الجمعة 21 جمادى الأولى 1446 . 22 نوفمبر 2024

الحلقة (253) - سورة يونس 10-17

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله الأمين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه وعَمِل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد, فيقول الله -تبارك وتعالى-: {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}[يونس:11], {وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[يونس:12], {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ}[يونس:13], {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ}[يونس:14], بعد أن بَيَّنَ الله -تبارك وتعالى- المئال الذي سيؤل إليه الذين عاشوا للدنيا فقط, لا يعرفون الآخرة, ولم يرجوا لقاء ربهم -سبحانه وتعالى-, وبين أهل الإيمان, فقال -جل وعلا-: {إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ}[يونس:7], قال: {أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}[يونس:8], ثم الطائفة الأخرى, قال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ}[يونس:9]: يهديهم في هذه الدنيا بسبب إيمانهم إلى الجنة, {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ}[يونس:9], {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[يونس:10] فهم في جنة الرضوان, انظر المقابلة الهائلة, هؤلاء مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ: هذا مأواهم ومُستَقَرُّهم وهي سجن مغلق عليهم, وهؤلاء في الجنة؛ جنات النعيم, كل شيء فيها يَشِعُّ ويعطي نعيم يتنعم الإنسان به يتلذذ به ويرتاحوا به.

 ثم قال -جل وعلا-: {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ}[يونس:11]: لو أنَّ الرب -سبحانه وتعالى- يُعَامِل عباده فَيُعَجِّل لهم الشرعقوبة, يفعل شيء, ثم الله -تبارك وتعالى- يعاقبهم به عقوبةً, كما هم يستعجلون الخير؛ استعجالهم بالخير, فإن الإنسان عَجُول يطلب مِن الله -تبارك وتعالى-  الخير ويرجوه في نفس الوقت واللَّحظة, فلو كان الله -تبارك وتعالى- يُعَجِّلُ لهم العقوبة على هذا النحو لقُضِيَ إليهم أجلهم كانوا انتهوا, كل من عمل شرًا أخذه الله -تبارك وتعالى- ففنى الناس وانتهوا, كما قال -جل وعلا-: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى........}[فاطر:45], وقِيل في معنى هذه الآية: {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ}: لو يُعَجِّلُ الله للناس الشر عندما يدعون على أنفسهم, فإن الإنسان غضوب جَهُول, وكثيرًا ما يكون في ساعة الغضب وفي ساعة النكد يقوم يدعي على نفسه, يدعوا على أولاده, يدعوا على مَن يحب, يدعوا على ماله, ويطلب من الله -تبارك وتعالى- أن يوقع الله -تبارك وتعالى- هذا الشر بمن يدعي عليه على نفسه, على ماله, على زوجته, على أولاده, لو أنَّ الله -تبارك وتعالى- يُعَجِّلُ الناس دعائهم إذا دعوا بالشر على أنفسهم وعلى أموالهم كما يطلبوا الناس ويستعجلوا على الخير, قال -جل وعلا-: {لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ}: لكان البشر كذلك قد تفانوا؛ لأن هذا حال كثيرٍا مِن الناس في استعجالهم بالدعاء على أنفسهم بالشر, وهذا يدل على عجلة الإنسان وجهله حتى بما هو في صالحه قد يكون مِن ظلمه ومن جهله أن يدعوا بالشر على نفسه, {لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ}, كما قال -جل وعلا-: {فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}[يونس:11]: على التفسير الأول يأن الله -تبارك وتعالى- لا يُعَجِّل عقوبته بالشر والهلاك على مَن يعصاه -سبحانه وتعالى-, ولكن إذا اتخذ طريق الكفر فإن الله -تبارك وتعالى- يتركه في الطريق الذي أخذه وسار فيه, يتركه فيه أعمى يسير فيه, {فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا}: الذين لا يرجون لقاء الله -عز وجل-, وهذهجريمة, أنَّ الله -تبارك وتعالى- يدعوه أي إلى المغفرة وإلى الجنة وإلى السعادة الأبدية وهو لا يريدها ولا يتمنى لقاء الله -تبارك وتعالى- وجنته ورضوانه لا يتمناه ولا يريده ولا يرجوه, فهذا الذي ترك ربه -سبحانه وتعالى- وترك قطع الأمل في هذا, وجعل أمله في هذه الدنيا, الله يقول: نذرهم في طغيانهم, إذًا مجاوزته الحد, يَعْمَهُونَ: العمى, فالأعمى هو الذي يولد أعمى عياذًا بالله فيتركه فيها, يتركه في عماه في رضاه بهذه الدنيا وانكبباه عليها وتركه الأخرة وتركه ربه -سبحانه وتعالى- نتركه في هذا عقوبة له مِن الله, هذه اكبر إهانة وأكبر عقوبة له مِن الله -عز وجل-  أن يتركه فيما هو فيه من هذه العماية, {فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}[يونس:11].

ثم الحالة الأخرى مِن حال هذا الإنسان قال -جل وعلا-: {وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[يونس:12], وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ الضُّرُّ: المس أي أدنى الإصابة, الضر: من مرض من فقر من عدو أي ضر, دعانا: دعى الله -تبارك وتعالى-, والدعاء طلب مِن الله -عز وجل-, قال -جل وعلا-: لجنبه: أي ولو هو على جنبه ما ينتظر حتي يقوم يدعو له وهو على جنبه يدعو, أو قاعدًا: أو هو قاعد يدعو, أَوْ قَائِمًا: على أي حال يدعو, فيدعو الله -تبارك وتعالى- على أي حال هو فيه, وهذا يدل على لجوءه إلى الله -تبارك وتعالى-, والحالالذي هو فيه, وسرعته في هذا الإلتجاء إلى الرب -جل وعلا-, {دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا}, قال -جل وعلا-: {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ}: والله الذي كشف هذا, و هذا العبد هو لجأ إلى الله, وطلب مِن الله هذا, قال: مَرَّ: والمرور الذهاب أي ترك الأمر, وكأن هذا الأمر ما كان يَعنيه, وكأنه ما كان في مرضٍا شديد في محنةٍ شديدة في بلاء, وكأنه ما دعا الله, ولا طلب منه, ولا استكان إليه, وكأن الأمر ما كُشِف ما كان خصل ما صار هذا الأمر بتاتَا, ولم يتذكر ربه وإلهه الذى لجأ إليه وكان يبكى بين يديه, وكان يطلب منه, هو الذي كشف عنه الضر, فينبغي أن تشكر ربك, قل ياربى حمدًا لك أشكرك أنت المُتَفَضِّل, أنت المُنْعِم, الحمد لله الذي أنقذني مما كنت فيه, ودعوته فاستجاب لي, أشكر ربك تذكَّر هذا لكن هذا مَرَّ, {كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ}: ما كأنه في يوم مِن الأيام التجأ إلى الله وطلب منه وألحَّ عليه, قال -جل وعلا-: كذلك: كهذا الأمر الذي هو الشديد في الجحود أي جحودٌ واضح ظاهر, فهذا إنسان يعرف ربه وخالقه, ويعرف إن هذا ضر به ويلجأ إلى الله, والله -تبارك وتعالى- يستجيب له ويكشف عنه الضر هذا أمر مباشر بين هذا العبد وبين دعائه للرب -تبارك وتعالى- وحصول الأثر في هذا, وانقلاب انتقاله من حالة إلى حالة, مِن حال الضر إلى حالة العافية وِالستر, ومع ذلك ما شكر ربه -سبحانه وتعالى-, كذلك: كهذا الجحود والتماص البصيرة وعماها على هذا النحو, زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ: زُيِّنَ لهم جُمِّدَ في أعينهم ما كانوا يعملون: الذي يعملونه وأصبح جميل في أعينهم, علمًا أن هذا من أقبح القبيحة, ومِن أفجر الفجور, أكفر الكفر, أنك دعوت ربك إلهك مولاك أن يرفع ما بك ورفعه عنك ولم تذكر هذا ولم تقم بشكره -سبحانه وتعالى-,{ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}: الذي كانوا يعملونه.

قال -جل وعلا-: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا}: هذا إنذارٌ مِن الرب -تبارك وتعالى- إعلموا أيها الناس أننا قد أهلكنا القرون من قبلكم, قرون: القرن هم الناس طائفة من الناس المجتمعين في مقترنين في وقتٍ واحد, وهؤلاء القرون كالقرن الذي كان فيه نوح -عليه السلام-؛ قوم نوح كيف أهلكهم الله -تبارك وتعالى-؟ وأستأصلهم من الأرض بالغرق, وعاد التى أستأصلها الله -تبارك وتعالى- بالريح العقيم, وثمود التى أستئصلها الله -تبارك وتعالى- كذلك بهذه الصعقة, قوم فرعون الذين كذلك أخفقهم الله -تبارك وتعالى-, ومحاهم عن وجه هذه الأرض, فيقول في قرون مِن قبلكم أهلكنهم, {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ}: أي أيها المخاطِبون العرب لَمَّا ظَلَمُوا: كُفر, عِناد, تكذيب للرسل, سير في هذا, كان أيضًا لمَّا كان يقع على بعضهم بلاء كانوا يلجأون إلى الله -تبارك وتعالى- كما كان قوم فرعون كلما وقع بهم بلاء لجأوا إلي الله- تبارك وتعالى- وطلبوا من موسى أن يرفع هذا عنهم لكن عمى, {وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ}: رسل هذه القرى التي أهلكها الله تبارك وتعالى- والكفار جاءوهم بِالْبَيِّنَاتِ: الدلائل الواضحات على ما يدعوهم إليهم أنهم رسل الله وأنَّ هذا طريقه وأنَّ هذا صلاته, قال -جل وعلا-: وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا: وما كانوا ليومنوا هؤلاء الذين أهلكهم الله ما كانوا ليؤمنوا لا يمكن يؤمنوا, الله يقول لايمكن يؤمنوا وما كانوا ليؤمنوا لماذا؟ قال: {كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ}: كذلك أن يجعلهم الله -تبارك وتعالى- في عماهم, وأن يُصِمَّ أذانهم عن الحق, ويجعلهم يسيرون في هذا الطريق إلى حتفهم, وإلى هلاكهم؛ ليدخلوا النار هذه جزاء من الله -سبحانه وتعالى- جزاءهم في الدنيا هُنا بالتماص هذه البصائر والختم عليها وجعلهم في هذا العمى إلى أن يدخلوا النار عقوبة لهم من الله -تبارك وتعالى-, {كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ}: كهذا الجزاء الشديد وهو جزاء شديد تُطمس البصيرة يُزيَّن لهذا الكافر والمشرك عمله فيرى أن عمله حسن, يرى شركه وكفره وعناده وتكذيبه للرسل, وقيامه في وجوههم وهذا والسعي ودعوة هذه الألهة الباطلة التى لا تنفع ولا تضر, والسير فيها, يرى هذا هو الحسن, يرى أن طريقه هذا هو الحسن وهو الجميل وهو الحياة هذه, وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى, كان يقول قوم فرعون, وقوم عاد كذلك فرحوا بما عندهم قالوا: مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّة, نحن هذه طريقتنا أحسن طريقة, وكانوا يرون ما عليه الرسل أن هذا أسوا طريق وإنهم لابد أن يقوموا في وجهه وأن يعاندوه, وزُيِّنَ هذا في قلوبهم تزيين تام وساروا فيه إلى أن حَلَّ بهم ما حل من عقوبة الرب -تبارك وتعالى-  في الدنيا والأخرة, قال -جل وعلا-: {وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ}[يونس:13].

قال -جل وعلا- {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ}[يونس:14]: ثم جعلناكم أيها المخاطبون العرب وهذه الأمم التى نزل هذا القرآن ليخاطبها والقرآن نزيل العالمين خلائف جيل يخلفهم بعد ما ذهبت هذه القرون جعلناكم خلائف من بعدهم في الأرض؛ للننظر كيف تعملون, هذا ميدان العمل ونظر الرب -تبارك وتعالى- ليس لينظر عن شيءٍ لم يعلمه الله -تبارك وتعالى- وإنما عَلِم الله -تبارك وتعالى- ما خلقه فاعلون قبل أن يخلقهم -جل وعلا-, ولكن هذا التعبير لننظر كيف تعملون, هذا تذكير لهم بأن هُنا هذا ميدان العمل وقد أُنذِرتم على هذا النحو وعملكم سيقع وبعين الرب -تبارك وتعالى- ولتحاسبوا على ما تعملون فهو نظر يترتب عليه الحساب والعقوبة؛ لأنه الواقع, والله -تبارك وتعالى- لا يحاسب الناس بما في عِلمهِ -سبحانه وتعالى- وإنما بما يعملونه بالفعل بما يقومون به ويعملونه عند ذلك تكون العقوبة لابد أن يمارسوه هُنا للنظر كيف تعملون: الذي ستعملونه حتى تأخذوا جزاءكم عليه, تذكير عظيم من الرب -تبارك وتعالى-, ثم قال لهم الله -تبارك وتعالى-: مبينٌ عناد هؤلاء العرب وظلمة قلوبهم, ومحاولتهم دفع هذا الدين عن أنفسهم بكل طريق.

قال -جل وعلا-: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}[يونس:15], التلاوة: القراءة, وتتلى هُنا جاءت بالبناء لِما لم يُسَمَّىْ فاعله والذي كان يتلوه النبي -صلى الله عليه وسلم-, وكذلك دعاةُ هذا الإسلام بما حفظوا مِن هذا القرآن وتلوه, {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ}: آياتنا نسبها الله -تبارك وتعالى- إلى ذاته العَلِي إلى نفسه -سبحانه وتعالى-, وانظر إن هذه آياته أي هذا كلامه يُتلىْ عليهم كلام الرب خالقهم بارءهم خالق السماوات والأرض, الرب العظيم -سبحانه وتعالى- ليس كلام أحد وإنما آيات الله, {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ}: واضحات الدلالة, فهي بينات أنها مِن الله وبَيِّنات كذلك فيما تُبَيِّنَهُ من الحق, {قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا}: هؤلاء الذين لا يرجون لقاء الله -عز وجل- لا يطمعون في هذا, ولا يعيرونه ولا يهتمون به, ويظنوا أنَّ هذا لا يمكن  أن يقع, كان العرب يظنون أنَّ هذا يستحيل أن يقع, أن يكون هُناك قيامًة للأجساد, ووقوفٌ بين يدي الرب وحساب هذا أمر بعيد, فهم لا يرجون هذا ولا يتوقعونه أصلًا, {قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ}: هو كلام ينقض بعضه, أنت لا تؤمن بلقاء الله -عز وجل- كيف إذًا تؤمن بأن الله هو الذي أنزله؟! ماذا ترد,  كيف تقول للنبي ائْتِ بقرآنٍ غير هذا؟!, يقول النبي ائْتِ بقرآن غير هذا, فإن كنت تؤمن أنه من الله فكيف يكون أي كيف تطلب منه تبديل كلام الله -عز وجل-؟! وإن كنت تظن أنه أفترى هذا القرآن ما هو جاء من الله وإنما افتراه النبي, فكيف تطلب منه يكذبلك شيء آخر؟! وهل ستتبع هذا المكذوب الثاني؟ لكن هذا الكلام الذي قد بلع الغاية في الجهل والحُمق والكفر, {ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ}: لا تعجبهم أحكامه؛ وذلك أنه القرآن نزل على غير ما تشتهيه أنفسهم وغير ما يسيرون, فيريدون دين هم يُفصِّلونه لأنفسهم, دين يعبدوا فيه ما يشاءون مِن الألهة الباطلة, و ما كان يُعَظِّم ما كان يعظمه أباءهم ويُحِلُّ لهم ما يشتهون ويُحَرِّمُ عليهم ما يشتهون دين هم يأبوه, أما إنَّ الله -تبارك وتعالى- يأمرهم بأمره -سبحانه وتعالى- ويهديهم صراطه مستقيم لا, {ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ}: أي مِن ربك, أو بدله أنت أي اجعل هذا الكلام بينا وبينك, فبدل بعض هذه الأشياء المُحْكَمة التى لا توافقنا أنت غيرها, فقال -جل وعلا-: قُل لهم, {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي}: كيف أبدل كلام الله!, الله يقول لي أُؤمُر به وأنا أغير هذا!, وأقول أَئتِ بكلام غيره, {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي}: ليس لي أن أبدل كلام الله, {إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ}: أنا رسوله وأنا أمري كله محصور في أني أتبع ما يوحى إليَّ مِن ربي -سبحانه وتعالى-, فالذي يأمرني به الله -تبارك وتعالى- هو الذي يجب عليَّ تنفيذه, ولا ينبغي لي ولا يحل لي أن لا أقول إن ربنا يأمرني بأمر معين وأنا أغيره وأُعطيكم إياه!, {إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}[يونس:15]: أنا رسوله ولكن أخاف منه أشد الخوف, هم كانوا يظنون أنه ما دام أنه رسول الله إذًا هو ممكن أن يتصرف في ما يأمره الله -تبارك وتعالى- يحذف هذا يأتي إليهم بهذا, فيعتقدون له دالة علي الله هو رسوله الذي اختاره فيوده, فالطلب الذي طلبوه يدل على عنادهم وجهلهم أشد الجهل, فأول شيء أئتِ بقرآنً غير هذا: أي أطلب من ريك كتاب غير هذا يوافق أهوائنا, إذا كنت تعلم أنه مِن الله كيف تطلب مِن الرب الإله -سبحانه وتعالى- أن يُغَيِّر هذا؟! أو إنك تقول للرسول الله غَيِّر كلام الله -تبارك وتعالى-؛ لنوافقك عليه, {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي}: من عند نفسي, {إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}[يونس:15]: أنا أخاف إن عصيت ربي: أي إن أعصيه, {عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}: يوم القيامة هو يوم عظيم؛ لأنه طويل شاق عذابه عذابٌ شديد, يوم طوله خمسين ألف سنة, وكذلك عذاب الله -تبارك وتعالى-, {فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ}[الفجر:25], {وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ}[الفجر:26]: فهذا عذاب يوم عظيم أنا أخاف, وكل أحد مأمور أن يطيع الرب -تبارك وتعالى- وكل أحدٍ كذلك مُحَذَّر أن يعصِ الرب -تبارك وتعالى-, الرسول, وغير الرسول, {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}[الزمر:65], {بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ}[الزمر:66], {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ}[الأنبياء:29]: فهذا النبي والملك وغيره كل مَن عصى الله -تبارك وتعالى- مُعَرَّض لعقوبة الرب -تبارك وتعالى-.

{إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}[يونس:15], {قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ}[يونس:16]: لو أراد الله ما تلوته عليكم, أي لو أراد الله -تبارك وتعالى- وشاء الله ألَّا يُنزلهُ عليهم, مِن أين أئتِ به! من أين لي أن أئتِ بهذا القرآن!, أنا كنت أعلم شيء مِن هذا؟, {قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ}: ما قرأت هذا القرآن عليكم هذا, فأنا أقرأ ما أنزله الله -تبارك وتعالى- عليكم, وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ: ولا كنتم عَلِمتم بهذا القرآن, وإنما هذه مشيئة الرب وإرادته -سبحانه وتعالى-, فهو الذي اختارني, وهو الذي أنزل هذا من قبل أن يكون لي سعي لهذا الأمر إني سعيت له أو طلبته, ما كان لي, قال: {فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ}[يونس:16]: أربعين سنة أي قبل هذا القرآن ما عندي شيء من هذه العلوم, ولا تَنَزَّل عليَّ شيء ولا جاءني شىء, {فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ}[يونس:16]: ألا عقل عندكم!, تعلمون أن هذا كلام الله -تبارك وتعالى-, وأنه أنزله, وأني عبده ورسوله, وأني لا محيد لي ولا محيص لي أن أنفذ أمره -سبحانه وتعالى- كما أنزله وكما أمر به أَفَلا تَعْقِلُونَ: ألا عقول لكم!.

ثم قال -جل وعلا-: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ}[يونس:17], فمن أظلم: سؤال يُراد به التقرير, {مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا}: الذي يفترى: يختلق على الله الكذب, فيقول مثلًا هو لم يرسله الله يقول أنا رسول الله, الله يأمركم بكذا وينهاكم عن كذا, أو أن دين الله كذا وهو كذاب مفترى لهذا لا أكبر ظلمًا مِن هذا؛ ما في أحد أكبر ظلم مِن شخص يأتي ويقول أنا قد أُوحِيَ إليَّ وحي أو أنزل الله لي كتاب, أو أمرني بكذا, أو نهاني عن كذا لأن هذا كذبٌ على الله -تبارك وتعالى-, فلا أحد أظلم مِن هذا, وبالتالى هذا الذي بلغ مِن الظلم هذا المبلغ يستحق عقوبة الرب العظيمة -سبحانه وتعالى-, {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ}: المقابل, جاءته آيات الله -تبارك وتعالى- وتليت عليه آيات الله ولكنه كذَّب بها وردها, وقال ليست هذه آيات الله -تبارك وتعالى-, فلا أحد أظلم مِن هذا ومِن هذا, {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ}: إنه الحال والشأن لا يفلح المجرمون, المجرم لا يفلح, هذا حكم الله -تبارك وتعالى-, وهذا الشأن والسنة والخلق والإرادة الإلهية أن الله لا يجعل المجرم مفلحًا قط, وما في مجرم أكبر من هذا, أو ما في مجرم أكبر ممن يفترى على الله الكذب, وممن يكذب بآيات الله -تبارك وتعالى- الصادقة المُنزَلة فيكذب بها, هذا مجرم, وهذا مجرم, وهذا تهديدٌ لهم وبيان إن هذا الأمر الذي طلبوه مِن الرسول -صلى الله عليه وسلم- طلبوا منه الإثم والإجرام, طلبوا منه أن يُبَدِّل القرآن مِن عند نفسه, أو إنه يقول لربنا أعطيني قرآن غير هذا القرآن؛ لأن هذا القرآن لا يوافق أهواء قومه, وهذا إجرام, فهم يأمرون الرسول بالجريمة ولا أظلم مِن هذا, والرسول برَّئه الله -تبارك وتعالى- {قُل إِنمَّا أتَّبِعُ ما يُوْحَىْ إليَّ مِن رَبِّيْ}, {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}[يونس:15], {قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ}[يونس:16], {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا}: هذا النبي الكذاب, أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ: الكفار الذين كذبوا كلام الرسل, إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ}[يونس:17]: والأجرام هُنا أصبح مُنْحَصَر في هؤلاء الذين رَدُّوا كلام الله -تبارك وتعالى- وكذَّبوه, أعلموا هذا, أعلموا أنَّ هذا هو الشأن والحال, أنَّ المجرم لا يفلح, والفلاح هو الحصول المطلوب الأكبر فوز, فهؤلاء لا فوز لهم ولا فلاح لهم, بل كتب الله -تبارك وتعالى- على أهل الأجرام الخزي والعار والندامة.

 أقول قولى هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب والحمد لله ربي العالمين. .