الحمد لله رب العالمين، وأُصلي وأُسلم على عبدالله الرسول الأمين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه وعمل بسنته إلى يوم الدين.
وبعد, فيقول الله -تبارك وتعالى-: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}[يونس:5], {إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ}[يونس:6], {إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ}[يونس:7], {أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}[يونس:8], {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ}[يونس:9], {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[يونس:10].
الآيات مِن سورة يونس, وقد مَضَىْ في الحلقة الماضية أنَّ هذه السورة مِن القرآن المكي, والسياق هُنا ما زال في تعريف الرب -تبارك وتعالى- عباده الذي يخاطبهم أن بعبدوه -جل وعلا- بأنه هو ربهم وإلههم وخالقهم وهذه هي صفته -جل وعلا-, هُوَ: أي الرب الذي يدعوكم إلى عبادته -جل وعلا- وأن تُوَحدُوه, {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً}, ضياء: ضوء, والضوء نار, كل النار التي تنبعث منها هذا النور هيضَوء عالم تُسَمِّى النار ضوء, فجَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً: هذه كتلة نار مشتعلة تُضِئ هذه المجموعة التي تسير فيها, -:{هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً}: والجعل يأتي بمعنى الخلق, ويأتي بمعنى التصيير أي خلقها وصيرها الله -تبارك وتعالى- على هذا النحو وأقامها على هذا النحو التي هي فيه, هي مصدر حرارتنا هي مصدر ضوءنا هي السبب الذي جعله الله الأعظم في حياتنا على هذه الأرض, وَالْقَمَرَ نُورًا: جعل الله -تبارك وتعالى- القمر نور, وهذا من دلائل أنَّ هذا القران مِن الله -تبارك وتعالى-, فإن هذا ما لم يكن معروفًا أن كي يُظَن أنَّ الشمس كالقمر, لكن القمر جسم معتم, لكن الله -تبارك وتعالى- جعله نور بما ينعكس عليه مِن ضوء الشمس ثم انعكاسه عليه, فالكلام دقيق في أن الشمس ضوء, وَالْقَمَرَ نُورًا: والنور ممكن أن ينبعث مِن غير نار, وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ: قدر الله -تبارك وتعالى- القمر منازل حول الأرض, والمنازل: منزلة اي مكانة, فالقمر له في كل ليلة حول هذه الأرض مَنْزِلة مِن المنازل يكون فيها بشكل وبحجم مختلف عن الليلة التي قبلها, قال -جل وعلا-: {لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ}: من أجل أن تعلموا عدد السنيين والحساب, فهو رتَّبهُ هذا الترتيب, وجعله يبدأ أولًا إلى هلال كالخيط الرفيع عند الغروب في أول يوم مِن أيام الشهر العربي, ثم بعد ذلك يَصِل إلى أن يصبح القمر بدر تام في وسط منتصف هذا الشهر, ثم يبدأ بالتضائل شيئًا فشيئًا إلى أن يصبح بعد ذلك كما قال الله -تبارك وتعالى-: {حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ}[يس:39]: العرجون الذي هو طرف ثاقل عذق, القديم: الذي مرت عليه سنة, فإنه يصبح مُقَوَّس على هذا النحو مُصَفَّر في أخر الشهر وبياضه في أول الشهر غير اصفراره في أخر الشهر, ثم يكون مَحَاقًا, ثم يعود دورته مرة ثانية فبهذا التعاقب على هذا النحو في المنازل, قال: لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ: تمر عليكم هذه شهر فشهر فتعرفوا السنة تعرفوا السنين تعرفوا الحساب, تضبط أعمال الناس وتواريخهم ونظم حياتهم, فهذه علامة أن يكون جعل الله -تبارك وتعالى- علامة على كل يوم من الأيام, هذا أمرٌ عظيمٌ جدًا, {وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ}.
قال -جل وعلا-: {مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ}: هذا الخلق العظيم, فإن وضع هذه الشمس العظيمة التى قدر أرضنا أكثر من مليون مرة, والتي تُضئ هذا الضوء العظيم وضع القمر في مكانه على هذا النحو وتقديره بهذا التقدير, وجعلوه بحسبان كما قال -جل وعلا-: {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ}[الرحمن:5]: بحساب دقيق هذا الذي رفع الشمس على هذا النحو, والقمر على هذا النحو, وضبط خلقه على هذا النحو, وجعله بهذه الفوائد العظيمة بهذه المنافع العظيمة, وبهذه السُنَن الثابتة, وللَّعب ليس هذا الخلق هكذا سُدًى ولعبًا لا, له حكمة له مهمة له غاية, قال -جل وعلا-: {مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ}: ليس لعبًا و سدًى, وإنما بالحق وِمن هذا الحق أن يُعرف الرب إلاله -سبحانه وتعالى- ويُعَظَّم لأجل خِلقه العظيم -سبحانه وتعالى-, فالذي خلق هذا الخلق العظيم ربٌّ عظيم, ثم إنَّ مِن ضروراة هذا أن تقوم هذه المخلوقات فتعترف بربها وخالقها -سبحانه وتعالى- وتسبحه وتقدسه وتنزه وتعبده -سبحانه وتعالى-, وهذا المخلوق وهو الإنسان خلقه الله -تبارك وتعالى- أسكنه في هذه الأرض سخَّر له هذه المخلوقات خلق له هذه المخلوقات يقوم ليعرف ربه إياه, فأما إذا نظرا إلى هذا الخلق كله ثم أحمله وازدراه, وكأن الله لم يخلق شيء, ولم يبدع هذا الكون وبدأ يعيش فقط في هذه الدنيا يأكل ويشرب ولا يُعِير ذلك اهتمامًا, ويظن بعد ذلك بأنه لا حكومة ولا حساب على عمله, ويبقى هذا مجرم عاث في أرض الله فسادًا وجحد الرب وأنكره, وفعل ما يحلوا له ولم يقم بما أمره ولا ما خلقه من أجله, يكون مفسد و مجرم, قال -جل وعلا-: {مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}: أي كما خلق هذه الآيات الكونية فإنه فصَّل كذلك هذه الآيات المقروءة لقومٍ يعلمون, أنظر كيف عرفَّنا الله -تبارك وتعالى- بنفسه وبيَّن آياته في الخلق آيةً,آية, {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ}[يونس:3], {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ}[يونس:4]: هذا التفصيل والبيان لآيات الله -تبارك وتعالى-, الله يقول: {يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}: يُفَصِّلُها, التفصيل: هو الفصل بين كل عنصر وعنصر, وكل موضوع وموضوع, يُبَيِّن هذا, ويبين هذا, ويذكر هذا حتى تتضح الأمور كلها من جميع جوانبها ويتجلَّىْ الأمر, لكن لمن عنده عِلم لمن يعلم أن من يغلق قلبه ويغلق عينيه ويغلق سمعه فما له أن يستفيد بهذا التفصيل لآيات الله وإطلاع الرب له على مخلوقاته, ما يستفيد شيء, قال: لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ: لمن عنده استعداد ونظر وسعى لأن يعلم عن الله -تبارك وتعالى-.
ثم قال -جل وعلا-: {إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ}[يونس:6]: اختلاف الليل والنهار أي خواص وطبيعة, فهذا مظلم ساكن بارد مناسب للراحة وحاجة المخلوقات, منها الإنسان إلى أن يستريح من عناء المشقة والتعب والكد, وهذا مشرق مضئ حار دافئ ليكون هذا أدعى لأن يسعى الإنسان في معاشه, كذلك اختلاف الليل والنهار صيفًا وشتاًء وفي كل الفصول أخذ هذا مِن هذا فيختلف خواص ليل الشتاء عن ليل الصيف, ويوم الصيف عن يوم الشتاء, يأخذ هذا مِن هذا, فهذا كذلك من أنواع الإختلاف التي لها حِكَم في الخلق وفي تدبير معاش الناس وأرزاقهم, {إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ}: الذي خلقه الله في السماوات والأرض أمور خلق عظيم جدًا, النجوم, الكواكب, الأنهار, والأشجار, الأطيار, ما بث فيها مِن الدواب, كل ما تقع عليه عينك هذا خلق الله -تبارك وتعالى-, وكل جانب مِن هذا الخلق وجزء مِن هذا الخلق إنما هو آية مِن آيات الله -تبارك وتعالى-, ما في شيء موضوع في غير موضعه ولا في غير مكانه, بل كل خلق الله حسن وكل خلق الله مُحكَم الذي أحسن كل شيء خلقه, وكل خلقه له حكمة -سبحانه وتعالى-, ما في شيء عبث, وخلق مترابط ومنسجم على هذا النحو سماواته وأرضه, أمرٌ دقيق عظيم من الذرة الصغيرة إلى المجرَّة العظيمة, {إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَآيَاتٍ}: دلالات الآية؛ آيات جمع آية, والآية هي الدلالة الواضحة علامة تدل عليه, فهذه آيات دلالات واضحة, أولًا على قدرة الرب -سبحانه وتعالى-, فإن هذا خلق عظيم جدًا الشمس هذه شيء عظيم جدًا, مَن يخلقها ويضعها في مكانها على هذا النحو؟ تفجيرات أكثر من خمسين كل ثانية تنفجر ويخرج طاقة مِن هذه الشمس أكثر من خمسين قنبلة نووية في الثانية الواحدة أمر عظيم جدًا هذا, ما الذى خلق هذا الخلق العظيم ووضعه في مكانه وأحكمه هذا الأحكام!, ففي آيات هذا الخلق في كل ذرة من هذا الخلق آيات, لكن لقومٍ يتقون: يخافون الرب -تبارك وتعالى-, ومعنى يتقوه: يخافوه يجعلوا وقاية بينه وبين عذابه -سبحانه وتعالى-, وذلك أن معصيته معصية, مَن خالف أمر الله عصى, ومعصية الله ما هي كمعصية أي أحد، ممكن أن تعصى أي أحد ولا يكون هذا كبير شأن، ولا يترتب وراءه ما يترتب, لكن معصية الرب لا, معصية الرب عظيمة, مخالفة أمر الله -تبارك وتعالى- عظيم, وذلك أنَّ عقوبته شديدة وأنه يؤاخذ بالذنب ويُعاقِبُ به -سبحانه وتعالى-, والإجرام في حقه إجرام؛ لأنه الرب الإله العظيم -سبحانه وتعالى-, فهذا الله يقول: هذا الخلق نظر فيه آيات الله -تبارك وتعالى- جعل في هذا آيات لكن لقومً يتقون: يخافون ويعلمون أنَّ الرب ما خلق خلقه هذا سدًى وعبثا وأنه ربٌّ حكيمٌ وعليم -سبحانه وتعالى-, قد أحكم كل شيء ووضعه في محله, وعندما يأمر فيأمر ويأمر ليُطاع وأنه أن عُصِيَ فمعصيته معصية, وبالتالي يترتب علىه ما يترتب عليه مِن أنه عصى الإله العظيم -سبجانه وتعالى- يترتب عليه خير يترتب عليه عقوبة فإن الله لا يُعَذِبُ أحدًا كعذابه, ولا يُوثق أحدٌا كوِثاقه, { فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ}[الفجر:25], {وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ}[الفجر:26].
ثم قال -جل وعلا-: {إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ}[يونس:7], {أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}[يونس:8] {إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا}: الرجاء إنما هو طمع في الخير, الرغبة في أن يحصل خير, أرجو أن يقع عليَّا هذا الأمر أقول أرجو أن يتحصل لي هذا الأمر بمعنى إني أطمع وأنتظر وأترقب أن يقع عليَّا هذا الأمر من الخير, فهذا الرجاء فهؤلاء الذين لا يرجون لقاء الله, لا يرجونه بمعنى: أنه لا ينتظرونه ولا يؤمِّلونه ولا يعملون له, وهل هذه جريمة؟ طبعًا هذه جريمة كُبرىْ, فالذي يقطع أمله ولا يقيم هِمَّته وذهنه وغرضه ويقيم رجاءه في هذا الرب الإله العظيم الذي عنده الجزاء الأوفى, والذي يعطى لا يخاف فقرًا -سبحانه وتعالى-, والذي عطاءه عطاء, ونعَّمه نِعم, والذي هو قبل أن يعطي هو الخالق المُنعِم المُتَفَضِّل -سبحانه وتعالى-, ومع ذلك تقطع رجائك فيه ولا تريد ولا ترغب فيما عنده تبقى مجرم هذا إجرام, هذا قطع الرجاء في الله ترك الرجاء في الله -تبارك وتعالى- لا ترجوا لقاء الله ولا ترجوا ماعنده في نفس هذا جريمة, ليس عدم الخوف من الله جريمة بل قطع الرجاء كذلك جريمة, فإن قطع الرجاء في الرب الإله الكريم الذي خلقك, {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ}[الانفطار:6], {الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ}[الانفطار:7], {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ}[الانفطار:8].
كيف تقطع الرجاء فيه هذا وتبتعد عن هذا الرب -جل وعلا-؟! {إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا}: رضاء بالخسيس, عِلمًا أن هذا الذي رضى به هو كذلك عطاء الرب -جل وعلا-, أي هذا الذي رضيت به وجلست إليه وهو أخس هم الدنيا, يأكل ويشرب ماله أخرى غير هذه الحياة يعيش فيها, هذا فعل الكافر بالله -تبارك وتعالى- الذي لا ينتظر الآخرة ولا ينتظر الحساب ولا ينتظر جنة, وإنما فقط رأى هذه الدنيا وعاش إليها, فأولًا هو ليس ضعيف الهِمَّة فقط بل هذا إجرام أنك تقعد عن طلب ما عند الرب الإله -سبحانه وتعالى- مِن النعيم المُقيم والجزاء العظيم, وما رغَّبَك فيه مِن ثوابه ومِن عطائه -سبحانه وتعالى-, قال: {وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا}: أي قلبه مرتاح ونفسه راضية وهو يقول كما يقول الكفار مملكتي في هذا العالم وحدي, مملكتي مُلكي وبقائي وحياتي في هذا العالم وحدي, ليس هناك عالم أخر سأنتقل إليه, فهذا اطمأن بهذه الحياة واطمأن إليها وركن إليها ورضيها حياةً ومستقرًا وبقاءً هذا هو فقط أمل كل حياته ركزها في هذه الدنيا ولا أمل له بعد ذلك, {إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ} كذلك من اللازم هذا ومن طبيعته وإن لم يقصدوه قصدًا, بل هذا يلزمهم بعد أن رضوا بهذه الحياة الدنيا فقد غفلوا عن آيات الله -تبارك وتعالى-, آبات الله: كلتيهما آياته التي نصرها في هذا الكون وكل خلقه آبات, وآياته التى أنزلها -سبحانه وتعالى- على عبده ورسوله محمد آياته المقروءة فهم غافلون عنها لم يسمعوا لكلام الله الذين ينادوهم ويقولوا لهم تعالوا هذا الطريق أغفر لكم, أعطيكم, أدخلكم الجنة, أنجيكم من النار, أصنع بكم هذا الصنيع الجميل, تركوا هذا غفلوا عن كل هذا الذي دعاهم إليه الرب, كذلك عن تحذيره -سبحانه وتعالى- وإنذاره أحذروا فإن عذابى شديد وغضبى شديد وإن كذَّبتم رسلى وإن نكلتم عن هذا تعرضتم لعقوبة, كل هذا كذلك تركوه أن يُعيرو بهذا بالغ, وهم عن أياتنا غافلون كالنائم الساهي الغافل هو الذي قد جَهِل هذا وتركه ولم يعد له بالًا ونسيه, {وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ}.
قال -جل وعلا: {أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}: أولئك إشارةً لهم بالبعيد؛ أبعدهم الله, مَأْوَاهُمُ النَّارُ, المأوى في اللغة: هو ما يلجأ إليه الإنسان ليستريح وينام, كالسكن والبيت, فهذا مأواه وإنها تأويه تحميه, لكن هنا قِيل مأواهم النار وذلك أنها دارهم مستقرهم, وهي ليست مأوى بمعنى المأوى وإنما هي سجن ولكنها سجنٌ مغلق عليهم لكن هذا مكانهم, فيقال مأواهم أي هذا يصبح هذا مستقرهم وبقائهم في هذه النار, والنار نار الآخرة عياذًا بالله التي قال النبي فيها: «ناركم هذه جزءٌ مِن سبعين جزءًا مِن نار الآخرة فقالوا: إذًا إن كانت لكافية أي لو عذب الله -تبارك وتعالى- أي مخالفي أمره بهذه بمثل هذه النار الدنيا لكانت كافية فقال: ولكنها فُضِّلَت عليها بتسعٍ وستين جزءًا عذاب أشد», أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ: مصيرهم ملجأهم مستقرهم سجنهم المغلق عليهم, {إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُوصَدَةٌ}[الهمزة:8], {فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ}[الهمزة:9], قال -جل وعلا-: بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ: بسبب كسبهم الخبيث بسبب كسبهم السىء, هذا الذي كسبوه, والكسب يقال للخير والشر, فهذا الشر الذي كسبوه على أنفسهم كان هذا أوصلهم إلى هذه, وما هذا الشر أنهم تركوا آيات الله -تبارك وتعالى-, ذكَّرهم الله, دعاهم ناداهم لم يَقبَلوا أن يُقبِلوا على الله -تبارك وتعالى- وعنده هذا الخير العميم -سبحانه وتعالى-, لم يرهبوا مِن الرب -تبارك وتعالى-, لم يقيموا لهم رأسًا وشأنًا بهذا الدين الذي أُنزل إليهم رضوا بالحياة الدنيا حتى لا نشكر الرب -تبارك وتعالى- أن هذه الدنيا التى اطمأنوا إليها وركنوا إليها وأحبوها وجعلوها أملهم هذه الدنيا هي فعل الله -تبارك وتعالى- هي عطائه -جل وعلا- فأيضًا تركوا هذا, فالله له الآخرة, والأولى, فالآخرة لله, والأولى لله, فهذه الأولى الذي أنت قد ركنت إليها هي دار الرب -تبارك وتعالى-, وهي عطائه وهي مِنَّتَهُ, فهؤلاء لم يعرفوا ربهم, ولم يشكروه ولم يقوموا بحقه -سبحانه وتعالى-, {إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ}[يونس:7], {أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}[يونس:8], بعد ذلك الطرف الثاني؛ الفريق الآخر, {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ}[يونس:9], {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[يونس:10], {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}: دائمًا يُقرَأ عن الإيمان بالعمل الصالح, آمَنُوا: الإيمان عمل القلب, آمَنُوا بالله, وملائكته, وكتبه, ورسله, واليوم الآخر, هذه كل فروع الإيمان هذه راجعة إلى الأصل الأول هو الإيمان بالله؛ لأن الإيمان برسل الله لأنهم رسل الله, ملائكة هم ملائكة الله -تبارك وتعالى-, اليوم الآخر يوم الله الذي يحاسب الله -تبارك وتعالى- فيه عباده, القضاء والقدر هذا فعل الله تقديره -سبحانه وتعالى-, فكل أركان الإيمان عائدة إلى الإيمان بالله -تبارك وتعالى-, إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا: صدَّقوا وأيقنوا وعملوا بمقتضى هذا التصديق, {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}: جمع صالحة, كل ما أمر الله -تبارك وتعالى- به فهو عملٌ صالح, وكل ما نهى الله -تبارك وتعالى- عنه فهو فاسد, والله ينهى عن الفساد والشر -سبحانه وتعالى-.
قال -جل وعلا-: {يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ}: هداية قلب, وهداية سلوك, فالقلب يُهدَىْ إلى طريق الإيمان, وكذلك يسلك الله -تبارك وتعالى- بهم طريق الإيمان, {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى}[الليل:5], {وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى}[الليل:6], {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى}[الليل:7], فيهديهم ربهم بإيمانهم: يسلكهم الله -تبارك وتعالى- في طريق أهل الإيمان, وكذلك يهدى قلوبهم فيُعَرِّفهم الله -تبارك وتعالى- بالحق وبالإيمان فيهديهم الله -عز وجل-, هذه هداية في الدنيا, وكذلك هذه الهداية في الدنيا لاشك أنها موصلة إلى بعد ذلك إلى جنة الرب -تبارك وتعالى-, {....هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ}[الحجر:41]: فصراط الرب -تبارك وتعالى- إلى الله واصل وهذا نهايته في الجنة, أوله هُنا ولكن نهايته عند الله -تبارك وتعالى- لمن يسلكه في الجنة.
{يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ}: إلى طريق الخلود؛ إلى طريق الجنة, {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ}: هذا أخر الصراط هذا أخر الطريق نهاية المطاف إلقاء عصى التسيار هُنا في الجنة, وإذا وصلوا الجنة تجري من تحتهم الأنهار: جريان مستمر, من تحتهم: من تحت أرجلهم, من تحت قصورهم, من تحت أشجارهم, الأَنْهَار: جمع نهر وهي أنهار مختلفة الخواص, {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ}[محمد:15]: فهذه الجنة تجرى من تحتهم الأنهار في جنات النعيم: جنات بساتين, بستان هذا يُسَمَّى جنة؛ لأنه يستر من يدخل فيه يجنه؛ وذلك لتشابك الأغصان فهي بساتين متشابكة الأشجار بلا أمر أي بامتداد البصر, أقل أهل الجنة منزلة في الجنة مَن يُعْطَىْ مثل الدنيا وعشرة أمثالها, فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ: التي يُنَعَّم الإنسان فيها بكل شيء بالنظر وتلذ الأعين طعوم, فواكهه والأطعمة مختلفة الألوان والأشكال بالشم, فهذه رائحة الجنة كلها, الجنة كلها تفوح ريحا مِن أرضها, ونسائها, وهوائها, وأشجارها, كلها؛ بل ريحها يتعداها كما قال النبي: «وإنَّ ريحها لتوجد مِن مسيرة كذا وكذا»، قيل مائة عام, مسافة مائة عام تفوح ريج الجنة بعدها, فهي كلها تفوح ريحًا, أدخلهم الجنة عرَّفها لهم بالعرف: الرائحة الطيبة, {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ}}[يونس:9], {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ} أي يدعون دعوة أهل الجنة فيها {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ}: تنزيهًا للرب -سبجانه وتعالى-, {وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ}: أي لا يلتقى مؤمنًا مع مؤمن إلَّا والتحية السلام عليكم, ثم كلامهم كله سِلم, ليس في كلامهم خصومة, ولا سباب, ولا شتائم, ولا تباغض, ولا تدابر, في الجنة ليس هناك داء خصومةٌ بين اثنين ابدًا, {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ}[الحجر:47], {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}: آخر دعائهم دائما أن يحمدوا الله -تبارك وتعالى- أن قد أوصلهم إلى هذا المكان, {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ}[الأعراف:43], وتسبيحهم لله -تبارك وتعالى- وحمدهم له يلهمونه كما يلهموا النفس, فإنَّ هذه بدون كُلفة يسبحون الله -تبارك وتعالى- ويحمدونه في هذه الجنات, فالغافل عن هذا الإنسان الذى دعاه ربه -سبحانه وتعالى- إلى هذا الأمر, ثم غفل عن ذلك ارتكب أكبر جريمة.
وهكذا, اللهم اجعلنا مِن أهل الإيمان برحمتك يا أرحم الراحمين, أستغفر الله لي ولكم من كل ذنب, -وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد-.