الجمعة 21 جمادى الأولى 1446 . 22 نوفمبر 2024

الحلقة (264) - سورة يونس 81-92

الحمد لله ربِّ العالمين, والصلاة والسلام على عبده ورسوله الأمين, سيدنا ونبينا محمد, وعلى آله وأصحابه, ومَن اهتدى بهديه وعَمِلَ بسنته إلى يوم الدين.

وبعد؛ فيقول الله -تبارك وتعالى- : {وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ}[يونس:88], {قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ}[يونس:89], {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ[يونس:90], {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ}[يونس:91], فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ}[يونس: 92], الآيات مِن سورة يونس, ويُخْبِرُ الله -تبارك وتعالى- عن دعاء موسى بعد أنْ أَيِسَ مِن إيمان فرعون وقومه, دعاء موسى على قوم فرعون قال -جلَّ وعَلا- : {وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ}[يونس:88], {وَقَالَ مُوسَى}, داعيًا, موسى النبي -عليه السلام-, رسول إلى بني إسرائيل, {رَبَّنَا}, أي يا ربنا, يدعو الله -عزَّ وجلَّ-, {إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}, هذا إخبارٌ مِن موسى بأنَّ الله -تبارك وتعالى- قد أغدق عطاءه على فرعون وملأه على كفره فأعطاهم زينة وأموال, {زِينَةً}, ذهب وزخارف, والبناء الفخم الذي يعيشون فيه, وأنواع المراكب والمشارب والملاعب والملاهي, وأنواع المتنزهات, كل هذا مِن معاني الزينة, {رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ}, {وَمَلَأَهُ}, الملأ هم الوزراء والكبراء سُمُّوا ملأ؛ لأنهم يملئون المكان, أو يملئون العين مما عليهم مِن الثياب والرياش, وما حولهم مِن الزينة, {وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}, المال كل ما يتمول وينتفع به, فأعطاهم الله -تبارك وتعالى- لقوم فرعون مِن كل الأموال في الحياة الدنيا إنَّ عطاءك إياهم في الحياة الدنيا, وذلك أنهم كفار والكافر لا يمتعه الله -تبارك وتعالى- إلا في هذه الدنيا, {رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ}, أي ربنا, يا ربنا, {ليُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ}, عندما يكونون بهذه الأبهة, وهذه النعمة, وهذا الترف وهم مع كفرهم فإنهم يبقى هذا فتنة للناس, وظن أنَّ هذا ما يرفلون مِن هذه النعم إنما هي مِن أسباب رضوان الله عليهم, ومِن أسباب أنَّ طريقتهم هي المثلى كما قالوا, وأنهم لولا أنهم على طريقة حسنة ما أوتوا هذا الخير الذي أوتوه في هذه الدنيا, فيكون هذا باب عظيم مِن أبواب الفتنة وإضلال كثير مِن قصراء, مِن قصيري النظر, وعديمي العلم الذين إذا رأوا هؤلاء في أبهتهم ظنوا أنَّ الحق والخير هو الذي هم عليه, وأنَّ موسى وقومه فهم تحت القهر, وتحت التعذيب, كما قال فرعون سَنُقَتِّلُ أبناءهم, لما قيل له : {......... أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ .........}[الأعراف:127], نستحي هنا, نتركهم أحياء فيكون هذا مِن أسباب ذلهم كذلك قتل الذكور وترك الإناث, {وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُون}, {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}[الأعراف:128], فهذه الصورة فيها فتنة عظيمة لكثير مِن الناس أنْ يظلوا على كفرهم وعلى اتباعهم لفرعون وملأه وقومه ظانين أنه هو الذي معه الحق, هو الذي معه هذه الدنيا, وأما هؤلاء مِن هم تحت القهر, وتحت التعذيب فينفروا الناس عنهم وعن دينهم, {رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا}, أي ليضلوا الناس, ويضلوا غيرهم, {عَنْ سَبِيلِكَ}, وكذلك قُرِئَ أيضًا هذا الكلمة, لِيَضِلُّوا {عَنْ سَبِيلِكَ}, أي يأخذهم هم أنفسهم الغرور بما هم عليه, وبالتالي يروا أنَّ طريقته هي المثلى, ويبقوا في ضلالهم, {........رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ}[يونس:88], دعا موسى على قوم فرعون بأنْ يطمس الله -تبارك وتعالى- على أموالهم, والطمس على أموالهم بمعنى الختم والمحو, {عَلَى أَمْوَالِهِمْ}, فأهْلِك هذه, أَهْلِك ما هم فيه مِن الزروع ومِن الثمار ومِن الزينة والزخرف الذي هم فيه ليكون هذا نكالا لهم في هذه الدنيا, وينصرف الناس عن طريقتهم وعن دينهم, {وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ}, اشدد على قلوب هذه الطائفة المجرمة التي استحوذت على عموم الناس, وأرهقتهم وأجبرتهم هذا الإجبار, وأخذتهم هذا المأخذ إلى الكفر وإلى العناد, {وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ}, أي فلا يؤمنون, الشد على القلب بمعنى أنْ أصر عليها واجعلها في محبس أنْ يدخل إليها هدى, {وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ}, ما يدخل في الإيمان إلا إذا رأوا العذاب الأليم الذي تصبه عليه في هذه الدنيا, وهذا الدعاء مِن موسى -عليه السلام - يدل على أنه انقطع أمله في إيمان هؤلاء بعد ما رأوا الآيات العظيمة التي أجراها الله -تبارك وتعالى- على يديه, وظَهَرَ لهم الحق, ولكنهم أصروا على أنْ يسيروا في هذا الطريق الخاطئ إلى النهاية, قالوا : {وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ}, فدعا عليهم هذا الدعاء واستجاب الله -تبارك وتعالى- له دعاءه, فقال -جلَّ وعَلا - : {قَالَ}, أي الرب الإله -سبحانه وتعالى-, {قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا}, قد أجيبت والمجيب هو الله -سبحانه وتعالى- {دَعْوَتُكُمَا}, يا موسى, و يا هارون, الدعاء كان دعاء موسى, {وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}, إلى آخر الدعاء والله -تبارك وتعالى- {قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا}, مما يدل على أنَّ هارون كان يدعو مع موسى يُؤَمِّن على دعائه, والمُؤَمِّنُ على الدعاء هو مشارك في الدعاء, ولذلك عندما يقول المأمومون بعد الإمام إذا قال ولا الضالين يقولون : آمين فقد اشتركوا معه في هذا وأصبحت كان قراءة الفاتحة, والدعاء الذي في الفاتحة إنما هو دعاء لكل المصلين, {قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا}, أي أجاب الله -تبارك وتعالى- دعوتهم وذلك, بأنْ يطمس على أموالهم, وقد كان, فإنَّ الله -تبارك وتعالى- قال بعد ذلك -جلَّ وعَلا- : {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ}, وهذا يُغْرِقُ الزروع والبيوت, {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ}, {وَالْجَرَادَ}, يأكل الزرع, {وَالْقُمَّلَ}, بيوت ينتشر فيها القمل في كل مكان, في قصورها وفي دورها وفي أماكنها, {وَالضَّفَادِعَ}, أي زينةٍ تحلو مع امتلاء البيت بالضفادع, وقد جاء أنَّ الضفادع ملأت عليهم الأودية والكثبان والقنوات والأنهار, ودخلت عليهم بيوتهم وفروشهم, فكان الشخص يتقلب فتكون الضفادع في فراشه, يتكلم فيقفز الضفدع إلى فمه فنغصت عليهم حياتهم, {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ}, {وَالدَّمَ}, وهو أنْ يتحول ماءهم دمًا, يأخذون مِن ماء يغرفون مِن النهر الماء فإذا وصلوا به إلى البيت أصبح دمًا عبيطًا, تصب الإسرائيلية الماء في جرة الفرعونية المصرية فينزل ماء مِن الجرة فإذا وصل إلى جرتها؛ جرة المصرية إذا به دم عبيط, فأي حياة تحلو ويتحول الماء الذي هو شريان الحياة يتحول إلى دم عبيط؟ وذلك عند تداوله, وعند شربه فأفسد الله -تبارك وتعالى- عليهم حياتهم, جعل حياتهم نكد بعد أن دعا موسى هذا الدعاء عليهم : {قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا}, استقيما على أمر الله -تبارك وتعالى- أي نفذا ما يأمركم الله -تبارك وتعالى- به مِن الإيمان به وتوحيده وعبادته, والتزام ما يأمركم الله -جلَّ وعَلا- به, {فَاسْتَقِيمَا}, أي على الصراط المستقيم الخط, {وَلا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ}, إياكم أنْ تتبعوا سبيل الذين لا يعلمون مِن قومهم, أو مِن غيرهم أنْ يحاولوا صرفهم عن دين الله, وعن طريق الله ولو في جزئية مِن الجزئيات, {وَلا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ}.

 ثم قال -جلَّ وعَلا- : {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ}, عبورًا مِن الشاطئ الذي هو جهة مصر إلى الشاطئ الآخر إلى جهة سيناء, جاوزهم الله -تبارك وتعالى-؛ وذلك بأنَّ أمر الله -تبارك وتعالى- موسى بأنْ يُخْبِر بني إسرائيل بالرحيل, وأنْ يستعدوا لذلك, فاستعدوا لذلك وخرجوا في ليلةٍ واحدةٍ بدون أنْ يعرف بهم فرعون وقومه, وإنما اكتشفوا هذا الأمر في صبيحته, فنادى فرعون في قومه بإعداد الجيوش, واتباع هؤلاء وإرجاعهم مرة ثانية إلى الذُّلِ والقهر في أرض مصر, قال فرعون : {إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ}[الشعراء:54], {وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ}[الشعراء:55], {وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ}[الشعراء:56], فخرج في إثرهم قال -جلَّ وعَلا- : {فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ}[الشعراء:60], عند الشروق كانوا وراءهم قال قوم موسى : {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ}, قال : {قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ}[الشعراء:62], وأوحى الله -تبارك وتعالى- إلى موسى أنْ يضرب البحر بعصاه فانفلق, الله يقول : {........ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} [الشعراء:63], {وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخَرِينَ}[الشعراء:], {وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ}[الشعراء:65], فالله -تبارك وتعالى- أمر موسى أنْ يدخل في هذا الشق الذي كان فيه, وهذا مِن معجزات الله -تبارك وتعالى-, وآياته الكبرى العظمى الواقعة عيانًا بيانًا في هذه الأرض, كما قال -تبارك وتعالى- : {وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لا تَخَافُ دَرَكًا وَلا تَخْشَى}[طه:77], {فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا}, يابس علمًا أنهم مشقوق الآن, وحال البحر التي تكون في أعماقه تكون موحل, البحر موحل لكن الله -تبارك وتعالى- جعله يابسًا كأنه طريق ممهد فسار فيه موسى, والناس يرون الماء كالجدار واقف بلا حاجز يحجزه عن الأرض, وقال له الله -تبارك وتعالى- {وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا}, ساكنًا, {إِنَّهُمْ جُندٌ مُغْرَقُونَ}, فقول الله -تبارك وتعالى- : {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ}, كلهم موسى, وكل بني إسرائيل ومعهم دوابهم, أي بقرهم وحميرهم ومتاعهم وطيورهم كلها خرجت ونجوا جميعًا لم يفقدوا شيئًا مما احتملوه معهم مِن أرض مصر في هجرتهم, {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا........}[يونس:90], فرعون كان مِن المفروض وقد رأى كل هذه الآيات ورآها أنْ يرعوى, كذلك كان مِن المفروض أنَّ هؤلاء الناس أرادوا أنْ يتركوا لهم البلد اختيارًا, وتركوا لهم البلد كلها بما فيها تركوا بيوتهم بما فيها, وتركوا تمكن هذا وكان الخوف مِن بني إسرائيل أنْ يخرج منها مَن يسلب الملك منهم, ها هم قد تركوا لهم البلد كلها, وتركوا لهم ملكهم وأرضهم وكل أحوالهم, أَمَا كان العقل حتى الدنيوي يأمرهم بأنْ يكفوا عن ذلك, فليذهبوا بلا رجعة وليرجعوا إلى متاعهم, وإلى دورهم وإلى قصورهم وإلى بيوتهم ويصلحوها ويقولوا تخلصنا مِن هؤلاء الذين أرادوا أنْ يفسدوا علينا حياتنا قد خرجوا, لكن الله -تبارك وتعالى- أراد أنْ يُنَكِّلَ بهم إلى النهاية فخرجوا والله -تبارك وتعالى- يقول : خرجوا {بَغْيًا وَعَدْوًا}, انظروا كيف يذهبون إلى هلاكهم بأرجلهم, ويدفعهم إلى ذلك البغي السوء, والعدو الاعتداء فهو الآن اعتداء سافر دون أنْ يكون له أي مبرر وأي تخوف عنده فحتى هذا التخوف الذي كان عندهم قبل ذلك مِن أنَّ هؤلاء بني إسرائيل إنما يريدون أنْ يعلوا في أرض مصر, وأنْ تكون لهم الكبرياء في الأرض, كما قال له : {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ}[يونس:78], قد ترك لهم الأرض كلها هو وقومه, ولم يبقَ لهم شيء, إذن لما العدوان إذن؟ لما الركض ورائهم لنأتي بهم مرة ثانية ونذلهم ويبقوا تحت قهرنا وإذلالنا؟ ليس إلا العدوان؛ فقال -جلَّ وعَلا- : { فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا}, فقد نادى فرعون في الجنود أنْ اركبوا وهلموا فَلْنُرْجِع هذه الطائفة الناشزة عن طعاننا وإرادتنا, ولنرجعهم مرة ثانية إلى ذلنا وقهرنا, {فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا}, وكانت النتيجة معروفة أنَّ الله -تبارك وتعالى- أخرج موسى وقومه سالمين لم يفقدوا كوبًا ولا طيرًا مما احتملوه, ولا ثوبًا بل لهم ولا نعالًا فقدوها بل خرجوا بتمامهم وبسلامتهم إلى البر سالمين, ثم لما خرجوا جميعهم ودخل فرعون وجنوده جميعهم كذلك, عند ذلك جاءت مشيئة الرَّب -تبارك وتعالى - فأطبق عليهم هذا البحر الساكن, ومِن العجب هذا مِن العجب العُجَاب فرعون رأي هذه الآية الصارخة, آية واضحة مِن أعظم آيات الله -تبارك وتعالى- رآها رأي العين, رأى البحر واقف, جدران البحر, عمق البحر في هذا المعبر أكثر مِن خمسمائة متر, نصف كيلو, وهو يرى هذا واقف, جدرا واقف, وطريق يابس وناس يمرون على هذا النحو هذا سِحْر لقد جرب السحرة أعمال السحرة عنده أهذا سحر كذلك؟ ولكن ليكون العدوان أنت الآن تسير في أية مِن أعظم آيات الله إلا كان ينبغي عندما تقف على شاطئ هذا البحر, وترى هؤلاء يمرون هذا المرور, ويفعلون هذا الفعل أنْ تسجد لله -تبارك وتعالى-, أنْ ترجع إلى الله, أنْ تتوب مما أنت فيه, أنْ تعلم أنَّ هؤلاء معهم القوة القاهرة, قوة هذا الخالق العظيم الذي خلق الكون -سبحانه وتعالى- أما كان ينبغي أنْ تدركه شيء مِن العقل والرجوع إلى الوعي, هذا مِن أعظم الأدلة على أنَّ الله -تبارك وتعالى- إذا طمس قلب شخص عن الإيمان فلا يمكن أنْ يستفيد بأي آية لا يمكن مهما رأي الآيات أنْ يستفيد بأي آية, وأنْ ترجعه ذلك إلى عقله وفهمه, وأنْ يدخل بذلك الإيمان, وذلك مادام يوجد طَمْس لهذه البصيرة, وعمى عن الحق لابد أنْ يتم مراد الله -تبارك وتعالى-, في أنْ يظل مطموسًا عن الحق بعيدًا عنه إلى أنْ يلقى عذاب الله -تبارك وتعالى-, قال -جلَّ وعَلا- : {حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ}, لما أطبق البحر عليه وعرف أنَّ الغرق, عرف أنَّ الموت جاء وبدأت المياه تدخل إلى جوفه, وفي الحديث أنَّ جبريل -عليه السلام - قد كان قائدًا هو الذي كان على فرسه أمامهم يقود مسيرة بني إسرائيل, وأنه لما رأي فرعون على هذا النحو ظل يأخذ مِن حال البحر أي مِن طينه ووساخة ويدسها في فم فرعون, يرجوا ألا يتشهد شهادة الحق, وأنْ تدركه رحمة الله -تبارك وتعالى-, وهذا الذي سلف منه كل هذا الكفر والعناد, حتى إذا أدركه الغرق, قال : {........حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ}[يونس:90], {آمَنْتُ}, هنا يُعْلِنُ تصديقه وإيمانه, ولكنه مع هذا التصديق والإيمان هو كذلك فيه صلف وكبر, {آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ}, بحق, {إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ}, كان ينبغي أنْ يقول إلا الله, الذي هو رب العالمين -سبحانه وتعالى-, ولكن الإله الذي آمنت به بنو إسرائيل, وكأن هذا الإله هو إلهٌ خاص, أو رب خاص ببني إسرائيل, وليس هو رب العالمين -سبحانه وتعالى-, {آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ}, وبنو إسرائيل إنما آمنوا مع موسى بالإله الحق, ربِّ العالمين -سبحانه وتعالى-, وليس رب بني إسرائيل وحدهم, وإنما بنو إسرائيل قد نالوا رحمته, ونالوا هدايته, ونالوا ما نالوه مِن كرامته في هذه الدنيا بإيمانهم به, واتبعاهم لأمره -سبحانه وتعالى-, وليس هو إله ولا رب خاص بهم, {........آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ}[يونس:90], أنا مِن المنقادين, المذعنين, المطيعين, أي كأنه يقول ما يأمرني به هذا الإله فأنا أُنَفِّذُهُ وأسير فيه المسلمين المنقادين, المذعنين, قال -جلَّ وعَلا- : {آلآنَ}, الهمزة الأولى همزة الاستفهام مع الهمزة الثانية, {آلآنَ}, الحين, أي هل هذا وقت الإيمان؟ ليس هذا وقته انتهى وقت الإيمان, وقت الإيمان قبل أنْ تعاين الهلاك, وقبل أنْ تعاين العذاب فإنَّ الله -تبارك وتعالى- أي لا يقبل إيمان شخص إذا وصلت الروح الحلقوم وهي في اللحظات الأخيرة لنزع روحه, إذا جاء الملك لينزع روحه وهو في الاحتضار فإنَّ هذا الوقت يقفل عليه باب التوبة, كما قال النبي : «يُغْفَرُ لأحدكم ما لم يُغَرْغِر», ومعنى يغرغر الغرغرة هي حركة هذه الريق في أسفل البلعوم, فإذا وصلت الروح إلى الحلقوم والروح أول ما تخرج مِن الأطراف, مِن الأرجل, الأطراف, وإذا وصلت إلى هنا هذه آخر شيء فيها, ثم ينزعها الملك فإذا وصلت الروح إلى هنا عند ذلك لا يقبل الله -تبارك وتعالى- توبة مَن يأتيه ويتوب إليه في هذا الوقت, وكذلك بالنسبة إلى الأُمَم التي يأيتها العذاب إذا رأت العذاب, وأصبح العذاب قريب وقال آمنا عند ذلك الوقت فلا يقبل الله -تبارك وتعالى-, أي لا يقبل الله -عز وجل- إيمانهم وكذلك مِن الأوقات التي لا يقبل الله -تبارك وتعالى- فيها التوبة ظهور الشمس مِن مغربها هذه آية مِن الآيات جعلها الله -تبارك وتعالى-, هذه الآية لا تنفع أنْ يؤمن عندها شخص إذا عادت الشمس, وهذه مِن علامات الساعة الكبرى مِن الغرب, يرى الناس أنَّ الشمس تغرب, ثم ترجع فتشرق مرة ثانية, فإذا رآها الناس على هذا الحال عادت مِن الغرب مرة ثانية كل مَن في الأرض يقوم يؤمن بالله -تبارك وتعالى-, فالله يقول : {........يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا........}[الأنعام:158], فهذا الوقت إذا جاءت الشمس مِن مغربها فلا قبول للإيمان, فهذه ثلاث أحوال لا يُقْبَلُ فيها إيمان الشخص, الذين يعانون العذاب, الذي قد وصلت روحه إلى الغرغرة, خروج الشمس مِن مغربها, هذه كلها أحوال تكون  الناس أحياء وهم في الدنيا, ولا يقبل الله -تبارك وتعالى- إيمانهم, كما أنَّ بعد ذلك الإيمان إذا عاين الكافر آيات الله, وآمن بالله, ورجع إلى الله فهذا رجوع في يوم القيامة, وهذا كله لا يقبله الله -تبارك وتعالى-, فقيل له : , {آلآنَ}, سؤال للتوبيخ والتأنيب والتقريح أي هذا ما ليس هذا وقته, انتهى الوقت الذي كان يمكن أنْ يقبل منك فيه الإيمان, {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ}[يونس:91], قد عصيت الرَّب الإله -سبحانه وتعالى- عندما دعاك سنين طويلة, وموسى يدعوك إلى طريق الرب -تبارك وتعالى-, وترى الآيات الآية تلو الآية, الآية تلو الآية, الآية تلو الآية كلها تراها أين هذه؟ {........وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ}[يونس:91], كل أنواع الإفساد مارسها قتل, صد عن سبيل الله, الكذب الواضح على رسول الله وعلى المؤمنين, يكذب عليهم كذب واضح اتهمهم بالتآمر لأخذ الحكم منه اتهمهم بأنَّ لهم دخيلة غير هذه, رماهم بالكذب بكل أنواعه, ثم بعد ذلك قتل المؤمنين إنَّ السحرة الذين هم كانوا جنده ويعتزون به, ويقولون : {........بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ}[الشعراء:44], رأى إيمانهم, وأنهم انقلبوا مباشرة بعد أنْ رأوا آية مِن هذه الآيات, لما رأوا العصا أصبحت حية حقيقية, وبطل سحرهم بها آمنوا بالله -تبارك وتعالى-, وهذا لا يمكن أنْ يكون سحرًا هذا آية مِن آيات الله -تبارك وتعالى- فآمنوا فقتلهم فرعون بل افترى عليهم وكذب عليهم, وقال : {........ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ}[الأعراف:123], {لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ}[الأعراف:124], فهذا قد فَعَلَ كل أنواع الإفساد, {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ}[يونس:91], {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ}[يونس:92], شاء الله -تبارك وتعالى- أنْ يُنْجِيَ بدنه فقط مِن الهلاك في البحر وأنْ تأكله الأسماك, وأنْ يزرى, أنْ يحفظ هذا الجسد, ويلقيه اليم إلى الشاطئ؛ حتى يراه مِن خلفه فيكون هذا آية لهم لما يروا إلههم الذي تَأَلَّهَ عليهم, {َقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي}, مُلْقَى غريقًا, ألقاه البحر على شاطئه, يرونه ويأخذوه وعلى عادة المصريين القدماء فيحنطوه, ويحفظوا جسده, ويبقى آية مِن آيات الله -تبارك وتعالى- باقية, وإلى يومنا هذا ليراها الناس؛ لعلهم أنْ يتذكروا هذه الآيات العظيمة, {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً........}[يونس:92], ثم قال -جلَّ وعَلا- : {........وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ}[يونس:92], كثير مِن الناس عن آيات الله -تبارك وتعالى-, {لَغَافِلُونَ}, وهذا أكبر مثال, أي ما مَرَّ به فرعون وملاه فقد رأوا آيات الله العظمى, الكبيرة, ولكنهم كانوا غافلين عنها, ولم يؤمنوا بها حتى كان مصيرهم على هذا النحو.

نقف هنا عند هذه الآية ونكمل -إنْ شاء الله-, وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد, والحمد لله رب العالمين.