الخميس 17 شوّال 1445 . 25 أبريل 2024

الحلقة (26) - سورة البقرة 74-80

تفسير الشيخ المسجل في تلفزيون دولة الكويت

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على عبد الله والرسول الأمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد، أيها الإخوة الكرام، يقول الله –تبارك وتعالى- {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}[البقرة:75]، {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ}[البقرة:76]، {أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ}[البقرة:77]، بعد أن مضى ذلك الفاصل من هذه السورة، في خطاب الله –تبارك وتعالى- لبني إسرائيل، بأن يؤمنوا لله –سبحانه وتعالى-، وبما أنزله على عبده ورسوله محمد، ولا يكونوا أول كافر به، وأن يتقوه –سبحانه وتعالى-، ثم بيَّن الله –تبارك وتعالى- أنعامه وأفضاله على آبائهم، ثم كيف قابلوا هذا الأنعام والأفضال، بالرد أحيانًا، بالتكذيب أحيانًا، وبالمماطلة أحيانًا، وكان آخر شيء ما بيَّنه الله –تبارك وتعالى- من تعنتهم مع نبيهم موسى –عليه السلام-، عندما قال لهم  {..............إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ}[البقرة:67]، إلى أن بيَّن الله –تبارك وتعالى- أنهم ما كادوا يقاربون فعل هذا الأمر، ويفعلوه إلا بشق الأنفس، كما قال –تبارك وتعالى- {وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ}، ما أمرهم الله –تبارك وتعالى- به، عند الذي أمرهم به أنه يذبحوا بقرة، بعد أن بيَّن الله –تبارك وتعالى- هذه الصفات في بني إسرائيل، ودعاهم إلى أن يؤمنوا وأن يدخلوا مع جملة المؤمنين، وأوضح الله –تبارك وتعالى- من صفاتهم ما أوضح في هذه الآيات السابقة.

بدأ الله –تبارك وتعالى- في خطاب أهل الإيمان، وبيان أن ما أملوه وطمعوا فيه من إيمان اليهود، أنه بعيد لهذه الصفات التي اتصفوا بها، قال –جلا وعلا- للمؤمنين {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}[البقرة:75]، أي أفتطمعون أيها المؤمنون أن يؤمن لكم اليهود، يؤمنوا بما أنزله الله –تبارك وتعالى- على رسوله، ويصدقوا أن هذا النبي؛ هو نبي الله حقًا وصدقًا –صلوات الله وسلامه عليه-، للمؤمنين {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ}، كان فريقٌ من اليهود يسمعون كلام الله، للمؤمنين {ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}، فريق منهم من السابقين وكذلك المعاصرين للنبي –صلوات الله وسلامه عليه-، يسمعون كلام الله المنزل على رسالاته، {ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ}؛ التحريف مأخوذ من الحرف، والكلمة ممكن أن يتبدل معناها بزيادةحرفٍ فيها، وهذا التحريف اللفظي، أو نقص حرفٍ منها، وأما التحريف المعنوي فإنه تحويل اللفظة والجملة من معنى إلى معنىً أخر، لا يريده المتكلم، ولا يُحمل كلامه عليه، وإنما يحمله هؤلاء على تأويلٍ وعلى تفسيرٍ أخر، فالتحريف منه التحريف اللفظي، ومنه التحريف المعنوي، وقد فعل هذا كله اليهود، سواءً في كتابهم المنزل على رسولهم موسى –عليه السلام-، أو فيما كانوا يسمعونه من كلام الله –تبارك وتعالى-، فيحرفون ألفاظه ويحرفون معانيه.

{أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ}، أتؤمِّلون وتظنون أن يؤمن لكم اليهود، {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ}، علموا معناه حقًا وعلموه وفهموه، وأدركوه بعقولهم، {وَهُمْ يَعْلَمُونَ}، وهم يعلمون أنهم يحرفون كلام الله –تبارك وتعالى-، فهي جريمةٍ عن قصد وعمد، يتعمدون هذا التحريف لفظًا ومعنى، فمن كانت هذه صفته أنه يسمع كلام الله، يعلم أن هذا كلام الله، وطبعًا سمعه لكلام الله –تبارك  وتعالى- عن طريق الرسول، أو عن طريق من يقرأ كلام الله –تبارك وتعالى-، كما قال –جل وعلا- {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ...........}[التوبة:6]، يسمع كلام الله منك، أو ممن يتلو عليه كلام الله –تبارك وتعالى-، فهؤلاء فيهم هذه الخصلة الخبيثة الكبرى، وهي أنهم يسمعون كلام الله –تبارك وتعالى- ويعلمون أنه كلام الله، ويفهمون معناه، ولكنهم يتوجهون إلى تحريفه؛ تحريف ألفاظه وتحريف معانيه، والحال أنهم يعلمون أن هذا الذي أوَّلوا به كلام الله، وحرفوا به كلام الله ليس هو المنزل من الله –تبارك وتعالى-، وإنما هم حملوا كلام الله –تبارك وتعالى- على هذه المحامل.

صفةٌ ثانية؛ {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا}، هؤلاء المنافقون منهم؛ من أهل الكتاب، {إِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا}، الذين آمنوا هنا؛ المؤمنون بالنبي محمد –صلوات الله وسلامه عليه-، {قَالُوا آمَنَّا}، أعلنوا لهم أنهم مؤمنون، {أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ}، {وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ}، كانوا في مجتمعاتهم الخاصة في خلواتهم، بعضهم؛ بعض هؤلاء اليهود، {بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ}، قال بعضهم لبعض منكرًا عليه، أتحدثونهم؛ أتحدثون أهل الإيمان، {بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ}، الفتح يأتي في اللغة بمعنى الحكم، { .................... رَبَّنا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ}[الأعراف:89]، أي أحكم بيننا وبين قومنا بالحق، وأنت خير الحاكمين، ومنه قول الله –تبارك وتعالى- لمشركي قريش بعد غزوة بدر {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا ............. }[الأنفال:19]، إن تستفتحوا، وذلك أنهم قبل المعركة قالوا اللهم اقطعنا للرحم، وآتانا بما لم يعرف، فأحِنه الغداة، فطلبوا حكم الله –تبارك وتعالى- في أن يهلك الله –تبارك وتعالى- الذي هو أكثر ممن يبغضهم الله –تبارك وتعالى-، هم أو المسلمون، هم أو النبي –صلوات الله وسلامه عليه-، والذي جاء بما لا يعرف، فحكم الله –تبارك وتعالى- حكمه، بأن الذي وقع عليه الهلاك في صبيحة يوم بدر هم المشركون، فقال لهم الله إن تستفتحوا أي إن تطلبوا حكم الله –تبارك وتعالى- فقد جاءكم حكمه، بنصره نبيه محمد –صلى الله عليه وسلم-، ويأتي الفتح بمعنى المدد والعلم والخير، ما يفتح الله –تبارك وتعالى- به من خير، ومنه قول الله –تبارك وتعالى- {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا}، ففتح الرحمة هو إسداها وإجراءها من الله –تبارك وتعالى-.

{أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ}، أما بنعمه التي أنعمها عليهم، من إرسال الرسل ومما شرفهم الله –تبارك وتعالى- به وأعطاهم الله به، أو بالأحكام التي حكم الله –تبارك وتعالى- فيهم، من أيام المحن والشدة التي أذلهم الله –تبارك وتعالى- بها، وسلط عدوهم عليهم فيها، {أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ}، ليحاجوكم؛ المحاججة هي من إدلاء الحُجة، والحُجة هي الدليل الذي يقوله أحد المتجادلين، ليثبت به حجته ورأيه وقوله، {أَفَلا تَعْقِلُونَ} هذا من كلامهم كذلك، أنهم ينهى بعضهم بعض، ويوصي بعضهم بعض بكتمان حكم الله –تبارك وتعالى- فيهم، سواء كان هذا الحكم ما أنزله الله –تبارك وتعالى- فيهم من عقوبات ومن أحكام سابقة، طبعًا في أسلافهم، أو ما مَنَّ الله –تبارك وتعالى- عليهم مما مَنَّ به، لا يريدون لأحد أن يأخذ الحجة عليهم من ألسنتهم، فيتواصون أن يكتموا تاريخهم، سنة الله –تبارك وتعالى- فيهم، ومن أعظم ما تواصوا على كتمانه ما أمرهم الله –تبارك وتعالى- به، من أن يؤمنوا بهذا النبي الخاتم –صلوات الله وسلامه عليه-، فإن هذا أعظم ما وصاهم الله –تبارك وتعالى- به، وفتح به عليهم من أنه سيأتي نبي إذا اتبعوه ونصروه وقاموا معه، أزال الله –تبارك وتعالى- عنهم كل ماكان عليهم من الآصار والأغلال، كما قال الله –تبارك وتعالى- فيما قاله لموسى –عليه السلام- { .................... قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ}[الأعراف:156]، {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[الأعراف:157]، فهذا عهد الله –تبارك وتعالى- ووصيته لموسى التي وصاه بها، وهو أن الله سيرسل نبيًا كل من آمن به، كل من عزَّره، كل من نصره، فإن كل الأغلال والآصار التي أخذت عليهم؛ على بني إسرائيل بسبب ظلمهم وكفرهم، فإنها سترفع، ومن ذلك مثلًا مما رفعه الله –تبارك وتعالى- أن قبول التوبة من الشرك ومن الكفر، أن ما من مسلم يقع في شركٍ أو كفر ويتوب إلى الله –تبارك وتعالى-، فإن الله –تبارك وتعالى- يقبل توبته بغير قتل، ومما أنزل على موسى أنه لم يقبل توبة الذين عبدوا العجل إلا بالقتل، {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ}، فهذا من أعظم مما بشروا به وأمروا به، ولكنهم تعاهدوا وتواصوا على كتمان ذلك.

فكان إذا صدر من بعضهم لبعض أهل الإيمان، قولٍ على نحو هذا القول، بأن النبي محمد هو من بشر الله –تبارك وتعالى- به في التوراة، أو بعض الوقائع التي وقعت لهم من الخير أو الشر، عند ذلك يأتوا ويلوموا مما أفشى منهم سرًا من هذه الأسرار، التي تعاهدوا على كتمانها وجعلوها عند أنفسهم، فيقولوا  {بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ}، قال –جل وعلا- تعقيبًا على ما قالت بعضهم لبعض هذه {أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ}[البقرة:77]، أو لا يعلمون؛ وقد علموا أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون، فإن هذا من بديهات الاعتقاد، مما أنزل الله –تبارك وتعالى- على كل رسله، ومما بلغه الرسل أن الله –تبارك وتعالى- الإله الذي لا إله إلا الله، خالق السموات والأرض لا يخفى عليه شيء من أمر عباده –سبحانه وتعالى-، وهؤلاء أهل دين ورسل كتاب، فألا يعلموا هذه الحقيقة، أو لا يعلمون أن الله –سبحانه وتعالى- يعلم ما يسرون، والسر ضد الجهر، وما يعلنون، فما يفعلونه في سرهم وما يفعلونه في علننهم، فإن الله –تبارك وتعالى- عليمٌ به.

الأمر الأخر المانع لهؤلاء من الإيمان بالرسول –صلوات الله وسلامه عليه-، قال –جل وعلا- {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ}[البقرة:78]، ومنهم؛ من أهل الكتاب، أميون؛ الأمي هو الذي لا يقرأ ولا يكتب، قيل أنه سمي أمي نسبةً إلى أمه، كأنه لازم أمه، ولم يخرج ولم يبتعد عنها لطلب علم، فسمي أميًا لذلك، وكان العرب يسمون الأميون؛ الأم الأمية وذلك لبعدها عن الكتابة والتعلم، كما في الحديث «إنَّا أمة أمية، لا نقرأ ولا نحسب الشهر هكذا وهكذا وهكذا» من قول النبي –صلوات الله وسلامه عليه-، ومنهم من أهل الكتاب أميون لا يعلمون الكتاب، أي لم يقرءوا الكتاب ولم يعلموه، الكتاب المنزل على رسولهم، التوراة المنزل على موسى –عليه السلام-، إلا أماني لا يعرفون من الدين، ليس عندهم علم بالدين إلا مجرد الأماني، الأماني هو ما يتمناه الإنسان ويرجو تحقيقه، وهنا ليس بحقيقة، واليهود قد كانت لهم أماني كثيرة جدًا، من أمانيهم أنهم شعب الله الذي اختاره وباركه وقدسه، من أجل نسبته إلى إبراهيم وإسرائيل، وأن هم أهل الجنة، وأن الجنة هي لهم وحدهم دون الناس، فهم يقولون بأن الجنة ليست لأحد إلا لنا، كما في قول الله –تبارك وتعالى- عنهم {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى}، قال اليهود لن يدخل الجنة إلا يهودي، وقال النصارى لن يدخل الجنة إلا نصراني، فهذه من جملة أمانييهم، كذلك من جملة أمانيهم أنهم مهما فعلوا من المعاصي والكفر، فإنهم لو عوقبوا فلا يعاقبون إلا أيام قليلة في النار، كما في قول الله –تبارك وتعالى-  {قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ}، أي لو فرض وعُذبنا على شيء من المعاصي والذنوب والكفر، فإن الله لن يدخلنا النار إلا أيامًا معدودة، كل هذه أماني.

{وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ}، طبعًا الأماني ليست من الكتاب، ولذلك يقولها العلم هنا استثناء منقطع، قال –جل وعلا- {وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ}، أي ليس عندهم من الدين إلا هذه الظنون، الظن هو الرجحان؛ الظن هو الرجحان وهو ترجيح أحد الاحتمالين في الأمر، والظن لا يغني من الحق شيئًا، فمجرد هذه الظنون التي بنوها على أوهام ليست من الدين الحق، بل هي مما اخترعوه لأنفسهم، أو مما افتروه أو أقنعوا به أنفسهم في النهاية، أي كذبوه ثم صدقوا هذا الذي كذبوه وافتروه.

ثم قال –جل وعلا- {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ}[البقرة:79]، الويل هي كلمة تهديد ووعيد، وقيل إن ويل وادٍ في النار يهدد الله –تبارك وتعالى- به هؤلاء، {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ}، ويل لهؤلاء اليهود أهل الكتاب الذين يكتبون الكتاب بأيديهم،{ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ}، كلامهم يكتبونه، وقيل أنه بأيديهم، والإنسان لا يكتب إلا بيده، ولكن بأيدهم هنا للتأكيد، كم مثل قول الله –تبارك وتعالى- {وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ}، وقوله {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ}، والقول باللسان، أو يقولون بأفواههم وهذا للتأكيد، {يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ}، بالفعل هذا الكتاب كتبوه بأيديهم، أو يكتبون الكتاب بأيديهم أي ما يفترونه، والحال أنه يفترونه من عند أنفسهم، ثم يقولون –وهم الذين كتبوه من عندهم- هذا من عند الله، أي هذا الكلام -الذي نكتبه- هذا من عند الله، ينسبون ما كتبوا سواءً كان من فتاوى باطلة، أو تحريف لكلام الله –تبارك وتعالى- عن مواضعه، وتأويل له، هذا الذي يقدمونه للناس؛ هذا من عند الله.

قال –جل وعلا- {لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا}، الشراء استبدال، استبدلوا بإيمانهم بالله –تبارك وتعالى- وتمسكهم بالحق، تركوا هذا أن يأخذوا الثمن القليل، وهو ما يعطون في مقابل هذه الرشا، أو ببقائهم في رئاساتهم أو في مناصبهم، ومهم أخذوا فإنه قليل ولو أخذوا الدنيا، لو أخذ آخذٌ الدنيا كلها في مقابل تخليه عن الدين، فقد أخذ ثمنًا قليل، وذلك في أن الدنيا كلها بالنسبة للآخرة إنما هي جزاءٌ قليل، لأن من آمن فثمن إيمانه بعد ذلك الجنة، الجنة أجرٌ عظيمٌ جدًا، فمن أخذ الكفر؛ ورضي بالكفر في مقابل ما يعطى في هذه الدنيا، فقد أخذ ثمنًا قليلًا،{لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا}، قال –جل وعلا- {فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ}، تأكيدٌ لهم مرة ثانية، وعيدٌ لهم مرةً ثانية، مما كتبت أيديهم وينسبونه إلى الله –تبارك وتعالى- {وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ}، مما يكسبون من هذا المال السحت والحرام، فقد صنعوا بذلك جريمتين؛ الجريمة الأولى كذبهم على الله –تبارك وتعالى-، والجريمة الثانية أنهم أخذوا بهذا مالًا حرامًا؛ مال سحت؛ أي كسبوه بهذا، فتوعدهم الله –تبارك وتعالى- وتهددهم بالويل على هذين الأمرين، ما كتبت أيديهم من الباطل والزور الذي نسبوه إلى الله، وكذلك ما أكلوه من الرشا، ومن هذه الأموال والكسب الخبيث، والمعنى بعد ذلك أن هؤلاء الذين يقع منهم هذه الجرائم، كيف يطمع في إيمانهم! إيمان مثل هؤلاء بعيد.

فقوم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه، تحريف لفظي وتحريف معنوي، ثم يتعاهدون على كتمان الحق، ويعلمون الحق ويتعاهدون ألا ينشروا هذا الحق، وألا يقولوه لغيرهم، ثم أنهم أهل العلم منهم، هذا الصِنف الأول؛ وهم أهل العلم منهم، الثاني أهل الجهالة والأتباع والرعاع أميون، لا علم عندهم عن الكتاب، وإنما يعيشون على مجرد الأماني، نحن شعب الله المختار، نحن أهل الجنة، الجنة مخلوقة لنا من دون سائر الناس، أخذنا بركة الرب بالوراثة والانتساب إلى إبراهيم، فإذا كان هذا حال علمائهم، وهذا حال عامتهم، فهل يرجى من هؤلاء أن يؤمنوا بالدين الحق! يصبح الإيمان بالدين الحق المنزل على النبي أمرٌ بعيد مستبعد، وكأن الله –تبارك وتعالى- هنا يقطع طمع أهل الإيمان، في أن يؤمن هؤلاء ببيان حقيقة هذا الشعب؛ شعب بني إسرائيل، وأنهم على هذا النحو، علماء مفترون كذابون على الله –تبارك وتعالى- استبدلوا بدين الله –تبارك وتعالى- هذا الرشا وهذا الباطل الذي يأكلونه، وعامةٌ جهال يعيشون في دينهم على مجرد الظنون، وأنهم أهل الجنة، وأنهم شعب الله المختار.

جملةٍ أخرى من كذبهم على الله، قال –جل وعلا- {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ}[البقرة:80]، وقالوا أي اليهود، {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً}، لن بنفي الفعل في المستقبل وتأكيده، تمسنا النار؛ المقصود هنا النار الآخرة، إلا أيامًا معدودة، أي عند حصول أي ذنب لنا فإن الله لا يدخلنا النار إلا أيامًا معدودة، ولا نبقى فيها، أي نخلد فيها خلود الكفار، قال –جل وعلا- {قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا}، هذا من إقامة الحُجة عليهم، يسألون هذا السؤال، هل اتخذتم عند الله عهدًا بذلك؟ هل عندكم عهد، هو وعد مؤكد بينكم وبين الله، عاهدكم الله على هذا، أنه لن يدخل أي يهودي النار إلا أيام معدودة، مهما صنع ولو كان كفر وفعل ما فعل، فلن يدخله النار إلا هذه الأيام المعدودة، {أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ}، إذا كنتم اتخذتم عند الله عهدًا، فإن الله لا يخلف عهده.

{أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ}، هذا الأمر الأخر، أنتم بين أمرين؛ إما أن تكونوا عندكم عهد من الله على هذا الأمر الذي تقولونه، وهو أنكم لن تدخلوا النار إلا أيامًا معدودة، وإما أنكم تقولون على الله قولًا بلا علم، والحال ما دام أنهم لا عهد معهم من الله، يقول لهم بأنكم لن تدخلوا النار إلى أيام معدودة، فلا يبقى إلا الفرض الثاني، الذي لا ثالث له، أنكم تقولون على الله ما لا تعلمون.

ثم بيَّن –سبحانه وتعالى- كيف الحكم عنده، والسنة في العقوبة عنده، قال {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}[البقرة:81]، نقف عند هذه الآية، ونكمل في الدرس الآتي إن شاء الله.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد.