الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله الأمين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه وعمل بسنته إلى يوم الدين.
وبعد, فيقول الله -تبارك وتعالى-: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ}[يونس:31], {فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ}[يونس:32], {كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ}[يونس:33], {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ}[يونس:34], {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ}[يونس:35].
بعد أن بَيَّنَ الله -تبارك وتعالى- الحال والشأن الذي سيكون عليه الكفار مع شركائهم ومَن عبدوهم يوم القيامة, وأنه سَيُفَرَّق بينهم, وأنَّ هؤلاء سيتبرائون مِن هؤلاء, وأنَّ هؤلاء العُبَّاد ستتحطم أمالهم مع هؤلاء الشركاء في الوقت الذين هم فيه أحوج الحاجة إلى مَن يؤيدهم وينصرهم ويشفع لهم وينفعهم, وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيْعًا: العُبَّاد والمعبودين, ثم نقول للذين أشركوا قفوا مكانكم أنتم وشركائكم, فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ: فَّرق الله -تبارك وتعالى- بين مَن عُبِدُوا وبين هؤلاء العُبَّاد, {وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ}[يونس:28]: تَبَرَّأ هؤلاء الشركاء, وقالوا أبدًا ما كنتم أبدًا إيَّانا تعبدون, {فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ}[يونس:29]: لقد كنا غافلين عن هذه العبادة ما عرفنا هذا, كانوا موتا ولم يعرفوا شيئا مِن هذا, أو كانت أصنام لا تحس ولا تدرى ولم تأمر بهذه العبادة, هم اتخذوهم هكذا عُبَّاد لهم مِن دون الله.
قال -جل وعلا-: {هُنَالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ}[يونس:30]: مِن هذا الشرك, بعد هذا شرع الرب -تبارك وتعالى- في خطاب الكفار, خطاب بيان وإيضاح يوقفهم الله -تبارك وتعالى- على الحقائق إيقافًا بهذا الكلام البليغ؛ كلام الرب -تبارك وتعالى- الذي يدحض كل ما اعتقدوه مِن شبهة أنَّ هناك إله مع الله -تبارك وتعالى-, يقول لهم -جل وعلا-: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ}, والرزق: كل ما ينتفع به الإنسان من طعامه وشرابه ولباسه ومركبه وكل هذا كل هذا الرزق الذي تُرْزَقُونُه مِن هذه المنافع في هذه الحياة الدنيا, مَن يرزقكم مِن السماء بإنزال المطر, وبالأرض بإخراج هذا النبات, وبكل هذا التيسير لكم والتسخير لكل هذه الأرزاق؟, {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ}[يونس:31]: مَن الذي يملك السمع والبصر؟ فأعطاكم إيَّاه وملككم إيَّاه سمعكم وأبصاركم هذه, وهي دُرَّة وخُلاصة ما عندكم سمع الإنسان وبصره, مَن يملكها و ملَّكَكُم إيَّاها؟ مَن يملك السمع والأبصار؟ ومن يُخْرِج الحي من الميت؟ الذي يجعل هذه الحي هذا كان قبلهم مَوات, فنحن قد كنا ميتين ما كنا شيء أحيانا الله -تبارك وتعالى- حياة البشر حياة النبات حياة الحيوان أخرجها الله -تبارك وتعالى- مِن عدم, ثم بعد ذلك تعود إلى الموت, مَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمَن يُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ: يكن حي, ثم يميته الله -تبارك وتعالى-, مِن الحيوان والإنسان والنبات, ومَن يُدَبِّر الأمر: أمر هذه السماوات والأرض من يدبرها؛ يرتبها وينظمها ويجعل هذا الأمر سواءًا أمر الكوني القدرى هذا أمر الله -تبارك وتعالى- في كل كونه بمقاديره -سبحانه وتعالى- مَن الذي يُقِيم هذا ويُدَبِّر أمر هذه المخلوقات؟ فسيقولون الله, هذه كانت عقيدة العرب, العرب المشركين أنهم يعتقدون أنَّ الله رب السماوات والأرض -سبحانه وتعالى- ورب العرش العظيم يؤمنون به ويعتقدون فيه كل هذا أن هذه كلها له وأنَّ هذا تصرفه -سبحانه وتعالى- وهذا ملكه, هُنا إقرار على أنفسهم, قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ: فقل لهم بعد ذلك أفلا تتقون؟ هل اتقيتم هذا الرب خفتموه؟ يُنذِرُكم يُحَذِّركم يدعوكم إلى عبادته -سبحانه وتعالى- ينذركم بالنار يقول فيه عقوبة لا تخاف, ألا تتقون الله -تبارك وتعالى- الذي تؤمنون بأن هذا كله فعله أن هذه سبت أرض له هو الذي يخرج الحي من الميت هو الذي يملك السمع والأبصار, هو الذي يدبر الأمر فالأمر كله والملك كله بيديه أنتم تؤمنون بهذا, لِما لا تخافون هذا الإله؟ أفلا تتقون, ألا تخافون هذا الإله الذي تؤمنون وتُقِرُّون بأن هذا مُلكُهُ وفعله -سبحانه وتعالى- وتقديره!, فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ: فذلكم إشارة إلى الرب, فَذَلِكُمُ اللَّهُ: هذا الاسم عَلم على ذات الرب -تبارك وتعالى-, الله الذي تعلمونه؛ ربكم الحق, إلهكم ربكم الرب خالقكم رازقكم وبالتالى سيدكم وبالتالى معبودكم الذي يجب أن تعبدوه وحده لا شري, له, فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ: الذي هو الحق ضد الباطل, والحق: هو الثابت المستقر, فهذا الحق في لغة العرب, فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ: الذي هذا صفته وهذه أدلة وجوده وتصريفه -سبحانه وتعالى-, {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ}: إذا تركت الحق أين تذهب؟ إلى الضلال, {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ}: كل مَن عَرِف الحق وتركه وجاوزه لابد أن يخرج مِن الضلال, فقد عرفتم أنَّ ربكم الله -تبارك وتعالى- ملك هذه السماوات والأرض, هو الذي يملك السمع والأبصار, هو الذي يُدَبِّر الأمر -سبحانه وتعالى-, هو الذي يخرج الحي من الميت, ويخرج الميت من الحي, هذا هو الذي يستحق العبادة وحده -سبحانه وتعالى-, أمَّا إذا ذهبتم إلى غيره فعبدتم غيره ذهبتوا إلى الضلال, فهذا شرك إذًا ضلال, إذا تركتم هذا الإله وذهبتم إلى غيره -سبحانه وتعالى- فقد ضللتم, {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ}[يونس:32]: كيف تُصْرَفُون؟ الصرف: هو التَّحَول أي تتحولون عن هذا الحق إلى الضلال لماذا؟ كيف يحصل هذا؟! أي مَن كان عنده معرفة بالحق على هذا النحو, ثم يجاوزه يتركه ويذهب إلى الضلال لماذا؟, فَأَنَّى تُصْرَفُونَ: أَنَّىْ تأتي بمعنى كيف, والسؤال هنا للتعجيب وللتوبيخ, كيف تُصرَف عن الإله الذي تُقِّر بأنه الرب الذي لا إله إلَّا هو -سبحانه وتعالى-؟!.
قال -جل وعلا-: {كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ}[يونس:33], كذلك: كهذه الحال والصورة التي تراها, سَنُقِّر إلى أنَّ الله هو رب السماوات والأرض, ومع ذلك يذهب يترك هذا ويتخذ له صنم يعبده, مَلَك يتعلق فيه بأنه هذا يُقَرِّبه مِن الله -تبارك وتعالى- شجر, حجر, اتخذ إله دون الله -تبارك وتعالى-, كيف يحصل هذا؟! فالله يُخْبِر بأن الله -تبارك وتعالى- أنَّ هذه عقوبة منه -سبحانه وتعالى-, حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ: أي صارت كلمة ربك حقًا على الذين فسقوا, الفسق: الخروج, فالذين خرجوا عن طاعة الله -تبارك وتعالى-, وخرجوا عن الإيمان به لم يصدقوه, أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ, الله -سبحانه وتعالى- يطمس على أبصارهم وعلى قلوبهم فلا يُزعِنون الحق ولا يقبلونه, ويَتَحَوَّلون عنه, {كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ}[يونس:33]: فسقهم, ما دام عرف الحق وتركه وجاوزه فإن الله -تبارك وتعالى-يَضِلُّه, فيبقى الحق واضح عنده ظاهر ولكنه لا يتبعه, {كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ}.
ثم يسترسل سياق السورة في بيان حقيقة الشرك لهؤلاء المشركين, فيقول لهم الله -تبارك وتعالى-: {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ}[يونس:34]: هل من شركائكم الذين جعلتموهم شركاء إلى الله تعبدونهم مِن دون الله -تبارك وتعالى-, مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ؟ فهذا فعل الله, بدأ الخلق: إخراج الخلق هذا مِن العدم إلى الوجود, ثم إعادته مرةً ثانية بأن يقضى الله -تبارك وتعالى- بموت هذه الأجساد, ثم حياتها مِن جديد, تبديل هذه السماوات والأرض, بناها الله -تبارك وتعالى- هذا البناء, ثم إن الله -تبارك وتعالى- يهدمها وقت ما شاء, ثم يعيدها, {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ}[إبراهيم:48] هل مِن شُرَكَائِكُمْ مَن يفعل هذا؛ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ؟ قل الله يبدأ الخلق ثم يعيده, جاء الجواب هُنا أجاب الله -تبارك وتعالى- عن السؤال الذي طرحه عليهم وذلك أنهم لا يؤمنون بالإعادة, يعتقدون بأنَّ الله -تبارك وتعالى- لن يُعِيد بناء السماء مِن جديد, وإخراج هذه الأجساد مِن جديد, كان يستحيل هذا على الله, لكن الله -تبارك وتعالى- في السؤال الذي طرحه عليهم فيه كذلك البرهان على أنَّ الله يفعل هذا؛ يبدأ الخلق فما دام أنه بدأه لا يعثر عليه إعادته, فإن الذي بدأ أمر وبناه ثم حطَّمه يستطيع أن يُعِيد البناء مرة ثانية, {قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ}[يونس:34], َأَنَّى: كيف, تُؤْفَكُونَ: تُقلَبُون, الإفك, والأفك, أفكه بمعنى قَلَبَه, والإفك هو الكذب, وسُمِّيَ الكذب إفكًا؛ لأنه كلام مقلوب, فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ: تُقلَبُون هكذا, فالمقلوب على رأسه تصبح رأسه تحت, لا يفهم, فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ: تنقلبون هكذا على رُءُوسَكُمْ, فلا تسمعون ولا تفقهون ولا تفهمون, سؤال آخر ايضًا للتقرير والبيان, {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ}: هل مِن هذه الألهة التي عبدتموها مع الله -تبارك وتعالى- فيها مَن يهدي إلى الحق كهذه الأصنام؟ تهديكم تدلكم على الطريق, هذا حلال, هذا حرام, هذا افعلوه, هذا لا تفعلوه, تُشَرِّع لكم شيء, تعطيكم شيء, {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ}, {قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ}: الله -سبحانه وتعالى- يهدى إلى الحق وهذه هدايته -سبحانه وتعالى- هداية فطرة وهداية كتاب مُنزَل, هداية الرسل الذين أنزلهم هذه هداية الله -تبارك وتعالى- إلى الحق, {قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ}, ثم يُقال لهم بعد السؤال: {أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ}[يونس:35]: سؤال يُراد به كذلك البيان والتقريع والتوبيخ لهم على هذا الحال الذي هم سائرون فيها, مقارنة أفمن يهدي إلى الحق: هوالله -تبارك وتعالى-, أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ دينه وطريقه وصراطه الذي بَيَّنه, أَمَّنْ لا يَهِدِّي: لايعرف, يهدى هنا بأي نوع مِن الهداية إلَّا أن يُهْدَىْ إلَّا هو الذي يوجهه, فهو الذي يوَجَّه وهو الذي يُهْدَىْ, فَمَا لَكُمْ: ما فيكم, كيف تحكمون: كيف تحكمون هذا الحكم فتتخذوا آلهتكم هذه الباطلة آلهةً لكم من دون الله تعبدونها تعطونها ما يجب أن لا يُعطَىْ إلَّا للرب الإله -سبحانه وتعالى-, فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ, ثم قال -جل وعلا-: {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا}: وما يتع أكثرهم فيما يعتقدون إلَّا ظَنًّا, الظن رُجحان وهو ليس بِعِلم ما يُبْنَىْ عليه, فهكذا حِسبان يظن يحسب شيء ثم يُرتب عليه عقيدة وإيمان له ويلتزمها ويسير فيها, وهذه سائر عقائد المشركين, فكل هذه الألهة التى عُبِدَت مِن دون الله, الشمس, القمر, النجوم, الأشجار, الملك, الفرعون, كل الملائكة, كل ما عُبِدَ مِن دون الله -تبارك وتعالى- ما عبده البشر لا يَتَّبِعُون فيه إلَّا الظن أمور ظنون ما في شيء يقين أن هذا إله يستحق الألوهة؛ لأن لا إله يستحق الألوهة إلَّا الله خالق السماوات والأرض وخالق الناس, ومالك رزقهم ومالك تصرفهم -سبحانه وتعالى-, ملك السماوات والأرض هذا الذي يستحق الألوهية, أمَّا كل ما عُبِدَ مِن دونه لا, كلها ظنون, عبدوا الكواكب لِما؟ عبدوا الشمس لِما؟ كلها ظنون رتبوها وجعلوها بعد ذلك عقائد واتبعوها, {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا}.
قال -جل وعلا-: {إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا}[يونس:36]: لأن صاحب الظن ليس متأكدًا مِن قوله, إنما بناها على مجرد الحِسبان والتخمين, {إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ}[يونس:36]: تهديد, هذا تهديد {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ}: فهذا تهديد ووعيد لهم أنَّ فِعلكم هذا الذي فعلتموه هو الشرك وهو أكبر الذنوب كما في حديث عبدالله بن مسعود قال: «قلت يارسول الله أي الذنب أعظم قال أن تجعل لله نِدًّا وهو خلقك», فالذي خلقك إذا جعلت له نِد مُشابه له مكافِئ له, تعطيه ما يجب أن يُعطَىْ الذي خلقك, بل ما يجب ألَّا يُعطَىْ إلَّا للذي خلقك, هذا أكبر ذنب أن تجعل العبادة فيمن لم يخلق ومن لم يرزق, قال: {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ}.
ثم قال -جل وعلا-: {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ}: هذه الآية جاءت تعقيب على هذا البيان الإلهي الذي دحض الله -تبارك وتعالى- به الشرك سحق, وبيَّنه لكل ذي عقل ولُب مَن كان له عقل ولُب يقرأ هذا والله -تبارك وتعالى- هنا يعقد المقارنة بين ذاته العَلية وبين فعله وصفاته -سبحانه وتعالى-, وبين هذا الذي عُبِدَ مِن دونه أمر سحق لهذا الكفر والشرك, فأي عاقل يسمع هذا ويرى هذا لا شك أنه ينصرف إلى توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له, وهذا أسلوب بهذه الكلمات القليلة أسلوب شريف لا يقدر عليه البشر أن يُدلوا بالحُجَّة على هذا النحو ويصوغوا الأمر على هذا النحو, ويبطلوا أي الباطل على هذا النحو, ويحقُّوا الحق على هذا النحو, هذا لا يقدر عليه إلَّا الله -سبحانه تعالى-, لذلك قال -جل وعلا-: {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ}: ما كان هذا القرآن المُنَزَّل عليك يامحمد, أَنْ يُفْتَرَى: إنه يُصَاغ, فهم يتهموا النبي -صلى الله عليه وسلم- بأنه صاغ هذا القرآن لا يمكن هذا, سواءًا في هذه البلاغة وهذه الفصاحة وهذه البلاغة الوصول إلى المقصد بهذا الأسلوب الذي يحطم ما تحته ويُبَيِّن في مجال البيان وفي مجال إبطال الباطل لا أسلوب مثل هذا, ثم في بيان الحق المعنى الذي يحمله مِن صفة الرب -تبارك وتعالى-, ومِن الحال الذي عليه المشركين, مَن مِن البشر بعقله يستطيع أن يصل إلى هذا الأمر؟ ما كان للرسول ولا لغيره أن يصف الرب -تبارك وتعالى- الإله بهذا الوصف, حتى لو مُتَخَيِّل تخيل الرب بهذه الصفات لا يستطيع, انظروا كلام الفلسفة وكلام غيرهم, بل كلام ورثة الأنبياء مِن اليهود و النصارى لَمَّا حَرَّفوا وأتوا بأشياء مِن عقولهم عن الرب -تبارك وتعالى- كيف أنهم وصفوا الله -تبارك وتعالى- بما لا يليق, فهؤلاء انظروا إلى النصارى في قولهم في عيسى وفي مقالتهم في شركهم كلام بعيد عن أي منطق وأي عقل, وكذلك كلام اليهود في الرب -تبارك وتعالى- ووصفه بوصف غير لائق, باالبخل, وبالظلم, وبالجهل, وبالعجز, ووصفه -سبحانة وتعالى- بالتعب ووصفه بصفات المخلوقين انظر هنا وصف الرب -تبارك وتعالى- نفسه وهو الحق بما وصف نفسه بهذا القرآن من أين يمكن لبشر أن يفترى مثل هذا الكلام, {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ}: يستحيل, ما لا يمكن وليس بالمُكنة ولا بالاستطاعة عند أحدٍ أن يفترى مثل هذا القرآن, {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ}, بل هو كلام الله حقًا وصدقًا, {وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ}: ولكن هذا القرآن جاء مُصَدِّقًا لما بين يديه, وهذه مِن أدلة الله أن هذا القرآن مِن الله وأنه ليس مِن عند النبي -صلوات الله والسلام عليه-, أن أخباره مُصَدَّقة للصدق الموجود عند اليهود في كتابهم في التوراة, والإنجيل, {وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[يونس:37]: تفصيل الكتاب, ومِن هذا التفصيل ما هو لا بصدده في هذه السورة تفصيل حقيقة توحيد الرب -تبارك وتعالى- حقيقة صفة الرب الإله الواحد الذي لا إله إلَّا هو, وحقيقة الشرك الذي عليه المشركون, وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ: كتاب مُفَصَّل مُبَّين وأنظر كيف يخاطب الله -تبارك تعالى- فيه المشركين هذا الحطاب, لا رَيْبَ فِيهِ, الريب: الشك, لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ: لا ريب أن هذا الكتاب نازل من الله -تبارك وتعالى-, رب العالمين, العالمين: كل العوالم, نحن عالم, والملائكة عالم, والحيوان عالم, والبحار عالم, كل هذه العوالم، عوالم السماوات والأرض ربها واحد وهو الله -سبحانه وتعالى-, فهو رب العالمين ربهم بمعنى سيدهم إلههم مولاهم خالقهم مُدَبِّر شؤنهم -سبحانه وتعالى-.
ثم التفات بعد ذلك, قال -جل وعلا-: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ}: يقول الكفار بأن هذا القرآن افتراه النبي -صلى الله عليه وسلم- كذبه, وهذا كلام بالغ مبلغه في الإثم والقُبح والبعد عن أي منطق وأي عقل, {قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ}, طبعًا كونهم يتهموا النبي -صلى الله عليه وسلم- بأنه افتراه, والنبي -صلى الله عليه وسلم- بحاله كل شواهده تدل على أنه لا يمكن أن يفترى هذا القرآن, فهو الصادق الأمين -صلوات الله عليه وسلم-, هو الذي مكث أربعين سنة لا يتكلم بشيءٍ مِن مثل هذا, ولا يعرف عن هذه العلوم أي شيء, {........مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ ولَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا........} [الشورى:52], {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ}: هذه مقالتهم في هذا القرآن, حتى هذا القرآن الذي جاء مُبطلًا لهذه العقائد وداعيًا لهم إلى توحيد الله -عز وجل- تقولون بأن النبي افتراه! أي محمد -صلوات الله عليه وسلم-, قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ: سورة واحدة, وسُمِّيَت هذه سورة؛ لأنها كأنها شيءٌ مُسَوَّر مجموعة من الآيات, فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ: مثل هذا القرآن, ليس المُتَحدَّىْ به ليس المعاني التي اشتملتها السورة وإنه الصياغ, هذا الكلام العربي هاتوا بسورة, بدليل قول الله -بارك وتعالى-: {فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ}: افتروا ما تشاءوا, فالمعنى ليس مطلوبًا وإنما الصياغ, كلام مثل هذا الكلام في بلاغته ونصاحته وفصاحته.
{قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ }[يونس:38]: كل من تستطيعون دعوتهم ليساعدوكم في الإتيان بسورة ادعوه, شعراء بُلَاغاء, جنكم, شيطاين الشعر, ادعوا كل الذي تستطيعون دعوته ليساعدوكم في هذا الأمر, في أن تأتي بسورة وبذلك تبطلوا في زعمكم أي دليل النبي محمد -صلوات الله والسلام عليه-, وبالطبع لم يستطيعوا هذا وعجزهم أعظم الأدلة على أنَّ هذا القرآن مِن عند الله -تبارك وتعالى- عجزهم مع القيام الداعى إلى أن يُعَارضوا النبي -صلى الله عليه وسلم-, وأن يُعَارضوا هذا القرآن حتى يبطلوا حُجَّته, وذلك أنه هم يرون بأن النبى -صلى الله عليه وسلم- قد أغلق عليهم المنافذ, سَبَّ آلهتهم, كَفَّر مَن مَضَىْ من آبَاءِهِم, تَوَعَّدهم بالذبح, يقول لقريش قد جئتكم بالذبح أنا الضحوك القَتاَّل, فيقول لهم: سأُزيلكم مُلك أمتى سيبلغ ما بلغ الليل والنهار, أحنقهم وجعلهم يسعون في إبطال رسالة النبي ودعوته بكل سبيل, فالداعي عندهم قائم أن يبطل دعوته بأي طريق, وهذا طريق دَلَّهُم عليه, تبطلوا دعوة النبي -صلى الله عليه وسلم- هاتوا سورة مثل هذه السور وبالتالى تنتهي الأمر, وقولوا هذا القرآن الذي آتيته قد صنعنا مثله, ولكنهم عجزوا, فعجزهم عن هذا الأمر دليل على أنَّ هذا الكتاب مِن عند الرب الإله -سبحانه وتعالى-, {قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ}: هذه الآية من تنَزُّل الله -تبارك وتعالى-, بدأ هذا التحدى لهم بالقرآن كله, فليأتوا بمثله إن كانوا صادقين, ثم هُنا تحدى بعد ذلك بعشر سور {قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ........}[هود:13], ثم بهذه فهذه بسورة واحدة, فقال: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ}, ثم بعد ذلك في الرابع سورة مِن مثله بعد ذلك أي مما يقاربه ويشابهه, {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ}[البقرة:23], عجزهم دليل على أنَّ هذا القرآن لا يُسَاما ولا يُجَارا, إذًا ليس هو بقول بشر وإنما هو بقول الرب -تبارك وتعالى-, {وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}[يونس:38].
ثم قال -جل وعلا-: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ}[يونس:39], بل: حال, { كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ}: سارعوا إلى تكذيب هذا القرآن ولم يُحِيطوا علمًا به, فقط بمجرد ما سمعوه ورأوا أنَّ هذا الرسول يدَّعي ويقول لهم أنا رسول الله إذَّا سيبلغ في الشرف أكبر مِنَّا, هذا يقول لنا أنتم كُفَّار يسب آلهتنا فمباشرةً بدون تَبَيُّن ودون تفحُّص لرسالة النبي -صلى الله عليه وسلم- دفعتهم دوافع شتَّى: دافع العصبية, دافع الشخصية, دافع الغيرة على الأباء والأجداد, هذه الدوافع الكثيرة الخوف على مصالحٌ دنيوية كل هذه الصوارف صرفتهم عن الحق وجعلتهم مباشرةً يُكَذِّبون القرآن ولم يُمَحِّصوا وينظروا نظر حقيقي في دعوتهم, قال -جل وعلا-: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ}: الذي هو القرآن, {وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ}, لَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ ،تأويله: ما سيؤل إليه أخباره, وذلك أنه جاء يتهدده يقول لهم سيكون كذا وسيكون كذا وسيكون كذا, وطبعا لو جاءهم تأويل القرآن ما هذه عند ذلك يكون الإيمان, كما لو جاءهم العذاب في الدنيا عند ذلك يقولوا آمنَّا ورجعنا, وكذلك متى يؤمنون بهذا القرآن؟ في الآخرة عندما يروا الحقائق التي يتكلم عنها القرآن يؤمنون بالقرآن, قال -جل وعلا-: {وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ}: كهذا تكذيب الكفار في مكة,{كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}, الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ: الأمم السابقة, صنعت نفس الصتيع, {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ}: انظر كيف كان عاقبة الظالمين, أنظر ما فعل الله بقوم نوح, ما فعل الله بقوم هود, عاد, ما فعل بثمود, قوم صالح, ما فعل الله -تبارك وتعالى- بقوم فرعون, انظر مصارع الغابرين, وهذا التهديد لهم إن كذَّبتم مثل تكذيب أولئك فانتظروا المصير الذي لقاه أولئك الظالمين, فانظر نظر اعتبار كيف كان عاقبة الظالمين؟ كان عاقبتهم الدمار.
نقف عند هذا, وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب, -وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد-.