الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله الأمين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه, ومَن اهتدى بهديه, وعَمِلَ بسنته إلى يوم الدين.
وبعد فيقول الله-تبارك وتعالى- : {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ}[يونس:59], {وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ}[يونس:60], {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}[يونس:61], {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}[يونس:62] {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ}[يونس:63], {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}[يونس:64], الآيات مِن سورة يونس, وفي هذا السياق يُبَيِّن الله -تبارك وتعالى- جريمةً جديدةً مِن جرائم هؤلاء الكفار, المشركين, المعاندين لرسالة النبي محمد -صلوات الله والسلام عليه-؛ فيقول لهم الله -تبارك وتعالى- : {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ........}[يونس:59], {أَرَأَيْتُمْ}, أخبروني, هذه {أَرَأَيْتُمْ}, مُضَمَّنَة في اللغة معني أخبروني, أخبروني, قولوا لي ما الرزق الذي أنزله الله -تبارك وتعالى- لكم؟ وهذا الرزق يشمل الأنعام التي خلقها الله -تبارك وتعالى- لهم, الزروع والثمار التي هي مِن الله -تبارك وتعالى-؛ مِن أنزال هذا المطر, ومِن إنبات هذا الزرع, {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلالًا}, كان للعرب المشركين تقسيمات جاهلة تقوم على الظنون والخرافة والجهل, فيما يجعلونه حلال يُحِلُّونَهُ, وما يحرمونه مِن السَّائِبة والبَحِيْرَة والحَام, ومما يجعلونه لأصنامهم, مِن المَيْتَة التي يأكلونها, أنواع مِن الذكور والإناث, مما في بطون الأنعام هذا أمرًا كان يُحِلُّونَ مِن هذه الأنعام, ويُحَرِّمُونَ بأهوائهم, وكذلك الحال في الزروع والثمار؛ فإنهم يجعلون شيئًا لله وشيئًا لأصنامهم, وما كان لله فأحيانًا يأخذوا منه ويعطونه للأصنام, ويحرموا شيء منه, ويُحِلُّوا شيء؛ فالله -تبارك وتعالى- يقول لهم هذا الرزق الذي أنزله الله -تبارك وتعالى- إليكم, وهو خالقة -سبحانه وتعالى- ومستيه ومجريه, وصفكم أنَّ هذا حلال وهذا حرام, {قُلْ أَرَأَيْتُمْ}, أخبروني, {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ}, أي بأهوائكم, {حَرَامًا وَحَلالًا}, تُحِلُّونَ وتُحَرِّمُونَ بالهَوَى والجهل, {قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ}, هل أذن لكم الله -تبارك وتعالى- في هذا التحليل والتحريم؟ والحال أنَّه الواجب أنْ يُعْرَفَ حُكْم الرَّب -تبارك وتعالى-؛ لأنه هو الذي خَلَقَ هذا الرزق, وهو الذي يسوقه, وهو الذي يعطيه عباده -سبحانه وتعالى-؛ فأي إنسان له عقل كان ينبغي أنْ يرجع إلى حُكْمِ ربه, وإلى إلهه فيما أعطاه, ماذا آخذ مِن هذا؟ وماذا أترك؟ فالأخذ في هذا والترك, التحليل والتحريم, إنما هو حق الخالق, الرازق -سبحانه وتعالى-, وليس هو حقًا ولا متروكًا للمخلوق على أنْ يتصرف على هذا النحو؛ فيحل ما يشاء, ويُحَرِّم ما يشاء بهواه دون أمر, ودون حُكْم مِن الرب, الإله -سبحانه وتعالى-, {آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ}, فيما تُحِلُّونَهُ وما تُحَرِّمُونَهُ, {أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ}, أم أنكم مفترون على الله؟ والحال أنهم مفترون على الله, كاذبون, الافتراء هو الكذب, كاذبون على الله -تبارك وتعالى- في أنْ ينسبوا له ما يُحِلُّونَ وما يُحَرِّمُونَ بأهوائهم, إما ينسبوا له أنَّ هذا أي نفعل بما شاء الله -تبارك وتعالى-, وأنَّ مشيئتنا هي إرادة الرب -تبارك وتعالى-, كما قالوا محتجين بهذا : {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ}[النحل:35], أي هذه مشيئته, وهذه إرادته ما نفعل إنما الذي شاءه الله لنا وأراده الله -تبارك وتعالى- منا هكذا, {أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ}, والحال أنهم مفترون على الله -تبارك وتعالى-.
ثم تهددهم الله -تبارك وتعالى- قال : {وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}[يونس:60], الافتراء على الله جريمة أكبر الجرائم, {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا}, الله وتكذب عليه, فتحل وتحرم؛ لذلك قال -سبحانه وتعالى- للمؤمنين : {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ}[النحل:116], {مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[النحل:117],{مَتَاعٌ قَلِيلٌ}, في الدنيا, {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}, في الآخرة فالله يقول لهم : {وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ........}[يونس:60], ما ظنك أنَّ المعاملة التي سيعاملك الله بها يوم القيامة, هل سيرضى الرَّب عن فعلك هذا الإجرامي, القبيح, ويتجاوز عن افترائك عليه, وكذبك عليه, وتحليلك وتحريمك بما لم يشاءه -سبحانه وتعالى-؟ {وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ........}[يونس:60],ثم قال -جلَّ وعَلا- : {إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ}, في أنْ يُبَيِّنَ لهم على هذا النحو, الله له فضل على الناس, تفضله -سبحانه وتعالى- هو إنعامه, ومِن فضله هنا إنه يُبَيِّن له هذا البيان, ويوضح له هذا التوضيح, ويخوفهم مِن مَغَبَّةِ وعاقبة هذا الإجرام الذي يجرمونه في حق الرَّب الإله -سبحانه وتعالى-, قال -جلَّ وعَلا- : {........وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ}[يونس:60], {وَلَكِنَّ}, الحال أنَّ {أَكْثَرَهُمْ}, أكثر الناس لا يشكرون ربهم -سبحانه وتعالى-, عندما يُبَيِّن لهم هذا البيان, ويحذرهم هذا التحذير, والشكر مِن العبد اعتراف أولًا وإيمان بنعمة الله -تبارك وتعالى-, وقولٌ باللسان حمد لله -تبارك وتعالى-, وعمل بالأركان فيما يرضاه الرَّب -تبارك وتعالى-, كل هذا مِن معاني الشكر, وأما الشكر مِن الله -تبارك وتعالى- لعباده؛ فالله غفور شكور -سبحانه وتعالى-؛ بأنه يجازيهم على ما يفعلونه مِن الأمور الحسنة, الحسنة بِعَشر أمثالها عند الله تنمية عملهم, فالله غفور -سبحانه وتعالى-, شكور-جلَّ وعَلا- يُجَازِي بالحسنة عشرة, ويُعْطِي مِن لدنه فضل واسع؛ فإنَّ الجنة ليست ثمنًا, ولا هي مكافئة لعباده, ولكنها فضل مِن الله -تبارك وتعالى-, {وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا}, فسعي العباد المؤمنين لله -تبارك وتعالى- يشكرهم الله -بارك وتعالى- شكر عظيم جدًا بأنْ يزيده ويزيده مِن فضله -سبحانه وتعالى-, {........إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ}[يونس:60].
ثم قال -جلَّ وعَلا- : {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ........}[يونس:61], هذه الآية مِن الصعب والشَّق آيات الكتاب الكريم؛ لأنها تذكير بأنَّ الرَّب -سبحانه وتعالى- مُطَّلِعٌ على عبده في كل وقت ولحظة, {وَمَا تَكُونُ}, الخطاب للنبي -صلوات الله والسلام عليه-, وهو خطابٌ للجميع, {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ}, أي شأن مِن شؤونك, صَغُرَ هذا الشأن أم كُبُرَ, في أي عمل مِن أعمالك, حاجة مِن حاجاتك, أي شيء حقيرها وصغيرها, كبيرها وعظيمها, {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ}, لك أو لغيرك, {وَمَا تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ}, وتلاوة القرآن شأنٌ مِن الشؤون, ولكنَّ الله -تبارك وتعالى- خصة؛ لأنَّ هذا أعظم الشؤون, أعظم ما يكون فيه العبد أنْ يكون تاليًا لكتاب الله -تبارك وتعالى-, {وَمَا تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ}, تقرأ مِن قرآن, هذا أعلى وأشرف الشؤون للعبد أنْ يكون تاليًا لكتاب الله -تبارك وتعالى-؛ لأنَّ هذا كلامه, كلام الرَّب, الإله -جلَّ وعَلا-, {وَمَا تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ}, أيها الخَلْق, {تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ}, {مِنْ}, لتأكيد النفي, أي عمل ما, في أي عمل مِن أعمالكم, {إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ}, {إِلَّا كُنَّا}, الرَّب, الإله -سبحانه وتعالى-, {عَلَيْكُمْ}, أيها الناس, {شُهُودًا}, حاضرين, الشهادة هي المشاهدة والحضور, أي أنت تحت سمع الله -تبارك وتعالى-, وتحت بصره, أنتم أيها العباد تحت سمع الله -تبارك وتعالى-, وتحت بصرة, وفي علمه, في أي شأن مِن شئونكم, في أي مكان مِن أماكنكم, {إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ}, حال كونكم تبدؤون المباشرة فيه, مِن يوم ما تبدأ المباشرة في هذا العمل تفيضوا فيه, إلا والرب -تبارك وتعالى- حاضر مُشَاهِد -جلَّ وعَلا-.
ثم قال -جلَّ وعَلا- : {.........وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ.........}[يونس:61], {يَعْزُبُ}, يغيب, لا يغيب عن ربك -سبحانه وتعالى-, {مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ}, {مِثْقَال}, وزن, {ذَرَّةٍ}, نملة صغيرة؛ فوزن هذه الذرة الصغيرة وزنها مِن أي شيء, مِن أي مادة هذه لا تَعْزُبُ عن الله -تبارك وتعالى-, سواء كانت هذه الذرة أو مثقال ذرة في الأرض, وما أوسعها, وما أكثر ما فيها مِن المخلوقات, أو في السماء وهي أعظم وأوسع مِن هذه الأرض الصغيرة التي ما هي حلقة في فلاة, لو مثقال ذرة لا يغيب عن الله -تبارك وتعالى-, لا يعزب أي لا يغيب عنه في كل لحظة ووقت؛ فالله -تبارك وتعالى- مُطَّلِعٌ على كل خَلْقِهِ دقيقه وجليله, ولا يعزب عن الله, يغيب عنه في كل لحظة, وفي كل وقت شيء مِن ذلك, {وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ}, أي مِن الذرة, {وَلا أَكْبَرَ}, مِن ذلك ذرة, مَجَرَّة, {إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}, إلا وقد كتبها الله -تبارك وتعالى-, ودَوَّنَ ذلك في {كِتَابٍ مُبِينٍ}, واضح, بَيِّن, لا يغادر شيء مِن هذه الموجودات إلا وهي فيه كما هي فيه, وكذلك في كل تحولاتها, في كل لحظة كل هذا مكتوب في كتاب القَدَر الذي قَدَّرَ الله -تبارك وتعالى- فيها كل مقاديره, كل خَلْقِهِ, كل مكتوب, محسوب, ثم هو لا يغيب عن الله -تبارك وتعالى-؛ فهو في عِلْمِ, الله وكذلك قد كتبه الله -تبارك وتعالى-, هذه الآية عظيمة جدًا, وهي مِن أعظم آي الكتاب في ما بَيَّنَت فيه مِن عِلْمِ الله -تبارك وتعالى- ومشاهدته لكل خَلْقِه, وإنه لا يعزب عنه شيء -سبحانه وتعالى-, وإنه مع كل احد وتنويه عظيم أنَّ الله -تبارك وتعالى- مع رسوله, {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ}, وكذلك تنويه بأنَّ قراءة القرآن هي أعظم شؤون العبد, {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}[يونس:61].
ثم قال -جلَّ وعَلا- : {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}[يونس:62], {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ}[يونس:63], {أَلا}, فاعلموا, لا إعلامية, {إِنَّ}, للتأكيد, {أَوْلِيَاءَ اللَّهِ}, الوَلَيّ في لغة العرب هو كل مَن قام بينك وبينه علاقة تجعله يواليك وأنت تواليه, والولاية نصرة, ويدخل معها كذلك ما يتبع هذه النصرة مِن أشد الأزر والإعانة والمحبة, والعرب تُسَمِّي الأخ وَلِيّ, والعبد تسميه مَوْلَى, أي توجد ولاية بين السيد وعبده, والسيد تسمية مَوْلَى ومُوْلَى, والحليف تسمية كذلك مَوْلَى, الله -سبحانه وتعالى- يوالي عبادة المؤمنين, فالله وليهم, هو مولاهم -سبحانه وتعالى- وذلك مِن هذه الصلة التي قامت بين أهل الإيمان, وبين ربهم -سبحانه وتعالى- مِن جانب أهل الإيمان, إيمانهم بالله -تبارك وتعالى- ومحبته له, وموالاتهم له ونصرتهم له -سبحانه وتعالى-, ومِن جانب الرَّب -تبارك وتعالى- ما يَكْلَأُ به أهل طاعته مِن المحبتة والرضوان والنصرة والهداية, {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ........}[البقرة:257], فهذا مِن ولاية الرَّب -سبحانه وتعالى-, أنه يخرجهم مِن ظلمات الكفر والشرك إلى نوره -سبحانه وتعالى-, يهديهم ربهم, يُثَبِّتُهُم, هذا أنواع رحمة الله -تبارك وتعالى- ومعاملته لأهل طاعته هذا يفوق الوصف؛ فعناية الرَّب وحفاوته ومحبته لأهل طاعته ورحمته بهم, وجزاؤه وصنعة الجميل بهم في الدنيا والآخرة, هذا أمر عظيم جدًا, الله يخبر بأنَّ أولياءه قال : {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ}, أحبابه وأنصاره الذين يحبهم ويواليهم الله -تبارك وتعالى-, وينصرهم ويؤيدهم, وهم مَن قاموا بهذا, قال -جلَّ وعَلا- : {........لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}[يونس:62], في كل ما يخاف مِن أي شيء مما سيأتي, { وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}, على شيء ماضي, وهذا أمان لكل شيء لا كلمة تصف الأمان أكبر مِن هذه الكلمة, {........لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}[يونس:62], فهم في الأمن والسلامة والعافية التامة, والفلاح العظيم, والفوز الكبير أولياء الله؛ فهذا تطمين لهم, وبيان أنه لا يمسهم شيء, لا يضرهم شيء مما خَلَّفُوهُ, ولا مِمَن مما هو قادمون عليه, {........لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}[يونس:62].
ثم بَيَّنَ -سبحانه وتعالى- مَن أولياءه قال : {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ}[يونس:63], الذين آمنوا به -سبحانه وتعالى-, والإيمان أركانه ستة أنْ تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر, وتؤمن بالقَدَرِ خيره وشره مِن الله, وكل عناصر الإيمان الخمسة راجع إلى الإيمان بالله -تبارك وتعالى-, كلها ترجع إلى الإيمان بالله -جلَّ وعَلا-؛ وذلك أنَّ الإيمان بالملائكة أنَّ الملائكة هم خَلْقه, هم عبيده, هم كما وصف الله -تبارك وتعالى- هم القائمون بأمره؛ فهم ملائكته والرسل رسله؛ رسل الرَّب -تبارك وتعالى-, والكتب كتبه هو الذي أنزلها -سبحانه وتعالى-, واليوم الآخر يومه هو الذي يقيمه لقيام العباد بين يديه -سبحانه وتعالى-, وكل ما في فِعْلهُ وخَلْقةُ في هذا اليوم القضاء والقدر هذا قضاؤه وقدره, وأمره الكوني القَدَرِي -سبحانه وتعالى-, {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ}[يونس:63], يخافونه -سبحانه وتعالى-, التقوى هي الخوف مِن الله -تبارك وتعالى-, وأنْ يتخذ العبد حماية بين عقوبة الله -تبارك وتعالى-, {وَكَانُوا يَتَّقُونَ}, يخافون ربهم -سبحانه وتعالى-, ولا يكون العبد متقيًا لله -تبارك وتعالى- إلا إذا عمل بطاعته؛ فلا يمكن أنْ يتقي العبد عذاب الله إلا أنْ يطيعه فيفعل ما يؤمر به, وينتهي عن ما ينهاه عنه, فهذه التقوى, {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ}[يونس:63], قال -جلَّ وعَلا- : {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}[يونس:64], {لَهُمُ الْبُشْرَى}, الإخبار بما يسر, {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}, الله -تبارك وتعالى- يُبَشِّر عباده المؤمنين بأنواع مِن البشرى منها؛ مِن هذه البشرى اطمئنانهم إلى إيمانهم, وطاعتهم إلى الرَّب -تبارك وتعالى-, وانشراح صدورهم فإنَّ هذا بشرى, فهذا الذي يحسه أهل الإيمان مِن الثبات على الحق, والرضا بأمر الله -تبارك وتعالى-, هذه بشرى, كما قال -جلَّ وعَلا- : {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}[الرعد:28], فهذه طمأنينة القلب التي يشعر بها أهل الإيمان, هذا مِن البشرى, هذه مِن المُبَشِّرَات أنه على الحق, وأنه على طريق الرب -تبارك وتعالى-, كذلك لهم البشرى بالذِّكْرِ الحَسَن, ما يضع الله -تبارك وتعالى- مِن القبول في الأرض فإذا سمع مِن أهل الإيمان الثناء الحسن يثنون عليه هذا دلَّ على أنَّ هذه بُشْرَى للمؤمنين, وذلك أنَّ المؤمنين هم شهداء الله -تبارك وتعالى- في الأرض فما أثنوا عليه خيرًا فهذا يكون دليل خير, كما قال النبي: «مَن أثنيتم عليه خيرًا وجبت له الجنة, ومَن أثنيتم عليه شرًا وجبت عليه النار أنتم شهداء الله في أرضه», ولقد جاء في الحديث : «أنَّ الله -تبارك وتعالى- إذا أَحَبَّ عبدًا قال يا جبريل : إني أحب فلان فأحبه؛ فيحبه جبريل, ثم إنَّ جبريل ينادي في الملائكة إنَّ الله يحب فلانًا فأحبوه؛ فيحبه أهل السماء, ثم إنَّ الله يضع له القبول في الأرض», القبول عند أهل الإيمان؛ فيصبح محل راحة وأمن وفرح مِن أهل الإيمان, وثقة فيه, فيثنون على أخلاقه ودينه وأمانته إذا كان الشخص مِن أهل الإيمان, له ذِكْرٌ حَسَن في أهل الإيمان هذه بشرى, كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لِمَن أُثْنِيَ عليه خيرًا : «عاجلوا بشرى المؤمن إنه يبشر بهذا», كذلك الرؤية الصالحة, كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- : «لم يبق مِن النبوة إلا المُبَشِّرَات, قيل وما المُبَشِّرَات يا رسول الله, قال النبي -صلى الله عليه وسلم- : الرؤية الصالحة يراها العبد الصالح أو تُرَى له», فالعبد الصالح إذا رأى رؤية كذلك تكون هذه الرؤية رؤية صالحة تُبَشِّرُهُ بالجنة, تُبَشِّرُهُ بالرضوان, رؤيا النبي -صلى الله عليه وسلم- مِن المُبَشِّرَات دون شك؛ لأنَّ مَن رأى النبي حقًا وصدقًا على هيئته وصورته التي كان عليها, ولا تكون رؤيا النبي حق إلا إذا رُؤِيَ النبي على الصفة التي كان بها؛ فإنَّ الشيطان لا يتمثل بصورته -صلوات الله والسلام عليه-, فهذه المُبَشِّرَات فالرؤية الحسنة يراها العبد الصالح, أو تُرَى له, هذه أنواع مِن المُبَشِّرَات يُبَشَّرُ بها العبد المؤمن في الدنيا, إذا رأى أنه فَرِح بدينه ورأى اطمئنان بهذا, واطمئن قلبة بهذا الدين, وثبت عليه ورأى أنه في خير وفي نعمة, وأنَّ تمسكه بالدين هو حياته, كما قال النبي : «ثلاثة مَن وجدهن وجد بهن حلاوة الإيمان؛ أنْ يكون الله ورسوله أحب إليه مما سِوَاه, وأنْ يحب المرء لا يحبه إلا لله, وأنْ يكره أنْ يعود في الكفر كما يكره أنْ يُقْذَفَ في النار», فإذا رأى هذه رأى حلاوة الإيمان وطمأنيته في القلب, هذه بشرى إنه على الحق والصدق, وإذا جعل الله -تبارك وتعالى- لسان صدق عند أهل الإيمان يثنون عليه بالخير فهذهَ كذلك بشرى, وإذا كانت هناك رؤية مِن الرؤى الصالحة كانت هذه بشرى, وكذلك في وقت النبي مَن كان في وقت النبي -صلوات الله والسلام عليه-, ومَن رآهم النبي أنهم على الخير, وأنهم يموتون, أو رأى لهم منازلهم في الجنة, أو أخبره الله -تبارك وتعالى- بأنَّ هذا العبد هو مِن أهل الجنة فلا شك أنَّ هذه بشرى وأكيدة, بشرى أكيدة فإذا قال النبي أنت في الجنة, فلان في الجنة كما قال النبي : «أبو بكر في الجنة, عمر في الجنة, عثمان في الجنة, عليّ في الجنة, سعيد في الجنة, سعد في الجنة, طلحة في الجنة, الزبير في الجنة», فهؤلاء العشرة الذين بشرهم النبي بأعيانهم بأنهم في الجنة, هذه بُشْرَى مِن الله -تبارك وتعالى-, وكذلك تفسير النبي لبعض الرؤى لأصحابه وأنه قال لعبد بن سلام لما قال له : رأيت كأني في روضة, وكأن في وسط الروضة عمودٌ قائم لا أرى رأسة في السماء, ثم أنه جاءني مِنْصَف أي خادم, فقال لي اصعد فصعدت ظللت أصعد أصعد أصعد حتى وصلت إلى أخر العمود فإذا عروة أو حلقة فتمسكت بها, يقول : ثم استيقظت وإنها لفي يدي أي ما خرجت منها, فقال له النبي : أَوَّلَ النبي رؤياه قال له : إنَّ هذه الرؤية هي الإسلام, وهذا هو التوحيد, وأنت على الإسلام, قال هذه العروة الوثقى وأنت على الإسلام حتى تموت, فهذه رؤية صحيح رآها فأول له النبي هذه الرؤية, والشاهد أنَّ تأويل النبي حق وصِدْق, وأنه على الإسلام حتى يموت, فتكون هذه بشرى, فهذا كلها مِن أنواع البشرى قال -جلَّ وعَلا- : {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ........}[يونس:64], أول منازل الآخرة عند الاحتضار, وهذه منزلة بين الدنيا والآخرة, وهذه المؤمن يُبَشَّرُ فيها قبل أنْ تخرج روحه, وقبل أنْ يأتي إلى البرزخ فإنَّ الله -تبارك وتعالى-, يأتية ملائكة الرحمة فيراهم عند بصرة قبل أنْ تُقْبَض روحة, ويأتي مَلَكُ الموت عند رأسه ويقول : (أخرجي أيتها الروح الطيبة كانت تسكن في الجسد الطيب), فمعاينة المؤمن لملائكة الرحمة الذين يستبشرون له, ويأتون بكفن وحنوط لروحه هذا يستبشر, وتكون هذه أول بشرى مِن منازل الآخرة, وممكن أنْ تكون هذه بشرى في الدنيا أنَّ الله يبشره, ممكن أيضًا أنها تكون هذه مِن مبشرات الدنيا؛ لأنه لم يخرج مِن الدنيا بعد, وإنما يراها فهي على كل حال في هذه الحافة بين انطلاقه مِن الدنيا ودخوله في الآخرة, كذلك البشرى في الآخرة وهذه حقيقة في قبرة؛ فإنَّ المؤمن يُبَشَّر في قبره, يقال له بعد فتنة القبر هي مَن ربك؟ ما دينك؟ ماذا تقول في هذا الرجل؟ يُثَبِّتُهُ الله -تبارك وتعالى-, ثم يُرَى مقعده في الجنة, يقول له : هذا مكانك يوم يبعثك الله في الجنة فيقول ربي أقم الساعة حتى أرجع إلى أهلي ومالي, يقال له نم نومة عروس التي لا يوقظها إلا أحب أهلها إليها, فيكون فيها راحة, أحلى عروس في ليلتها تكون أحسن ليلة تنامها, ويقال : نم أيها المؤمن في قبرك نومة العروس التي لا يوقظها أحبة أهلها إليها فَيُوقَظ, كذلك عندما يوقظ يُبَشَّرُ أنَّ هذا يومك الذي كنت توعده, {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ........}[يونس:64], ثم قال -جلَّ وعَلا- : {لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ}, كلمات الله لا تُبَدَّل, موعوده لا يُبَدَّل, وكذلك وعده لعبد مِن عباده بأنه على الجنة لا يمكن أنْ يبدله الله -تبارك وتعالى- وأنْ يُغَيِّرُهُ, {........لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}[يونس:64], {ذَلِكَ}, بالإشارة إلى البعيد تعظيمًا له, {هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}, الفوز العظيم حقيقةً وحصول المطلوب الأكبر مَن كان مِن أهل الإيمان, وبشره الله -تبارك وتعالى- بهذه البشرى العاجلة في هذه الدنيا, ثم تأتيه بعد ذلك البشارات تباعًا في منازل الآخرة.
أسأل الله -تبارك وتعالى- أنْ يجعلني وإياكم وإخواننا المسلمين مِن هؤلاء, أستغفر الله لي ولكم مِن كل ذنب, وأُصَلِّى وأُسَلِّم على عبد الله ورسوله محمد .