الحمد لله ربِّ العالمين, وأُصَلِّي وأُسَلِّم على عبد الله ورسوله الأمين, سيدنا ونبينا محمد, وعلى آله وأصحابه, ومَن اهتدى بهديه وعَمِلَ بسنته إلى يوم الدين.
وبعد؛ فيقول الله –تبارك وتعالى- : {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ}[يونس:75], {فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ}[يونس:76], {قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ}[يونس:77], {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ}[يونس:78], {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ }[يونس: 79], هذه الآيات مِن سورة يونس, يُخْبِرُ الله -سبحانه وتعالى- أنه أرسل بعد الأقوام الذين كذبوا رسلهم, وعاقبهم الله -تبارك وتعالى -بأنْ طبع على قلوبهم؛ فلا يؤمنوا بكفرهم وتكذيبهم للحق, لما كذبوا وكفروا, عرفوا الحق وكفروا به فإنَّ الله -تبارك وتعالى -طبع على قلوبهم, وحرمهم مِن الإيمان قال : {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ}, أي بعد نوح {........رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ}[يونس:74], ثم أظهر الله -تبارك وتعالى -وذكر هنا في هذه السورة؛ سورة يونس نموذج مِن هذا التكذيب والعناد قول فرعون مع موسى -عليه السلام-, ومع الأدلة والبينات, والآيات الواضحات أنَّ هذه مِن الله وتيقنهم أنها مِن الله, ثم كفرهم وتكذيبهم بعد ذلك, فيقول -جلَّ وعَلا- أنَّ الله -تبارك وتعالى -يقول الله -جلَّ وعَلا- :أنه أرسل مِن بعدهم, مِن تلك الأقوام {مُوسَى وَهَارُونَ}, أخوه, وقد نَبَّأَهُ الله -تبارك وتعالى- بدعوة موسى, {إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا}, بآيات الرَّب -جلَّ وعَلا-, {فَاسْتَكْبَرُوا}, أنْ يقبلوا الحق, وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ}[يونس:75], {فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا........}[يونس:76], لما جاءهم الحق مِن عند الله -تبارك وتعالى-, وهو مِن عندنا, قول الله : {مِنْ عِنْدِنَا}, أنَّ هذا الحق ما هو مجرد أنه دليل يستدل به موسى على الحق؛ لأنَّ هذا حق مِن عند الله فهي آيات الله -تبارك وتعالى-, وهو الذي أعطاها لموسى, عصاه التي يُلْقِيْهَا فتكون تحيا, عصا, خشبة لكنها تتحول إلى ثعبان مبين, واضح, انتقال الشيء مِن كونه جماد إلى الحياة بلحظة عين, ثم رجوعه بعد ذلك بمجرد أنْ يلمس هذه الحيَّة تعود مرة ثانية إلى حالتها وسيرتها, وهذا أمر حقيقي ليس تخيل للعين, يده السمراء إذ هو في جيبه يدخلها, ثم يخرجها فتخرج بيضاء, وهذه أمر واضح أنَّ هذا تغيير لون البشرة أمرٌ مستحيل فَمَن سنن الله لا تتغير, الصبغة هذه الإلهية للبشرة لا تتغير بلمح البصر, يدخلها في جيبه ثم يخرجها؛ فتخرج بيضاء مِن غير سوء, هي برصاء وإنما بيضاء كان هذا اللون الأبيض الذي يجعله الله في جلد الإنسان الأبيض, ثم بعد ذلك إذا أعادها مرة ثانية رجعت إلى لون بشرة موسى, وكانت بشرته سمراء -عليه السلام-, ثم بعد ذلك الآيات المتكررة, الله يقول : {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ}[الأعراف:133], وقالوا في نهاية المطاف: {وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ}[الأعراف:132], فجحدوا بكل هذه الآيات بعد استيقان إنها مِن الله -تبارك وتعالى-, ثم ردوا الحق بأي افتراء قالوا : إنَّ هذا كذب, {فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ}[يونس:76], {إِنَّ هَذَا}, بالتأكيد هذا الذي يرونه, {لَسِحْرٌ مُبِينٌ}, بَيِّن, واضح, سِحر ما فيه أي شك في أنه سِحْر, وهم يعلمون إنَّ هذا لا يمكن أنْ يكون سِحْرًا, {قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ}[يونس:77], يستنكر هذا الحق الذي جاءكم مِن الله -تبارك وتعالى -, { لَمَّا جَاءَكُمْ }, أي تقولون هذه المقالة ثم يقول لهم : أسحر أنْ تقول للحق لما جاءكم هذا سحر مبين, يقول لهم : {أَسِحْرٌ هَذَا}, هذا سِحْر الذي ترونه الآن بأعينكم, {وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ}, الساحر ما يفلح عمركم رأيتم ساحر أفلح, وبلغ مراده؟ وإلا فإنَّ الساحر هو دائما موضع التنقص والكره والمقت حتى وإنْ قصده الناس؛ لهذا فإنَّ الساحر لا يعمل إلا في الفتنة والشر, هو شغله في الشر دائمًا فقال له لأي فلح الساحر, الساحر يأتي بدعوة, يدعو إلى الله -تبارك وتعالى-, إلى توحيده وإلى عبادته, إلى الإيمان به, وإلى عِزِّ الدنيا وسعادة الآخرة, ليس هذا شغل الساحر, قال لهم : {وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ}, وستروا مَن يفلح, فعند ذلك أظهروا مَكْنُون صدورهم وقالوا ما يخفونه, {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ}[يونس:78], فهذه حقيقة أمرهم وهو أنهم على نسق مِن الحياة يرونه أنه أكمل نسق خاصة هؤلاء الملأ فرعون هذا رجلٌ متأله, ويستعبد الناس, والناس كلهم عبيد له, يشتغلون له وقبل أنْ يموت يُعَبِّد الناس في بناء قبر له, قبر يُقْبَر فيه, فيعبد الناس العشرات الألوف؛ ليبنوا قبره, فكيف في حياته؟ كما قال فرعون : {يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ}, فهو الإله, المتأله وهذا النظام والنسق الذي يعيشون عليه قد ارتضاه لأنفسهم, وهو يحقق لهم السيادة على الناس بل الربوبية والتسلط على الناس على هذا النحو, فكيف يتنازلون عن هذه المنازل التي هم فيها, {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا........}[يونس:78] وتلفتنا, تجعلنا نلتفت ونتحول عن ما وجدنا عليه آباءنا مِن هذا التراث, وهذا التاريخ الذي عاشوا عليه, {وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ}, تصبح أنت الآمِر الناهي في الأرض؛ أرض مصر, {وَتَكُونَ لَكُمَا}, لموسى وهارون, {الْكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ}, أنت الآمِر, أنت الذي يأتيك الخبر مِن السماء؛ فأنت الذي تأمر وتنهى, ونحن نكون تبعًا لك, {وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ}, لن نؤمن لكما, {مَا نَحْنُ}, نَفَى عن نفسهم أي إيمان بهما, {وَمَا نَحْنُ لَكُمَا}, أي يا موسى وهارون, {بِمُؤْمِنِينَ}.
ثم سعوا في إبطال دعوة موسى -عليه السلام- {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ}[يونس:79] أراد أنَّ ما دام قالوا أنَّ الذي معه سحر سنأتي لك بِسِحْرٍ قال : {فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ}, سنأتي لك بِسِحْرٍ مثل سحرك ويغلبك, ونحن عندنا مِن السَّحَرَة, مِن قومنا مَن هم أكثر سِحْرًا منك, ويغلبون سِحْرَكَ هذا الذي أتيت به, {وَقَالَ فِرْعَوْنُ}, لملئه وجماعته, {ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ}, {ائْتُونِي}, انتشروا في أرض مصر وابحثوا عن كل سَاحِر عليم بالسِّحْرِ فأتوا به, قال -جلَّ وعَلا- : {فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ}[يونس:80], في الآية التي آتى بها موسى, وهي أنه معه عصاه يضعها فتصير حيَّة, فهم جاءوا ليبطلوا هذه نَعَم نحن كذلك عندنا عِصِيّ, وعندنا أحبال سنضعها فتصير حيَّات لها كذلك حية مثل حيتك هذه, ويصير سِحْر بِسِحْر, والكثرة تغلب كما يقال تغلب الفرد أي مجموعة تغلب هذا فلم يكون ألف ساحر وكل ساحر يرمى عصاه ويرمي حبل فيكون حية, وتصير حية موسى واحدة؛ فيصير ألف واحدة يبقى نحن عندنا أكثر مِن سحرك, {........قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ}[يونس:80], ألقوا الذي تريدون إلقاءه مِن هذه الحبال والعِصِيّ والسِّحْرِ الذي جئتم به, قال -جلَّ وعَلا-: {فَلَمَّا أَلْقَوْا}, أي الحبال والعِصِّي وهذه, {قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ}, أتى هؤلاء السحرة بشيءٍ عظيم, كما قال -تبارك وتعالى- : {فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ}[الشعراء:44], وقال الرَّب -تبارك وتعالى - أنهم عندما ألقوا هذه الحبال : {سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ}, {........سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ}[الأعراف:116], الناس المحتشدين الذين حشدهم فرعون, وقد أمر بأنْ يُؤْتَى بالناس مِن كل مكان في أرض مصر, {وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ}[الشعراء:39], {لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ}[الشعراء:40], وكان موسى قد اقترح عليهم أنْ يكون هذا في يوم الزينة, يوم الفرح, اليوم الذي يجعلونه يوم فرحهم, يوم عيدهم, ويوم أنْ يتزينوا فيه ويخرجوا فيه متزينين, كما هي أحوال الناس في أعيادهم القومية العظيمة, وأنْ يكون هذا ضحى؛ حتى يكون في رابعة النهار ما أحد يغش شيء ويكون ظاهر للجميع, {وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى}, فاستجابوا لهذا وأتوا الناس يوم عيد وهو في فرار مِن شغلهم وأعمالهم, وأتوا مِن كل مكان, ويُخْبِر الرب -تبارك وتعالى- بأنهم لما ألقوا حبالهم وعصيهم, {سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ}, الناس وقعوا في رهبة عظيمة جدًا لما رأوا أنَّ هذه الساحة التي هي ساحة النزال والمعركة بين موسى والسِّحْر, وفرعون جالس مع ملأه يتطلعون إلى, ويشرفون على هذا الأمر الناس سحرت أعينهم, ورأوا بالفعل أنَّ هذه الساحة كلها بدأت حبال تجري, الله يقول : {وَاسْتَرْهَبُوهُمْ}, صار فيه رهبة, سالت الساحة كلها والوادي كله بهذه الحيَّات, {وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ}, {قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ}, على قول السِّحر بالألف واللام أي السِّحْر الحقيقي, هذا السِّحر الذي ليس بعده سِحْر آخر ما عندهم, الذي إذا كان ينبغي أنْ يُسَمَّى سِحْر فهذا {مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ}, {إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ}, ولكن الله سيبطله هذا على أنْ يكون الوقف عند السحر, أو {مَا جِئْتُمْ}, به سؤال يراد به التهويل مِن هذا الأمر الذي جاءوا به السحر, أي ما الذي جئتم به؟ السحر الذي جئتم به والسحر مهما كان, {إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ}, هذا والله -سبحانه وتعالى- هو الذي سيبطله, ليس أنا, {إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ}, وإبطاله هو اضمحلاله وبيان فساده, وبيان حقيقته وأنه لا شيء, {إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ}[يونس:81], الله -تبارك وتعالى -لا يمكن أنْ يصلح عمل المفسد والساحر مفسد مخيل أنه كَذَّاب يخيل للناس يخيل, {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى}[طه:66], قد يضعون في هذه الحبال, أو في هذه العِصِّي الشيء مِن الزئبق ومِن التخيلات أو مِن كذا, أو مِن شغل الشياطين, مما يخيل للعين أنها حية وليست على الحقيقية بحية, {........إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ}[يونس:81], لأنهم كذابين, مخادعين, مستعينين بالشياطين في سبيل إضلال الناس,{وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ}[يونس:82], {يحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ}, الحق ثابت, وإحقاق الله له هو جعله حقًا في نظر الآخرين حتى يروا أنه حق وإلا هو الحق حق, لكنه قد يعمى على كثير مِن الناس, ثم إنَّ الله -تبارك وتعالى -يؤيد هذا الحق بالدليل الواضح والآية فلا يبقى إلا الإذعان, وأنْ يَعْرِفَ الجميع أنَّ هذا هو الحق, {وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ}, أي يجعل الحق حقًا بكلماته, وكلماته هنا أنْ يبطل الله -تبارك وتعالى -هذا الأمر, كما قال -تبارك وتعالى -هذا أمر الله -عزَّ وجلَّ- : {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ}[الأعراف:117], هذا كلمة الله -تبارك وتعالى -لما قال الله : {أَلْقِ عَصَاكَ}, حَوَّلَ الله -تبارك وتعالى -هذه العصا إلى حية وثعبان عظيم, ضخم ذهب إلى هذه الحيَّات وهذه العَصِيّ, وبدأ يلقفها واللقف هو البلع بسرعة كما هو شأن الحيَّة, فإنها لا تمضغ عندما تأكل, وإنما تأخذ ما أمامها فتلقفه وتبتلعه, فبدأت تبتلع هذا, وتبتلع هذا, وتبتلع هذا, فظهر الثعبان العظيم الذي غَلَبَ كل هذا الإفك, أخذه وابتلعه؛ فظهر للناس أنها آية مِن آيات الله -تبارك وتعالى-, وليست سِحْرًا كهذا السحر, {وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ}[يونس:82], أي ولو كره المجرمون أنْ يصير هذا الحق حقًا, ويَظْهَرُ للجميع أنه حق يفعله الله -تبارك وتعالى- ما إرادة المجرم أمام إرادة الرب -تبارك وتعالى-, {وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ}, فاعلي الإجرام, وهذا فرعون وملأه مِن هؤلاء, هذه الآية, الواضحة, البَيِّنَة, النيِّرَة التي هي أمام الجميع, والتي جعل الله -تبارك وتعالى -بها الحق حقًا بالفعل, ما بقيت شُبْهَة حتى أنَّ هؤلاء أهل الفن والمعرفة بالسِّحر آمنوا ودخلوا في الإسلام, وهم السحرة وأصبح متيقن الجميع إنَّ هذا حق, هل بعد ذلك كان ينبغي بعد ذلك مِن شك, ما كان ينبغي على كل هؤلاء الحاضرون أنْ يقولوا آمنا بالله رب العالمين لكن لم يحصل هذا, قال -جلَّ وعَلا- : {فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ}[يونس:83], أي فمع وضوح هذه الحُجَّة؛ حُجِّة موسى وبيانه, والآيات التي أجراها الله -تبارك وتعالى- وفي وضح النهار, وأمام الجميع إلا أنَّ موسى مع هذه الآيات, الواضحات, البينات لم يؤمن له حتى قومه, وإنما ذرية مِن قومه, صغار السن, والشباب الذين هم أسرع, أي ما دنستهم بعد ذلك الأهواء والمنافع؛ لما شاهدوا صدق آمنوا ودخلوا في الإسلام, إلا ذرية شباب صغار مِن قوم موسى وليس مِن قوم فرعون, وهؤلاء آمنوا, {عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ}, مؤمنين, وكذلك خائفين أشد الخوف مِن فرعون, العالي, المتكبر وملئهم, إنَّ ملأ هؤلاء الذرية يصير كبراؤهم وأشرافهم مِن بني إسرائيل أنفسهم؛ لأنَّ هؤلاء الكبار منهم كبار السن وكذا أيضًا يخافون على أنفسهم وعلى أولادهم مِن بطش فرعون؛ فلذلك لم يؤمنوا بموسى مع وضوح الأمر, لكن لم يؤمنوا به ولم يتبعوه في الحقيقة خوف مِن بطش فرعون وكانت الذرية خائفين مِن هؤلاء حتى كذلك لا يدل فرعون عليهم, وأنْ يتبرؤوا منهم خوف على أنفسهم فقد يقدموا أنفسهم أولادهم خوفًا على أنفسهم أو فرعون وملئهم ملأ آل فرعون, كما يقال نقول ربيع واحد, ومُضَر واحد, وعندما نقول ربيعة ذريته, ومُضَر كل ذرية مُضَر, {عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ}, أي ملأ فرعون, آل فرعون {أَنْ يَفْتِنَهُمْ}, بمعنى أنْ يعذبهم يعرفون مَن الذي أسلم, آمن موسى وكذا؛ فيأخذوه ويسجنوه ويعذبوه, {فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ........ }[يونس:83], قال -جلَّ وعَلا- : {وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ}, تأكيد فرعون عالي علو نَفْس, وعلو على الناس, علو كِبْر, وعلو على الناس بالبطش وبالقهر, وبالدعاية الكاذبة له بأنه ابن الشمس, وأنه ابن الإله, وأنَّ أرومته غير أرومة الآخرين فهو متعالي عليهم, وأنه هو إلههم, {........وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ}[يونس:83], مُسْرِف في القتل ظلم حتى أنهم مِن الإسراف وهو مجاوزة الحد في القتل, قتل الذرية, قتل الأطفال وهم يولدون, فقتل الأبناء عندما كان يولد لبني إسرائيل, ابن يقتله خوفًا مِن أنْ يشب هذا ويكبر ويتقوى به قومه, أو يكون مِن هؤلاء؛ ذرية بني إسرائيل, مَن يسلب المُلْكَ, {وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ}.
ثم قال -جلَّ وعَلا- : {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ}[يونس:84], نادى موسى قومه نداء رحمة, ونداء استعطاف أنْ يتمسكوا بالله -تبارك وتعالى-, وأنْ يعتصموا به ويتوكلوا عليه, وأنَّ هذا هو طريق الإنقاذ لهم, {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ........}[يونس:84], {إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ}, وهذا تحريض لهم على أنْ يتمسكوا بالابن ويلتزموا به, {فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا}, لا على غيره, سَلِّمُوا أموركم له, توكل هو تسليم الأمر لله -تبارك وتعالى-, وجعل مراد القلب وما يتمناه العبد, لا يحققه له إلا الرَّب -تبارك وتعالى- فيسلم أمره لله -تبارك وتعالى-, {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ}[يونس:84], منقادين, مذعنين للرَّب, الإله -سبحانه وتعالى-, {فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا}, {فَقَالُوا}, أي قومه, {عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا}, على الله لا على غيره -سبحانه وتعالى-, {تَوَكَّلْنَا}, سَلَّمْنَا أمورنا له, وجعلنا رجاءنا فيه, واعتقدنا أنه لا يُخَلِّصُنَا إلا هو -سبحانه وتعالى- فقطعوا رجاءهم في الخَلْقِ إلا في الرب الإله -سبحانه وتعالى- هذا معنى التوكل, {فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}[يونس:85], له معاني؛ فتنة أي نحن نصبح, نحن العذاب فيفتنونا عن ديننا فتنة أنهم يفتنون يضربوننا ويعذبوننا؛ حتى نُفْتَن عن هذا الدين, ونخرج عن الإسلام لا تجعلنا فتنة لهم بمعنى قوم يفتنون, أي قوم يقتنوننا ويعذبوننا فنكون نحن العذاب الذي يُصَبّ علينا مِن هؤلاء الكفار, أو لا تجعلنا فتنة لهم بِذُلِّنَا وأنه هؤلاء الكفار فوقنا يقهروننا فيفتنون, يفتتن الكفار يظن أنهم على الحق؛ لأنَّ العزة معهم, ولأنَّ القوة معهم, ولأنَّ أهل الإيمان في الذي وفي القهر, فبالتالي يفتن الكافر ويظن أنما عليه هو حق, وأنَّ ما عليه هؤلاء الباطل, { ........رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}[يونس:85 ], {وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}[يونس:86], {وَنَجِّنَا}, طلبوا النجاة مِن الله وبرحمته أنْ توسلوا إلى الله -تبارك وتعالى -بصفة مِن صفاته هو رحمته -سبحانه وتعالى- بأنك الرب, الرحمن سبحانك فنجنا منِ القوم الكافرين؛ قوم فرعون الذين الكفر جحدوا الحق ومنعه فهنا هذا استسلام مِن بني إسرائيل مع موسى إلى الله -تبارك وتعالى-, والدعاء له ألا يسلط عليهم هؤلاء الكفار فيعذبوهم ويفتنوهم عن دينهم, وأنْ ينجيهم الله -تبارك وتعالى -مِن هؤلاء القوم الكافرين, قال -جلَّ وعَلا- : {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّأَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ}[يونس:87], هذا خطة إنقاذ, أرشدهم الله -تبارك وتعالى -إلى طريق الخلاص والإنقاذ, قال -جلَّ وعَلا- : {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّأَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ}[يونس:87], {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ}, إلى موسى النبي, وأخيه هارون -عليه السلام-, {أَنْ تَبَوَّأَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا}, {تَبَوَّأَا}, التبوء أي التمكن اشتروا بيوت يكون لكم في مصر بيوت؛ وذلك أنَّ مدة القهر ستستمر وقتا ما, فليس الخلاص مِن الآن أي كأن الله -تبارك وتعالى- يوطنهم أنَّ الرحيل عن أرض مصر ليس الآن في التو واللحظة, وإنما الأمر سيحتاج إلى وقت, {أَنْ تَبَوَّأَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا}, اشتروا بيوتًا؛ ليسكنوا فيها, ويبقوا فيها, وذلك غير مَن يقال له ارتحل فأنه يبيع بيته وينهي منه استعدادا للرحيل, {تَبَوَّأَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ}, {وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً}, أي صَلُّوا في بيوتكم اجعلوا هذا البيت قبلة تُصَلُّونَ فيها إلى الرب -تبارك تعالى-, فيصلوا في بيوتهم بدل أنْ يستطيعون أنْ يبنوا البِيَع مثلًا والمساجد ونحو ذلك, فإنَّ الكفار يمنعونهم مِن هذا الدين من عبادة الرَّب الإله الواحد-سبحانه وتعالى- لا عبادة إلا عبادة الفرعون فلا يسمحون بعبادة رب آخر يشارك الفرعون في تفرده, وفي تسلطه على الناس, فاجعلوا بيوتكم قبلة اعبدوا الله -تبارك وتعالى -في هذه البيوت قبل الصلاة, {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ}, أمر لهم بأنْ يصلوا لله -تبارك وتعالى- فإنَّ الصلاة أولًا عبادة للرب -تبارك وتعالى-, ثم أكبر عون على الصبر وهنا هم في محنة فهم يحتاجون أنْ يصبروا على ما هم فيه, والصلاة صبر, الصلاة أعظم ما يصبر العبد المؤمن على الابتلاء, وتقول أم المؤمنين عائشة -رضى الله تبارك وتعالى عنها- : (كان رسول الله إذا حَزَبَهُ أمر فزع إلى الصلاة), وحَزَبَهُ أي أحاط به, وشَقَّ عليه, فزع إلى الصلاة وقد قال -تبارك وتعالى- : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}[البقرة:153], {........وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ}[يونس:87], بشر المؤمنين بشارة إنَّ العاقبة آتية, الخير آتٍ, أي كأن الله -تبارك وتعالى -يقول لهم النجاة والخلوص أتي ولكن الآن وقت الصبر فهنا أرشدهم الله -تبارك وتعالى -في هذه الآية إلا أن ليس الآن إلا وقت الرحيل ابنوا بيوت, اجعلوا هذه البيوت مكان صلاة أقيموا الصلاة فيها, وأيضًا انتظروا بشرى الرب -تبارك وتعالى-, {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ}.
ثم قال -جلَّ وعَلا- : {وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ}[يونس:88 ], {قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ}[يونس:89].
وهذا نأتي إليه -إنْ شاء الله- في درسٍ آتٍ, نقف عند هذه الآية, أستغفر الله لي ولكم مِن كل ذنب, وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد.