سبحانه وتعالى- الكون القدري, فتدبير أمر السماوات والأرض كلها للرب -تبارك وتعالى-, تدبير أمر هذه المخلوقات التى خلقها الله -تبارك وتعالى-  كلها إلى الله -عز وجل-.

ثم قال -جل وعلا-:  {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ}: خطاب للكفار, {وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ}[فصلت:9], {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا}: هذا تثبيت الأرض, {....وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ }[فصلت:10], {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ}[فصلت:11], {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا........}[فصلت:12], أَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا: كل الأوامر التي عليها أن تصنعه كل سماء أوحاه الله -تبارك وتعالى- له والزم هذا -سبحانه وتعالى-, فالله يُدَبِّر أمر خلقة جميعًا -سبحانه وتعالى- كل أمرِ وكل شئون خلقة بيديه -سبحانه وتعالى- وهو الذي دَبَّرها وقضاها ورتبها -سبحانه وتعالى-, يُدَبِّرُ الأَمْرَ: كل شيء كل الأوامر, مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ: فهذا الرب العظيم لا يستطيع أحدٌ أن يشفع عنده إلَّا بعد إذنه, إذنه للشافع وإذنه عن المشفوع, فما يجرُئ أحد مِن الشافعين أن يشفع دون أن يأذن له, كما قال -جل وعلا-: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ: إلا بإذنه في أن يشفع, وكذلك إلَّا بإذنه فيمن يُشفَع فيه, كما قال -جل وعلا- عن الملائكة: {........وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ}[الأنبياء:28]: فلا ملائكته ولا رسله ولا أوليائه وأحبائه ستطيع أحد منهم ويجرئ أحد منهم أن يتقدم للشفاعة عنده في من يكون إلَّا أن يأذن الله –تبارك وتعالى- له ملك كان أو غيره, وكذلك لا يستطيع أن يشفع في أحد إلا أن يكون الله -تبارك وتعالى- قد أذن في هذا المشفوع أن يُشْفَع فيه, {مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ}.

 ثم قال  -جل وعلا-: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ}[فاطر:13], ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ: ذلكم بالإشارة إلى البعيد تعظيمًا للرب -تبارك وتعالى-, الله الذي تعلمونه بهذا الاسم ربكم؛ خالقكم, رازقكم, كل معاني الربابوية, فهو الخالق, الرازق, المُدَبِّر السيد -سبحانه وتعالى- هذا ربكم, إذًا فاعبدوه: ترتب على هذا أن تعبدوه تذلوا له تخضعوا له تسمعوا لكلامه تستجيبوا لأمره تصدقوا موعوده -سبحانه وتعالى-, كل هذا مِن معاني العبادة, أسمع واطع ذلُّوا لهذا إلاله الذى هذه صفته -سبحانه وتعالى- {فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ}[يونس:3]: سؤال يُراد به التقريع والتأنيب والتوبيخ ما عندكم عقول تُذَكِركم وتجعلكم تَتذكَرون هذا الأمر؟!, تعرفون من ربكم الذي يخاطبكم -سبحانه وتعالى- والذي يدعوكم على هذا النحو, وأنَّ الله الذي يدعوكم إلى عبادته هو ربكم الذي هذه صفته, {الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ}: وفي هذا رد على كثير مِن شرك هؤلاء المشركين وخُرافتهم في الرب ووصفهم الله -تبارك وتعالى- بما لايتصف به, فهذا الرب على الحقيقة أَفَلا تَذَكَّرُونَ: ليست لكم عقول تتذكروا بها, تعملوها لهذه الذكرى فتتذكروها وتعملوا بمقتضى هذه الذكرى.

ثم قال -جل وعلا-:{إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا}[يونس:4]: إليه قدم هنا المعمول على هذه ما قال مرجعكم إليه وإنما قال إليه مرجعكم؛ ليبين أنه إلى الله -سبحانه وتعالى- لا إلى غيره, إليه مرجعكم أيها المخاطبون أيها الخلق جميعًا كلكم, {وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا} هذا وعد ولابد أن يحققه الله -تبارك وتعالى-, حقَّا: أي أمر الحق هو الثابت المستقر أي أن هذا أمرٌ ثابتٌ لازم لابد أن يكون لأنه وعد الله -سبحانه وتعالى- ووعد الله لا يَتَخَلَّف, إنه: الرب -سبحانه وتعالى-, يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ: أنشأكم مِن بطون أمهاتكم على هذا النحو بدأ الخلق ما في الأرض مِن أول آدم, ثم جيل بعد جيل, ثم يُعِيده, لابد أن يعيد الله -تبارك وتعالى- هذا الخلق بعد موته, ثم بيَّن الله -تبارك وتعالى- لماذا كانت الحكمة في الإعادة؟ قال: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ}: هذا المؤمن الذي قام بأمر الله -تبارك وتعالى- عرف أن هذه أرض الله, هذه سمائه, وهذا خلقه, وهذا أمره, وهؤلاء رسله, واستقام لأمر الله -تبارك وتعالى-, هذا له جزاء عند الله قَدَمَ صِدق فَيُجازى على هذا, {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ}: بعدله -سبحانه وتعالى- وإحسانه أنَّ هذا لابد يأخذ جزائه وإلَّا لو ما أخذ جزائه هُنا؛ لكان هذا ظلمًا أنه قد وفَّىْ ما أمره الله -تبارك وتعالى- وقام بهذا الأمر وبعد ذلك لم يأخذ أجره, يأخذ ثوابه وجزائه الإحسان الذي أحسن به في هذه الدنيا, {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ}[الرحمن:60], فالله يقول: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ}[يونس:4].

 أمَّا أهل الكفر وهم الذين عرفوا هذا الحق وردوه وجحدوه ولم يقوموا بأمر الله -تبارك وتعالى- فهولاء لهم شرابٌ مِن حميم, هذا نُزُلهم عند الله -تبارك وتعالى- وعقوبتهم, شراب لكنه مِن حميم, الحميم: هو الماء الذي الحار وما يُسَمِّى المكان الذى تزفت به الحمام؛ لأنه مكان الحميم مكان الماء الحار, لكن ذلك الشراب الذي هو مِن حيميم ليس هو ماء كماء الدنيا وحارته كحرارة ماء الدنيا وإنما هو ماء كالمهل قال: وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ؛ والمهل: هو المعدن المذاب كالرصاص المذاب ومعلوم أن انصهار المعادن يكون في درجة حرارة عالية جدًا عن غليان الماء, ثم قال -جل وعلا-: يشوى الوجوه: أي إذا قُرِّب ليشرب انشَوَىْ وجهه مِن الحرارة المُنْبَعثة منه, فهذا أي ماء هذا؟! فهو كدردر الزيت ماء المهل يشوى الوجوه, ثم قال -جل وعلا-: فيه وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ: فَفِعل هذا الماء قبل الشرب أن الوجه ينشوى منه وبعد شرب المُعَذَّب منه عياذًا بالله تُقَطَّع لذلك أمعاءهم, لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ: عذاب مؤلم, وهذا العذاب المؤلم صنوف ليس شيئًا واحدًا, نار تشتعل, سجن مغلق؛ وهذا السجن كله مِن النيران أرضه غطائه جدرانه, حيَّات كالبغال تنهش ناس, فانظر سموم تجرى في البدن مِن هذه الحيَّات, ونار تشتعل دائمًا, وماء بالحميم, ثم تقريع وتأنيب, ثم ضرب بالمقامع ومطارق الحديد, ثم زَقُّوم إذا أكله يغلي في البطون, {كَغَلْيِ الْحَمِيمِ}[الدخان:46]: يقول الله –تبارك وتعالى- عنه, فهو عذاب مؤلم بكل أنواع العذاب, قال -جل وعلا-: {بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ}: بسبب كفرهم نالوا هذا العذاب عند الله -تبارك وتعالى-.

 نقف عند هذا, ونكمل إن شاء الله في الحلقة الآتية, أستغفرالله لي ولكم من كل ذنب, وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد.